عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-05-2015, 03:33AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



التعليق على رسالة حقيقة الصيام
وكتاب الصيام من الفروع ومسائل مختارة منه


لفضيلة الشيخ العلامة /
محمد صالح بن عثيمين
- رحمه الله تعالى-


فصل
فيما يفطر الصائم وما لا يفطره



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً.


فصل
فيما يفطر الصائم وما لا يفطره

وهذا نوعان: منه ما يفطر بالنص والإجماع، وهو الأكل والشرب والجماع، قال تعالى: { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} فأذن في المباشرة، فعقل من ذلك أن المراد الصيام من المباشرة، والأكل، والشرب، ولما قال أولا: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} كان معقولا عندهم أن الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، ولفظ « الصيام » كانوا يعرفونه قبل الإسلام ويستعملونه، كما في «الصحيحين» عن عائشة -رضي الله عنها- أن يوم عاشوراء كان يوماً تصومه قريش في الجاهلية (2).


وقد ثبت عن غير واحد أنه قبل أن يفرض شهر رمضان أمر بصوم يوم عاشوراء، وأرسل منادياً ينادي بصومه، فعلم أن مسمى هذا الاسم كان معروفاً عندهم.
وكذلك ثبت بالسنة واتفاق المسلمين أن دم الحيض ينافي الصوم، فلا تصوم الحائض لكن تقضي الصيام.


وثبت بالسنة أيضا من حديث لقيط بن صبرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» فدل على أن إنزال الماء من الأنف يفطر الصائم، وهو قول جماهير العلماء(3).


وفي «السنن» حديثان:


أحدهما : حديث هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ذرعه قيء وهو صائم فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض».


وهذا الحديث لم يثبت عند طائفة من أهل العلم، بل قالوا : هو من قول أبي هريرة، قال أبو داود : سمعت أحمد بن حنبل قال : ليس من ذا شيء. قال الخطابي: يريد أن الحديث غير محفوظ. وقال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل البخاري عنه، فلم يعرفه إلا عن عيسى بن يونس، قال : وما أُراه محفوظاً. قال : وروى يحيى بن [أبي] كثير، عن عمر بن الحكم : أن أبا هريرة كان لا يرى القيء يفطر الصائم(4).


قال الخطابي : وذكر أبو داود : أن حفص بن غياث رواه عن هشام، كما رواه عيسى بن يونس. قال : ولا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامداً فعليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة، فقال عامة أهل العلم : ليس عليه غير القضاء، وقال عطاء : عليه القضاء والكفارة، وحكي عن الأوزاعي، وهو قول أبي ثور.


قلت: وهو مقتضى إحدى الروايتين عن أحمد في إيجابه الكفارة على المحتجم، فإنه إذا أوجبها على المحتجم فعلى المستقيء أولى، لكن ظاهر مذهبه أن الكفارة لا تجب بغير الجماع، كقول الشافعي(5).


والذين لم يثبتوا هذا الحديث لم يبلغهم من وجه يعتمدونه، وقد أشاروا إلى علته، وهو انفراد عيسى بن يونس، وقد ثبت أنه لم ينفرد به، بل وافقه عليه حفص بن غياث.


والحديث [الآخر] يشهد له، وهو: ما رواه أحمد، وأهل السنن – كالترمذي- عن أبي الدرداء : أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فذكرت ذلك لثوبان، فقال : صدق، أنا صببت له وضوءاً. لكن لفظ أحمد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ. رواه أحمد عن حسين المعلم.


قال الأثرم : قلت لأحمد : قد اضطربوا في هذا الحديث، فقال: حسين المعلم يجوده. وقال الترمذي : حديث حسين أرجح شيء في هذا الباب.
وهذا قد استدل به على وجوب الوضوء من القيء، ولا يدل على ذلك، فإنه إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي(6) فليس فيه إلا أنه توضأ، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، بل يدل على أن الوضوء من ذلك مشروع، فإذا قيل : إنه مستحب كان فيه عمل بالحديث .


وكذلك ما روي عن بعض الصحابة من الوضوء من الدم الخارج، ليس في شيء منه دليل على الوجوب، بل يدل على الاستحباب.
وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوب ذلك، كما قد بسط في موضعه، بل قد روى الدارقطني وغيره عن حميد عن أنس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه.


ورواه ابن الجوزي في حجة المخالف ولم يضعفه، وعادته الجرح بما يمكن .
وأما الحديث الذي يروى: «ثلاث لا تفطر : القيء، والحجامة، والاحتلام». وفي لفظ: «لا يفطرن، لا من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم»، فهذا إسناده الثابت: ما رواه الثوري وغيره، عن زيد بن أسلم، عن رجل من أصحابه، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا، رواه أبو داود، وهذا الرجل لا يعرف، وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن عبد الرحمن ضعيف عند أهل العلم بالرجال.


قلت: روايته عن زيد من وجهين مرفوعا لا يخالف روايته المرسلة، بل يقويها، والحديث ثابت عن زيد بن أسلم؛ لكن هذا فيه: «إذا ذرعه القيء».
[ورواه غير واحد عن زيد بن أسلم مرسلا، وقال يحيى بن معين : حديث زيد بن أسلم ليس بشيء، ولو قدر صحته لكان المراد من ذرعه القيء، فإنه قرنه بالاحتلام، ومن احتلم بغير اختياره كالنائم لم يفطر باتفاق الناس، وأما من استمنى فأنزل فإنه يفطر، ولفظ الاحتلام إنما يطلق على من احتلم في منامه].


وأما حديث الحجامة، فإما أن يكون منسوخا، وإما أن يكون ناسخا لحديث ابن عباس أنه احتجم وهو محرم صائم أيضا، ولعل فيه القيء إن كان متناولا للاستقاءة هو أيضا منسوخ، وهذا يؤيد أن النهي عن الحجامة هو المتأخر، فإنه إذا تعارض نصان ناقل وباق على الاستصحاب، فالناقل هو الراجح في أنه الناسخ، ونسخ أحدهما يقوي نسخ قرينه.


وقد ظن طائفة، أن القياس أن لا يفطر شيء من الخارج، وأن المستقيء إنما أفطر ؛ لأنه مظنة رجوع بعض الطعام، وقالوا : إن فطر الحائض على خلاف القياس(7). وقد بسطنا في الأصول أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس الصحيح.


فإن قيل : فقد ذكرتم أن من أفطر عامداً بغير عذر كان فطره من الكبائر، وكذلك من فوت صلاة النهار إلى الليل عامداً من غير عذر كان تفويته لها من الكبائر، وأنها ما بقيت تقبل منه على أظهر قولي العلماء، كمن فوت الجمعة، ورمي الجمار، وغير ذلك من العبادات المؤقتة، وهذا قد أمره بالقضاء، وقد روي في حديث المجامع في رمضان أنه أمره بالقضاء ؟


قيل: هذا إنما أمره بالقضاء لأن الإنسان إنما يتقيأ لعذر، كالمريض يتداوى بالقيء، أو يتقيأ لأنه أكل ما فيه شبهة، كما تقيأ أبو بكر من كسب المتكهن (8)، وإذا كان المتقيئ معذورا كان ما فعله جائزا، وصار من جملة المرضى الذين يقضون، ولم يكن من أهل الكبائر(9) الذين أفطروا بغير عذر.


وأما أمره للمجامع بالقضاء فضعيف، ضعفه غير واحد من الحفاظ،وقد ثبت هذا الحديث من غير وجه في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة، ومن حديث عائشة، ولم يذكر أحد أمره بالقضاء، ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه، ولما لم يأمره به، دل على أن القضاء لم يبق مقبولا منه، وهذا يدل على أنه كان متعمداً للفطر، لم يكن ناسياً ولا جاهلا (10).


والمجامع الناسي فيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره،

ويذكر ثلاث روايات عنه:

إحداها: لا قضاء عليه ولا كفارة، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة، والأكثرين.

والثانية: عليه القضاء بلا كفارة، وهو قول مالك.
والثالثة: عليه الأمران، وهو المشهور عن أحمد.


والأول أظهر كما قد بسط في موضعه، فإنه قد ثبت بدلالة الكتاب والسنة أن من فعل محظوراً مخطئاً أو ناسياً لم يؤاخذه الله بذلك، وحينئذ يكون بمنزلة من لم يفعله، فلا يكون عليه إثم(11)، ، ومن لا إثم عليه، لم يكن عاصيا، ولا مرتكبا لما نهي عنه، وحينئذ فيكون قد فعل ما أمر به، ولم يفعل ما نهي عنه، ومثل هذا لا يبطل عبادته، إنما يبطل العبادات إذا لم يفعل ما أمر به، أو فعل ما حظر عليه.


وطرد هذا أن الحج لا يبطل بفعل شيء من المحظورات، لا ناسياً، ولا مخطئاً، لا الجماعِ ولا غيرِه، وهو أظهر قولي الشافعي.
وأما الكفارة والفدية فتلك وجبت ؛ لأنها بدل المتلف من جنس ما يجب ضمان المتلف بمثله، كما لو أتلفه صبي، أو مجنون، أو نائم ضمنه بذلك، وجزاء الصيد إذا وجب على الناسي والمخطئ فهو من هذا الباب، بمنزلة دية المقتول خطأ، والكفارة الواجبة بقتله خطأ بنص القرآن (12) وإجماع المسلمين.


وأما سائر المحظورات فليست من هذا الباب، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والترفه المنافي للتفث، كالطيب واللباس، ولهذا كانت فديتها من جنس فدية المحظورات، ليست بمنزلة الصيد المضمون بالبدل(13).
فأظهر الأقوال في الناسي والمخطئ إذا فعل محظورا أن لا يضمن من ذلك إلا الصيد.


وللناس فيه أقوال:

هذا أحدها، وهو قول أهل الظاهر.
والثاني: يضمن الجميع مع النسيان، كقول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره القاضي وأصحابه.
والثالث: يفرق بين ما فيه إتلاف كقتل الصيد والحلق والتقليم، وما ليس فيه إتلاف كالطيب واللباس، وهذا قول الشافعي وأحمد في الرواية الثانية، واختارها طائفة من أصحابه، وهذا القول أجود من غيره؛ لكن إزالة الشعر والظفر ملحق باللباس والطيب، لا بقتل الصيد، هذا أجود.


والرابع: أن قتل الصيد خطأ لا يضمنه، وهو رواية عن أحمد، فخرجوا عليه الشعر والظفر بطريق الأولى.
وكذلك طرد هذا أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو مخطئا فلا قضاء عليه، وهو قول طائفة من السلف والخلف.
ومنهم من يفطر الناسي والمخطئ كمالك.


وقال أبو حنيفة : هذا هو القياس، لكن خالفه لحديث أبي هريرة في الناسي.
ومنهم من قال: لا يُفْطِر الناسي، ويُفْطِر المخطئ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد، فأبو حنيفة جعل الناسي موضع استحسان، وأما أصحاب الشافعي وأحمد فقالوا: النسيان لا يفطر؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه، بخلاف الخطأ فإنه يمكنه أن لا يفطر حتى يتيقن غروب الشمس، وأن يمسك إذا شك في طلوع الفجر.


وهذا التفريق ضعيف، والأمر بالعكس، فإن السنة للصائم أن يعجل الفطر ويؤخر السحور، ومع الغيم المطبق لا يمكن اليقين الذي لا يقبل الشك إلا بعد أن يذهب وقت طويل جداً يُفَوِّت المغرب، ويفوت معه تعجيل الفطور، والمصلي مأمور بصلاة المغرب وتعجيلها، فإذا غلب على ظنه غروب الشمس أمر (14) بتأخير المغرب إلى حد اليقين، فربما يؤخرها حتى يغيب الشفق وهو لا يستيقن غروب الشمس، وقد جاء عن إبراهيم النخعي وغيره من السلف - وهو مذهب أبي حنيفة - أنهم كانوا يستحبون في الغيم تأخير المغرب وتعجيل العشاء، وتأخير الظهر وتقديم العصر، وقد نص على ذلك أحمد وغيره، وقد علل ذلك بعض أصحابه بالاحتياط لدخول الوقت، وليس كذلك؛ فإن هذا خلاف الاحتياط في وقت العصر والعشاء، وإنما سُنَّ ذلك لأن هاتين الصلاتين يجمع بينهما للعذر، وحال الغيم حال عذر، فأخرت الأولى من صلاتي الجمع،


وقدمت الثانية لمصلحتين:


إحداهما: التخفيف عن الناس حتى يصلوها مرة واحدة؛ لأجل خوف المطر، كالجمع بينهما مع المطر.
والثانية: أن يتيقن دخول وقت المغرب، وكذلك يجمع بين الظهر والعصر على أظهر القولين، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ويجمع بينهما للوحل الشديد والريح الشديدة الباردة ونحو ذلك في أظهر قولي العلماء، وهو قول مالك، وأظهر القولين في مذهب أحمد.


الثاني: أن الخطأ في تقديم العصر والعشاء أولى من الخطأ في تقديم الظهر والمغرب، فإن فعل هاتين قبل الوقت لا يجوز بحال، بخلاف تينك فإنه يجوز فعلهما في وقت الظهر والمغرب؛ لأن ذلك وقت لهما حال العذر، وحالُ الاشتباه حالُ عذرٍ، فكان الجمع بين الصلاتين مع الاشتباه أولى من الصلاة مع الشك.


وهذا فيه ما ذكره أصحاب المأخذ الأول من الاحتياط ؛ لكنه احتياط مع تيقن الصلاة في الوقت المشترك، ألا ترى أن الفجر لم يذكروا فيها هذا الاستحباب، ولا في العشاء والعصر؟ ولو كان لعلم خوف الصلاة قبل الوقت لطرد هذا في الفجر، ثم يطرد في العصر والعشاء.


وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتبكير بالعصر في يوم الغيم، فقال: « بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله».
فإن قيل: فإذا كان يستحب أن يؤخر المغرب مع الغيم فكذلك يؤخر الفطور.
قيل : إنما يستحب تأخيرها مع تقديم العشاء، بحيث يصليهما قبل مغيب الشفق، فأما تأخيرها إلى أن يخاف مغيب الشفق فلا يستحب، ولا يستحب تأخير الفُطور إلى هذه الغاية، ولهذا كان الجمع المشروع مع المطر هو جمع التقديم في وقت المغرب، ولا يستحب أن يؤخر بالناس المغرب إلى مغيب الشفق، بل هذا حرج عظيم على الناس، وإنما شرع الجمع لئلا يحرج المسلمون.


وأيضاً فليس التأخير والتقديم المستحب أن يفعلهما مقترنتين؛ بل أن يؤخر الظهر ويقدم العصر ولو كان بينهما فصل في الزمان، وكذلك في المغرب والعشاء بحيث يصلون الواحدة وينتظرون الأخرى، لا يحتاجون إلى ذهاب إلى البيوت ثم رجوع، وكذلك جواز الجمع لا يشترط له الموالاة في أصح القولين، كما قد ذكرناه في غير هذا الموضع (15).


وأيضاً فقد ثبت في «صحيح البخاري» عن أسماء بنت أبي بكر قالت: أفطرنا يوما من رمضان في غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم طلعت الشمس.


وهذا يدل على شيئين: على أنه لا يستحب مع الغيم التأخير إلى أن يتيقن الغروب؛ فإنهم لم يفعلوا ذلك ولم يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحابة مع نبيهم أعلم وأطوع لله ولرسوله ممن جاء بعدهم؛ والثاني: أنه لا يجب القضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو أمرهم بالقضاء لشاع ذلك، كما نقل فطرهم، فلما لم ينقل ذلك دل على أنه لم يأمرهم به (16).
فإن قيل : فقد قيل لهشام بن عروة : أمروا بالقضاء ؟ قال : أو بد من القضاء ؟


قيل : هشام قال ذلك برأيه، لم يرو ذلك في الحديث، ويدل على أنه لم يكن عنده بذلك علم: أن معمرا روى عنه قال: سمعت هشاما قال : لا أدري أقضوا أم لا ؟ ذكر هذا وهذا عنه البخاري، والحديث رواه عن أمه فاطمة بنت المنذر عن أسماء(17).


وقد نقل هشام عن أبيه عروة أنهم لم يؤمروا بالقضاء، وعروة أعلم من ابنه (18)، وهذا قول إسحاق بن راهويه، وهو قرين أحمد بن حنبل، ويوافقه في المذهب: أصولِه وفروعِه، وقولهما كثيرا ما يجمع بينه، والكوسج سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك حرب الكرماني سأل مسائله لأحمد وإسحاق، وكذلك غيرهما ؛ ولهذا يجمع الترمذي قول أحمد وإسحاق، فإنه روى قولهما من مسائل الكوسج، وكذلك أبو زرعة وأبو حاتم وابن قتيبة، وغير هؤلاء من أئمة السلف والسنة والحديث، كانوا يتفقهون على مذهب أحمد وإسحاق، يقدمون قولهما على أقوال غيرهما، وأئمة الحديث كالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم هم أيضا من أتباعهما، وممن يأخذ العلم والفقه عنهما، وداود من أصحاب إسحاق.


وقد كان أحمد بن حنبل إذا سئل عن إسحاق يقول : أنا أسأل عن إسحاق ؟! إسحاق يسأل عني (19).
والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن نصر المروزي وداود بن علي ونحو هؤلاء كلهم فقهاء الحديث رضي الله عنهم أجمعين.


وأيضاً فإن الله قال في كتابه : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} وهذه الآية مع الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم تبين أنه مأمور بالأكل إلى أن يظهر الفجر، فهو مع الشك في طلوعه مأمور بالأكل، كما قد بسط في موضعه (20).


-------------------------



(1) [النسخة التي قرئت في الدرس هي المطبوعة في «مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية», جمع ابن قاسم, وكان مع الشيخ النسخة المطبوعة في المكتب الإسلامي, وينبه رحمه الله على موضع الاختلاف بينهما إن وجد, والمتن المعتمد في هذه الطبعة هو الأول, وتم وضع الزيادات من نسخة المكتب الإسلامي بين معكوفتين].



(2) قوله: «الصيام هو الإمساك عن الأكل والشرب..» لكن لابد أن يضاف إلى هذا التعبد لله بالإمساك عن المفطرات، حتى يكون عبادة؛ لأن الإمساك عن المفطرات له أسباب متعددة، فإذا كان ذلك لغرض التعبد لله كان صياما شرعا، وكما قال الشيخ -رحمه الله-: الأشياء المفطرة بالنص والإجماع هي هذه الثلاثة: الأكل، والشرب، والجماع، وما عدا ذلك فإما ثابت بأقيسة، وإما ثابت بنص مختلف في صحته، أو في دلالته، لكن هذه الثلاثة مجمع عليها.


والصيام كان معروفا في الجاهلية، وفي الشرائع الأخرى، كما قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة: 183]. وكما قالت عائشة -رضي الله عنها- : كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية [أخرجه البخاري في الصوم/باب صيام يوم عاشوراء (2002)] .


فلم تأت الشريعة الإسلامية بجديد إلا في بيان الحكمة من الصوم، وهي أنه ليس الحكمة من الصوم أن يمنع الإنسان من فضل الله -عز وجل- من شراب وطعام ونكاح، ولكن الحكمة شيء فوق ذلك، وهو تقوى الله -عز وجل-، كما قال الله تعالى حين ذكر فرض الصيام : {لعلكم تتقون}، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» [أخرجه البخاري في الصيام/باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903)].


فالحاجة هنا: بمعنى الإرادة، يعني أنه ليس لله إرادة أن يدع الإنسان طعامه وشرابه بدون أن يدع قول الزور والعمل به والجهل، وإن قوما يمسكون عن ملاذهم، ويتقون الله -عز وجل- شهرا كاملا، لابد أن تتغير مناهجهم؛ ولهذا كان شهر الصيام -لمن وفق- تربية عظيمة للنفس، بالصبر، والتحمل، والتقوى، وكثرة الطاعات.



وفي قوله عز وجل: { فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم } الإشارة إلى معنى نفيس، وهو أن لا يريد الإنسان بالجماع مجرد نيل الشهوة، بل ابتغاء ما كتب الله له، يعني من الذرية، وهو إذا نوى هذا حصل له هذا وهذا، فلا يفوته إذا نوى ابتغاء ما كتبه الله له أن لا يكون له ذرية، بل يحصل على هذا وعلى هذا، ولهذا قال بعض المفسرين في قوله: {ما كتب الله} أي: بطلب الولد.


(3) يعني: إذا أدخل الإنسان الشراب من غير الفم ففيه خلاف بين العلماء، ولكن ما دل عليه الحديث يجب أن يكون معتبرا، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إلا أن تكون صائما» [أخرجه أبو داود في الطهارة /باب في الاستنثار (142)؛ والنسائي في الطهارة/باب المبالغة في الاستنشاق (1/66)؛ والترمذي في الصوم/باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (788)؛ وصححه ابن خزيمة (150)؛ وابن حبان (1087)]. ولا نعلم فائدة لهذا الاستثناء إلا خوف أن ينزل الماء من الأنف إلى المعدة، وإلا لا يكون للاستثناء فائدة، فالصواب ما دل عليه الحديث.


لكن لو جاء مجادل وقال: المسألة ليست إجماعية، وأنا لا أعتبر إلا ما ثبت بالنص والإجماع فقط،ولا أعترف بما ثبت قياسا.


قلنا له: الحمد لله، هذا ثابت بالنص؛ لأننا لا نعلم فائدة لاستثناء الصائم إلا خوف أن ينزل الماء من أنفه إلى معدته فيفطر.

(4) المؤلف -رحمه الله- سيبين ثبوت هذا الحديث أو عدم ثبوته، لكن في قوله «وإن استقاء فليقض» [أخرجه أحمد (2/498)؛ وأبو داود في الصيام/باب الصائم يتقيء عمدا (2380)؛ والترمذي في الصوم/باب ما جاء فيمن استقاء عمدا (720)؛ والنسائي في «الكبرى» (3117)؛ وابن ماجه في الصيام/باب ما جاء في الصائم يقيء (1676)؛ وصححه ابن خزيمة (1960)؛ وابن حبان (3518)؛ والحاكم (1/427)] فائدة، وهي: أن الإنسان إذا أفطر متعمدا فعليه القضاء،


خلافا لما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، حيث قال: إن من تعمد الإفطار فلا يقضي، والصواب : أنه يقضي، بخلاف من لم يصم اليوم من أوله، فهذا لا يقضي، والفرق بينهما ظاهر؛ لأن الأول شرع في العبادة فلزمته بشروعه فيها، والتزمها في أول نهاره، والثاني لم يلتزمها إطلاقا، فإذا قضاها بعد فوات الوقت فقد فعل فعلا ليس عليه أمر الله ورسوله، وقد تعدى حدود الله؛ لأن الله تعالى حد الصوم بشهر معين، وفي زمن معين من هذا الشهر، فإذا لم يقم بالصوم في هذا فقد تعدى حدود الله، وقد قال الله تعالى: { ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون } [البقرة: 229]، والله لا يقبل من ظالم .


فهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:

القول الأول: قول الجمهور أنه يقضي، سواء صام ثم أفطر عمدا، أو أنه ترك الصيام من الأصل.

القول الثاني: أنه لا يقضي، سواء ترك الصيام من الأصل، أو تعمد الإفطار.

القول الثالث: التفصيل، بأنه إن ترك الصيام ثم صامه بعد رمضان فإنه لا يقضيه ؛ لأنه لن ينتفع به، وأما إذا صام ثم أفطر عمدا وجب عليه القضاء، وهذا هو الراجح، لحديث أبي هريرة: «وإن استقاء فليقض» يعني: من استقاء عمدا فليقض.

مسألة: لو أن الإنسان أحس بالقيء، فهل يجب عليه أن يمنعه ؟

الجواب: لا يجب، كما لو فكر وأحس بانتقال المني، فإنه لا يلزمه أن يحجزه ؛ لما في ذلك من الضرر؛ ولأنه لم يتعمد.

مسألة أخرى: لو أنه أحس بهيجان المعدة ثم استقاء، أيفطر أو لا؟

الجواب: نعم يفطر؛ لأنه تعمد القيء، والمعدة قد تهيج أحيانا، ويتهيأ الإنسان للقيء، ولكن تسكن ولا يحصل شيء.


(5) وهذا هو الصحيح أنه لا كفارة إلا بالجماع، وذلك أن الأصل براءة الذمة، ولا يمكن أن نلزم عباد الله بشيء دون دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع ؛ لأننا مسئولون عن إيجاب ما لا يجب، كما أننا مسئولون عن تحريم ما لم يحرم، فالصواب: أن الإنسان إذا تعمد الفطر في رمضان، يعني: صام ثم أفطر عمدا أنه آثم، ويلزمه الإمساك بقية اليوم، وعليه القضاء، وأما الكفارة فلا تجب إلا بالجماع.


(6) قول المؤلف: « إذا أراد بالوضوء الوضوء الشرعي» : أفاد بأن هناك وضوءا ليس شرعيا، وهو الوضوء اللغوي، وهو النظافة، ولكن لدينا قاعدة مهمة، وهي أن ألفاظ الشرع تحمل على الحقائق الشرعية، والحقيقة الشرعية للوضوء أنه التطهر المعروف، ولكن يمنع القول بوجوب الوضوء من القيء ما ذكره الشيخ -رحمه الله- أن هذا فعل مجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.


(7) ولهذا عندهم قاعدة، يقولون : لا وضوء مما دخل، بل مما خرج، ولا فطر مما خرج، بل مما دخل، لكن لا أصل لهذه القاعدة.


(8) كلام الشيخ -رحمه الله- فيه نظر، فحصره التقيؤ بكونه دواءا، أو أكل ما فيه شبهة فيه نظر، فقد يتقيأ الإنسان – مثلا - لثقل بطنه، أو للتداوي بالتقيؤ بدون ضرورة، لكن ما قلنا أقرب للأصول، أنه إذا أفسد صومه بالقيء أو غيره، وجب عليه القضاء؛ لأنه بشروعه فيه صار كالناذر له؛ ولهذا سمى الله تعالى مناسك الحج نذورا، ومدح الذين يوفون بنذورهم، وليس هذا النذر الذي امتدح الله فاعله هو النذر المعروف، كما توهمه بعض الناس، بل إن قوله- تعالى-: { يوفون بالنذر} [الإنسان:7]، يعني بالعبادات الواجبة، وكذلك قوله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج:29] المراد: المناسك .


(9) الشيخ رحمه الله يريد أن يدفع الأحاديث التي وردت في قضاء من تقيأ عمدا بأنه إنما يتقيأ غالبا للتداوي أو لوجود شبهة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، مع أن أبا بكر رضي الله عنه لا نعلم أنه كان صائما صوما واجبا، لكن هل استمر في صومه أو أفطر؟ لا ندري، الله أعلم عنه، ثم أتى بحديث آخر أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر المجامع أن يقضي فأجاب عنه.


(10) أما كونه لم يكن ناسيا أو جاهلا فظاهر من قوله: «هلكت» فإن هذا يدل على أنه ليس بجاهل ولا ناس، وأما كونه لم يأمره بالقضاء فقد تعقبه الشيخ الألباني في قوله: «ولم يذكر أحد أنه أمره بالقضاء» فقال: (فيه نظر، فقد ذكره أكثر من واحد، وأصل الحديث في «الصحيحين» ... ثم ساقه، ثم قال: ورواه البيهقي من طريق أبي مروان، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: أخبرنا الليث بن سعد، عن الزهري بإسناده هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اقض يوما مكانه». قال البيهقي: وكذلك روي عن عبدالعزيز الدراوردي ... إلى أن قال: ولهذه الروايات شاهد من مرسل سعيد بن المسيب عند مالك، ومن مرسل نافع بن جبير ومحمد بن كعب، ذكرهما الحافظ في «الفتح»، ثم قال: «وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا») ا.هـ كلام الشيخ الألباني.


(11) الحقيقة أن هذا هو الفقه العظيم، إذا كان الله لم يؤاخذه فمعناه أنه بمنزلة من لم يفعله، فما دام معفوا عنه فكأنه لم يفعله، وإذا لم يفعله هل يجب عليه قضاء أو كفارة ؟ قلنا : لا يجب قضاء ولا كفارة، وكذلك يقال في جميع المحظورات في العبادات، ففي الصلاة إذا تكلم جاهلا أو ناسيا لم يؤاخذ، فيكون بمنزلة من لم يتكلم، وفي الصيام إذا أكل أو شرب ناسيا لم يؤاخذ، فيكون بمنزلة من لم يأكل ويشرب، وفي الحج إذا فعل محظورا ناسيا أو جاهلا فيكون غير مؤاخذ، فهو بمنزلة من لم يفعله، وهذا الفقه من شيخ الإسلام - رحمه الله - عظيم، فكل ما لم تؤاخذ عليه فكأنه معدوم، إلا في شيء واحد وهو المأمورات، وذلك إذا تركت شيئا مأمورا فالعبادة ناقصة، وما أتيت بها،


فلابد أن تأتي بها على ما أمرت ؛ ولهذا لم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الجاهل الذي كان يصلي بلا طمأنينة، بل قال له: «ارجع فصل فإنك لم تصل» [أخرجه البخاري في صفة الصلاة/باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت (724)؛ ومسلم في الصلاة/باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها (397)] ؛ لأنه ترك واجبا، لكن لم يأمره بقضاء ما سبق من الصلوات؛ لأنه لم تبلغه الشريعة، ولا تلزم الشرائع إلا بعد العلم.



(12) قوله: «المقتول» يعني: الإنسان، فإن القرآن نص نصا صريحا بوجوب الكفارة في قتل الخطأ، وكلامه هنا يظهر منه أنه يرى وجوب الجزاء في قتل الصيد على الجاهل والناسي، لكن كلام الفقهاء عنه، ولاسيما تلميذه ابن مفلح - رحمه الله - فإنه نقل عنه في «الفروع» أنه يقول: إنه لا يجب في قتل الصيد خطأ أو نسيانا جزاء، وهذا القول هو الراجح، وهو نص القرآن، قال الله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة: 95]، ومتعمدا مشتق، وهو وصف مناسب للحكم،


فوجب أن يختلف الحكم بفقده، وأنه إذا قتله غير متعمد فليس عليه جزاء، وهذا هو الصواب، وهو أيضا مقتضى طرد القاعدة أن جميع المحظورات إذا فعلها جاهلا أو ناسيا فليس فيها شيء، ولا يصح قياس هذا على إتلاف الصبي لأموال بني آدم، ولا على إتلاف الجاهل والناسي لأموال بني آدم؛ لأن الصيد في الإحرام، إنما حرم لحق الله عز وجل وليس لحق الإنسان، أو لأنه ملك لفلان أو فلان، وعلى هذا فإذا قتل المحرم صيدا ناسيا أو جاهلا وهو مملوك لفلان، فعليه مثله إن أمكن أو قيمته.



(13) خلافا للمذهب في هذه المسألة: أن تقليم الأظفار وقص الشارب كالصيد، يعني: لا يسقط بالنسيان والجهل، والصواب خلاف ذلك، وأنها ليست من باب المتلفات؛ لأنه لا قيمة للظفر أو الشعر إذا قصه المحرم.


(14) لعلها: (وأُمر) أي: وقلنا بأمره بذلك.

(15) الموالاة والترتيب في الجمع، فالترتيب هو أن يبدأ بالأولى قبل الثانية، والموالاة أن لا يفصل بينهما بفاصل كثير، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يرى أن الجمع معناه ضم أحد الوقتين إلى الآخر، وأنه لا تشترط الموالاة، لا في جمع التقديم، ولا في جمع التأخير، والمشهور من المذهب أنه تشترط الموالاة إذا كان الجمع تقديما، وأما التأخير فلا، والاحتياط بلا شك أن يوالي بينهما في التقديم والتأخير، لكن كون ذلك شرطا في جمع التقديم فيه شيء من القلق، فلا يطمئن إليه الإنسان كثيرا، أما الترتيب فلا بد منه بأن يبدأ بالأولى قبل الثانية.


(16) وعلى هذا فإذا كان يوم غيم فلا نقول للناس: انتظروا حتى تتيقنوا الغروب؛ لأنه لو كان الانتظار حتى يتيقنوا الغروب واجبا لتأخر الصحابة رضي الله عنهم حتى يتيقنوا الغروب، وهذا قد يكون أمرا يستدعي وقتا طويلا، خصوصا مع كثافة الغيم،

فإنه قد لا يتفرق إلا بعد مدة طويلة، فيفوت تعجيل الفطر الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» [أخرجه البخاري في الصوم/باب تعجيل الإفطار (1957)؛ ومسلم في الصيام/باب فضل السحور (1098)]، هذا إذا لم يكن مع الإنسان ساعات، أما الآن -وقد جاءت الساعات- فالانتظار إن قلنا به مع الغيم فلن يعدو أن يكون دقيقتين أو ثلاث دقائق، يعني: لا يتأخر كثيرا، لكن في عهد المؤلف وما حوله ليس هناك ساعات تحدد الوقت .



وأما الأمر الثاني – وهو المهم-: أنه لا يجب القضاء بناءا على القاعدة، وهي: العذر بالجهل والنسيان والإكراه، والإنسان مأمور بأن يفطر ويعجل الفطر، فإذا فعل ما أمر به ثم تبين الأمر بخلاف ذلك، فإنه لا يُلزم بالقضاء، وكيف يُلزم بالقضاء من أطاع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟!


(17) ومعلوم أنه حتى اللفظ الأول لا يدل على أنه رفع الحديث، بل على أنه قاله تفقها لقوله «أو بد من القضاء؟» [أخرجه البخاري في الصوم/باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس (1959)] كأنه يقول: لابد من القضاء، وهذا قاله تفقها من عنده -رحمه الله-، لكن اللفظ الثاني: «لا أدري أقضى أم لا؟» [نفس الموضع السابق] أوضح من اللفظ الأول، مع أن الأول عند التأمل يدل على أنه قاله تفقها من عنده.


(18) إذن يكون أبو هشام - وهو: عروة بن الزبير، أحد الفقهاء السبعة التابعي- قال: إنه لم يأمر بالقضاء، وعلى هذا فيكون المعتمد عدم أمرهم بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك، إذ لا يمكن أن يؤخر البلاغ مع حاجة الناس إليه، ثم لو أمرهم بالقضاء لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم بالقضاء صار القضاء من شريعة الله، ولا بد أن تبقى إلى أن يأذن الله تعالى بفناء أهل الأرض، فكلما تأملت الحديث وجدت أنه كالمُتَيْقَن أنهم لم يقضوا.


(19) هذا تواضع عظيم منه رحمه الله, ومن عرف قدر نفسه, عرف غيره قدره, والله المستعان.


(20) وعند المتعمقين يقولون إذا شككت في الفجر وجب عليك الإمساك، ولهذا عندهم مدفع إمساك ومدفع فجر، وهذا لاشك أنه من التعمق المذموم؛ لأن الرب عز وجل هو الذي يتعبد عباده، وقد قال سبحانه: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة: 187]، ولم يقل: حتى يطلع، بل حتى يتبين، فأنت مأمور أن تأكل وتشرب ما دمت شاكا في طلوع الفجر حتى يتبين لك، فإذا تبين أمسك.


مسألة: لو أنه تبين للإنسان الفجر، وهو يجامع زوجته ماذا يفعل؟

الجواب: قال الفقهاء: إن بقي فعليه الكفارة، وإن نزع فعليه الكفارة؛ لأن النزع جماع عندهم، فماذا يصنع؟! نقول: بل ينزع فورا ولا شيء عليه؛ لأن هذا عمل للتخلص من الإثم، وفرق بين الإنسان الذي يتخلص من الإثم، والذي يريد الوقوع في الإثم، ونظير ذلك لو أن المحرم أصابه طيب في ثوبه أو في بدنه، فإن مس المحرم للطيب محرم، لكن لو أراد أن يغسله فلا نقول له: حرام عليك أن تغسله؛ لأن هذا للتخلص منه، ونظير ذلك أيضا الرجل يستنجي بالماء ويباشر النجاسة - البول أو الغائط- بيده، ومباشرة النجاسة منهي عنها، فلا نقول: لا تفعل، بل افعل؛ لأنه يريد التخلص، ونظير ذلك الرجل يغصب أرضا، ثم يمن الله عليه بالتوبة وهو فيها، ويجمع متاعه وما يتعلق به؛ ليخرج منها فلا نقول: إنه آثم؛ لأنه من التخلص، ويجب التنبه لهذه الفائدة، وهو أن من باشر المحرم للتخلص منه، فإن ذلك أمر واجب عليه، ولا يدخل في الحرام.


وفهمنا من كلام الشيخ رحمه الله أنه يأكل ويشرب حتى مع الشك في طلوع الفجر، وأنه لا أثم عليه، وأن هذا مقتضى قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم}، وأنه متى غلب على ظنه أن الشمس غربت فله أن يفطر؛ لفعل الصحابة رضوان الله عليهم في عهد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، لكن مع الشك في غروب الشمس لا يجوز الفطر، بخلاف الشك في طلوع الفجر، والفرق ظاهر؛ لأن الشك في طلوع الفجر يعارضه أن الأصل بقاء الليل، والشك في غروب الشمس يعارضه أن الأصل بقاء النهار، لكن مع غلبة الظن يعمل بغلبة ظنه، ويأكل ويشرب فإن تبين له بعد أن الشمس لم تغرب أمسك، وصح صومه.




المصدر :

http://www.ibnothaimeen.com/all/book...le_18283.shtml









التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 01-05-2015 الساعة 08:09AM
رد مع اقتباس