عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 01-05-2015, 04:07AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





التعليق على رسالة حقيقة الصيام
وكتاب الصيام من الفروع ومسائل مختارة منه


لفضيلة الشيخ العلامة /
محمد صالح بن عثيمين
- رحمه الله تعالى-


فصل
في الكحل والحقنة وما يقطر في إحليله
ومداواة المأمومة والجائفة



وأما الكحل، والحقنة، وما يقطر في إحليله، ومداواة المأمومة، والجائفة، فهذه مما تنازع فيه أهل العلم: فمنهم من لم يفطر بشيء من ذلك، ومنهم من فطر بالجميع لا بالكحل، ومنهم من فطر بالجميع لا بالتقطير، ومنهم من لم(21) يفطر بالكحل، ولا بالتقطير، ويفطر بما سوى ذلك.


والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاص والعام، فلو كانت هذه الأمور مما حرمها الله ورسوله في الصيام ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك لا حديثا صحيحا ولا ضعيفا، ولا مسنداً ولا مرسلا، علم أنه لم يذكر شيئاً من ذلك (22).


والحديث المروي في الكحل ضعيف رواه أبو داود في «السنن» ولم يروه غيره، ولا هو في «مسند أحمد» ولا سائر الكتب المعتمدة (23).
قال أبو داود : حدثنا النفيلي ثنا علي بن ثابت حدثني عبد الرحمن بن النعمان ثنا معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالإثمد المُرَوَّح عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم ».


قال أبو داود : وقال يحيى بن معين : هذا حديث منكر. قال المنذري: وعبد الرحمن قال يحيى بن معين : ضعيف، وقال أبو حاتم الرازي : هو صدوق، لكن من الذي يعرف أباه وعدالته وحفظه؟!
وكذلك حديث معبد قد عورض بحديث ضعيف، وهو ما رواه الترمذي بسنده عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكيت عيني، أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: «نعم ».


قال الترمذي: ليس بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء. وفيه أبو عاتكة. قال البخاري : منكر الحديث (24).
والذين قالوا : إن هذه الأمور تفطر - كالحقنة ومداواة المأمومة والجائفة(25) - لم يكن معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، وأقوى ما احتجوا به قوله: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما». قالوا : فدل ذلك على أن ما وصل إلى الدماغ(26) يفطر الصائم إذا كان بفعله، وعلى القياس كل ما وصل إلى جوفه بفعله من حقنة وغيرها، سواء كان ذلك في موضع الطعام والغذاء أو غيره من حشو جوفه.


والذين استثنوا التقطير قالوا: التقطير لا ينزل إلى جوفه وإنما يرشح(27) رشحاً، فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه (28).
والذين استثنوا الكحل قالوا: العين ليست كالقبل والدبر، ولكن هي تشرب الكحل كما يشرب الجسم الدهن والماء(29).
والذين قالوا الكحل يفطر قالوا : إنه ينفذ إلى داخله حتى يتنخمه الصائم؛ لأن في داخل العين منفذا إلى داخل الحلق (30).


وإذا كان عمدتهم هذه الأقيسة ونحوها لم يجز إفساد الصوم بمثل هذه الأقيسة لوجوه:

أحدها: أن القياس وإن كان حجة إذا اعتبرت شروط صحته فقد قلنا في الأصول: إن الأحكام الشرعية كلها بينتها النصوص أيضا، وإن دل القياس الصحيح على مثل ما دل عليه النص دلالة خفية، فإذا علمنا بأن الرسول لم يحرم الشيء ولم يوجبه علمنا أنه ليس بحرام ولا واجب، وأن القياس المثبت لوجوبه وتحريمه فاسد، ونحن نعلم أنه ليس في الكتاب والسنة ما يدل على الإفطار بهذه الأشياء التي ذكرها بعض أهل الفقه، فعلمنا أنها ليست مفطرة.


الثاني: أن الأحكام التي تحتاج الأمة إلى معرفتها لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقلها الأمة، فإذا انتفى هذا علم أن هذا ليس من دينه، وهذا كما يعلم أنه لم يفرض صيام شهر غير رمضان، ولا حج بيت غير البيت الحرام، ولا صلاة مكتوبة غير الخمس، ولم يوجب الغسل في مباشرة المرأة بلا إنزال، ولا أوجب الوضوء من الفزع العظيم(31)، وإن كان في مظنة خروج الخارج، ولا سن الركعتين بعد الطواف بين الصفا والمروة كما سن الركعتين بعد الطواف بالبيت(32)، وبهذا يعلم أن المني ليس بنجس؛ لأنه لم ينقل عن أحد بإسناد يحتج به أنه أمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني مع عموم البلوى بذلك، بل أمر الحائض أن تغسل قميصها من دم الحيض مع قلة الحاجة إلى ذلك، ولم يأمر المسلمين بغسل أبدانهم وثيابهم من المني.


والحديث الذي يرويه بعض الفقهاء: «يغسل الثوب من البول والغائط والمني والمذي والدم»، ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس في شيء من كتب الحديث التي يعتمد عليها(33)، ولا رواه أحد من أهل العلم بالحديث بإسناد يحتج به، وإنما روي عن عمار وعائشة من قولهما.


وغسل عائشة للمني من ثوبه وفركُها إياه لا يدل على وجوب ذلك، فإن الثياب تغسل من الوسخ والمخاط والبصاق، والوجوب إنما يكون بأمره، لاسيما ولم يأمر هو سائر المسلمين بغسل ثيابهم من ذلك، ولا نقل أنه أمر عائشة بذلك، بل أقرها على ذلك، فدل على جوازه أو حسنه واستحبابه، وأما الوجوب فلا بد له من دليل.


وبهذه الطرق يعلم أيضاً أنه لم يوجب الوضوء من لمس النساء، ولا من النجاسات الخارجة من غير السبيلين، فإنه لم ينقل أحد عنه بإسناد يثبت مثله أنه أمر بذلك، مع العلم بأن الناس كانوا لا يزالون يحتجمون ويتقيئون ويجرحون في الجهاد وغير ذلك، وقد قطع عرق بعض أصحابه ليخرج منه الدم وهو الفصاد، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر أصحابه بالتوضؤ من ذلك (34).


وكذلك الناس لا يزال أحدهم يلمس امرأته بشهوة وبغير شهوة، ولم ينقل عنه مسلم أنه أمر الناس بالتوضؤ من ذلك، والقرآن لا يدل على ذلك؛ بل المراد بالملامسة الجماع كما بسط في موضعه (35).


وأمره بالوضوء من مس الذكر إنما هو استحباب إما مطلقا وإما إذا حرك الشهوة(36)، وكذلك يستحب لمن لمس النساء فتحركت شهوته أن يتوضأ، وكذلك من تفكر فتحركت شهوته فانتشر، وكذلك من مس الأمرد أو غيره فانتشر(37) .


فالتوضؤ عند تحرك الشهوة من جنس التوضؤ عند الغضب، وهذا مستحب لما في «السنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ»، وكذلك الشهوة الغالبة هي من الشيطان والنار، والوضوء يطفئها، فهو يطفئ حرارة الغضب، والوضوء من هذا مستحب.


وكذلك أمره بالوضوء مما مسته النار أمر استحباب؛ لأن ما مسته النار يخالط البدن، فليتوضأ فإن النار تطفأ بالماء، وليس في النصوص ما يدل على أنه منسوخ، بل النصوص تدل على أنه ليس بواجب، واستحباب الوضوء منه أعدل الأقوال، من قول من يوجبه، وقول من يراه منسوخا، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره .


وكذلك بهذه الطريق(39) يعلم أن بول ما يؤكل لحمه وروثه ليس بنجس، فإن هذا مما تعم به البلوى، والقوم كانوا أصحاب إبل وغنم، يقعدون ويصلون في أمكنتها، وهي مملوءة من أبعارها، فلو كانت بمنزلة المراحيض كانت تكون حشوشاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم باجتنابها، وأن لا يلوثوا أبدانهم وثيابهم بها، ولا يصلون فيها (40).


فكيف وقد ثبتت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يصلون في مرابض الغنم، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم، ونهى عن الصلاة في معاطن الإبل؟! فعلم أن ذلك ليس لنجاسة الأبعار، بل كما أمر بالتوضؤ من لحوم الإبل، وقال في الغنم: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ»، وقال: «إن الإبل خلقت من جن، وإن على ذروة كل بعير شيطانا». وقال: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أهل الغنم»(41).


فلما كانت الإبل فيها من الشيطنة ما لا يحبه الله ورسوله أمر بالتوضؤ من لحمها، فإن ذلك يطفئ تلك الشيطنة، ونهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين، كما نهي عن الصلاة في الحمَّام لأنها مأوى الشياطين، فإن مأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه، وفي موضع الأجسام الخبيثة، بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة.


ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها الشياطين، والصلاة فيها أولى بالنهي من الصلاة في الحمَّام ومعاطن الإبل والصلاة على الأرض النجسة، ولم يرد في الحشوش نص خاص؛ لأن الأمر فيها كان أظهر عند المسلمين أن يحتاج إلى بيان؛ ولهذا لم يكن أحد من المسلمين يقعد في الحشوش(42) ولا يصلي فيها، وكانوا ينتابون البرية لقضاء حوائجهم قبل أن تتخذ الكنف(43) في بيوتهم.


وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمَّام أو أعطان الإبل علموا أن النهي عن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى، مع أنه قد روي الحديث الذي فيه: النهي عن الصلاة في المقبرة، والمجزرة، والمزبلة، والحشوش، وقارعة الطريق، ومعاطن الإبل، وظهر بيت الله الحرام، وأصحاب الحديث متنازعون فيه، وأصحاب أحمد فيه على قولين: منهم من يرى هذه من مواضع النهي، ومنهم من يقول: لم [يثبت] هذا الحديث(44)، ولم أجد في كلام أحمد في ذلك إذنا ولا منعا، مع أنه قد كره الصلاة في مواضع العذاب، نقله عنه ابنه عبد الله؛ للحديث المسند في ذلك عن علي الذي رواه أبو داود، وإنما نص على الحشوش وأعطان الإبل والحمَّام، وهذه الثلاثة هي التي ذكرها الخرقي(45) وغيره، والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث، ومن فرق يحتاج إلى الطعن في الحديث وبيان الفارق (46) ، وأيضا المنع قد يكون منع كراهة وقد يكون منع تحريم.


وإذا كانت الأحكام التي تعم بها البلوى لا بد أن يبينها الرسول صلى الله عليه وسلم بيانا عاما، ولا بد أن تنقل الأمة ذلك، فمعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى كما تعم بالدهن والاغتسال والبخور والطيب، فلو كان هذا مما يفطر لبينه النبي صلى الله عليه وسلم كما بين الإفطار بغيره، فلما لم يبين ذلك علم أنه من جنس الطيب والبخور والدهن.


والبخور قد يتصاعد إلى الأنف ويدخل في الدماغ وينعقد أجساما، والدهن يشربه البدن ويدخل إلى داخله ويتقوى به الإنسان، وكذلك يتقوى بالطيب قوة جيدة، فلما لم ينه الصائم عن ذلك دل على جواز [تطيبه وتبخره](47) وادهانه، وكذلك اكتحاله.


وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم - إما في الجهاد، وإما في غيره- مأمومة وجائفة، فلو كان هذا يفطر لبين لهم ذلك، فلما لم ينه الصائم عن ذلك علم أنه لم يجعله مفطراً.


الوجه الثالث: إثبات التفطير بالقياس يحتاج إلى أن يكون القياس صحيحا، وذلك إما قياس علة بإثبات الجامع، وإما بإلغاء الفارق، فإما أن يدل دليل على العلة في الأصل فيعدى بها إلى الفرع، وإما أن يعلم أن لا فارق بينهما من الأوصاف المعتبرة في الشرع، وهذا القياس هنا منتف.


وذلك أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطراً هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلا من منفذ أو واصلا إلى الجوف، ونحو ذلك من المعاني التي يجعلها أصحاب هذه الأقاويل هي مناط الحكم عند الله ورسوله، ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعل الطعام والشراب مفطراً لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب، ومما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل، ومن الحقنة والتقطير في الإحليل، ونحو ذلك.


وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل، كان قول القائل: إن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطراً لهذا قولا بلا علم، وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا قولا بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم، وذلك يتضمن القول على الله بما لا يعلم، وهذا لا يجوز (48).


ومن اعتقد من العلماء أن هذا المشترك مناط الحكم (49) ، فهو بمنزلة من اعتقد صحة مذهب لم يكن صحيحا، أو دلالة لفظ على معنى لم يرده الرسول، وهذا اجتهاد يثابون عليه، ولا يلزم أن يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم اتباعها (50).


الوجه الرابع: أن القياس إنما يصح - إذا لم يدل كلام الشارع على علة الحكم - إذا سبرنا أوصاف الأصل فلم يكن فيها ما يصلح للعلة إلا الوصف المعين، وحيث أثبتنا علة الأصل بالمناسبة أو الدوران أو الشبه المطرد - عند من يقول به - فلا بد من السبر، فإذا كان في الأصل وصفان مناسبان لم يجز أن يقول الحكم بهذا دون هذا.


ومعلوم أن النص والإجماع أثبتا الفطر بالأكل والشرب والجماع والحيض، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى المتوضئ عن المبالغة في الاستنشاق إذا كان صائما، وقياسهم على الاستنشاق أقوى حججهم كما تقدم، وهو قياس ضعيف، وذلك لأن من نشق الماء بمنخريه ينزل الماء إلى حلقه وإلى جوفه، فحصل له بذلك ما يحصل للشارب بفمه، ويغذي بدنه من ذلك الماء، ويزول العطش، ويطبخ الطعام في معدته، كما يحصل بشرب الماء(51).


فلو لم يرد النص بذلك لعلم بالعقل أن هذا من جنس الشرب، فإنهما لا يفترقان إلا في دخول الماء من الفم، وذلك غير معتبر، بل دخول الماء إلى الفم وحده لا يفطر، فليس هو مفطراً ولا جزءاً من المفطر؛ لعدم تأثيره، بل هو طريق إلى الفطر، وليس كذلك الكحل والحقنة ومداواة الجائفة والمأمومة؛ فإن الكحل لا يغذي البتة، ولا يدخل أحد كحلا إلى جوفه، لا من أنفه ولا فمه، وكذلك الحقنة لا تغذي، بل تستفرغ ما في البدن كما لو شم شيئا من المسهلات، أو فزع فزعا أوجب استطلاق جوفه، وهي لا تصل إلى المعدة، والدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة والمأمومة لا يشبه ما يصل إليها من غذائه، والله سبحانه قال: { كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } (52)، وقال صلى الله عليه وسلم: «الصوم جنة»، وقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع بالصوم»، فالصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوي، فترك الأكل والشرب الذي يولد الدم الكثير الذي يجري فيه الشيطان إنما يتولد من الغذاء، لا عن حقنة، ولا كحل، ولا ما يقطر في الذكر، ولا ما يداوى به المأمومة والجائفة، وهو متولد عما استنشق من الماء (53)؛ لأن الماء مما يتولد منه الدم، فكان المنع منه من تمام الصوم.


فإذا كانت هذه المعاني وغيرها موجودة في الأصل الثابت بالنص والإجماع، فدعواهم أن الشارع علق الحكم بما ذكروه من الأوصاف معارض بهذه الأوصاف، والمعارضة [في الأصل] تبطل كل نوع من الأقيسة، إن لم يتبين أن الوصف الذي ادعوه هو العلة دون هذا، (54).


الوجه الخامس: أنه ثبت بالنص والإجماع منع الصائم من الأكل والشرب والجماع، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»، ولا ريب أن الدم يتولد من الطعام والشراب، وإذا أكل أو شرب اتسعت مجاري الشياطين؛ ولهذا قال: «فضيقوا مجاريه بالجوع»، وبعضهم يذكر هذا اللفظ مرفوعا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين»، فإن مجاري الشياطين الذي هو (55) الدم ضاقت، وإذا ضاقت انبعثت القلوب إلى فعل الخيرات التي بها تفتح أبواب الجنة، وإلى ترك المنكرات التي بها تفتح أبواب النار، وصفدت الشياطين فضعفت قوتهم وعملهم بتصفيدهم (56)، فلم يستطيعوا أن يفعلوا في شهر رمضان ما كانوا يفعلونه في غيره، ولم يقل: إنهم قتلوا، ولا ماتوا، بل قال: «صفدت»، والمصفد من الشياطين قد يؤذي، لكن هذا أقل وأضعف مما يكون في غير رمضان، فهو بحسب كمال الصوم ونقصه، فمن كان صومه كاملا دفع الشيطان دفعاً لا يدفعه [ ] الصوم الناقص، فهذه المناسبة ظاهرة في منع الصائم من الأكل والشرب، والحكم ثابت على وفقه، وكلام الشارع قد دل على اعتبار هذا الوصف وتأثيره، وهذا [المعنى] (57) منتف في الحقنة والكحل وغير ذلك.



فإن قيل: بل الكحل قد ينزل إلى الجوف ويستحيل دما.
قيل: هذا كما قد يقال في البخار الذي يصعد من الأنف إلى الدماغ، فيستحيل دما، وكالدهن الذي يشربه الجسم، والممنوع منه إنما هو ما يصل إلى المعدة فيستحيل دما ويتوزع على البدن.


ونجعل هذا وجها سادسا: فنقيس الكحل والحقنة ونحو ذلك على البخور والدهن ونحو ذلك؛ لجامع ما يشتركان فيه من أن ذلك ليس مما يتغذى به البدن، ويستحيل في


المعدة دما (58)، وهذا الوصف هو الذي أوجب أن لا تكون هذه الأمور مفطرة، وهذا موجود في محل النزاع، والفرع قد يتجاذبه أصلان، فيلحق كلا منهما بما يشبهه من الصفات [المعتبرة في الشرع، وقد ذكرنا الصفة المعتبرة في الشرع.
فإن قيل: فلو أكل ترابا أو حصى أو غير ذلك مما لا يغذي غذاء نافعا.
قيل]: هذا تطبخه المعدة ويستحيل دما ينمي عنه البدن، لكنه غذاء ناقص، فهو كما لو أكل سما أو نحوه مما يضره، وهو بمنزلة من أكل أكلا كثيراً أورثه تخمة ومرضاً، فكان منعه في الصوم عن هذا أوكد؛ لأنه ممنوع عنه في الإفطار، [ففي] الصوم أوكد، وهذا كمنعه من الزنا (59)، فإنه إذا منع من الوطء المباح فالمحظور أولى (60).


فإن قيل: فالجماع مفطر، [ودم الحيض مفطر]، وهذه العلة منتفية فيهما؟
قيل: تلك أحكام ثابتة بالنص والإجماع، فلا يحتاج إثباتها إلى القياس، بل يجوز أن تكون العلل مختلفة، فيكون تحريم الطعام والشراب والفطر بذلك لحكمة، وتحريم الجماع والفطر به لحكمة، والفطر بالحيض لحكمة، فإن الحيض لا يقال فيه: إنه يحرم، وهذا لأن المفطرات بالنص والإجماع لما انقسمت إلى أمور اختيارية تحرم على العبد كالأكل والجماع، وإلى أمور لا اختيار له فيها كدم الحيض، كذلك تنقسم عللها.


فنقول: أما الجماع فإنه باعتبار أنه سبب إنزال المني يجري مجرى الاستقاءة والحيض والاحتجام -كما سنبينه إن شاء الله تعالى-، فإنه من نوع الاستفراغ، لا الامتلاء كالأكل والشرب.


ومن جهة أنه إحدى الشهوتين فجرى مجرى الأكل والشرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن الله تعالى: «قال: الصوم لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي» (61)، فترك الإنسان ما يشتهيه لله هو عبادة مقصودة يثاب عليها، كما يثاب المحرم على ترك ما اعتاده من اللباس والطيب ونحو ذلك من نعيم البدن (62).


والجماع من أعظم نعيم البدن وسرور النفس وانبساطها، وهو يحرك الشهوة والدم والبدن أكثر من الأكل، فإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والغذاء يبسط الدم الذي هو مجاريه، فإذا أكل أو شرب انبسطت نفسه إلى الشهوات، وضعفت إرادتها ومحبتها للعبادات، فهذا المعنى في الجماع أبلغ، فإنه يبسط إرادة النفس للشهوات، ويضعف إرادتها عن العبادات أعظم (63)؛ بل الجماع هو غاية الشهوات، وشهوته أعظم من شهوة الطعام والشراب، ولهذا أوجب على المجامع كفارة الظهار، فوجب عليه العتق أو ما يقوم مقامه بالسنة والإجماع؛ لأن هذا أغلظ، وداعيه أقوى، والمفسدة به أشد، فهذا أعظم الحكمتين في تحريم الجماع (64)، وأما كونه يضعف البدن كالاستفراغ فذاك حكمة أخرى، فصار فيهما كالأكل والحيض، وهو في ذلك أبلغ منهما، فكان إفساده الصوم أعظم من إفساد الأكل والحيض.


فنذكر حكمة الحيض وجريان ذلك على وفق القياس، فنقول : إن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، والإسراف في العبادات من الجور الذي نهى عنه الشارع، وأمر بالاقتصاد في العبادات؛ ولهذا أمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، ونهى عن الوصال، وقال: «أفضل الصيام وأعدل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوما ويفطر يوما، ولا يفر إذا لاقى» (65)، فالعدل في العبادات من أكبر مقاصد الشارع؛ ولهذا قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } الآية، فجعل تحريم الحلال من الاعتداء المخالف للعدل، وقال تعالى: { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه}، فلما كانوا ظالمين عوقبوا بأن حرمت عليهم الطيبات؛ بخلاف الأمة الوسط العدل فإنه أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث (66).


وإذا كان كذلك فالصائم قد نهي عن أخذ ما يقويه ويغذيه من الطعام والشراب، فينهى عن إخراج ما يضعفه ويخرج مادته التي بها يتغذى، وإلا فإذا مكن من هذا ضره، وكان متعديا في عبادته لا عادلا.
والخارجات نوعان : نوع يخرج لا يقدر على الاحتراز منه، أو على وجه لا يضره، فهذا لا يمنع منه كالأخبثين، فإن خروجهما لا يضره، ولا يمكنه الاحتراز منه أيضا، ولو استدعى خروجهما فإن خروجهما لا يضره، بل ينفعه، وكذلك إذا ذرعه القيء لا يمكنه الاحتراز منه، وكذلك الاحتلام في المنام لا يمكنه الاحتراز منه.


وأما إذا استقاء، فالقيء يُخرج ما يتغذى به من الطعام والشراب المستحيل في المعدة، وكذلك الاستمناء مع ما فيه من الشهوة، فهو يخرج المني الذي هو مستحيل في المعدة عن الدم، فهو يخرج الدم الذي يتغذى به، ولهذا كان خروج المني إذا أفرط فيه يضر الإنسان ويخرج أحمر.


والدم الذي يخرج بالحيض فيه خروج الدم، والحائض يمكنها أن تصوم في غير أوقات الدم في حال لا يخرج فيها دمها، فكان صومها في تلك الحال صوما معتدلا لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته، وصومها في الحيض يوجب أن يخرج فيه دمها الذي هو مادتها، ويوجب نقصان بدنها وضعفها، وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض، بخلاف المستحاضة؛ فإن الاستحاضة تعم أوقات الزمان، وليس لها وقت تؤمر فيه بالصوم، وكان ذلك لا يمكن الاحتراز منه، كذرع القيء وخروج الدم بالجراح والدمامل والاحتلام، ونحو ذلك مما ليس له وقت محدد يمكن الاحتراز منه، فلم يُجعل هذا منافيا للصوم كدم الحيض (67).


وطرد هذا إخراج الدم بالحجامة والفصاد ونحو ذلك، فإن العلماء متنازعون في الحجامة هل تفطر الصائم أم لا ؟ والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» كثيرة قد بينها الأئمة الحفاظ، وقد كره غير واحد من الصحابة الحجامة للصائم، وكان منهم من لا يحتجم إلا بالليل، وكان أهل البصرة إذا دخل شهر رمضان أغلقوا حوانيت الحجامين، والقول بأن الحجامة تفطر مذهب أكثر فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهم، وأهل الحديث الفقهاء فيه العاملون به أخص الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم (68).


والذين لم يروا إفطار المحجوم احتجوا بما ثبت في «الصحيح»: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم. وأحمد وغيره طعنوا في هذه الزيادة، وهي قوله: (وهو صائم)، وقالوا: الثابت أنه احتجم وهو محرم.
قال أحمد: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: لم يسمع الحكم حديث مِقْسم في الحجامة للصائم. يعني: حديث شعبة عن الحكم عن مِقْسم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم.


قال مهنا: سألت أحمد عن حديث حبيب بن الشهيد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم، فقال: ليس بصحيح، وقد أنكره يحيى بن سعيد الأنصاري.


قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله رد هذا الحديث فضعفه، وقال: كانت كتب الأنصاري ذهبت في أيام المنتصر، فكان بعد يحدث من كتب غلامه، وكان هذا من تلك.


وقال مهنا: سألت أحمد عن حديث قبيصة عن سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس... إلخ، فقال: هو خطأ من قبل قبيصة. وسألت يحيى عن قبيصة، فقال: رجل صدق، والحديث الذي يحدث به عن سفيان عن سعيد خطأ من قبله.


قال مهنا: سألت أحمد عن حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم، فقال: ليس فيه «صائم» إنما هو محرم، ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم (69). وعن طاوس وعطاء مثله عن ابن عباس، وعن عبد الرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائما.


قلت: وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم، ولم يثبت إلا حجامة المحرم.
وتأولوا أحاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة، كقولهم: كانا يغتابان، وقولهم أفطرا لسبب آخر (70) .


وأجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره: أن هذا منسوخ، فإن هذا القول كان في رمضان، واحتجامه وهو محرم كان بعد ذلك؛ لأن الإحرام بعد رمضان.
وهذا أيضا ضعيف، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعدة، وأحرم من العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة في ذي القعدة بعمرة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذي القعدة، فاحتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم لم يبين في أي الإحرامات كان؟


[وإنما يمكن دعوى النسخ بشرطين:


أحدهما : أن يكون ذلك في حجته ، أو في عمرة الجعرانة ؛ فإن قوله : «أفطر الحاجم والمحجوم» فيه أنه كان في غزوة الفتح، فلعل احتجامه كان في عمرته قبل هذا، إما عمرة القضية، وإما عمرة الحديبية.
الثاني : أن يعلم أنه لمَّا احتجم لم يفطر ، وليس في هذا الحديث ما يدل على هذا، وذلك الصوم لم يكن شهر رمضان، فإنه لم يحرم في شهر رمضان، وإنما كان في السفر، والصوم في السفر لم يكن واجباً؛ بل الذي ثبت عنه في الصحيح: أن الفطر في السفر كان آخر الأمرين منه ، وأنه خرج عام الفتح حتى إذا بلغ كديد أفطر ، والناس ينظرون إليه ، ولم يعرف بعد هذا أنه صام في سفر ، ولا علمنا أنه صام في إحرامه بالحج].


والذي يقوي أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة : قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» فإنه كان عام الفتح بلا ريب، هكذا في أجود الأحاديث، وروى أحمد بإسناده عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان، قال: «أفطر الحاجم والمحجوم».


وقال أحمد : أنبأنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن [أبي] الأشعث عن شداد بن أوس أنه مر مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الفتح على رجل محتجم بالبقيع، لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم».


[وقال الإمام أحمد أيضاً : حدثنا إسماعيل قال : ثنا هشام الدستوائي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثوبان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجلٍ يحتجم في رمضان ، فقال : «أفطر الحاجم والمحجوم» .


وقال : حدثنا أبو الجواب ، عن عمار بن زريق ، عن عطاء بن السائب قال : حدثني الحسن ، عن معقل بن سنان الأشجعي أنه قال : مرَّ عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أحتجم في ثمان عشرة خلت من رمضان ، فقال : «أفطر الحاجم والمحجوم» .


وذكر الترمذي عن علي بن المديني أنه قال : أصح شيءٍ في هذا الباب حديث ثوبان ، وحديث شداد بن أوس].


وقال الترمذي: سألت البخاري، فقال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس، وحديث ثوبان. فقلت: وما فيه من الاضطراب؟ فقال: كلاهما عندي صحيح؛ لأن يحيى بن سعيد روى عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان، [و]عن أبي الأشعث عن شداد الحديثين جميعاً.


قلت: وهذا الذي ذكره البخاري من أظهر الأدلة على صحة كلا الحديثين اللذين رواهما أبو قلابة ...[ فإن الذي قال : مضطرب ، إنما هو لأنه روي عن أبي قلابة بإسنادين ، فبين أن يحيى بن سعيد الإمام روى عن أبي قلابة بهذا الإسناد ، وهذا الإسناد، ومثل هذا كان يكون عنده الحديث بطرق، والزهري روى الحديث بإسناده عن سعيد عن أبي هريرة ، وتارة عن غيره عن أبي هريرة.


فيكون هذا هو الناسخ ، ولو لم يعلم التاريخ، فإذا تعارض خبران أحدهما ناقلٌ عن الأصل والآخر مبقٍ على الأصل كان الناقل هو الذي ينبغي أن يجعل ناسخاً ، لئلا يلزم تغير الحكم مرتين ، فإذا قدر احتجامه قبل نهيه الصائم عن الحجامة لم يغير الحكم الأمر ، وإن قدر بعد ذلك لزم تغييره مرتين .


وأيضاً فإذا لم يكن الصوم واجباً فقد يكون أفطر بالحجامة للحاجة ، فقد كان يفطر في صوم التطوع لما هو دون ذلك ؛ يدخل إلى بيته ، فإن قالوا : عندنا طعام ، قال : «قربوه؛ فإني أصبحت صائماً» .


وابن عباس وإن لم يعلم ما في نفسه ، غايته أنه رآه أو أخبره من رآه أنه أصبح صائماً واحتجم ، وهذا لا يقتضي أنهم علموا من نفسه أنه استمر صومه ، وكأن من ادعى عليه النسخ تغْلُبُ عليه هذه الحجة من وجهين : أحدهما : أنه لا حجة فيه؛ والثاني : أنه منسوخ.وقد روي ما يدل على أن الفطر هو الناسخ ، ومما احتج به على النسخ : ما رواه الدارقطني: حدثنا البغوي قال : ثنا عثمان بن أبي شيبة قال : ثنا خالد بن مخلد ، عن عبد الله بن المثنى ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : أولُ ما كرهنا الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمرَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أفطر هذان». ثم رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم . وكان أنس يحتجم وهو صائم .


قال الدارقطني : كلهم ثقات ، ولا أعلم له علة . قال أبو الفرج ابن الجوزي : قال أحمد بن حنبل : خالد بن مخلد له أحاديث مناكير .
قلت : ومما يدل على أن هذا من مناكيره : أنه لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمدة ، مع أنه في الظاهر على شرط البخاري، والمشهور عن البصريين أن الحجامة تفطر ، وأيضاً: فجعفر بن أبي طالب إنما قدم من الحبشة عامَ خيبر في آخر سنة ست ، أو أول سنة سبع ، فإن خيبر كانت في هذه المدة في سنة سبع ، وقيل: عام مؤتة قبل الفتح ، ولم يشهد فتح مكة ، فصام مع النبي صلى الله عليه وسلم واحداً سنة سبع، وإذا كان هذا الحكم قد شرع في ذلك العام فإنه ينشر ويظهر، والحديث المتقدم كان سنة ثمانٍ بعد هذا، فإن كان هذا محفوظاً فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك في عام بعد عام ، ولم ينقل عنه أحد لفظاً ثابتاً أنه رخص في الحجامة بعد ذلك ، فلعل هذا مدرج عن أنس لم يقله هو ، ولعل أنساً بلغه أنه أرخص ولم يسمع ذلك منه ، ولعل بعض التابعين حدثه بذلك .


ومما يبين أن هذا ليس بمحفوظٍ عن أنس ولا عن ثابت : ما رواه البخاري في «صحيحه» عن ثابت قال : سئل أنس بن مالك : أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال : لا ، إلا من أجل الضعف .
وفي رواية : على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.


فهذا ثابت يذكر عن أنس أمر الحجامة، وليس فيها إلا أنهم كانوا يكرهونها من أجل الضعف، ليس فيها أنه فطر الحاجم، ولا أنه رخص فيها بعد ذلك، وكلاهما يناقض قوله : لم يكونوا يكرهونها إلا من أجل الضعف، فإنه لو كان علم أنه فطر بها لم يقل هذا، ولو علم أنه رخص فيها لم يكره ما أرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعلم أن أنساً إنما كان عنده علم بما رآه من الصحابة من كراهة الحجامة لأجل الضعف، وهذا معنى صحيح، وهو العلة في إفطار الصائم كما يفطر بالاستقاءة، و تفطر المرأة بدم الحيض ].


ومما يقوي أن الناسخ هو الفطر بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضرا وسفرا، ويطلعون على باطن أمره، مثل بلال وعائشة، ومثل أسامة وثوبان مولياه، ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته، مثل: رافع بن خديج وشداد بن أوس.


وفي «مسند أحمد»: [ثنا عبد الرزاق ، قال : ثنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبدالله بن قارظ ، عن السائب بن يزيد] عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر الحاجم والمحجوم».
قال أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع.


[ وقال أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن أشعث الحراني ، عن أسامة بن زيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «أفطر الحاجم والمحجوم».
وقال أحمد : حدثنا يزيد بن هارون قال : ثنا أبو العلاء ، عن قتادة ، عن شهر بن حوشب ، عن بلال قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم».


وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله قال : ثنا عبد الوهاب الثقفي قال : ثنا يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أفطر الحاجم والمحجوم».
وقال أحمد : حدثنا أبو النضر قال : ثنا أبو معاوية ، عن سفيان ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أفطر الحاجم والمحجوم».


والحسن البصري وإن قيل : إنه لم يسمع من أسامة وأبي هريرة، فقد كان عنده من هذا الباب عدة أحاديث عن الصحابة يفتي بها، عن معقل بن سنان وأسامة وأبي هريرة، قال البخاري : وكان الحسن ... وكانت البصرة إذا دخل شهر رمضان يغلقون حوانيت الحجامين ، ذكره أحمد وغيره ، وأنس بن مالك كان آخر من مات بالبصرة ، والبصريون كلهم يأخذون عنه ، فلو كان عند أنس سنة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص فيها بعد النهي ، لكان هذا مما يعرفه البصريون منه ، وكانوا يأخذون به الحسن وأصحابه ، لاسيما وقد ذكر أن ثابتاً سمع هذا من أنس ، وثابت من مشايخها المشهورين، من أخص أصحاب الحسن ، فكيف يكون أنس عنده هذه السنة وأهل البصرة قد اشتهر بينهم السنة المنسوخة ، وهذه الناسخة عند أنس ، وهم يأخذون (71) ليلاً ونهاراً ، ولا يعرفون هذه السنة ، ولا تحفظ عن علمائهم الذين اشتهر عنهم أمر الفطر ؟!


ويؤيد ذلك أن أبا قلابة هو أيضاً من أخص أصحاب أنس ، وهو الذي يروي قوله : «أفطر الحاجم والمحجوم» من طريقين.


ثم القائلون بأن الحجامة تفطر] اختلفوا [على أربعة] أقوال [في مذهب أحمد وغيره]:


أحدها: يفطر المحجوم دون الحاجم، [فإن الحاجم لم يوجد منه ما يفطر]، وهذا الذي ذكره الخرقي؛ فإنه ذكر في المفطرات: «إذا احتجم»، ولم يذكر: إذا حجم, لكن المنصوص عن أحمد وجمهور أصحابه الإفطار بالأمرين، والنص دال على ذلك، فلا سبيل إلى تركه، [ولو لم نعقل علته].


والثاني: أنه يفطر المحجوم الذي يحتجم ويخرج منه الدم، ولا يفطر بالافتصاد ونحوه؛ لأنه لا يسمى احتجاما، وهذا قول القاضي وأصحابه، فالتشريط في الآذان هل هو داخل في مسمى الحجامة؟ تنازع فيه المتأخرون، فبعضهم يقول : التشريط كالحجامة (72) كما يقوله شيخنا أبو محمد المقدسي، وعليه يدل كلام العلماء قاطبة، فليس منهم من خص التشريط بذكر، ولو كان عندهم لا يدخل في الحجامة لذكروه كما ذكروا الفصاد، فعلم أن التشريط عندهم من نوع الحجامة، وقال شيخنا أبو محمد: هذا هو الصواب.


[ ومنهم من قال : التشريط ليس من الحجامة ؛ بل هو أضعف من الفصاد ، فإذا قيل : الفصاد لا يفطر ، احتمل التشريط وجهين ، وهذا قول أبي عبد الله بن حمدان .


والأول أصح ، فإن التشريط نوع من الحجامة أو مثلها من كل وجه ، إذ الحجامة لا تختص بالساق ؛ بل تكون في الرأس والعنق والقفا وغير ذلك ، ومن فرَّق بينهما قال : الشارط لا يمتص من قارورة الدم كما يمتص الحاجم ، فلا يدخل في لفظ «الحاجم» ، وكذلك لا يدخل في لفظ «المحجوم» ، فيقال : بل هو داخل في لفظ «المحجوم» ، وإن لم يدخل في لفظ «الحاجم» ، أو إن لم يدخل في اللفظ فهو مثله من كل وجه ، وليس بينهما فرق أصلاً ، وقد يقال : الشارط حاجم أيضاً ، لكن لا يفطر ، لأن لفظ الرسول ( يتناول الحاجم المعروف المعتاد ، ولم يكونوا يشرطون ، وأما لفظ «المحجوم» فإنه يتناول ما كان يعرفه وما لا يعرفه؛ لأن المعنى المدلول عليه بلفظ «المحجوم» يتناول ذلك كله ، بخلاف المعنى المقصود بلفظ «الحاجم» ، أو يقال : وإن شمله لفظ «الحاجم» لكن الحاجم الممتص أقوى؛ لأنه ذريعة إلى وصول الدم إلى حلقه، هذا على ما نصرناه .


ومنهم من يقول : بل الشارط يفطر أيضاً ، وهو قول من يجعل اللفظ يتناولهما ، ويجعل الحكم تعبداً.
وهؤلاء الذين قالوا : يفطر بالحجم دون الفصاد ، قالوا : هذا الحكم تعبد لا يعقل معناه ، فلا يقاس عليه .
وقال لهذا (73) بعض هؤلاء قولاً تالفا (74) ، قاله ابن عقيل ، وهو : أنه يفطر المحجوم بنفس شرط الجلد ، وإن لم يخرج الدم ، قال : لأن هذا يسمى حجامة . وهذا أضعف الأقوال ].


والرابع : وهو الصواب واختاره أبو المظفر ابن هبيرة الوزير العالم العادل وغيره، أنه يفطر بالحجامة والفصاد ونحوهما، وذلك لأن المعنى الموجود في الحجامة موجود في الفصاد شرعا وطبعا، وحيث حض النبي صلى الله عليه وسلم على الحجامة وأمر بها فهو حض على ما في معناها من الفصاد وغيره ؛ لكن الأرض الحارة تجتذب الحرارة فيها دم البدن فيصعد إلى سطح الجلد فيخرج بالحجامة، والأرض الباردة يغور الدم فيها إلى العروق هربا من البرد، فإن شبه الشيء منجذب إليه، كما تسخن الأجواف في الشتاء، وتبرد في الصيف، فأهل البلاد الباردة لهم الفصاد وقطع العروق، كما للبلاد الحارة الحجامة، لا فرق بينهما في شرع ولا عقل .


وقد بينا أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، وأنه من جنس الفطر بدم الحيض والاستقاءة وبالاستمناء، وإذا كان كذلك فبأي وجه أراد إخراج الدم أفطر، كما أنه بأي وجه أخرج القيء أفطر، سواء جذب القيء بإدخال يده، أو بشم ما يقيئه، أو وضع يده تحت بطنه واستخرج القيء، فتلك طرق لإخراج القيء، وهذه طرق لإخراج الدم، ولهذا كان خروج الدم بهذا وهذا سواء في باب الطهارة، فتبين بذلك كمال الشرع واعتداله وتناسبه، وأن ما ورد من النصوص ومعانيها فإن بعضه يصدق بعضا ويوافقه، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً }.


وأما الحاجم فإنه يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بالمظنة، كما أن النائم الذي تخرج منه الريح ولا يدري يؤمر بالوضوء، فكذلك الحاجم يدخل شيء من الدم مع ريقه إلى بطنه وهو لا يدري، والدم من أعظم المفطرات، فإنه حرام في نفسه لما فيه من طغيان الشهوة، والخروج عن العدل، والصائم أمر بحسم مادته، فالدم يزيد الدم فهو من جنس المحظور، فيفطر الحاجم لهذا، كما ينتقض وضوء النائم، وإن لم يستيقن خروج الريح منه؛ لأنه يخرج ولا يدري، وكذلك الحاجم قد يدخل الدم في حلقه وهو لا يدري.


وأما الشارط فليس بحاجم، وهذا المعنى منتف فيه، فلا يفطر الشارط، وكذلك لو قدر حاجم لا يمص القارورة، بل يمتص غيرها، أو يأخذ الدم بطريق أخرى لم يفطر، والنبي صلى الله عليه وسلم كلامه خرج على الحاجم المعروف المعتاد، وإذا كان اللفظ عاما وإن كان قصده شخصا بعينه فيشترك في الحكم سائر النوع؛ للعادة الشرعية من أن ما ثبت في حق الواحد من الأمة ثبت في حق الجميع، فهذا أبلغ، فلا يثبت بلفظه ما يظهر لفظا ومعنى أنه لم يدخل فيه مع بعده عن الشرع والعقل (75)،
والله أعلم،

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد،
وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.




------------------------



(21) نسخة: «ومن لا يفطر».


(22)وإذا لم يذكر شيء من ذلك فالأصل براءة الذمة وصحة الصوم، وعدم فساده إلا بدليل، والذي ورد به النص ثلاثة أشياء : الأكل، والشرب، والجماع، وأما القيء والحجامة ففيهما خلاف معروف.



(23) هذه مسألة مهمة في علم الحديث، وهي: أن الحديث إذا أعرض عنه أصحاب الصحيح، وأصحاب السنن، والكتب المعتمدة فلا تثق به، حتى وإن رواه بعض الحفاظ؛ خلافا لما يفعله بعض الناس الآن، يتمسك بسنن لم تشتهر بين المسلمين، ولم يعتمدوها وهي إذا لم تخالف الكتب المعتمدة الأصيلة لا بأس بها، لكن المشكلة أنها أحيانا تخالف، ومع ذلك يتمسك بها الناس،


وشيخ الإسلام يرى أن من المهم النظر إلى الكتب المعتمدة التي اعتمدها المسلمون، وبنوا عليها دينهم، وتلقوا دينهم منها، فالبقية التي قد يكون مثلا من أسندها غير معروف، أو قد يكون غير ثقة، وقد تكون أيضا هي من الكتب التي لم يمحصها المسلمون؛ لأنها غير مشهورة بينهم ، فمثل هذا يجب التفطن له؛ لأن هذه المسائل مسائل دين، وليست مسألة نظر فقط، هل رأى فلان كذا؟ أو رأى فلان كذا؟ بل هي مسألة دين يدين الله بها، ولهذا قال بعض السلف: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.



(24) إذا الكحل لم يثبت فيه شيء، لا أنه يتقيه الصائم، ولا أنه لا يفطر الصائم، فيبقى على الأصل، والأصل الجواز، ومثله القطرة التي تقطر في العين، وغير ذلك مما يوضع في العين.



(25) الحقنة الشرجية التي تحقن في الشرج من أسفل، يوضع فيها أدوية أو ما أشبهها وكثيرا ما تحقن من أجل اليبوسة، وأما المأمومة والجائفة: فالمأمومة هو الجرح في الرأس يصل إلى أم الدماغ فيداوى، فبعض العلماء يقول: إنك إذا داويت المأمومة فسد الصوم؛ لأن المأمومة جوف، إذ أنها في وسط الرأس،


والجائفة: هي التي تصل إلى الجوف، فهذا إنسان جرح حتى انفتح بطنه، فداووه، فهذه مداواة جائفة، فعند بعض العلماء أنها تفطر أيضا؛ لأن هذا الدواء وصل إلى الجوف، لكن شيخ الإسلام يقول: ليس معهم حجة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما ذكروا ذلك بما رأوه من القياس، ولم يقل: لما ثبت من القياس، يعني: هذا القياس غير صحيح، لكن هذا رأيهم، وعلى هذا فالتحاميل التي تسمى تحاميل يحملها الإنسان عند شدة الحمى أو غير ذلك من الأسباب لا تفطر، فالذي يفطر الأكل والشرب وما كان بمعناه في التغذية فله حكمه , على أنه قد يعارض معارض في الإبر المغذية – مثلا- بأنها تختلف عن الأكل والشرب ؛


لأن الأكل والشرب له لذة وطعم, ولهذا كان الذي يتغذى بهذه الإبر يشتاق اشتياقا كبيرا إلى الأكل والشرب, لكننا عارضنا هذا بحديث لقيط بن صبرة: «وبالغ بالاستنشاق إلا أن تكون صائما» [سبق تخريجه.]، فإن المستنشق للماء لا يتلذذ به.



(26) الظاهر أن الإنسان إذا استنشق الماء لا يصل إلى دماغه لكن يصل إلى جوفه، ولذلك النَّفَس يخرج من الرئتين بلا شك، ويخرج عن طريق الأنف، ولا يذهب للدماغ ثم ينزل، فالظاهر أن قوله: « يصل إلى الدماغ » فيه نظر من حيث الطب.



(27) قوله : «إنما يرشح» يعني: البول، أي: أن البول بإذن الله يرشح فينزل من الكلى رشحا، ويجتمع في هذه الحاصلة، ثم بإذن الله عز وجل إذا أراد الإنسان أن يخرجها أخرجها، فلذلك لو قطر في إحليله – يعني: في ذكره- دهنا أو دواءا أو غيره لم يفطر بذلك؛ لأنه إنما يرشح رشحا، يعني: البول.



(28) قوله: «فالداخل إلى إحليله كالداخل إلى فمه وأنفه» هذا القياس خطأ؛ لأن الأنف والفم في حكم الظاهر، ولهذا وجبت المضمضة والاستنشاق في الوضوء تبعا لغسل الوجه، فالفرق واضح، وكلامهم هذا يدل على أن الذي يفطر هو الذي يصل إلى المعدة، وأما ما وصل إلى باطن الجوف من غير طريق المعدة فإنه لا يفطر، وهذا هو القول الراجح، أنه لا يفطر إلا ما يصل إلى المعدة دون ما يصل إلى الحلق، ودون ما يصل إلى البطن أو إلى الرئة أو غير ذلك.



(29) ومعلوم أن الإنسان إذا اغتسل وتشرب جلده الماء فإنه لا يفطر بالاتفاق،
وكذلك أيضا لو تدهن بدهن وهو صائم، فإنه لا يفطر بالاتفاق.



(30) ليست العين منفذا معتادا للأكل والشرب، لكن في الأنف ربما يعطى الإنسان سعوطا أو نحوه ويصل إلى جوفه.



(31) الفزع العظيم مظنة خروج الخارج، سواء كان بولا أم غائطا أم ريحا، ولهذا ذكر بعض الفقهاء: أنه لو صاح بإنسان ففزع ثم أحدث فعليه ثلث الدية، وهذه غير مسلمة، ولكن قصدنا أن الإنسان إذا فزع فربما يحصل منه حدث.



(32) وكذلك نعلم أنه لم يشرع السعي بين الصفا والمروة في غير حج أو عمرة، خلافا لما يظن بعض الناس، فتجد بعض العوام يسعى وهو مرتد ثيابه، فتقول له: لماذا ؟ فيقول: إن الله عز وجل يقول: {ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم} [ البقرة: 158]. فيظن التطوع حتى في السعي.



(33) هذا القيد مهم في قول المؤلف : «كتب الحديث التي يعتمد عليها» يعني: ليس كل كتاب مسند نأخذ به ونعتبره.



(34) وهكذا لو قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحدا من الجرحى أن يغسل ثيابه أو بدنه من الدم، وكذلك أيضا لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه غسل محل الحجامة، وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن دم الآدمي ليس بنجس، لكن الجمهور على نجاسته، والاحتياط طيب،


لكن الجزم بنجاسته، وأن الإنسان لو صلى في ثوبه وفيه دم فصلاته باطله، هذا يحتاج إلى دليل، فالمسألة ليست هينة، والقاعدة في ذلك: «ما أبين من حي فهو كميتته»، واليد إذا قطعت من إنسان فهي طاهرة، مع أنها مملوءة دما، فإذا كانت اليد -وهي جرم مملوء بالدم- تكون طاهرة إذا انفصلت عن الإنسان، فالدم من باب أولى، ولا يرد على هذا دم الحيض؛ لأن دم الحيض ليس دم عرق، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين دم العرق، حيث قال للمستحاضة: «إنما ذلك دم عرق» [أخرجه البخاري في الوضوء/باب غسل الدم (228)؛ ومسلم في الحيض/ باب المستحاضة وغسلها وصلاتها (333)].



(35) بعض العلماء يرون أن مس المرأة مطلقا ينقض الوضوء، ولهذا تجد بعض الرجال كما نقل لي يلبس قفازين وهو يطوف؛ لئلا تمس يده جسم امرأة، ولبس القفازين محرم على المحرم، فأرادوا أن يتحرزوا من شيء فوقعوا في شيء محرم.



والصحيح كما قال شيخ الإسلام أن المراد بالملامسة الجماع، كما فسرها بذلك ابن عباس رضي الله عنه، وكما أنه مقتضى الفصاحة والبلاغة؛ لأنه لو كان المراد بالملامسة هنا لمس اليد أو ما أشبهه؛ لكان في الآية تكرار في شيء لا حاجة إليه، وحذف لشيء لا بد أن يذكر، فقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء} [النساء: 43] إذا جعلنا الملامسة اللمس باليد صار كلا الأمرين يدل على الحدث الأصغر، ولا ذكر للحدث الأكبر، وإذا قلنا الملامسة: الجماع، لم يكن في الآية تكرار، ودلت على فائدة أخرى وهي: الحدث الأكبر.



(36) هذا أيضا من الأمور التي اختلف فيها الناس اختلافا كثيرا، والأقرب عندي أنه يجب الوضوء إذا كان بشهوة، ولا يجب إذا كان بغير شهوة، والفقهاء -رحمهم الله- يشددون في هذا، ويقولون ينقض مس الذكر ولو بلا قصد، وعلى هذا لو أراد الإنسان أن يستدني سرواله لربطه فمست يده ذكره بغير قصد؛ لأنتقض وضوءه، لكن هذا لا دليل عليه، والصواب أن مس الذكر لا يوجب الوضوء إلا إذا كان لشهوة،


وبهذا يجتمع الحديثان : حديث بسرة، وحديث طلق بن علي؛ لأن طلق بن علي لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره أو قال يمس ذكره في الصلاة أعليه الوضوء؟ قال: «لا». ثم قال «إنما هو بضعة منك» [أخرجه أحمد (4/23)؛ وأبو داود في الطهارة/باب الرخصة في ذلك (182)؛ والترمذي في الطهارة/باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر (85)؛ والنسائي في الطهارة/باب ترك الوضوء من ذلك(165)؛ وابن ماجه في الطهارة/باب الرخصة في ذلك (483).]. ومعنى بضعة أي: جزء منك، فكما أنك لو لمست اليد، أو لمست الفخذ، أو لمست الساق لا ينتقض وضوءك،


فكذلك لو لمست الذكر فهو بضعة، وحديث بسرة: «من مس ذكره فليتوضأ» [أخرجه أحمد (6/406)؛ وأبو داود في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (181)؛ والترمذي في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (82)؛ والنسائي في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (163)؛ وابن ماجه في الطهارة/باب الوضوء من مس الذكر (479)] هذا عام، واللام للأمر، فيحمل على أن المراد من مسه مسا ليس كمس بقية الأعضاء، واللمس الذي يختص بالذكر ولا يكون كبقية الأعضاء هو ما كان لشهوة، ولهذا تجد الإنسان يمس ذكره لشهوة، وربما يستمني بيده، فالقول الراجح: أنك إذا مسست الذكر المس الخاص به، وهو الذي يكون لشهوة؛


وجب عليك الوضوء؛ لأن هذا مظنة خروج شيء، ولاسيما في الرجل المذَّاء، فقد يخرج مذي وهو لا يدري، وأما إذا كان بغير شهوة فلا ينقض الوضوء، ومن العلماء من قال: يستحب الوضوء احتياطا.



(37) معنى قول المؤلف: «انتشر» أي: انتصب ذكره.
(38 ) قوله: «مما مسته النار» أي: كل ما طبخ بالنار، فالأفضل أن يتوضأ منه، وقد ورد فيه حديثان أحدهما: الأمر بالوضوء منه [أخرجه أبو داود في الطهارة/باب التشديد في ذلك (166)؛ والترمذي في الطهارة/ باب ما جاء في الوضوء مما غيرت النار (74)؛ والنسائي في الطهارة/باب الوضوء مما غيرت النار (171)؛ وابن ماجه في الطهارة/ باب الوضوء مما غيرت النار (478)].والثاني: «كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار» [أخرجه أبو داود في الطهارة/باب في ترك الوضوء مما مست النار (164)؛ والنسائي في الطهارة/باب ترك الوضوء مما غيرت النار (185). ].



فمنهم من قال: إن هذا الحديث يدل على نسخ الحديث الأول، وأنه لا يعمل به إطلاقا، ولا يتوضأ لذلك.
ومنهم من قال: إن الحديث الثاني يدل على أن الأمر بالوضوء مما مست النار ليس على سبيل الوجوب، وهذا يستعمله العلماء كثيرا، فيقولون: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأمر يدل على عدم الوجوب، وأن فعله بعد النهي يدل على عدم التحريم، وهذا الذي ذكره المؤلف هو أعدل الأقوال، وأنه يسن له أن يتوضأ مما مست النار كما نص على ذلك فقهاء الحنابلة رحمهم الله.



(39) يعني: كون الشيء مما تعم به البلوى، ويكثر وقوعه بين الناس، ولم يبين الشارع حكمه، يدل على أنه ليس فيه وجوب ولا تحريم؛ لأنه لو كان فيه وجوب لأمر به، ولو كان فيه تحريم لنهي عنه.



(40) فإن قال قائل: أليسوا أيضا أهل حمير وأهل بغال ؟وهل نجعل أبوال الحمير والبغال طاهرة؟
نقول: لا نجعلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحمر: «إنها رجس» [أخرجه البخاري في الذبائح والصيد/باب لحوم الحمر الإنسية (5102)؛ ومسلم في كتاب الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان/باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية (1940).] فهي نجسة، لكن لم يقل في الإبل والبقر والغنم وما أشبهها: إنها رجس، بل هي مما يؤكل، ويدخلها الناس في بطونهم، فضلا عن ظواهر أبدانهم، فالحاصل أن الذي عمت به البلوى في الحمير والبغال عورض بدليل خاص، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بأنها نجسة.



(41) ولهذا إذا نفرت البعير أو عشَّرت وحملت فلا أحد يستطيع عليها، وتكون كالمجنونة، وهي لولا أن الله ذللها لنا لم نستطع أن نتحكم فيها، فالله ذللها لنا، حتى إن الصبي يقودها إلى منحرها وتنقاد معه، لكن إذا نفرت فلا أحد يستطيع عليها؛ لذلك كانت الشياطين تحملها، فهي خلقت من الجن، وكذلك على ظهر كل واحد منها شيطان كما جاء في الحديث [أخرجه أحمد (3/494)؛ والطبراني في «الكبير» (3/160)؛ وصححه ابن خزيمة (2546)؛ وابن حبان (2694)؛ وقال المنذري: إسناد أحمد والطبراني جيد ا.هـ.]



وهذه أمور في الواقع تخفى علينا، وتخفى أيضا حتى على أهل الطب؛ لأن هذه أمور غيبية وليست أمورا محسوسة تدرك بالطب وشبهه، ومن ثَمَّ نهي عن الصلاة في أعطانها؛ لأنها مأوى الشياطين.



وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل» [أخرجه مسلم في الإيمان/باب تفاضل أهل الإيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه (52).] هذا صحيح ومشاهد حتى الآن، تجد البدوي الذي عنده الإبل شامخ الرأس، شامخ الأنف، وتجد صاحب الغنم هادئا ساكنا، ولهذا اختار الله للرسل عليهم الصلاة والسلام أن يكونوا رعاة للغنم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» [أخرجه البخاري في الإجارة/باب رعي الغنم على قراريط (2143).] من أجل أن يعرف كيف يختار المواقع؟ وكيف يوجهها مع السكينة والهدوء؟



(42) لكن الخبثاء يقعدون فيها أو فيما يشابهها، ويذكر أن الكفار يتخذون المقاعد التي تسمي عندنا: «حمامات إفرنجية»؛ لأنه إذا دخل الحمام وجلس على هذا الكرسي أخذ معه الصحيفة أو الجريدة، وجلس يقرأها حتى يكمل جميع الأخبار التي فيها، وهذه من حكمة الله عز وجل: {الخبيثات للخبيثين} [النور: 26]، ولهذا كانوا يحبون الكلاب، والكلاب أنجس البهائم، ولا يطهر الإناء الذي ولغ فيه الكلب إلا بسبع غسلات إحداها بالتراب، لكن أولئك القوم يألفونها؛ لأن النفوس الخبيثة تألف الأشياء الخبيثة.



(43) «الكنف»: هي أماكن لقضاء الحاجة فقط، وهي عبارة عن أحواض مبنية لها سقوف،
ويقضي الإنسان فيها حاجته، ثم يستنجي في محل آخر.



(44) الصواب أن الحديث في ذلك ضعيف، ولا تقوم به حجة، ولا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» [أخرجه البخاري في التيمم/وقول الله تعالى { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } (323)؛ ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521).]

لكن معاطن الإبل صح عن النبي ( النهي عن الصلاة فيها [أخرجه أحمد (2/451, 491, 509)؛ والترمذي في أبواب الصلاة/باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم (348)؛ وابن ماجه في المساجد/باب الصلاة في أعطان الإبل (768) من حديث أبي هريرة وله شواهد، وقال الترمذي: حسن صحيح.



وجاء في صحيح مسلم في الحيض/باب الوضوء من لحوم الإبل (360) من حديث جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصلي في مبارك الإبل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا».]، وكذلك صح النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام [أخرجه أحمد (3/83)؛ وأبو داود في الصلاة, باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492)؛ والترمذي في أبواب الصلاة, باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام (317)؛ وابن ماجه في المساجد/باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745)؛ وصححه ابن خزيمة (791)؛ وابن حبان (1699)؛ والحاكم (1/251) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط» (ص:677): أسانيده جيدة, ومن تكلم فيه ما استوفى طرقه ا.هـ.]، وأما قارعة الطريق والمجزرة والمزبلة وفوق ظهر بيت الله فالحديث فيها لا يصح [أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة/باب ما جاء في كراهية ما يصلي إليه وفيه (346)، وقال الترمذي: إسناده ليس بذاك القوي، وقد تكلم في زيد بن جبيرة من قبل حفظه ا.هـ].



(45) الخرقي رحمه الله من أكابر الأصحاب رحمهم الله، وله كتاب مشهور، وهو «مختصر الخرقي»، والذي شرحه أمم عظيمة من العلماء، وأحسن شرح رأيناه عليه هو «المغني» لابن قدامة رحمه الله.



(46) قوله:«يحتاج إلى الطعن في الحديث» أي: إن اعتمد على الحديث، وقوله:«وبيان الفارق» أي: إن اعتمد على القياس، وشيخ الإسلام رحمه الله يقول: «والحكم في ذلك عند من يقول به قد يثبته بالقياس على موارد النص، وقد يثبته بالحديث» أي: من يقول بهذا الحكم - وهو المنع من الصلوات في هذه الأماكن السبعة - يحكم به إما بالحديث وإما بالقياس، فمن طعن في هذا الحكم فإنه يحتاج إلى الطعن في الحديث، أو إلى بيان الفارق.



(47) في نسخة:( تطييبه وتبخيره)، و (تطيبه وتبخره) أقرب للصحة؛ لأن تطييبه وتبخيره
فعل غيره به, وتطيبه وتبخره فعله هو.



(48) يقول رحمه الله: «ليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطر الذي جعله الله ورسوله مفطرا هو ما كان واصلا إلى دماغ أو بدن» خلافا لمن قال: إن ما وصل إلى الدماغ، أو وصل إلى الجوف بأي طريق فهو مفسد للصوم، «أو ما كان داخلا من منفذ» كالعين مثلا أو الأذن تنفذ إلى الحلق، «أو واصلا إلى الجوف كالجائفة... هي مناط الحكم» يعني: أنه ليس في الأدلة ما يقتضي أن ذلك مناط الحكم عند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، «ويقولون: إن الله ورسوله إنما جعلا الطعام والشراب مفطرا لهذا المعنى المشترك من الطعام والشراب» الذين يقولون بهذا هم الذين يفطرون بهذه الأشياء «وبين ما يصل إلى الدماغ والجوف من دواء المأمومة والجائفة، وما يصل إلى الجوف من الكحل ومن الحقنة والتقطير في الإحليل ونحو ذلك» هم يقولون بهذا وهم يتناقضون؛ لأنهم نصوا على أن الإنسان لو وطئ حنظلة برجله،

والحنظلة من أشد النبات مرارة، ثم وجد طعمها في حلقه، فإنه لا يفطر، مع أن طعمها وصل إلى الحلق، لكن يقولون: إن الرجل ليست منفذا معتادا، فيقال لهم: والعين أيضا ليست منفذا معتادا، ولا اعتاد الناس أن يأكلوا بأعينهم، ولا أن يأكلوا بآذانهم، فلا فرق، ثم ذكر قاعدة مهمة، قال رحمه الله: «وإذا لم يكن على تعليق الله ورسوله للحكم بهذا الوصف دليل كان قول القائل أن الله ورسوله إنما جعلا هذا مفطرا بهذا قولا بلا علم» يعني: مثلا يقولون: إن الله جعل الطعام والشراب مفطرا؛ لأنه يصل إلى الجوف. قيل لهم: من قال لكم إن مناط الحكم وصول شيء إلى الجوف؟!

بل لأنه شهوة يتلذذ به الإنسان ويتغذى بها، «وكان قوله: إن الله حرم على الصائم أن يفعل هذا، قولا بأن هذا حلال وهذا حرام بلا علم» ومعلوم أن الله تعالى قال:{ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب}.



(49) مناط الحكم هو: الوصف الذي يعلق به الحكم.
(50) شيخ الإسلام رحمه الله أعظم من رأيته إنصافا من العلماء، يقول:«هذا اجتهاد يثابون عليه» بينما لو يحصل خطأ من بعض طلبة العلم في عصرنا هذا مع اجتهاده قالوا: هذا ضال، هذا مبتدع، هذا فيه كذا... وجعلوا يغتابونه ويسبونه، وشيخ الإسلام رحمه الله مع أن كلامه قوي، ويقول: هذا كلام لا يجوز، وهذا قول على الله بغير علم، وهذا حرام، بهذا الأسلوب القوي الشديد، يقول: إن هذا اجتهاد يثابون عليه، وهكذا يجب على الإنسان أن ينظر إلى غيره كما ينظر إلى نفسه، أليس هو يجتهد ويخطئ ويصيب؟

إذا غيره أيضا يجتهد ويخطئ ويصيب، فكيف تكون من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون؟! فالواجب أن تنظر إلى غيرك كما تنظر إلى نفسك، فكما أن غيرك يخطئ في ظنك، فكذلك أنت تخطىء في ظنه.



والحاصل أن مثل هذا المسلك الذي يسلكه شيخ الإسلام رحمه الله بهذا العدل والإنصاف هو الذي يؤلف القلوب عليه، ويوجب أن يؤخذ بقوله، وأن يعرف أنه لا يريد إلا الوصول إلى الحق، فاللهم اغفر له وارحمه.



ويقول أيضا: «ولا يلزم أن يكون قولا بحجة شرعية يجب على المسلم إتباعها» وهذا صحيح، فإذا كان لم يبن قوله على حجة شرعية يجب إتباعها، فإننا نسأل الله له الرحمة، ونقول هو مجتهد ولكنه لم يصب.



(51) لأن الماء إذا نزل فلا شك أن الطعام الذي في المعدة يكون رقيقا ولينا، وهذا بمنزلة الطبخ.
(52) الجائفة هي: الجرح يصل إلى باطن الجوف، والشيخ رحمه الله يقول : إن القياس -قياس الكحل والاحتقان وما أشبهها - على الأكل والشرب غير وارد أصلا، فلو قال قائل: هل يقاس على الاستنشاق؟ يقول الشيخ رحمه الله: لا؛ لأن مستنشق الماء يتغذى به، ويصل إلى معدته، لكن هل المكتحل يتغذى بالكحل؟ الجواب: لا، حتى ولو وصل إلى المعدة – فرضا- فإنه لا يتغذى به، فلا يمكن أن يقاس هذا على هذا .



وهذا هو مضمون كلامه، وهو واضح، والحقنة لا شك أنها تصل إلى الأمعاء، ولكن هل الأمعاء تتغذى بها، أو يستخرج ما كان ماكثا في الأمعاء؟ الجواب: الثاني بلا شك، فكيف يقاس هذا على هذا؟!



وهناك تعليق لمحمد رشيد رضا رحمه الله، يقول: (قال في «المصباح»: وحقنت المريض: إذا أوصلت الدواء إلى باطنه من مخرجه بالمحقنة - بالكسر – واحتقن هو، والاسم الحقنة، مثل الفرقة من الافتراق، ثم أُطلقت على ما يتداوى به، والجمع حقن، مثل غرفة وغرف.



فهذه هي الحقنة التي يقول شيخ الإسلام: إنها لا تفطر الصائم، وقوله حق، ولكن يوجد في هذا الزمان حقن أخر، وهي إيصال بعض المواد المغذية إلى الأمعاء، يقصد بها تغذية بعض المرضى، والأمعاء من الجهاز الهضمي كالمعدة، وقد تغني عنها، فهذا النوع من الحقنة يفطر الصائم، فهو لا يباح له إلا في المرض المبيح للفطر)ا. هـ كلام الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله.



(53) كأن في العبارة سقط.
(54) و«المعارضة في الأصل» يعني: العلة التي من أجلها ثبت الحكم، فإذا عارض الخصم فقال: هذه ليس بعلة، يقول المؤلف: «إنها تبطل كل نوع من أنواع الأقيسة».



(55) لعل الأصح: التي هي.
(56) ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم وجاء لشهوة النكاح، فقال:«يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» [ أخرجه البخاري في النكاح/باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من استطاع منكم الباءة فليتزوج» (4778).]؛ لأن الصوم يضيق المجاري، ويقلل نشوة الإنسان وفرحه وطربه وما أشبه ذلك، فتضعف شهوة النكاح في حقه، وهذا ظاهر، يعني: هذا مما يدل على كلام شيخ الإسلام رحمه الله أن الأكل والشرب إنما منع منهما لهذا السبب.



(57) في نسخة: «وهذا المنع» ، وقوله: «وهذا المعنى» أظهر.
(58) أي: ليس مما يتغذى به البدن، وليس مما يستحيل.
(59) أي: منع الصائم.
(60) وهنا إيراد ثان على هذه المسألة، فإن قيل: لو أكل خرزة أو حديدة أو ما أشبه ذلك مما لا يغذي إطلاقا، وليس فيه تغذية، فهل يفطر؟



المسألة فيها خلاف: فبعض العلماء يقول: إنه لا يفطر؛ لأنه لا غذاء في ذلك، وبعضهم يقول: إنه يفطر، وذلك لأنه أكل، يعني: صدق عليه أنه أكل، والآية عامة:{وكلوا واشربوا حتى يتبين} فإذا أكل ولو ما لاغذاء فيه أصلا فإنه يفطر بذلك، على أنه قد يقال: هذا الذي لايغذي أصلا لا بد أن تمتلئ به المعدة، فيغني عن الجوع، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يربط على بطنه الحجر من الجوع [أخرجه مسلم في الأشربة/ باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك وبتحققه تحققا تاما واستحباب الاجتماع على الطعام (2040), عن أنس بن مالك, ولفظه: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب بطنه بعصابة، قال أسامة –أحد رواة الحديث-: وأنا أشك: على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ فقالوا: من الجوع.]؛ لأن المعدة تتلاءم فلا تتسع وتحتاج إلى طعام، فهنا نقول: إنه-أي: أكل ما لايغذي- لا يرد علينا؛ لسببين:
السبب الأول: أنه داخل في العموم، فيسمى أكلا أو شربا.



والسبب الثاني: أنه يملأ المعدة، فيحصل به تلاءم المعدة، فيمنعه من الجوع.
والخرز ليس مثل الحصى، فالحصى يتفتت مهما كان، والمعدات-أي:معدات الحيوان- تختلف، فالنعامة تأكل الزجاج وهو يجرح الجلد، ومع ذلك تأكله وتهضمه، ويخرج منها، وأخبرني بعض الناس أنه وضع ساعة من الساعات الكبار التي توضع في الجيب أمام النعامة فتناولتها وأدخلتها، ورآها تجري في رقبتها وهي حديد! وأيضا القطا معروف بأنه يأكل المرو، والمرو حجر قوي جدا.



(61) فصار على كلام الشيخ رحمه الله الجماع تتجاذبه علتان: العلة الأولى: الاستفراغ، والعلة الثانية: الشهوة، فالاستفراغ يكون مقيسا على الحجامة والقيء، والشهوة تكون مقيسة على الأكل والشرب، لكن العلة الأخيرة أوضح وأظهر وأعم، وأنه من أجل الشهوة، بدليل أنه قد يحصل جماع بلا إنزال، فتنخرم علة الاستفراغ.



(62) لأن العبادات فعل وكف ولا بد منها، وإنما كان كذلك لأن من الناس من يسهل عليه الفعل دون الكف، ومن الناس من يسهل عليه الكف دون الفعل، فجمع الله تعالى في العبادات بين الفعل والكف، حتى يتبين أن الإنسان عابد لله حقيقة، لا عابد لهواه، إذا ترك الإنسان ما يشتهيه من الجماع وهو صائم فهذا عبادة، وإن كان لا يتغذى بالجماع، لكن نقول إن مجرد كونه يترك شهوته لله هو عبادة.



(63) قوله رحمه الله:«ويضعف إرادتها عن العبادات» هذا باعتبار جنس بني آدم، لكن من بني آدم من يجعل جماعه عبادة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة». قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟» قالوا: نعم. قال: «كذلك إذا وضعها في حلال، كان له أجر» [أخرجه مسلم في الزكاة/باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1006)]، فيعتبر أن جماعه عبادة، ولا يصده عن عبادة الله عز وجل، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه جميعا بغسل واحد [أخرجه مسلم في الحيض, باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له وغسل الفرج إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع (309).] ، ومع ذلك نعلم علم اليقين أنه أشد الناس عبادة لله عز وجل، لكن في الغالب أن الإنسان إذا انغمس في الشهوات غفل عن العبادات، قال الله تعالى:{فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم 59].



(64) هذا ما أشرنا إليه فيما سبق، وهو أن حكمة كونه شهوة كالطعام والشراب أبلغ
وأشمل من أن يكون الحكمة فيه أنه استفراغ.



(65) الحكمة في قوله:«ولا يفر إذا لاقى» هي: أن كونه يصوم يوما ويفطر يوما لا يضعفه عن الصبر عند لقاء العدو، وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن الإنسان لو صام مواصلا لأضعفه عن الصبر عند ملاقاة العدو.



(66) فإذا قال قائل: هذا الآن مفقود في الشريعة الإسلامية، بمعنى أن الحلال حلال، والحرام حرام، فلو ظلم الإنسان نفسه فهل يمكن أن يعاقب بتحريم الحلال والطيبات؟



قلنا: شرعا لا يمكن، وأما قدرا فيمكن، بأن يصاب بفقر، أو يصاب بمرض ويمنع من بعض الأطعمة، أو ما أشبه ذلك، فالتحريم الشرعي انتهى وقته، لكن التحريم القدري لم ينته وقته، فربما يحرم الإنسان الرزق من الطيبات بظلم نفسه.



(67) يفهم من هذا أن المستحاضة تصوم، مع أنه يلحقها ضعف بخروج الدم منها، فإذا كانت لا تحتمل الصيام من أجل ضعفها، فالغالب أن المستحاضة لا يرجى زوال مرضها، فتطعم عن كل يوم مسكينا، كغيرها من ذوي المرض الذي لا يرجى برؤه.



(68) المؤلف - رحمه الله - اشترط ثلاثة شروط: الأول:أهل الحديث، والثاني:الفقهاء فيه، والثالث: العاملون به، فهؤلاء أخص الناس بالرسول صلى الله عليه وسلم.



وهناك أهل حديث ينقلونه رواية لكن ليس لهم به دراية وفقها، فهؤلاء يدخلون في قول الرسول : صلى الله عليه وسلم «رب مبلغ أوعى من سامع» [أخرجه البخاري في الحج/باب الخطبة أيام منى (1741).]، ولا شك أنهم مثابون ومأجورون على عملهم وعلى اجتهادهم، لكن إذا اجتمع أهل حديث وفقهاء وعاملون به، كالإمام أحمد رحمه الله مثلا، تمت الشروط، أي: شروط تحقيق وتحقق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
(69)قوله رضي الله عنه :«احتجم النبي ( على رأسه وهو محرم» من المعلوم أن الحجامة تحتاج إلى حلق؛ لأنه لا يمكن أن يحتجم الإنسان وعليه شعر - ولا سيما مثل شعر النبي صلى الله عليه وسلم - إلا بحلق، فقد حلق النبي صلى الله عليه وسلم موضع الحجامة بلا شك، ولم يُذكر أنه فدى، ولما احتاج كعب بن عجرة رضي الله عنه إلى حلق رأسه كله أُمر بالفدية [أخرجه البخاري في المحصر/باب الإطعام في الفدية نصف صاع (1816)؛ ومسلم في الحج/باب جواز حلق الرأس للمحرم إذا كان به أذى ووجوب الفدية لحلقه وبيان قدرها (1201).]، فما الفرق؟ يقال: الفرق أن الحجامة لا تستوعب كل الرأس، وإنما تستوعب جزءا يسيرا منه، فيؤخذ من ذلك أن ما ذكره بعض الفقهاء أن الإنسان إذا أخذ ثلاث شعرات من رأسه وجبت عليه الفدية،


وبعضهم يقول: إذا أخذ ربع الرأس وجبت عليه الفدية، والربع قد يكون غير معارض لهذا الحديث، لكن ثلاث شعرات قطعا معارض لهذا الحديث، ولهذا كان الصحيح في هذه المسألة أنه لا يفدي من حلق شيئا من رأسه إلا إذا أزال منه ما يزول به الأذى، أي: ما يماط به الأذى، وأما الشيء اليسير فإنه يحرم عليه، لكن ليس فيه الفدية.



(70)قولهم رحمهم الله:«أفطرا لسبب آخر» هذا في الحقيقة من التحريف البالغ، فإذا قال -مثلا-: كانا يغتابان، يعني مر بهما النبي صلى الله عليه وسلم وكانا يغتابان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم»، هذا غلط عظيم؛ لأنه لا يمكن أن يذكر وصفا هو مناط الحكم، ثم يلغي الوصف الذي هو مناط الحكم؛ لأنه لو كان إفطارهما من أجل الغيبة لقال: أفطرا المغتابان، ولا يقول: أفطر الحاجم والمحجوم، فيكف يمكن أن نثبت معنى علق عليه الحكم في الحديث، ونلغي ما ذكر في الحديث؟!


هذا من التحريف الذي فيه الخطأ من وجهين:

الوجه الأول: إثبات علة لم يذكرها الشارع.
والوجه الثاني: نفي علة ذكرها الشارع، فهذا غير مستقيم.
وكذلك قولهم: إنهما أفطرا لسبب آخر، فأين السبب الآخر؟ ثم إن الحاجم اسم فاعل، والمحجوم اسم مفعول، فهما وصفان مشتقان، فيفيدان العلية، كما لو قلت: أكرم المجتهد، يعني لاجتهاده، وهذا الذي يدل عليه المشتق: «أفطر الحاجم»أي: لكونه حَجم.و«أفطر المحجوم» يعني: لكونه حُجم، والمهم أن هذه تأويلات باردة في الواقع، وهذه كما توجد أيضا في الأحكام الفقهية توجد أيضا في الأحكام العلمية العقدية، كما فعل أهل التحريف المعطلة الذين قالوا: المراد بعين الله كذا، المراد بيده كذا، المراد بقدمه كذا،


فهم جنوا على النصوص من وجهين:

الوجه الأول: نفي ما دلت عليه.
والوجه الثاني: إثبات ما لم تدل عليه.
ولهذا نكرر دائما ونقول: استدلوا قبل أن تحكموا؛ لأن الشرع هو البينة، ولا يمكن أن يحكم الإنسان إلا بوجود البينة، أما أن تحكموا أولا ثم تستدلوا فثقوا أنكم سوف تنجرفون؛ لأن الإنسان لابد مع الهوى أن يتجانب، فالواجب على الإنسان أن يستدل أولا ثم يحكم ثانيا، سواء كان ذلك في العقيدة، أو في الأحكام الفقهية.



(71) لعلها: «يأخذون عنه».
(72) في نسخة: «من الحجامة».
(73) أي: لأجل هذا التعليل؛ لكونه تعبدا.
(74) لعلها: «ثالثا».
(75) المؤلف رحمه الله ذكر ثلاثة أشياء: الحجامة, والشرط, والفصد, فأما الحجامة: فمعروفة, والشرط: أن يشق العرق طولا ويخرج الدم, وأما الفصد: فأن يجرح العرق عرضا فيخرج الدم.



وما قاله الشيخ رحمه الله هو الصواب, وعلى هذا فإذا قدر حجامة بالآلات الحديثة لا يمتص فيها الحاجم قارورة الدم فإنه لا يفطر بذلك, كما أن الفاصد لا يفطر, والشارط لا يفطر أيضا, والله أعلم.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم في شهرنا, وأن يعيننا وإياكم على طاعته, وأن يجعلنا ممن يصومه ويقومه إيمانا واحتسابا إنه على كل شيء قدير.



المصدر :

http://www.ibnothaimeen.com/all/book...le_18284.shtml








التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 01-05-2015 الساعة 07:58AM
رد مع اقتباس