عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 13-10-2007, 08:35PM
أبو عبد الرحمن السلفي1
عضو غير مشارك
 
المشاركات: n/a
هذا نوع من أنواع التقاسيم.
بعض العلماء يقول الشرك قسمان أكبر وأصغر:
• فإذا كان أكبر: قَسم الأكبر إلى جلي وخفي.
• وقسم الأصغر إلى جلي وخفي.
والأوضح أن يقسم إلى ثلاثة إلى أكبر وأصغر وخفي:
• ويكون الخفي مثل يسير الرياء.
• والأصغر مثل الحلف بغير الله، تعليق التمائم ونحو ذلك.
• والأكبر مثل الذبح والنذر والاستغاثة و دعاء ودعوة غير الله جل وعلا.
هذه تقسيمات للشرك قد تجد هذا أو ذاك في كلام طائفة من أهل العلم، لكن كلّها محصلها واحد، وإنما التقسيم باعتبارات، وهي ملتقية في التعريف وفي النتيجة.
مُراد الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا بقوله (فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ) يريد الشرك الأكبر الذي يُخرج من الملة، فكل شيء صح عليه قيد العبادة فإن صرفه لغير الله -يعني التوجه به، التعبد به لغير الله- هذا كفر؛ مثل نداء الموتى، أو نداء الغائبين، أو خوف السر، أو الذبح لغير الله، أو النذر لغير الله، أو الاستغاثة بالأموات، أو أنواع الطلب المختلفة من الاستعانة ونحوها، أو بعض أعمال القلوب مثل الاستعاذة ونحو ذلك. هذه كلها أنواع للعبادات بعضها في القلب وبعضها للجوارح، جميعا من توجه بشيء منها لغير الله فهو مشرك الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة. البرهان قوله (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) وقد قدمت لك أن (يَدْعُ) والدعاء في القرآن قد يكون دعاء مسألة وقد يكون دعاء عبادة، فإذا لم يكن في الدليل، في النص قرينة تحدد أحد المعنيين، حُمل على المعنيين جميعا؛ لأن حمل النص على أحد المعنيين دون دليل وبرهان تحكُّم في النص وذلك لا يجوز.
قال رحمه الله (وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة»)، (الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة) يعني لبُّها وجوهرها، وهو كما جاء في الحديث الآخر الصحيح؛ حديث النعمان «الدُّعَاءُ هُوَ العبادة» وكما قال جل وعلا (وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وسبق أن أوضحت لكم هذه المسألة بتفصيل فيما مضى.
بعد ذلك شرع المؤلف -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- في بيان أدلة كون تلك التي ذكر من العبادات, وذكر الخوف, وذكر الرجاء, وذكر الرغبة, وذكر الرهبة, وذكر الخشوع, وذكر التوكل, وذكر أشياء, والذبح والنذر, إلى آخره.
فكأنَّ قائلا قال: ما الدليل على أن هذه من العبادات التي من صرَفها لغير الله جل وعلا كَفر؟ هو يسوق الأدلة, والأدلة على هذه المسألة على نوعين:
الأول: أن يُستدل بدليل يُثبت كون تلك المسألة من العبادة, يثبت كون الخوف من العبادة، يثبت كون الرجاء من العبادة، فإذا ثبت كونه من العبادة، أُستدل بالأدلة السابقة كقوله ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، وقوله «الدعاء هو العبادة», « الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة », ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾[غافر:60]، ونحوها من الأدلة العامة؛ بأن من توجه بالعبادة لغير الله فهو مشرك.
إذن النوع الأول متركب من شيئين، الأول أن يقام الدليل على أن هذه المسألة من العبادة؛ على أن الخوف من العبادة، على أن الرجاء من العبادة، فإذا استقام الدليل والاستدلال على أن هذه المسألة من العبادة، استدللتَ بالأدلة العامة على أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك، هذا نوع.
النوع الثاني: خاص؛ وهو أن كل نوع من تلك الأنواع له دليل خاص، يُثبت أن صرفه لغير الله جل وعلا شرك، وأنه يجب إفراد المولى جل وعلا بذلك النوع من أنواع العبادة.
وهذا مما ينبغي أن يتنبه له طالب العلم في مقامات الاستدلال، لأن تنويع الاستدلال عند الاحتجاج على الخرافيين والقبوريين وأشباههم مما يقوي الحجة. تُنوِّع الاستدلال مرة بأدلة مجملة، مرة بأدلة مفصلة، مرة بأدلة عامة، مرة بأدلة خاصة حتى لا يُتوهَّم أنه ليس ثم إلا دليل واحد يمكن أن ينازع المستدل به الفهم، فإذا نوعتها صارت الحجة أقوى والبرهان أجلى.
بدأ في ذكر هذه الأدلة، بعضها من النوع الأول وبعضها من النوع الثاني:
قال رحمه الله (دليلُ الخوفِ) يعني دليل كون الخوف عبادة (قوله تعالى ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:185]) هذا الدليل فيه أن الخوف من غير الله منهي عنه، وأن الخوف من الله جل وعلا مأمور به، قال جل وعلا (فَلَا تَخَافُوهُمْ) نهي عن الخوف من غير الله، ثم قال (وَخَافُونِي) وهذا أمر بالخوف من الله جل وعلا، وما دام أن الله جل وعلا أمر بالخوف منه فإنه يصدق على الخوف إذن تعريف العبادة؛ لأنه إذ أمر بالخوف منه فمعنى ذلك أن الخوف منه محبوب له مرضي عنده، فيصدق عليه تعريف شيخ الإسلام للعبادة أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا ما دام أنه أمر به فمعناه أن الله جل وعلا يحبه، لأنه إنما يأمر شرعا بما يحبه ويرضاه، وفي هذه الآية دليل من النوع الثاني؛ وهو أن الخوف يجب أن يفرد به الله جل وعلا، قال ها هنا (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فجعل حصول الإيمان مشروطا بالخوف منه جل وعلا، قال (وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)؛ إن كنتم مؤمنين فخافوني ولا تخافوهم، وهذا فيه دليل على إفراد الله جل وعلا بهذا النوع من الخوف، والخوف الذي يجب إفراد الله جل وعلا به، ومن لم يفرد الله جل وعلا به فهو مشرك كافر هو نوع من أنواع الخوف وليس كل أنواع الخوف وهو خوف السر؛ وهو أن يخاف غير الله جل وعلا بما لا يقدر عليه إلا الله جل وعلا، وهو المسمى عند العلماء خوف السر؛ وهو أن يخاف أن يصيبه هذا المخوف منه، أن يصيبه ذلك الشيء بشيء في نفسه-يعني في نفس ذلك الخائف- كما يصيبه الله جل وعلا بأنواع المصائب من غير أسباب ظاهرة ولا شيء يمكن الاحتراز منه، فإن الله جل وعلا له الملكوت كله، وله الملك وهو على كل شيء قدير، بيده تصريف الأمر، يرسل ما يشاء من الخير، و يمسك ما يشاء من الخير، يرسل المصائب، وكل ذلك دون أسباب يعلمها العبد، وقد يكون لبعضها أسباب، لكن هو في الجملة من دون أسباب يمكن للعبد أن يعلمها, يموت هذا، ينقضي عمر ذاك، هذا يموت صغيرا، ذاك يموت كبيرا, هذا يأتيه مرض، وذاك يصيبه بلاء في ماله ونحو ذلك، الذي يفعل هذه الأشياء هو الله جل وعلا، فيُخاف من الله جل وعلا خوف السر أن يصيب العبد بشيء من العذاب في الدنيا أو في الآخرة، المشركون يخافون آلهتهم خوف السر؛ أن يصيبهم ذلك الإله، ذلك السيد، ذلك الولي، أن يصيبهم بشيء كما يصيبهم الله جل وعلا بالأشياء، فيقع في قلوبهم الخوف من تلك الآلهة من جنس الخوف الذي يكون من الله جل وعلا، يوضح ذلك أن عُبَّاد القبور وعباد الأضرحة وعباد الأولياء يخافون أشد الخوف من الولي أن يصيبهم بشيء إذا تُنُقِّص الولي، أو إذا لم يُقَم بحقه.
وقد حُكِيَ لي في ذلك حكاية من أحد طلبة العلم، أنه كان مجتازا مرة مع سائق سيارة أجرة ببلدة (قنطة) المعروفة في مصر التي فيها قبر البدوي؛ والبدوي عندهم معظم، وله من الأوصاف ما لله جل وعلا؛ يعني يعطونه من الأوصاف بعض ما لله جل وعلا، هم اجتازوا بالبلدة فأتى صغير -متوسط في السن- يسأل هذا؛ يسأله صَدقة، فأعطاه شيئا، فحلف له بالبدوي أن يعطيه أكثر، وكان من العادة عندهم أنه من حلف له مثل ذلك فلا يمكن أن يرد، فلا بد أن يعطي؛ لأنه يخاف أن لا يقيم لذلك الولي حقه، فقال هذا -وهو من طلبة العلم والمتحققين بالتوحيد- فقال: هات ما أعطيتك. فظن ذلك أنه يريد أن يعطيه زيادة, فأخذ ما أعطاه وقال: لأنك أقسمت بالبدوي فلن أعطيك شيئا، لأن القسم بغير الله شرك.
هذا مثال للتوضيح ليس من باب القصص لكنه يُوضِح المراد من خوف السر وضوحا تاما.
سائق الأجرة علاهُ الخوف في وجهه، ومضى سائقا وهو يقول: أُسْتُر أُسْتُر، أُسْتُر أُسْتُر. فسأله ذاك قال: تخاطب من؟ قال: أنت أهنت البدوي، وأنا أخاطبه -أي أدعوه- بأن يستر، فإن لم...، فإننا نستحق مصيبة، وسيرسل علينا البدوي مصيبة؛ لأننا أهناه. وكان في قلبه خوف بحيث أنه مشوا أكثر من مئة كيلو ولم يتكلم إلا بأُستر، أستر. يقول فلما وصلنا سالمين معافين توجهت له فقلت: يا فلان أين ما زعمت؟ وأين ما ذكرت من أن هذا الإله الذي تألهونه أنه سيفعل ويفعل؟ فتنفس الصعداء وقال: أصل السيد البدوي حليم !!!
هذه الحالة هي حالة تعلق القلب بغير الله، الذي يكون عند الخرافيين، خوف من غير الله خوف السر، البدوي ميت في قبره، يخشى أن يرسل إليه أحد يقسمه، أو مصيبة في سيارته أو في نفسه، هذا هو خوف السر، وهذا هو الذي جاء في مثل قول الله جل وعلا ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[الأنعام:81], قال (وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ) لأنهم يخافون آلهتهم هذا النوع من الخوف، لهذا تجد قلوبهم معلقة بآلهتهم لأنهم يخافونهم خوف السر، وقال جل وعلا مخبرا عن قول قوم هود حيث قالوا لهود ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾[هود:54]، فهم خافوا الآلهة، عندهم أن الآلهة تصيب بسوء، وكان الواجب على حد زعمهم أن يخاف هذا من الآلهة أن تصيبه بسوء، فقالوا له (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ) يعني بمصيبة في نفسك اختل عقلك، أو اختلت جوارحك أو نحو ذلك، هذا النوع من الخوف هو الذي إذا صرف لغير الله جل وعلا فهو شرك أكبر.
هناك أنواع من الخوف خوف جائز وهو الخوف الطبيعي: أن يخاف من الأسباب العادية التي جعل الله فيها ما يخاف ابن آدم منه، أن يخاف من النار أن تحرقه, يخاف من السبع أن يعدو عليه, من العقرب أن تلدغه, يخاف من ذي سلطان غشوم أن يعتدي عليه ونحو ذلك, هذا النوع خوف طبيعي من الأشياء, لا يُنقص الإيمان؛ لأنه مما جبل الله جل وعلا الخلق عليه.
هناك نوع، خوف محرم, هذا القسم الثالث لأن الخوف أربعة أقسام( ), قسم منه شركي؛ شرك أكبر, وقسم منه جائز, وقسم محرم وهو أن يخاف من الخلق في أداء واجب من واجبات الله, يخاف من الخلق في أداء الصلاة, يخاف إن قام للصلاة من مجلس يقطنه كثيرون أن يعاب, فإذا خاف هذا الخوف, فإن هذا الخوف يكون محرما, وفي مثله نزل قوله تعالى ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[آل عمران:173]، وفي قوله﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:185]، لأن الواجب أن يُجَاهَدوا, فإذا خافوهم عن أداء ذلك الواجب, خوف ليس بمأذون به في الشرع وإنما هو من تَسْوِيل الشيطان كما قال ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾[آل عمران:175]، هذا النوع من الخوف محرم, لا يجوز؛ لأن فيه تفويت فريضة من فرائض الله لأجل الخوف, خاف من غير الله لكنه ليس خوف السر, وإنما هو خوف ظاهر, وهذا محرم من المحرمات.
هذه أقسام ثلاثة مشهورة, وبها تجمع مسائل أقسام الخوف، والشرك منه وما ليس بشركي منه, وهذه المسألة مما يكثر فيها اضطراب طلاب العلم؛ لأنه ليس عندهم ضبط, للخوف الذي يحصل به إن صُرف لغير الله جل وعلا الشرك، الذي يوصف به من قام به أنه مشرك، أيُّ خوف هذا؟ هو خوف السِّر, ووصفه وضبط حاله هو ما ذكرته لك من قبل, فكن منه على ذكر وبينة في فهمك لهذه المسألة العظيمة.
الخوف عبادة قلبية موردها القلب، قد يظهر أثره على الجوارح.
قال بعد ذلك (ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110]) الرجاء أيضا عبادة قلبية، حقيقتها الطمع بالحصول على شيء مرجو, الرغبة بالحصول على شيء، يرجو أن يحصل على هذا الشيء.
فإن كان الرجاء لشيء ممن يملك ذلك الشيء فإن هذا رجاءٌ طبيعي؛ أرجو أن تحضر لأنه يمكنك أن تحضر، أرجوك أن تفعل، يمكنك أن تفعل، هذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة.
النوع الثاني هو رجاء العبادة، وهو أن يطمع في شيء لا يملكه إلا الله جل وعلا، أن يطمع في شفائه من مرض، يرجو أن يشفى، يرجو أن يدخل الجنة وينجو من النار، يرجو أن لا يصاب بمصيبة ونحو ذلك، هذه أنواع من الرجاء، لا يمكن أن تُرجى وتُطلب وتُؤمل إلا من الله جل وعلا، وهذا هو معنى رجاء العبادة.
فالرجاء منه ما هو رجاء عبادة ومنه ما هو رجاء ليس من العبادة، والمقصود ها هنا هو رجاء العبادة.
قال جل وعلا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) هذا النوع من الرجاء امتدح الله جل وعلا من قام به، قال (مَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا) فدل على أن هذا الرجاء ممدوحٌ مَنْ رجاهُ، وإذا كان ممدوحا قد مدحه الله جل وعلا فهو مرضي عند الله جل وعلا، فيصدق عليه حد العبادة من أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهذا -من نص هذه الآية- داخل فيما يرضاه الله جل وعلا، لأنه أثنى على من قام به ذلك الرجاء، وقوله هنا (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ)، (اللقاء) فُسر بالملاقاة، وفُسر بالمعاينة، وفُسر بالرؤية؛ رؤية الله جل وعلا, (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ) لملاقاة الله جل وعلا والرجوع إليه، أو فمن كان يرجو رؤية ربه، لأن اللقاء يحتمل هذا وذاك وهما تفسيران مشهوران عن السلف.
قال بعدها (ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة:23]) التوكل أيضا من العبادات القلبية، حقيقته أنه يجمع شيئين:
الأول: تفويض الأمر إلى الله جل وعلا.
الثاني: عدم رؤية السبب بعد عمله.
والتفويض وعدم رؤية السبب شيئان قلبيان، فالعبد المؤمن إذا فعل السبب، وهو جزء بما تحصل به حقيقة التوكل، فإنه لا يلتفت لهذا السبب، لأنه يعلم أن هذا السبب لا يُحَصِّل المقصود، ولا يحصل المراد به وحده، وإنما قد يحصل المراد به وقد لا يحصل؛ لأن حصول المرادات يكون بأشياء:
 منها السبب.
 ومنها صلاحية المحل.
 ومنها خلو الأمر من المضاد.
فثَم ثلاثة أشياء تحصل بها المرادات:
أول سبب: نعلم ِبمَا خلق الله جل وعلا خلقه عليه أن هذا السبب يُنتج المسبَّب؛ النتيجة.
الثاني: صلاحية المحل لقيام الأمر به؛ الأمر المراد.
الثالث: خلو الأمر أو المحل من المضاد له.
مثاله الدواء، النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدواء فقال «تداووا عباد الله» فالمسلم الموحد يتناول الدواء باعتباره سببا للشفاء، لكنه ليس سببا أو ليس علة وحيدة، بل لا يحصل الشفاء بهذا وحده، وإنما لابد من أشياء أخر، منها أن يكون المحل الذي هو داخل الإنسان-باطن متناول الدواء- يكون صالحا لقبول ذلك الدواء، وهذا معنى قولي: أن يكون المحل صالحا. أيضا من العلل التي يكمل بها المراد أن يكون السبب هذا الذي عمل خاليا من المعارض له، قد يكون يتناول شيء وفي البدن ما يفسد ذلك الشيء، فلا يصل إلى المقصود.
 ومنها وهو الأعظم أن يأذن الله جل وعلا بأن يكون السبب مؤثرا منتجا للمسبّب، وهذا يعطيك أن فعل السبب ليس كافيا في حصول المراد.
من الأمثلة التي نُمَثِّلُ بها كثيرا في هذا الباب غير مثال الدواء, رجل رام سفرا على سيارة، فأعد العدة، وفعل أسباب السلامة جميعا؛ من رعاية مثلا للكابحات (الفرامل)، ومن رعاية للإطارات ونحو ذلك، فعل أسباب السلامة جميعا، وسار على مهل، هذا كل ما يمكنه أن يفعله، لكن هل هذا وحده يحصل السلامة؟ لا يحصل السلامة هذا وحده، فهناك من قد يكون معتديا عليه، تأتيه سيارة كبيرة، هو قد بذل أسباب السلامة، وتأتيه في طريقه، ويصاب بالمصيبة من جرّاء ذلك، فهو فعل ما يمكنه أن يفعله، لكن هناك أشياء بيد الله جل وعلا تتم السلامة باجتماعها، وليس بهذا السبب الوحيد الذي عمله العبد، لا يجوز للعبد أن يتخلى عن بذل السبب لأن بذل السبب من تمام التوكل ولكن لا يُلتفت إلى السبب ولهذا قال علماؤنا -علماء التوحيد من أئمة السلف فمن بعدهم-: الالتفات إلى الأسباب قدح في التوكل. الالتفات إلى الأسباب قدح في التوحيد, ومحو الأسباب أن تكون أسبابا قدح في العقل, إذا التفت القلب إلى السبب وأنه ينتج المسبب هذا قدح في التوحيد.
لهذا نقول التوكل هو ما يجمع شيئين أولا تفويض الأمر إلى الله جل وعلا, لأن الله هو الذي بيده الملك. الثاني عدم رؤية السبب الذي فُعل.
إذن لا بد من فعل السبب, ويقوم بالقلب عدم رؤية لهذا السبب أنه ينتج المقصود وحده, وإنما يعلم أنه جزء مما ينتج المقصود, والباقي على الله جل وعلا ثم يفوض الأمر لله جل وعلا, هذا ينتج لك أن التوكل عبادة قلبية محضة, ولهذا صار صرفه لغير الله جل وعلا شرك, بمعنى أن يفوض الأمر لغير الله جل وعلا, كما يقول بعض مشايخ الصوفية لبعض مريديهم: إذا أُصبت بمصيبة فاذكرني فإني أخلِّصك منها. أذكرني يقم بالقلب ذلك المتذكَّر, ذلك المذكور, وإذا قام به أنه يخلصه من ذلك الشيء, فمعناه أنه فوض الأمر إليه, وصار متوكلا على غير الله جل وعلا, وهذا هو حقيقة ما يفعله المشركون في الجاهلية ومن شابههم ممن بعدهم, (ودليل التوكل قوله تعالى ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة:23])، ففي هذه الآية الأمر بالتوكل, وما دام أنه أمر به فهو عبادة؛ لأن العبادة ما أُمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي, وما دام أنه أمر به فهو راض له أن يُتوكل عليه, وهذا معناه كونه عبادة, ثم أيضا في هذا الدليل أنه جعل التوكل شرطَ الإيمان, فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) فمعنى ذلك أنه لا يحصل الإيمان إلا بالتوكل على الله وحده. أيضا هنا قدم الجارّ والمجرور فقال (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) وتقديم ما حقه التأخير في علم المعاني يفيد الحصر والقصر, أو يفيد الاختصاص، وهنا يفيدهما؛ يفيد الاختصاص, ويفيد القصر والحصر, فمعنى هذه الآية بقوله (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) يعني أحصروا توكلكم في الله, اقصروا توكلكم على الله إن كنتم مؤمنين, خُصُّوا الله بتوكلكم إن كنتم مؤمنين, وهذه الآية، هذا الدليل مركب من نوعي الدليل الذَين ذكرتهما لك من قبل, النوع الأول: إثبات أن هذا الأمر عبادة, الثاني: إثبات أن هذه العبادة يجب صرفها لغير الله جل وعلا بدليل خاص, فهو المستفاد من قوله (فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) وكذلك في قوله (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) هذا فيها الثناء على من يتوكل على الله, ففيها الدليل على أن التوكل على الله عمل يحبه الله ويرضاه، ومعنى ذلك أنه من أنواع العبادات, هذا هو توكل العبادة.
وهناك شيء آخر ليس من توكل العبادة, وهو التوكيل وهو المعروف في باب الوكالة عند الفقهاء, وكلت فلانا في أمري, (ووكل علي) كما جاء في الحديث «ووكل علي عقيلا في خصومة» هذا من باب الوكالة, وهو شيء آخر غير التوكل، التوكيل والوكالة باب آخر, أما التوكل فهو عبادة قلبية, يضبط ذلك أن الوكالة فيها المعنى الظاهر, فيها شيء ظاهر, أما التوكل فهو عمل قلبي.
على كل حال، لهذه الجمل مزيد تفصيل لكن المقام يضيق عن تفصيلات ما يتعلق بهذه الأنواع من العبادات, وتفصيلها في كتاب التوحيد؛ لأن كل واحدة منها عُقد لها باب في كتاب التوحيد.
قال رحمه الله تعالى (ودليلُ الرَّغبةِ والرَّهبةِ والخشوع قوله تعالى ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:90]) هذه الآية فيها المسارعة للخيرات, الدعاء رغبا ورهبا ووصفُهم بأن حالهم أنهم كانوا خاشعين لله, ففيها أنواع من العبادات, خصّ الشيخ منها بالاستدلال الرغبة والرهبة والخشوع, ووجه الاستدلال من الآية أن الله جل وعلا أثنى على الأنبياء والمرسلين الذين ذكرهم في سورة الأنبياء, التي هذه الآية في أواخرها بقوله (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا), يعني ويدعوننا راغبين, ويدعوننا ذوي رغبة وذوي رهبة وذوي خشوع, وهذا في مقام الثناء عليه؛ الثناء على الأنبياء والمرسلين, وما دام أنه أثنى عليهم فإن هذه العبادات من العبادات المرضية له فتدخل في حد العبادة.
الرغبة رجاء خاص, والرهبة خوف خاص وَجَلٌ خاص، والخشوع هو التطامن والذل, قال تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾[فصلت:39]، يعني ليس فيها حركة للنبات, ليس فيها حياة؛ متطامنة ذليلة ﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾( )[فصلت:39] ، فالخشوع سكون فيه ذل وخضوع, هذا الخشوع الذي هو نوع من أنواع العبادة, وتلك الرغبة وتلك الرهبة هذه من العبادات القلبية, التي يظهر أثرها على الجوارح.
لو تأملت أو رأيت حال المشركين عند آلهتهم, حال عباد القبور -مثلا- عند أوثانهم, عند المشاهد, لوجدت أنهم في خشوع, ليسوا عليه في مساجد لله ليس فيها قبر ولا قبة, وهذا مشاهد, فإنه يكون عنده وَجَلٌ خاص, رهبة, ومزيد رجاء هو الرغبة، وخشوع وتطامن وعدم حركة وسكون في الجوارح والأنفاس وحتى في الألحاظ في الرؤية، وهذا كله مما لا يسوغ أن يكون إلا لله، لأن المسلم في صلاته إذا صلى فإنه يكون يقوم به الرغبة، يقوم به الرهبة المستفادة من قوله تعالى ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾[الفاتحة:3-4], (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تفتح له باب الرغبات وباب الرجاء، و(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يفتح عليه باب الرغبة, باب الخوف من الله جل وعلا، فتأتي عبادته حال كونه راغبا راهبا، والخشوع سكونه وخضوعه وعدم حراكه في صوته وفي عمله، هذا لله جل وعلا في عبادة الصلاة، والخشوع يكون بالصوت، ويكون بالأعمال كما قال جل وعلا ﴿وَخَشَعَتْ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا﴾[طه:108]، فالهمس لا ينافي الخشوع في الصوت، وهذه حال المصلي حين يناجي ربه جل وعلا، فهو في حال رغبة ورجاء، وفي حال رغبة ورهبة، وفي حال خشوع لربه جل وعلا، يزيد هذا في القلب، وربما غلب عليه حتى نال المقامات العالية في تلك العبادة، وربما قلَّ وَضَعُف حتى لم يُكتب من صلاته إلا عشرها أو إلا تسعها، هذا لأنه من أنواع العبادات التي يحبها الله جل وعلا ويرضاها.
فإذن وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا أثنى على أولئك الأنبياء، وعلى أولئك المرسلين؛ لأنهم ذووا رغب، وذووا رهب، وذووا خشوع لله جل وعلا، وبالأخص هذا الدليل العام، وبالدليل الخاص في الخشوع وحده، قال هنا (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وكما قدمت أن الجارّ والمجرور هنا قدم على ما يتعلق به وهو اسم الفاعل (خاشع)؛ لأن الجارّ والمجرور -كما أسلفت لك- يتعلق بالفعل أو ما فيه معنى الفعل فهو اسم الفاعل أو اسم المفعول أو ما أشبهه من مصدر ونحو ذلك، وهنا قال (كَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أصل سَبْقِ الكلام: كانوا خاشعين لنا. فلما قدم ما حقه التأخير كان ذلك مفيدا للاختصاص وللحصر وللقصر كما هو معلوم في علم المعاني.
نقف عند هذا، ونأخذ شيء من الأصول، أو نجيب عن بعض الأسئلة.
الأسئلـــة
 متى يكون التوكل شركا أكبر ومتى يكون شركا أصغر؟
التوكل عبادة مطلوبة؛ التوكل على الله عبادة مطلوبة واجبة، يسأل هو عن التوكل على غير الله, يكون شركا أكبر إذا فوض أمره لغير الله؛ فوض هذا الأمر؛ المصيبة التي وقع فيها، أو ما يريد إنجاحه تجارة، أو عبادة أو درس أو نحو ذلك، فوّض إنجاح هذا الأمر لغير الله، وقام بقلبه هذا التعلق، يكون شركا أكبر، ولا يكون التوكل على غير الله شركا أصغر، إنما هو شرك أكبر.
يوجد كتاب باسم حكم تمني الموت صحة أحكام تمني الموت للشيخ محمد عبد الوهاب، وقد قرأت هذا الكتاب فوجدت فيه من القصص الغريبة والأحاديث الضعيفة.
فهل هذا الكتاب فعلا للشيخ محمد بن عبد الوهاب علما بأن دار النشر المكتبة الإعدادية بمكة المكرمة؟
هذا سؤال جيّد، وإن كان الجواب عليه قد يطول، لأن المسألة تحتاج إلى إيضاح وبسط، لكن ألخص الجواب: بأن هذا الكتاب ليس للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وإنما الواقع أن الجامعة؛ جامعة الإمام، رأت أن النسخة هذه التي طبعوا عنها، أنها بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وعندي صورة منها وهي بخط الشيخ رحمه الله، وقد جلبها العلماء منذ عقود مضت من لندن من المتحف البريطاني؛ جلبوها لا لأنها من تأليف الشيخ، ولكن لأجل أنها بخط الشيخ، مجموع كبير بخط الشيخ رحمه الله، جلبوها من هناك وصوروها وأودعوها في المكتبة السعودية في الرياض، لأنها بخط الشيخ والعلماء منذ ذلك الوقت يعلمون أنها ليست للشيخ، وإنما هي بخطه وسيأتي لما كتبها الشيخ، ولهذا لم يسعوا إلى نشرها ولا إلى طبعها.
الشيخ رحمه الله تعالى في هذه من جنس المجاميع التي كتبها بخطه، ولأنه كان يتجول في رحلاته، فإذا رأى كتابا -كما تعلمون في ذلك الوقت يصعب شراء الكتب، تكون نسخة عند واحد من الناس فيصعب شرائها- فالعالم ماذا يصنع، يأخذ هذا الكتاب ويختصره؛ ينتخب منه، فهو الذي صنع في هذا المجموع أنه انتخب منه أشياء تتعلق بأوله، بأحكام تمني الموت، ثم بعد ذلك انتخب أشياء من هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يحتج بها الخرافيون في بعض المسائل حياة الموتى وتعلق أرواح الأحياء بالموتى ونحو ذلك، أخذها من كتاب للسيوطي مطبوع الآن بأحوال أهل القبور، أخذ هذه الأحاديث لما؟ ليكون على بينة في تخريجها فيما إذا أوردها عليه الخصوم؛ خصوم الدعوة فهو لم ينتخبها تأليفا وإنما انتخبها انتقاء، حتى يكون على بينة منها، كعادته في أشياء كثيرة مما انتقاه وانتخبه، والذي غرَّ الذين طبعوه أنه موجود بخط الشيخ رحمه الله تعالى، وكونه بخط الشيخ لا يعني أنه تأليف له، وسموه بهذا الاسم (أحكام تمني الموت) لأن أول صفحة منه في حكم تمني الموت، فتمني الموت في ذلك الكتاب استغرق صفحة أو صفحتين أو قريبا منها، والباقي كلها من الأحاديث التي ذكرها هذا السائل جزاه الله خيرا، والشيخ رحمه الله كما ذكرت لك انتخب هذه ليعلمها، من كتاب للسيوطي موجود، لو طابقت بين هذه الرسالة المزعومة وكتاب السيوطي لوجدت أنها نقل عنه حرفا بحرف، الأحاديث المتوالية نقلها عنه ليكون على بينة مما فيها فيما لو احتج بها الخرافيون، ولهذا قال من قال من علماء الحديث: أهل الحديث يكتبون كل شيء؛ يكتبون حتى الموضوعات، حتى إذا احتج بها أحد بينوا له حكمها، وبينوا له وجه معناها.
 هل يُقدَّم السبب على التوكل على الله، وما معنى قوله عليه السلام «اعقلها وتوكّل»؟
السبب يكون قبل، تريد أمرا من الأمور تفعل السبب الذي يحصل المسبب عادة به؛ شفاء من مرض، السبب أن تذهب إلى الطبيب فهذا السبب, إذا فعلت السبب يقوم بالقلب شيئان:
أولا: تفويض أمر الشفاء لله جل وعلا.
الثاني: أن لا يرى القلب هذا السبب محصلا للمقصود وحده، لا يرى القلب هذا السبب الذي هو الذهاب للطبيب محصلا للشفاء وحده، ولكن يعلم أنه ثم أسباب أخرى كلها جميعا بيد الله جل وعلا.
فهذا السبب يتلوه شيئان هما التوكل، وفعل السبب من تمام التوكل، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره فيما ساقه السائل «اعقلها وتوكّل» توكَّلَ على الله جل وعلا في حفظ ناقته بدون أن يعقلها، فسرحت وذهبت وبعُدت عنه، فقال: اعقلها وتوكل. يعني ابذل السبب ثم بعد ذلك فوض الأمر إلى الله جل وعلا أن ينفع بهذا السبب، إذ بيده ملكوت كل شيء، وليكن بقبك عدم رؤية أن هذا السبب وهو العقل كافيا في حصول المراد وهو حفظ تلك الناقة.
يقول هل البيت المعروف عند الناس وامعتصماه، شرك في الاستغاثة ولماذا؟
هذا الذي يقول: ((رُبَّ وامعتصماه انطلقت))، القصة هذه لا نُثبتها، أي أن المرأة نادت المعتصم وقالت: وامعتصماه، أو أين المعتصم مني، أو يا معتصماه، هذه ليست بثابتة تاريخيا، لكن أخبار التاريخ كما هو معلوم كثيرة لا يمكن أخذ التثبت منها.
وامعتصماه هذه لها احتمالات، احتمال أن تكون نُدْبَة، واحتمال أن تكون نداء واستغاثة. وعلى كل إذا كان هذا الغائب لا يسمع الكلام، أو لا يعتقد أن الكلام سيصل إليه، فإنه يكون شركا؛ لأنه استغاث بغير الله جل وعلا، فإن كان من باب النُّدبة فإن باب الندبة فيه شيء من السعة، والأصل أن الندبة تكون لسامع، كذلك الاستغاثة لما يُقْدَرُ على الاستغاثة فيه تكون لحي حاضر سامع يقدر أن يغيث، وهذا كان على القصة هذه لو كانت المرأة قالتها المعتصم لا يسمعها وليس قريبا منها، فيحتمل إن كان مرادها أنه يمكن أن يسمعها؛ يقوم بقلبها أنه يمكن أن يسمعها دون واسطة طبيعية، ودون كرامة خاصة لها من الله جل وعلا، هذا شرك من جنس أفعال المشركين، وإن كان مقصودها أن يوصل ويصل إلى المعتصم طلبها واستغاثتها بواسطة من سمعها كما حصل فعلا فهذا ليس بشرك أكبر مخرج من الملّة.
فتلخص أن هذه الكلمة محتملة، والأصل؛ القاعدة في مثل هذه الكلمات المحتملة لا يجوز استعمالها-المحتملة لشرك- لا يجوز استعمالها؛ لأن استعمالها يخشى أن يوقع في الشرك أو يفتح باب الشرك.
 بعض الناس يخاف أن يُنْكِر المنكر، إذا كان في مجلس -مثلا- فيقوم من المجلس ويكتفي بإنكار القلب، فهل يدخل هذا في الخوف المحرم؟
لو جلس كان هذا داخلا في الخوف المحرم، وذلك بشرط أن لا يكون مستطيعا أن ينكر بيده، أو مستطيعا أن ينكر بلسانه، فإن كان بوسعه أن ينكر بيده إذ له مقدرة على الإنكار بيده؛ بأن يكون الأمر في بيته أو عند من له عليهم سلطة من قرابته ونحو ذلك، هذا ينكر بيده، إن لم يستطع ذلك ينكر بلسانه، وبعد ذلك يفارق المكان إن لم يُغَيَّر, الثالث إن لم يستطع الإنكار باللسان ينكر بقلبه لبغضه لهذا المنكر، وإن تمكن من الخروج من مكان المنكر فإنه يجب عليه الخروج، إن خاف الناس في إنكاره بيده مع استطاعته أن ينكر بيده، فهذا من الخوف المحرم الذي هو المرتبة الثالثة، إن خاف أن ينكر بلسانه؛ خاف الناس، مع إمكانه أن ينكر بلسانه، فهذا من الخوف المحرم، إن خاف أن يفارق مع إمكانه أن يفارق دون مفسدة راجحة تحصل ولم يفارق كان هذا من الخوف المحرم، والله المستعان غفر الله لنا جميعا.
قد وقفنا على الإنابة:
قال (ودليلُ الإنابة قوله تعالى ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾[الزمر:54]) وحقيقة الإنابة الرجوع؛ رجوع القلب عما سوى الله جل وعلا إلى الله جل وعلا وحده، والإنابة إذ كان معناها الرجوع، فإن القلب إذا توجه إلى غير الله جل وعلا قد يتعلق به تعلقا، بحيث يكون ذلك القلب في تعلقه تاركا غير ذلك الشيء، وراجعا ومنيبا إلى ذلك الشيء، كما يحصل عند الذين يتعلقون بغير الله؛ تتعلق قلوبهم بالأموات والأولياء أو بالأنبياء والرسل أو بالجن ونحو ذلك، فتجد أن قلوبهم قد فُرِّغَت إما على وجه التمام، أو على وجه كبير، أن فُرِّغَت من التعلق إلا من ذلك الشيء، هذا الذي يسمى الإنابة, أَنَابَ رجع، ترك غيره ورجع إليه، وهذا الرجوع ليس رجوعا مجردا، ولكنه رجوع للقلب مع تعلقه ورجائه، فحقيقة الإنابة أنها لا تقوم وحدها، القلب المنيب إلى الله جل وعلا إذا أناب إليه فإنه يرجع، وقد قام به أنواع من العبودية منها الرجاء والخوف والمحبة ونحو ذلك، فالمنيب إلى الله جل وعلا هو الذي رجع إلى الله جل وعلا عما سوى الله جل وعلا، ولا يكون رجوعه هذا إلا بعد أن يقوم بقلبه أنواع من العبوديات أعظمها المحبة والخوف والرجاء؛ محبة الله, الخوف من الله, الرجاء في الله, فإذن الإنابة صارت عبادة بهذا الدليل وسيأتي بيان وجه الاستدلال، وأيضا لأنها شيء متعلق بالقلب، ولأنها لا تقوم بالقلب إلا مع أنواع أخر من العبوديات، ولهذا استدل له بقوله تعالى (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) ووجه الاستدلال أن الله جل وعلا قال (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) فأمر بالإنابة، وإذ أمر بها فمعنى ذلك أنه يحبها ويرضاها ممن أتى بها، فهي إذن داخلة في تعريف العبادة سواء عند الأصوليين أو عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، وهذا الدليل العام على كونها من العبادة, ما الدليل على كون هذه العبادة يجب إفراد الله جل وعلا بها؟ فإن في هذا: الأمر بالإنابة إلى الله جل وعلا. ما دليل كون هذه العبادة وهي الإنابة لا يجوز ولا يسوغ أن يتوجه بها إلى غير الله جل وعلا؟ هناك دليل عام ألا وهو أنه إذ ثبت أنه عبادة، فالأدلة العامة كقوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، وقوله ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، وغير ذلك، وقوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة», «الدعاء مخ العبادة» ونحو هذه الأدلة، تدل على أن أي نوع من العبادة لا يجوز أن يتوجه به إلى غير الله، ومن توجه به إلى غير الله جل وعلا فقد كفر, فهذا الاستدلال العام، وهناك دليل خاص في الإنابة أنه يجب إفراد الله جل وعلا بالإنابة، وذلك في قوله تعالى ﴿ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾[هود:88]( ) في سورة هود (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) قالها شعيب عليه السلام، وأخبر الله جل وعلا بها عن شعيب، في معرض الثناء عليه، قال (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)؛ عليه وحده لا غير توكلت, فوَّضت أمري وأخليت قلبي من الاعتماد على غيره، ومجيء الجارّ والمجرور متقدم على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على وجوب حصرها وقصرها واختصاصها بالله جل وعلا، ثم قال وإليه أنيب، فقال إليه وحده لا إلى سواه أنيبُ؛ أرجعُ محبًّا راجيًا خائفًا عن كل ما سوى الله جل وعلا إلى الله وحده، فلما قدم الجارّ والمجرور على ما يتعلق به وهو الفعل، دل على أن هذه العبادة وهي الإنابة مختصة بالله جل وعلا، وهذا أتى في معرض الثناء على شعيب، وهناك أدلة أخرى.
فإذن هذه المسألة مع غيرها، أحيانا يورد الشيخ دليلا عاما على كونها من العبادة، وأحيانا يورد دليلا عاما على كونها عبادة وخاصا في أنه يجب إفراد الله جل وعلا بها، والحمد لله ما من مسألة من مسائل العبادة القلبية أو العملية، عمل الجوارح أو عمل القلب أو عمل اللسان، ما من مسألة إلا وثَم دليل عام على أنها من العبادة، وثم دليل خاص على أن من صرفها لغير الله جل وعلا فقد أشرك، وهذا والحمد لله بيِّن ظاهر، وهذا التوحيد في بيانه ووضوحه وظهور براهينه وأدلته وآياته مما هو بمكان واضح ظاهر، لا يكون معه بعد ذلك حجة للمخالفين، الذين تنكبوا هذا الطريق، ولم يسلموا وجوههم لله جل وعلا، ويخلصوا دينهم لله جل وعلا وحده.
بعد الإنابة ذكر الاستعانة حيث قال (ودليل الاستعانة قوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]) هذا دليل عام في العبادات جميعا حيث قال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) و(إِيَّاكَ)، كما هو معلوم ضمير منفصل في محل نصب مفعول به مقدم، أصل الكلام (نَعْبُدُ إِيَّاكَ) ومن المعلوم أن المفعول به يتأخر عن فعله، فإذا قُدّم كان ثم فائدة في علم المعاني من علوم البلاغة ألا وهي أنه يُفيد الاختصاص، وطائفة من البلاغيين يقولون يفيد الحصر والقصر، وعلى العموم الخطب يسير يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، هنا أفاد أن العبادة من خصوصيات الله جل وعلا؛ خاصة بالله جل وعلا. (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يعني لا نعبد إلا أنت، ثم قال بعدها وهو مراد الشيخ بالاستدلال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذه الآية من سورة الفاتحة؛ السورة العظيمة التي هي أم القرآن، التي يرددها المسلمون في صلواتهم، فيها إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وعقد العهد والإقرار على النفس بأن القائل لتلك الكلمات لا يعبد إلا الله جل وعلا. قال (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) كذلك لا يستعين إلا بالله جل وعلا، وجه الاستدلال أنه قدم الضمير المنفصل الذي هو في محل نصب مفعول به على الفعل الذي هو العامل فيه، وتقديم المعمول على العامل يفيد الاختصاص أو يفيد الحصر والقصر، فإذن هنا أثبت أنها عبادة، وأثبت أنه لا يجوز صرفها لغير الله إذ هي مختصة بالله جل وعلا.
وها هنا قال العلماء؛ شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم: إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله. مع أن جنس الاستعانة قد يكون من الربوبية يعني طلب الإعانة هو طلب لمقتضيات الربوبية, لأن الله جل وعلا هو مدبر الأمر, إياك نعبد هذا فيه معنى الألوهية, وإياك نستعين طلب الإعانة من الله؛ استعانة المسلم بالله، هذا فيها طلب لمقتضى الربوبية، ومن حيث كون الاستعانة طلبا صارت عبادة، ولهذا قال إن عبادة غير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وهذا لأجل أن العبادة إذا صرفت لغير الله جل وعلا فإنها يكون معها تحول في القلب الذي هو المضغة إذا صلحت -صلح العمل كله- صلح الجسد كله، إذا توجه بقلبه لغير الله في عبادته هذا صار قلبه فاسدا، ومقتضيات الربوبية أحيانا تطرأ، ولهذا الإشراك في الإلهية في بعض أوجهه أعظم من إنكار بعض أفراد الربوبية ألم تر ذلك الرجل من بني إسرائيل الذي قال في وصيته إن مت فأحرقوني ثم ذروني في البحر فوالله إن قدر الله علي ليعذبني عذابا لم يعذبه أحدا من العالمين. وغفر الله جل وعلا له لأنه شك في بعض أفراد القدرة والتي هي راجعة إلى شيء من معنى الربوبية كذلك قال جل وعلا عن حواريي عيسى﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ﴾[المائدة:112]، وأُجيبوا ولم يؤاخذوا بكلمتهم تلك؛ لأنها شك في بعض أفراد القدرة, وهذا راجع إلى شك في بعض مقتضيات الربوبية, أما العبادة لغير الله جل وعلا فهي التي لا يُقبل من أحد أن يصرف شيئا منها لغير الله, قال جل وعلا ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾[النساء:116]، وعيسى عليه السلام قال لقومه﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾[المائدة:72] وقال جل وعلا لعيسى في آخر السورة؛ سورة المائدة: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾[المائدة:116-117] إلى آخر الآيات, المقصود من هذا أن ما قاله شيخ الإسلام وجماعة, أن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله, هذا صحيح ومتّجه، ولهذا قدمت في سورة الفاتحة العبادة على الاستعانة؛ لأنها أعظم شأنا وأجل خطرا لأنها هي التي وقع فيها الابتلاء, ولهذا كان حريا بأهل الإيمان أن يعتنوا بأمر إخلاص القلب لله جل وعلا, وتوجُّه المرء في عباداته وعبودياته لله وحده دون ما سواه.
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى (وفي الحديث «إذا استعنت فاستعن بالله») وجه الاستدلال: أن الأمر بالاستعانة بالله رُتِّبَ على إرادة الاستعانة، قال (إذا استعنت فاستعن بالله) يعني إذا كنت متوجها للاستعانة فلا تستعن بأحد إلا بالله؛ لأن الأمر جاء في جواب الشرط, قال (إذا استعنت), (إذا) هذه شرطية غير جازمة, و(استعنت) هذا فعل الشرط, (إذا استعنت) إذا حصل منك حاجة للاستعانة فاستعن -هذا الأمر- فاستعن بالله, لما أمر به علمنا أنه من العبادة ثم لما جاء في جواب الشرط صار مُتَرَتِّبًا مع ما قبله لما يفسد الحصر والقصر.
ما معنى وإياك نستعين؟ ما حقيقة الاستعانة؟ الاستعانة طلب العون.
• لأن كثيرا فيما أوله السين والتاء يدل على الطلب, استعان، استغاث، استسقى ونحو ذلك, استعان: يعني طلب الإعانة. استغاث: طلب الغوث. استعاذ: طلب العوذ. استقام: ما فيها طلب، هذه من النوع الثاني. استسقى: طلب السقيا. ﴿وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾[البقرة:60] يعني وإذ طلب موسى السقيا لقومه, هذا نوع.
• النوع الثاني؛ تأتي استفعل ويراد بها الفعل بدون طلب, كقوله واستغنى الله, وغني الله, والله غني حميد في أمثال ذلك
المقصود أن كثيرا ما يأتي استفعل بطلب الفعل, هنا استعان طلب العون, استعاذ طلب العوذ, استغاث طلب الغوث, وهكذا.
فإذن إذ كان جميعا في معنى الطلب, أو فيها معنى الطلب, يصلح دليلا لها كل ما فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بما يحتاجه المرء في طلباته, الدعاء؛ جميع أدلة الدعاء تصلح لما كان فيه نوع طلب؛ أي دليل فيه وجوب إفراد الله جل وعلا بالدعاء يصلح دليلا بإفراد الله جل وعلا بأنواع الطلب ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾[غافر:60]، يصلح دليلا للاستغاثة, والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك.
بعد ذلك قال (ودليل الاستعاذة قوله تعالى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ﴾[الناس:1-2]) الاستعاذة كما ذكرت لك هي طلب العوذ, وأعوذ: معناها ألتجئُ وأعتصمُ وأتحرز, تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, معناها ألتجئ وأعتصم وأتحرز بالله من شر الشيطان الرجيم, فإذن الاستعاذة طلب العوذ طلب المعتصَم, طلب الحِرز, طلب ما يعصم, طلب ما يحمي, هذه الاستعاذة. وإذن هي من حيث كونها طلب، هذه ظاهرة, ومن حيث كونها فيها الاعتصام والالتجاء والتّحرُّز صارت عبادة قلبية, ولهذا قال كثير من أهل العلم: إن الاستعاذة عبادة قلبية.
وطلب العوذ -نعم- يكون باللسان, بقول أحد لآخر: أعوذ بك, أعذني ونحو ذلك. ولكنها هي تقوم بالقلب؛ يعني يقوم بالقلب الاعتصام بهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب الالتجاء لهذا المطلوب منه العوذ, يقوم بالقلب التحرز بهذا المطلوب منه العوذ, فإذا قام بالقلب هذه الأشياء وهذه الأمور صار مستعيذا، ولو لم يُفصح لسانه بطلب العوذ, يعني أنها عبادة قلبية, الاستعاذة عبادة قلبية؛ لأن حقيقتها طلب العوذ, فإذا قام بالقلب اعتصامه بالله احترازه وتحرُّزُه بالله, التجاءه إلى الله من شر من فيه شر, صار ذلك استعاذة، قد يُفصح اللسان عنها, يطلب اللهم أعذني من مُضِلاَّت الفتن, بقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, أعوذ برب الفلق. ونحو ذلك, أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، يعني ألتجئ وأعتصم وأتحرز بكلمات الله الكونية التامة التي لا يلحقها نقص من شر كل من فيه شر, مما خلقه الله جل وعلا ونحو ذلك.
لأجل هذا المعنى قال جمع من أهل العلم: إنه لا يجوز أن يقول قائل أعوذ بالله ثُم بك. وذلك لأن العوذ عبادة قلبية, وهذا هو الصحيح, فإن العوذ إذا قيل أعوذ بالله ثم بك, الاستعاذة عمل قلبي بحت, لهذا لا يصلح أن يتعلق بغير الله جل وعلا.
وقال آخرون من أهل العلم: الاستعاذة طلب للَّجَئ والاحتراز والاعتصام, وقد يكون المطلوب منه يمكن ويملك أن يعطي هذا معتصما, وأن يقيه شرا, مثلا: يأتي واحد من الناس إلى قوي من الناس إلى كبير, ملك, أو أمير أو رئيس قبيلة أو نحو ذلك, فيقول له أعوذ بك، أو أعوذ بالله ثم بك من شر هذا الذي أتاني؛ رجل مثلا يأتي يطلبه بشيء, يقولون هذا يمكن أن يكون؛ يعني أن يقيه شرا أن يمنعه ممن يريد به سوءا, يمكن أن يكون ممن يقدر عليه البشر, فإذا كان بهذا المعنى يجوز أن يقول أعوذ بك بمخلوق, أعوذ بالله ثم بك بمخلوق.
ولكن قَول أعوذ بك, هذا أبعد في الإجازة, وأما قول أعوذ بالله ثم بك, فهذا من راع المعنى الظاهر, وإمكانَ المخلوق أن يعيذ صححه وقال لا بأس أن يقول: أعوذ بالله ثم بك، ولكن الأظهر أن العوذ عبادة قلبية, وأنها إنما تكون بالله جل وعلا, وهذا على نحو ما مرنا بقوله: توكلت على الله ثم عليك ونحو ذلك, فمن أهل العلم من يجيز مثل هذه الألفاظ مع أن أصلها عمل قلبي؛ عبادة قلبية, مراعيا الظاهر ما يراعي تعلق القلب, مُراعيا الحماية الظاهرة، مُراعيا التحرز الظاهر, مُراعيا الاعتصام الظاهر, ومنهم من لم يجزْها مراعيا أنها عبادة قلبية, وأنك إذا أجزتها في الظاهر فإنه قد يكون تبعا لذلك الإجازة تعلق القلب عند من لا يفهم المراد.
وعلى العموم هما قولان مشهوران حتى عند مشايخنا المفتين في هذا الوقت ومن قبل.
يقابل الاستعاذة التي هي طلب العوذ, لأن طلب العوذ من شيء فيه شر, لهذا قال تعالى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)مَلِكِ النَّاسِ(2)إِلَهِ النَّاسِ(3)مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ﴾[الناس:1-4], فالاستعاذة مما فيه شر. وأما اللّياذ, واللَّوذ فإنه مما فيه خير, قال: ألوذ بك. يعني إذا كنت مؤملا خيرا, وإذا كنت خائفا من شر تقول لربك جل وعلا: أعوذ بك, وإذا كنت مؤملا خيرا تقول ألوذ بك وهكذا, ثم ذكر الاستغاثة، أولا الدليل, قال (دليل الاستعاذة قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) وجه الاستدلال أنه أمر نبيه الكريم أن يستعيذ برب الناس, ما دام أنه أمر به فهو عبادة قلبية, لأنه لا يأمر إلا بشيء يحبه ويرضاه, فذلك قوله تعالى ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾[النحل:98] أمر بالاستعاذة به فدل على أنها عبادة.
قال الشيخ رحمه الله (ودليل الاستغاثة قوله تعالى ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾[الأنفال:9]) الاستغاثة: طلب الغوث, والغوث يُفسر بأنه الإغاثة, المدد، النصرة ونحو ذلك, فإذا وقع مثلا أحد في غرق ينادي أَغثني أغثني, يطلب الإغاثة, يطلب إزالة هذا الشيء, يطلب النصرة.
الاستغاثة عبادة؛ وجه كونها عبادة أن الله جل وعلا قال هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) وجه الاستدلال أنه أتى بها في معرض الثناء عليهم, وأنه رتّب عليها الإجابة, وما دام الله جل وعلا رتّب على استغاثتهم به إجابته جل وعلا دل على أنه يحبها, وقد رضيها منهم, فنتج أنها من العبادة، و(إِذْ) هنا بمعنى حين (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) يعني حين (تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ)، وتلاحظ أنّ الآية هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) وقبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) الاستغاثة -كما ذكرت لك- والاستعاذة والاستعانة ونحو ذلك, تتعلق بالربوبية كثيرا, هنا (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) قال قبلها (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) لأن حقيقتها من مقتضيات الربوبية, من الذي يُغيث؟ هو المالك، هو المدبر، هو الذي يُصرِّف الأمر, وهو ربّ كل شيء جل وعلا. الاستغاثة عمل ظاهر, ولهذا يجوز أن يستغيث المرء بمخلوق, لكن بشروطه, وهي أن يكون هذا المطلوب منه الغوث, أن يكون حيا، حاضرا، قادرا، يسمع, فإذا لم يكن حيا كان ميتا صارت الاستغاثة بهذا الميت كفرا, ولو كان يسمع ولو كان قادرا, مثل الملائكة أو الجن, قلنا أن يكون حيا حاضرا قادرا يسمع, صحيح؟ طيّب، إذا لم يكن حيا كان ميتا، ولو اعتقد المستغيث أنه يسمع وأنه قادر، فإنه إذ كان ميتا فإن الاستغاثة به شرك. الأموات جميعا لا يقدرون على الإغاثة لكن قد يقوم بقلوب المشركين بهم أنهم يسمعون، وأنهم أحياء مثل حال الشهداء، وأنهم يقدرون مثل ما يزعم في حال النبي عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك، فنقول إذ كان ميتا فإنه لا يجوز الطلب منه، قالوا فما يحصل يوم القيامة من استغاثة الناس بآدم ثم استغاثتهم بنوح إلى آخر أنهم استغاثوا بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نقول هذا ليس استغاثة بأموات، يوم القيامة هؤلاء أحياء، يُبعث الناس ويُحيَوْن من جديد، كانوا في حياة ثم ماتوا ثم أعيدوا إلى حياة أخرى. فهي استغاثة بمن؟ بحي، حاضر، قادر، يسمع. بهذا ليس فيما احتجوا به من حال أولئك الأنبياء يوم القيامة حُجة على جواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا، والاستغاثة بغير الله جل وعلا أعظم كفرا من كثير من المسائل التي صَرْفها لغير الله جل وعلا شرك, إذن فالشروط:
 أن يكون حيا: إذا كان ميّتا لا يجوز الاستغاثة به.
 أن يكون حاضرا: إذا كان غائبا لا يجوز الاستغاثة به؛ حي قادر لكنه غائب. مثل لو استغاث بجبريل عليه السلام فليس بحاضر, حي نعم، وقادر قد يطلب منه ما يقدر عليه، ولكنه ليس بحاضر. مثل أن يطلب من حي قادر من الناس؛ يَطلب من ملك يملك أو أمير يستغيث به أغثني يا فلان، وهو ليس عنده، مع أنه لو كان عنده لأمكن بقوَّته, لكنه لما لم يكن حاضرا صارت الاستغاثة-تعلُّق القلب- بغير حاضر هذا شرك بالله جل وعلا.
 أن يكون قادرًا: إذا لم يكن قادرا فالاستغاثة به شرك، ولو كان حيا حاضرا يسمع، مثل لو استغاث بمخلوق بما لا يقدر عليه، وهو حي حاضر يسمعه، وتعلق القلبُ -قلب المستغيث- على هذا النحو، تعلق قلبُه بأن هذا يستطيع ويقدر أن يغيثه، بمعنى ذلك أنه استغاث بمن لا يقدر على الإغاثة، فتعلق القلب بهذا المستغاث به، فصارت الاستغاثة وهي طلب الغوث شركا على هذا النحو.
 وكذلك يسمعُ: لو كان حيا قادرا، ولكنه لا يسمع، حاضر لا يسمع كالنائم ونحوه، كذلك لا تجوز الاستغاثة به.
وقد تلتبس بعض المسائل بهذه الشروط في أنها في بعض الحالات تكون شركا أكبرا، وفي بعض الحالات يكون منهي عنها من ذرائع الشرك، ونحو ذلك. مثل الذي يسأل ميت، يسأل أعمى بجنبه، أو يسأل مشلول بجنبه أن يغيثه ونحو ذلك.
المقصود أن العلماء اشترطوا لجواز الاستغاثة بغير الله جل وعلا: أن يكون المستغاث به حيا حاضرا قادرا يسمع.
قال رحمه الله تعالى (ودليل الذبح قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ﴾[الأنعام:162-163]) الذبح الذي هو النحر، والذبح يشمل النحر الخاص ويشمل الذبح الذي هو قسيم النحر لأن:
النحر: هو الطعن بسكين أو بالحَرْبَة في الوَحدة، مثل ما يُفعل بالإبل كما تعلمون هي لا تذبح ذبحا، لكن هي تطعن في وَحدتها وإذا طُعنت وحُرِّكت السكين واندثر الدم وماتت، ليس ثَم ذبح. كذلك البقر قد تُنحر.
وأما الذبح: فيكون في الغنم من الظأن والماعز وكذلك في البقر.
الذبح والنحر عبادة، المقصود منها إراقة الدم، وإراقة الدم -من حيث هو- لا يكون إلا بتعلقٍ للقلب، فإذا أراق الدم لله جل وعلا تعلق القلب بالله جل وعلا. فالذبح عبادة ظاهرة يتبعها أو يكون معها عبادة باطنة قلبية، فمن ذبح لغير الله وقع في شرك ظاهر؛ لأن هذه عبادة صرفها لغير الله، وكذلك قلبه تعلق بغير الله فصار شركه من جهتين.
وجه الاستدلال من قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أنه قال (وَنُسُكِي) والنسك فُسِّرت بعدة تفسيرات عن السلف منها الذبح والنحر وهذا كما قال جل وعلا في الآية الأخرى ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ(1)فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾[الكوثر:1-2]، (فَصَلِّ لِرَبِّكَ) أمره بأن يوحد الله جل وعلا بالصلاة، وكذلك أمره بالنحر لربه جل وعلا وحده، إذن النسك هنا الذبح.
قال (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) الصلاة لمن؟ لله. وجه اللام هنا أنها لام الاستحقاق، قل إن صلاتي لله، يعني صلاتي مستحقة لله، هذا وجه الاستدلال. ونسكي لله، يعني نسكي الذي هو ذبحي مستحق لله وحده لا شريك له. ومحياي لله ومماتي لله، هذه لام أخرى وهي لام المِلك، الصلاة والنسك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله مُلكا؛ لأننا اللام قلنا أنها تأتي للاستحقاق وتأتي للملك تذكرون؟ في هذه الآية جعل هذه الأفعال الأربعة الصلاة والنسك والمحيى والممات جعلها جميعا باللام مؤخرة، بقوله (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لكن تختلف، الصلاة والنُّسُك لله استحقاقا، والمحيى والممات لله جل وعلا مُلكا، فجمعت هذه الآية بين توحيدي الله جل وعلا: في إلهيته وهو الأول، وفي ربوبيته وهو الثاني. قل إن صلاتي ونسكي لله، هذا توحيد لله جل وعلا في إلهيته، ومحياي ومماتي لله هذا توحيد لله جل وعلا في ربوبيته، فكما أنه جل وعلا هو مالك محياي ومماتي، فكذلك هو المستحق لصلاتي ونسكي، قال جل وعلا لنبيه قل إن صلاني ونسكي مستحقة لله، ومحياي ومماتي ملك لله جل وعلا (رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ) فذكر الربوبية ثم ذكر الألوهية، ثم بيَّن أن هذا من علامات الإسلام العظيمة فقال (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ) وهذا وجه استدلال آخر إذ أن هذه مأمور بها، قال (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ).
الذبح كما أنه عمل ظاهر وهو إراقة الدم، والدم الذي بَثَّهُ في أعضاء المذبوح هو الله جل وعلا، وهو علامة الحياة، فلا يُزهق إلا لمن خلَقه، ولمن بثه في أعضاء من به الحياة.
ولهذا قال العلماء إن العبد حال الذبح يجتمع في قلبه أنواع من العبوديات:
 منها الذل لربه جل وعلا.
 ومنها التعظيم له جل وعلا.
 ومنها الرجاء؛ رجاء ما عنده حال ذبحه.
 ومنها طلب البركة؛ لأنه ما ذبح إلا لله.
وهذه كلها عبادات قلبية، فكما أن الذبح عمل ظاهر؛ به تحريك اليد، تحريك اللسان ببعض القول، كذلك يقوم بالقلب حال الذبح أنواع من العبوديات، قد ما يقوم بالقلب شيء البتة، مثل ما يُذبح لضيافة أو نحو ذلك، فهذا يجب أن يكون ظاهرا لله جل وعلا وحده، وإذا اجتمع أن يكون في الذبيحة، أن تكون اجتمعت فيها العبادة الظاهرة والعبادة الباطنة؛ العبادة القلبية، كانت أكمل في رجاء ثواب الذبح، ولو كان في الأمور العادية من ضيافة ونحوها، فيكون الذبح لله جل وعلا ظاهرا لم يُرد بهذا إلا الله جل وعلا، وباسمه لم يذكر إلا اسم الله جل وعلا، ثم يكون بالقلب ذل لله جل وعلا وخضوع وتعظيم ورجاء المثوبة منه وحده، فتجتمع العبادات القلبية وعبادات الجوارح حال الذبح.
لهذا، الذبح من العبادات العظيمة، لكن قد يغفل الناس عن تعلق القلب وفعل الجوارح حين الذبح، وكيف تكون لله جل وعلا، ولهذا على طالب العلم أن يتعلم هذا إن لم يحسنه، يتعلم كيف يكون حال الذبح؛ حال ذبحه لذبيحته للأضحية وهي آكد وآكد وآكد، أو لغيرها، أن يكون موحدا تماما، يرجو في ذبحه أن يكون على غاية من العبودية في لسانه وقلبه وجوارحه؛ لأنه فيه حركة لسان للتسمية والتكبير، وفيه عمل القلب بأنواع من العبوديات ذكرت بعضها، وفيه أيضا حركة اليد، وهذا كله مما يجب أن يكون لله جل وعلا وحده.
قال (ومن السنة «لعن الله من ذبح لغير الله») وجه الاستدلال: أن من ذبح لغير الله لم يذبح لله، وإنما ذبح لغيره، أنه ملعون لعنه الله, وهذا الدعاء من النبي عليه الصلاة والسلام بقوله (لعن الله من ذبح لغير الله) يدل على أن الذبح لغير الله كبيرة من الكبائر، وإذا كانت كذلك فهي إذن يُبغضها الله جل وعلا، وإذا كان يُبغض الله جل وعلا الذبح لغيره، معنى ذلك أن الذبح له وحده محبوب له، في مقابلة، فيستقيم بذلك الاستدلال.
قال بعدها (ودليل النذر قوله تعالى ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[الإنسان:7]) النذر: هو إيجاب المرء على نفسه شيئا لم يجب عليه، وتارة يكون النذر مطلقا، وتارة يكون بالمقابلة مُقيّد، والنذر المطلق غير مكروه، والنذر المقيد مكروه.
لهذا استشكل جمع من أهل العلم؛ استشكلوا كون النذر عبادة مع أن النذر مكروه، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول في النذر «إنه لا يأتي بخير وإنما يُستخرج به من البخيل» يقولون: إذا كان مكروها كيف يكون عبادة؟ ومعلوم أن العبادة يحبها الله جل وعلا، والنذر يكون مكروها كما دل عليه هذا الحديث، فكيف إذا كان مكروها يكون عبادة؟ وهذا الاستشكال منهم غير وارد أصلا؛ لأن النذر ينقسم إلى قسمين: نذر مطلق، ونذر مقيد.
النذر المطلق: لا يكون عن مقابلة، وهذا غير مكروه، أن يوجب على نفسه عبادة لله جل وعلا بدون مقابلة، فيقول لله عليَّ نذر، مثلا يقول قائل: لله عليَّ نذر أن أصلّي الليلة عشرة ركعات طويلات. بدون مقابلة، هذا إيجاب المرء على نفسه عبادة لم تجب عليه دون أن يقابلها شيء، هذا النوع مطلق، وهذا محمود.
النوع الثاني المكروه: وهو ما كان عن مقابلة، وهو أن يقول قائل مثلا: إن شفى الله جل وعلا مريضي صُمْتُ يوما، إن نجحت في الاختبار صليت ركعتين، إن تزوجت هذه المرأة تصدقت بخمسين ريالا -مثلا- أو بمائة ريالا. هذا مشروط يوجب عبادة على نفسه، مشروطة بشيء يحصل له قدرا، من الذي يحصل الشيء ويجعله كائنا؟ هو الله جل وعلا. فكأنه قال إن أعطيتني هذه الزوجة، وإن يسرت لي الزواج بها، صليت لك ركعتين أو تصدقت بكذا. إن أنجحتني في الاختبار صمت يوما ونحو ذلك، وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «إنما يُستخرج به من البخيل» لأن المؤمن المقبل على ربه ما يعبد الله جل وعلا بالمقايضة، يعبد الله جل وعلا ويتقرب إليه لأن الله يستحق ذلك منه، فهذا النوع مكروه. النوع الأول محمود، وهذا النوع مكروه.
والوفاء بالنذر في كلا الأمرين واجب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» فتحصل عندنا أن النذر في أربعة أشياء: نذر محمود -نحن ما نقول نذر مشروع فيفهم أحد أنه واجب أو مستحب, لا, نقول محمود، غير مكروه في الشرع، محمود وهو المطلق الذي ما فيه مقايضة ولا مقابلة-. النوع الثاني مكروه وهو الذي يكون عن مقابلة, الوفاء بالأول بنذر التبرّر والطاعة واجب, الوفاء بالثاني حتى ولو كان مكروها واجب، وهو الذي أثنى الله جل وعلا على أهله في الحالين بقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) لأنه أوجب على نفسه، فلما كان واجبا صار الوفاء به واجبا، فامتثل للوجوب الذي أوجبه على نفسه لأنه يخشى عقابه، فتحصّل من هذه الأربع منها اثنتان واجبتان وهما الوفاء، وواحد محمود، وواحد مكروه، ولهذا صار غالب الحال-إذ كان عبادة- صار غالب الحال هو الحال التي أنه محمود فيها أو واجب.
وبهذا صار النذر عبادة من العبادات التي يرضاها الله جل وعلا ويحبها، إلا في حال واحدة وهي حال نذر المقابلة.
اتضح لكم هذا المقام؟ لأن بهذا التحرير تخلصون من إشكالات عِدَّة، ربما أوردها عليكم خصوم الدعوة والخرافيون في مسألة النذر. ظاهر؟ تأملوها لأنه قد لا تجد هذا التحرير في كثير من الكتب.
قال (ودليل النذر قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا امتدحهم بذلك بأنهم يوفون بالنذر، وإذ امتدحهم بذلك دل على أن هذا العمل منهم وهو الوفاء بالنذر أنه محبوب له جل وعلا، فثبت أنه عبادة لله جل وعلا.
والنذر له شقان: الشق الأول النذر والثاني الوفاء به، وكلا الأمرين إذا صُرفت لغير الله جل وعلا فهي شرك.
• من نذر لغير الله، أن ينذر لأصحاب المشاهد والأولياء أو القبور، ينذر للمشهد الفلاني، ينذر مثلا للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن ينذرَ لأحد من الموتى، ينذر لفاطمة رضي الله عنها، أو ينذر لأحد آل البيت، أو لخديجة، أو ينذر لأحد من الأولياء أو نحو ذلك، يقول: عليَّ نذر للولي الفلاني، ولو كان غير مقابلة هذا إيجاب على نفسه عبادة لمن؟ لغير الله فصار شركا أكبر.
• القسم الثاني أن يقول: إن شفى الله-لاحظ- إن شفى الله مريضي فللولي الفلاني عليَّ نذر بكذا وكذا، فهذا على المقابلة، ولو كان على هذا النحو, فصرفه لغير الله جل وعلا شرك؛ لأن القول الأول منه وهو قوله (إن شفى الله مريضي) هذا ربوبية، وقوله (فللولي الفلاني علي نذر) هذا شرك في العبودية, هو أقر بالربوبية ولكنه أشرك بالعبودية, هذا جهة النذر, الوفاء لأصحاب القبور أو نحوهم, أو الجن, أو الملائكة, هذا كله شرك, فلو حصل منها النذر لغير الله فلا يجوز أن يوفِي به, فإن وفَّى به لغير الله سيكون ذلك شرك بعد شرك, لهذا قال عليه الصلاة والسلام «من نذر أن يعصي الله فلا يعصه», يدخل في ذلك إذا كان النذر لغير الله جل وعلا, قال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) مدحهم بذلك, فدل أن وفائهم بالنذر عبادة يحبها الله جل وعلا.
ونكتفي بهذا القدر اليوم, ونقف على الأصل الثاني وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم الانتفاع والسداد.

الأصلُ الثَّاني: معرفةُ دينُ الإسلامِ بالأدلةِ، وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوصُ مِنَ الشِّركِ وأهلِهِ؛ وهو ثلاثُ مراتبَ: الإسلامُ، والإيمانُ، والإحسانُ، وكلُّ مرتبةٍ لها أركانٌ.
فأركانُ الإسلامِ خمسةٌ: شهادةُ أنْ لا إله إلاّ اللهُ، وأنَّ محمدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصومُ رمضانَ، وحجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ.
فدليلُ الشّهادةِ قولُهُ تعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمرا:18]، ومعناها لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحده؛ (لا إله) نافيًا جميعَ مَا يُعْبدُ مِنْ دونِ اللهِ (إلا الله) مُثْبِتًا العبادةَ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لهُ في عبادتِهِ، كما أنَّه ليس له شريك في مُلْكِهِ، وتفسيرُها الذي يوضِّحُها قولُه تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:26-28]، وقولُه تعالى ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:26].
ودليلُ شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ قولهُ تعالى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128]، ومعنى شهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ اللهِ: طاعتُهُ فيما أَمَرَ، وتصديقُهُ فيما أَخْبَرَ، واجتنابُ ما عنْهُ نهى وزَجَرَ، وأنْ لا يعبدَ اللهَ إلاَّ بما شَرَعَ.
ودليلُ الصلاةِ، والزكاةِ، وتفسيرُ التَّوحيدِ قولُه تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5].
ودليلُ الصيامِ قولُه تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[البقرة:183].
ودليلُ الحجِّ قولُه تعالى﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ﴾[آل عمران:97].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه الرسالة تسمى ثلاثة الأصول وأدلتها، وقد ذكر -رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة- الأصل الأول، فيما مرّ معنا وهو معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد ربه، يعني به معرفة العبد معبوده؛ لأن الرب هنا بمعنى المعبود، والربوبية بهذا الموقع بمعنى العبادة، لأن الابتلاء وقع فيها، هذا أصل من الأصول، والمقبور أو الميِّت يُسأل أول سؤال عن ربه، يعني عن معبوده الذي كان يعبده، من هو؟ فإن كان يعبد الله وحده لا شريك له، أجاب بأن معبودي ربي الله يعني وحده لا شريك له، وإن كان يعبد مع الله آلهة أخرى والعياذ بالله، قال: ربي الله، وربي فلان، وربي فلان، وربي فلان. من المعبودات المختلفة، يعني معبودي فلان، ومعبودي فلان، ومعبودي فلان، مع الله جل وعلا فيسأله منكر ونكير عن دينه: ما دينك؟ فلهذا كان لزاما أن يتعلم العبد دينه بأدلة ذلك، حتى يخرج عن التقليد، ويكون اعتقاده بهذا عن علم ومعرفة وبصيرة، لا على وجه المتابعة للناس، ولهذا جاء في بعض طرق السؤال وأما المنافق أو قال الفاجر فيقول ها, ها، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. وهذا يدل على أنه يرى معهم، على التقليد، وأن التقليد لا يسوغ في أصول الدين، هذه الأصول الثلاثة، التقليد في دين الإسلام، التقليد في العبادة, التقليد في الشهادة بأن محمد رسول الله، لا يكفي؛ فإذا قال قائل: أنا مسلم بحكم أني في بلد إسلام. وهو لم يعتقد هذه الأمور اعتقادا عن علم، ولو لمرة في حياته، ولو كانت قبل البلوغ فإنه لا يخلص من التبعة، فلا بد أن يعتقد ما يجب اعتقاده عن معرفة، وهي هذه الأصول الثلاثة، وعن معرفة وعلم ودليل، ولهذا الشيخ رحمه الله كما ترى توسّع في الأدلة، كل مسألة يذكرها يذكر دليلا عليها، لأن المتعلم لهذا يخرج به عن رِقَّة التقليد لمن علّمه، فيكون اعتقاده كان عن دليل، ولهذا ينبغي تعليم الصغار المميزين هذه الرسالة أو الكبار، يُعلَّمونها بأدلتها لا على وجه التفصيل كما نذكر في هذا الشرح، لكن نتعلم أن العبادة معناها كذا ودليلها كذا، فيعتقدها بدليلها، يعلم أن الله جل وعلا هو الذي فرض هذا الشيء، وهذا دليل المسألة، فيخرج عن رِبقَة التقليد بهذه المسائل العظام.
قال هنا رحمه الله تعالى (الأصل الثاني: معرفة دين الاسلام بالأدلة) ما هو الإسلام؟ قال (وهو الاستسلامُ للهِ بالتوحيدِ، والانقيادِ له بالطاعةِ، والخُلوص من الشرك) وهذه العبارة، وهي الأخيرة (والخلوص من الشرك) الصواب أنها (والبراءة من الشرك وأهله) هذا هو الموجود في النسخ المعتمدة، أما (والخلوص من الشرك) فهذه ليست في النسخ المعتمدة، وهي في هذه الطبعة التي بين يدي، والصحيح في النسخ المعتمدة أن (الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله) ومن المعلوم أن (البراءة من الشرك وأهله) أدل على المراد من لفظ (الخلوص من الشرك), لأن الخلوص من الشرك إنما هو خروج عن الشرك، وليس فيه معنى البراءة من الشرك وأهله، ولهذا كان الأصح أن يُجعل بدل (الخلوص من الشرك) في هذه النسخة، ما هو في النسخ المعتمدة الأخرى وهي أن (الإسلام الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله) وهذا هو الذي يناسب الاستدلال الذي استدل به الشيخ وهو قوله تعالى في سورة الزخرف (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فذكر البراءة وهو الذي يناسب هذا التعريف.
والإسلام يُراد به تارة الإسلام العام، ويراد به تارة الإسلام الخاص؛ يأتي هذا في القرآن وهذا.
فالإسلام العام: يراد به الإسلام الذي خوطب به جميع الناس من لدن آدم عليه السلام إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، بل خوطب به جميع المخلوقات كما قال جل وعلا ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾[آل عمران:98] أسلم له كل شيء كما قال ورقة بن نفيل في ما أحسب قال:
له المزن تحملُ عذبًا زلالاً وأسلمتُ وجهي لمن أسلمني
فالإسلام هذا العام، (الاستسلام لله) استسلام لله عن طواعية واختيار, هذا الإسلام العام الذي خوطب به جميع الخلق، حصل التكليف على آدم وبنيه قال جل وعلا﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾[الأحزاب:72]، يعني حمل الإنسان الأمانة، وهي أمانة التكليف بالإسلام، قال جل وعلا﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، وهذا هو الإسلام العام الذي دعا إليه كل رسول وكل نبي من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم، الجميع يدعو إلى الإسلام، وهذا الإسلام يسميه العلماء الإسلام العام؛ الذي يشترك فيه جميع الرسل.
أما الإسلام الخاص: فهو القسم الثاني، وهو المراد ها هنا، فمعرفة دين الإسلام لا يريد دين الإسلام العام، وإنما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم صار المقصود بالإسلام الذي طُلب من الناس أن يدينوا به، وأن يعتقدوه، هو الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دين الإسلام الخاص، حتى صار الإطلاق؛ إذا أطلق الإسلام لا يراد به إلا دين الإسلام الذي بعث به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي يشمل عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام.
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا أكبّه الله في النار»، (لا يسمع بي) يعني ببعثتي برسالتي، وبما أرسلت به، ثم لا يؤمن بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، وفي الرواية الأخرى «أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني»، المراد أمة الدعوة، «ثم لا يؤمن بي إلا أكبه الله في النار», فمن كان على دين الإسلام العام، وقد بُعث النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقبل منه, لا يقبل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم من أحد إلا أن يتبع دين الإسلام الخاص، يعني الذي بُعث به النبي عليه الصلاة والسلام، وهو المراد ها هنا، وهو الذي يحصل به الابتلاء في القبر والفتنة في القبر, يحصل الابتلاء والفتنة بدين الإسلام الذي بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال(هو الاستسلام لله بالتوحيد) الاستسلام أن يكون فاعله؛ فاعل الاستسلام كهيئة المستسلم، والمستسلم لغيره تابع له لا يفعل إلا ما يريد، خلُص قلبه إلا من رغبة من استسلم له، ولو قال وهو الإسلام لله بالتوحيد لصح تعريفه، فالاستسلام هنا بمعنى الإسلام، وله أسلم، ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾[الزمر:54]، كلها بمعنى الاستسلام والإسلام؛ الإسلام لله والاستسلام لله بمعنى واحد قيَّدَها في هذا الموضع بقوله (بالتوحيد) والتوحيد يشمل توحيد الله جل وعلا في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، والمقصود الأخص من هذه الثلاثة توحيد العبادة لأن الخصومة وقعت فيه، ومعلوم أن توحيد العبادة متضمن لتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات.
ثم قال (والانقياد له بالطاعة) الانقياد لله جل وعلا بالطاعة، يعني أن يكون منقادا غير ممانع ولا متولٍّ عن طاعة الله جل وعلا، إنما ينقاد ويذعن، كما قال جل وعلا ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ﴾[النور:54], أمر بطاعة الله وطاعة رسوله، يعني الانقياد لله وللرسول،فيما أمر الله جل وعلا به وفيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، قال فإن تولوا وأعرضوا ولم يذعنوا ولم ينقادوا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ) يعني على الرسول (مَا حُمِّلَ) ما حمل إياه وهو الرسالة، (وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ) وهو الاستجابة لله وللرسول، فإذن هنا الانقياد له، بالطاعة لله جل وعلا، بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعث بهذا الإسلام الأخير.
قال (والبراءة من الشرك وأهله)، فُسّرت البراءة بعدة تفسيرات أصلٌ وفروعه؛ أصل البراءة البُغض في القلب، يعني بغض الشرك وأهله، ويتبع ذلك؛ يتبع بُغضَهم معاداتُهم وتكفير من كفره الله جل وعلا ورسوله؛ تكفير المشركين ومقاتلتهم عند مشروعية ذلك، وهذا هو معنى الكفر بالطاغوت أيضا, فإن الكفر بالطاغوت هو بُغضه ومعاداة أهله، وتكفير أهل الطاغوت؛ وهم أهل عبادة غير الله جل وعلا, وقتالهم عند مشروعية ذلك، البراءة من الشرك أصلها البغض، يتبع البغض أشياء, أولا المعاداة, ثانيا التكفير ومعلوم أن التكفير تَبَعٌ للعلم، ثم قتالهم عند مشروعية ذلك وذلك أيضا مستلزم للعلم، فتلخص أن على العامة وهم من ليسوا علماء عليهم من البراءة، أصلها وهو البُغض، وأما فروعها فإنما هي بحسب درجات العلم، البغض لا بد أن يُبْغِض فإن لم يبغض الشرك فإنه ليس بمسلم، إذا كان يحب الإسلام وأهله، ويحب التوحيد وأهله، ولكن لا يبغض الشرك وأهله فإنه ليس بمسلم. لكن قد يبغض الشرك وأهل الشرك باعتبار الأصل، لكنه يحب بعض المشركين لغرض من أغراض الدنيا، فهذا ليس بمشرك، وإنما ناقص إسلامه، كما أوضحت لكم فيما سبق في تقسيم الموالاة إلى موالاة وتولي، المقصود من هذا أن مسألة البراءة هذه؛ من الشرك وأهله، أصل البراءة البغض يتبعها أشياء المعاداة التكفير المقاتلة وكلها تبع للعلم، ويتنوع ذلك بحسب الناس، وأسهل ما يكون في الموحدين، عند الموحدين، عند عامتهم، معاداة المشركين، ولو لم يكن عندهم من الحجة أو من بيان تكفيرهم، ومن إقامة الدلائل على مشروعية مقاتلة أهل الشرك، فإنه قائم في قلبه بغضهم ومعاداتهم، وهذا به يحصل الإسلام.
إذن تعريف الإسلام شمل ثلاثة أشياء:
أولا: الاستسلام لله بالتوحيد.
ثانيا: الانقياد لله بالطاعة.
الثالث: البراءة من الشرك وأهله.
نلاحظ أنه بهذا شمل هذا التعريف معنى الشهادتين كما سيأتي.
هذا الدين؛ دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ثلاث مراتب, قال الشيخ رحمه الله (وهو ثلاث مراتب الإسلام) هذه مرتبة في دين الإسلام نتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مسلمون، (والإيمان)، ونتيجة هذه المرتبة أن يحكم لأهلها بأنهم مؤمنون، (والإحسان)، ونتيجتها أن يحكم لأهلها أنهم محسنون، فالمحسن والمؤمن والمسلم، الجميع من أهل دين الإسلام، لكن لكل مرتبتُه الخاصة به، هم درجات عند الله.
فالإسلام: هو إقامة الأعمال الظاهرة؛ الشهادتين مع الأركان الأربعة المعروفة؛ إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، مع بعض الإيمان الذي يُصحح هذا الإيمان الظاهر.
والإيمان: الإيمان بأركانه الستة؛ لله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره مع بعض الإسلام الظاهر مع بعض العمل الظاهر الذي معه يصح هذا الإيمان الباطن.
والإحسان: هو مقام المراقبة لله جل وعلا.
قال(وكل مرتبة لها أركان فأركان الإسلام خمسة) ذكرها ثم ذكر الأدلة على ذلك فقال (فدليل الشهادة قوله تعالى ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[آل عمرا:18]) وجه الاستدلال: أن الله جل وعلا شهد بذلك لنفسه، وشهد له بذلك الملائكة، وهم عُمَّار السماء، وشهد له بذلك أيضا أولوا العلم من الثقلين، قال جل وعلا (قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فبعد أن شهد بذلك لنفسه، وأخبر بشهادة ملائكته له بذلك، بشهادة أولي العلم له بذلك، أخبر مرة أخرى بمضمون ذلك فقال (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) واضح ظاهر وجه الاستدلال من هذه الآية.
ما معنى لا إله إلا الله؟ قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده)، لا إله إلا الله، أربع كلمات: (لا) ثم (إله) ثم (إلا) ثم (الله)، معنى (لا) هذه حرف لنفي الجنس، وهي من أخوات إنَّ، أو تعمل عمل إنَّ كما قال ابن مالك
عَمَلَ إنَّ اجْعَلْ لِلا فِي نَكِـرَة
ويكون اسمها نكرة، كما قال هنا لا إله، إله؛ الإله فعال بمعنى مفعول يعني معبود، إله بمعنى مألوه يعني معبود؛ لأن الإلهة بمعنى العبادة، والألوهة بمعنى العبودية، وأصلها من أَلَهَ يَأْلَهُ، إِلَهَةً، وألوهة؛ إذا عبد مع الحب والخوف والرجاء؛ إذا عبد عابد ما يعبده خائفا راجيا محبا فإنه يكون قد ألهه، قال الراجز برجزه المشهور:
سبّحن واسترجعن من تألهي لله درّ الغانيات المـُــدّهِ
يعني من عبادتي التأله هو العبادة يعني (لا إله) كما قال هنا، معناها لا معبود، فسر الإله بمعنى المعبود، لأن ذلك الذي يقتضيه لسان العرب، وكذلك هو الذي جاء في القرآن، قال جل وعلا ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾[هود:1-2]، والذي جاء من عند الله جل وعلا هو لا إله إلا الله قال هنا (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) فتفسير الإله بالمعبود، هذا موافق للقرآن وموافق للغة العرب، وبه تعلم أن من فسر الإله بالرب يعني بأنه القادر على الاختراع، كما هو تفسير أهل الكلام المذموم والأشاعرة والماترودية ونحوهم، فإن هذا من أبطل ما يكون؛ لأنه مناقض للغة العرب وتردُّه لغة العرب، ومناقض للقرآن ويردُّه القرآن والسنة، فإن مادة الإله غير مادة الرب، والإله هو المعبود كما أوضحت لكم في الاشتقاق، يقولون معنى (لا إله) أي لا قادر على الاختراع إلا الله، ولهذا لا يكفرون من أشرك مع الله جل وعلا إله آخر في العبادة، يقولون ما دام أنه مقر بتوحيد الربوبية، وبأن الله جل وعلا هو المتوحّد في أفعاله؛ برَزقه وإحيائه وإماتته، وفي تدبيره الأمر، وفي ملكه، وفيما يفعل، فإن هذا مؤمن. وهذا باطل، وبعضهم يفسر الإله بتفسير آخر يرجع إلى معنى الربوبية، يقول أحد كبار وأئمة الأشاعرة، وهو السَّنوسي في كتابه المعروف بأم البراهين في العقائد الأشعرية يقول: فالإله هو المستغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه. يقول فمعنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كلّ ما عداه إلا الله. فصار معنى كلمة التوحيد عندهم؛ توحيد الله جل وعلا، توحيد الله جل وعلا في ربوبيته. وهذا من أبطل الباطل؛ لأن المشركين قد أخبر الله جل وعلا في كتابه بأنهم مقرون بهذا الذي جعله معنى كلمة التوحيد، يقول معنى لا إله إلا الله لا مستغنيا عما سواه، ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله. أرأيتم أبا جهل وصحبه ألم يكونوا موقنين بأنه لا مستغنيا عما سواه ولا مفتقرا إليه كل ما عداه إلا الله؟ هم يؤمنون بذلك كما بينه الله جل وعلا في القرآن في آيات كثيرة جدا كقوله﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[العنكبوت:61], ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾[الزخرف:87]، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾إلى آخر الآية قال ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾[يونس:31]، ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾[المؤمنون:86]، ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُونَ لِلَّهِ﴾[المؤمنون:88-89] إلى آخر ما جاء في هذه الآيات.
إذن فتفسير لا إله إلا الله بأنها لا معبود إلا الله هذا التفسير ليس تفسيرا اجتهاديا، وإنما هو تفسير قرآني لهذه الكلمة قال جل وعلا ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ(1)أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾[هود:1-2]، فمن زعم أن هذا التفسير من اجتهادات إمام هذه الدعوة، فهذا مناقض أو راد أو جاهل بالقرآن العظيم، فإن الذي فسر الإلهية بهذا المعنى هو الله جل وعلا في كتابه في غير ما آية، قال جل وعلا ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾[المؤمنون:23] وهذا واضح (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أتى بعد أمرهم بعبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، وهذا مبين كثير في الكتاب والسنة والنبي صلى الله عليه وسلم قال لحصين بن عبد الرحمن: «كم إله تعبد؟» قال: أعبد سبعة, ستة في الأرض وواحد في السماء. قال: «فمن ذا الذي تعد لرغبك ولرهبك؟» قال: الذي في السماء. فهذا معنى الإله، وهذا معنى لا إله، أي لا معبود، فهذا التفسير تفسير من القرآن، تفسير جاء من الله جل وعلا ومن نبيه صلى الله عليه وسلم، ليس تفسيرا اجتهاديا من أئمة هذه الدعوة كما زعمه الخرافيون وأعداء التوحيد.
إذن هنا قال (معناها لا معبود بحق إلا الله) الكلمة الثانية (إله) الكلمة الثالثة (إلا) و(إلا) هذه عند بعض العلماء أداة استثناء، وعند بعضهم أداة حصر، فصار معنى (لا إله إلا الله) لا معبود إلا الله، خبر (لا) أين هو؟ لا معبود إلا الله، يعني لا معبود موجود إلا الله؟ لا معبود بحق إلا الله؟ لا معبود يُعبد إلا الله؟ خبر (لا) أين هو؟ قال العلماء: خبر لا محذوف، ذلك لأن العرب ترى في لغتها أن لا النافية للجنس يحذف خبرها إذا كان واضحا. ومن الواضح أن المشركين لم ينازعوا في وجود آلهة أخرى يعلمون أن هناك آلهة كثيرة موجودة، لهذا لا يصح أن يقال: أن خبر (لا إله) موجود؛ لأنهم قالوا ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا﴾[ص:5] لو كان خبر (لا إله) موجود، قالوا له هذه الآلهة موجودة، فكلمتك هذه ليست بصحيحة، لكن الخبر معلوم لأنه زبدة الرسالة، وهو ما قدره الشيخ هنا (بحق) أو يقدر (حق) بدون الباء، وذلك لأن خبر (لا) إذا حذف قُدر بالمناسب الذي يعلم، وإذا حذف الخبر كان لأجل العلم به ولوضوحه، كما قال ابن مالك في الألفية في آخر باب لا النافية للجنس يقول: وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ يعني باب لا النافية للجنس؛
إِذَا الْمُرَادُ مَعْ سُقُوطِهِ ظَهَــر وَشَاعَ فِي ذَا الْبَابِ إِسْقَاطُ الخَبَر
إذا ظهر المراد مع الحذف فإنه يُحذف، ولهذا لا يحذف خبر لا النافية للجنس إلا إذا كان واضحا، إذا كان الخبر واضحا، وهنا الخبر واضح لأنه هو زبدة الرسالة؛ زبدة ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عين ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، أن يكون تقدير الكلام: لا معبود حق إلا الله؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام بُعث لتوحيد الله جل وعلا بالعبادة ولإبطال عبادة غيره، وأنه لا معبود حق إلا الله وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فعبادته بالباطل والظلم والطغيان والتعدي من الخلق. إذن هنا حُذِف لأنه معلوم، فصار تقديره لا إله حق -أو لا إله بحق- إلا الله، وذلك لأن الله جل وعلا قال ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[لقمان:30]، وفي الآية الأخرى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[الحج:92] قال (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ)، فلما كانت هذه الآية وقد جاءت في القرآن في سورتين مشتملة على أن عبادة الله حق، وأن عبادة غيره باطلة، ناسب أن يكون المحذوف هنا كلمة (حق) أو كلمة (بحق)؛ لا إله بحق أو لا إله حق، لأنها هي التي دلت عليها الآيات.
إذن فصار معنى لا إله إلا الله لا أحد يستحق العبادة إلا الله جل وعلا، لا معبود بحق إلا الله، هناك معبودات غير الله عز وجل، ولكنها معبودات بحق أو بالباطل؟ معبودات بالباطل، وصار التقدير هذا من أنسب ما يكون.
قال (معناها لا معبود بحق إلا الله وحده) فسر ذلك بقوله (لا إله نافيا جميع ما يعبد من دون الله) يعني الذي يقول لا إله إلا الله، ماذا يقول حين يقول لا إله؟ يقول أنفي جميع ما يعبد من دون الله، إلا الله تقول وأُثبت العبادة لله وحده، لأن لا إله إلا الله نفي وإثبات؛ نفي لاستحقاق العبادة عما سوى الله وإثبات للعبادة المستحقة لله جل وعلا.
قال رحمه الله هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه) عدم الشَّرِكَة في الملك تتنوع أحيانا؛ تكون -الشركة في الملك يعني مطلقا دون إضافتها إلى الله طبعا- الشركة في الملك تكون:
 بأن يكون لكل شريك قسم خاص ليس مشاعا، له قسم خاص مما اشتركا فيه؛ اشتركت أنا وأنت في ملك إبل مثلا لك خمسون و لي خمسون معروفة، هذه خمسيني معروفة بأعيانها، وهذه خمسون لك معروفة بأعيانها، أو اشتركت أنا وأنت في كتب معروفة، هذه الكتب لك وهذه الكتب لي، هذه شركة، كل من الشريكين له قسمه استقلالا.
رد مع اقتباس