(41) وأن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله :
لما بين الشيخ –رحمه الله- في أول كلامه ما يجب من معرفة الله سبحانه، واعتقاد أنه الرب المستحق للعبادة دون ما سواه، وأنه متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال التي هو متصف بها أزلاً وأبداً، لما بين هذا ووضحه، انتقل إلى ما يجب اعتقاده في الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: "وإن محمداً عبده المصطفى.." هذا عطف على أول الكلام: "نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله إن الله واحد لا شريك له…." إلى آخره، ثم قال: "وإن محمداً…." إلى آخره، فلابد من اعتقاد هذا، كما نشهد لله بالألوهية، كذلك نشهد للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ولذلك فالشهادتان دائماً متلازمتان.
"وأن محمداً" هذا اسمه عليه الصلاة والسلام المشهور به، وقد جاء في القرآن: (ما كان محمدٌ أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله) [الأحزاب:40]، وفي قوله: (وآمنوا بما نُزل على محمد وهو الحق من ربهم كفّر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم) [محمد :2]، وفي قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه) [الفتح:29]، وجاء أحمد في القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: (يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [الصف:6].
وله أسماء جاءت في السنة، ذكرها ابن القيم في كتابه: "جلاء الأفهام".
والتعرف على الرسول صلى الله عليه وسلم من واجبات الدين ومن أصول الإسلام، وقد قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في "ثلاثة الأصول" : "الأصل الأول: معرفة الله، والثاني: معرفة نبيه، والثالث: معرفة دين الإسلام بالأدلة"، كما يجب عليك معرفة الله، كذلك يجب عليك معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. هذه أصول ثلاثة، وهي التي يسأل عنها الميت إذا وضع في قبره.
وقوله: (عبده) فهو عبدالله عز وجل، وليس له من الألوهية شيء، ولا من الربوبية شيء، وإنما هو عبد الله ورسوله، مؤتمر بأوامره، منتهٍ عن نواهيه، مبلغ عن الله عز وجل، وهذا فيه رد على الغلو فيه عليه الصلاة والسلام؛ لأن هناك من يغلون في الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجعلون له شيئاً من الربوبية أو الألوهية، ويدعونه مع الله، وهذا غلو –والعياذ بالله- كما غلت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم، وقالوا إنه ابن الله أو الله أو ثالث ثلاثة. ففي قوله: (عبده المصطفى) فيه ردٌ للغلو، فهو عبد، وكل من في الأرض والسموات عبيد لله عز وجل، قال سبحانه (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً) [مريم:93]، فالملائكة عبيد (بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) [الأنبيا:26،27]، والأنبياء والرسل عبيد كما قال سبحانه في نوح عليه السلام: (كان عبداً شكوراً) [الإسراء:3]، وقال عز وجل: (فكذبوا عبدنا) [القمر:9]، وقال في داود: (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) [ص:17]، وقال في سليمان: (نعم العبد إنه أواب) [ص:30]، وقال في أيوب: (واذكر عبدنا أيوب) [ص:41]، وقال في عيسى : (إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل) [الزخرف: 59]، فإذا كان الأنبياء والرسل والملائكة عبيد لله، وهم أشرف الخلق، فغيرهم من الأولياء والصالحين من باب أولى.
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأنبياء، وسماه الله عبداً في قوله: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) [البقرة: 23] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) [الفرقان:1] (سبحان الذي أسرى بعبده) [الإسراء:1]، ومقام العبودية هو أعلى المقامات، ولا شيء أشرف من العبودية لله عز وجل.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله"( ) .
ومعنى المصطفى : المختار، من الاصطفاء، وهو الاختيار، قال تعالى: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار*إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار*وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار)[ص:45،47] المصطفين : جمع مصطفى، وهو المختار، أصله مصتفى، ثم أُبدلت التاء طاء فصارت مصطفى؛ ليسهل النطق بها.
فالمصطفى هو المختار؛ لأن الله سبحانه اختار محمداً عليه الصلاة والسلام للرسالة من بين قومه، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فلا يختار إلا من يعلم أنه يستحق الاختيار، وأنه يقوم بالمهمة؛ لأن هذه المهمة صعبة وعظيمة، فلا يختار الله إلا من هو لها أهل، قال سبحانه : (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام:124]. و (المجتبى) بمعنى المصطفى.
والنبي : من أوحى إليه الله بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أشهر ما قيل في الفرق بين النبي والرسول، ومعنى: أمر بتبليغه، أي : أمر بإلزام الناس وأن يقاتلهم على ما جاء به.
وكذلك النبي، يُوحى إليه ويدعو إلى الله عز وجل، ولكن يتبع من قبله من الأنبياء ويمشي على طريق من قبله، ولا ينفرد بشريعة خاصة، مثل أنبياء بني إسرائيل، جاءوا بالتوراة ودعوا إلى التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام.
و (المرتضى) بمعنى المجتبى والمصطفى، فالمرتضى بمعنى: أن الله ارتضاه.
(42) وأنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين وحبيب رب العالمين:
هذه من صفاته عليه الصلاة والسلام.
خاتم الأنبياء، ومعنى (خاتم) الذي لا يأتي بعده نبي، وختام الشيء هو: الذي يُجعل عليه حتى لا يزاد عليه ولا ينقص منه، فالله ختم الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، قال جل في علاه: (ما كان محمداً أباً أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب:40]، فلا حاجة لمجيء نبي بعده؛ لأن القرآن موجود، والسنة النبوية موجودة، والعلماء الربانيون موجودون، يدعون إلى الله ويبصرون الناس؛ فدين محمد باقٍ إلى قيام الساعة لا يبدل ولا ينسخ ولا يغير ؛ لأن الله سبحانه جعله صالحاً لكل زمان ولكل مكان، أما شرائع الأنبياء السابقين فتكون مؤقتة لأممهم في فترة من الفترات، ثم ينسخ الله تلك الشريعة بشريعة أخرى تتناسب مع الأمة الأخرى (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) [المائدة:48]. كما قال تعالى: (لكل أجل كتاب) أي لكل كتاب أجل.
فدين الإسلام كامل لا يحتاج بعد محمد صلى الله عليه وسلم إلى رسول، والعلماء ورثة الأنبياء، فمن اعتقد أنه يأتي بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبي فهو كافر بالله خارج من الملة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي كذبة يدعون النبوة من بعده، قال عليه الصلاة والسلام: "سيأتي بعدي كذابون ثلاثون، كلهم يدعي أنه نبي، وأنا خاتم الأنبياء لا نبي بعدي"( ) .
فمن ادعى النبوة أو ادعيت له النبوة ومن اتبعهم، فكلهم كفرة، وقد قاتلهم المسلمون وكفّروهم، وآخر من ادعى النبوة في الوقت الحاضر: القادياني الباكستاني الذي ادّعى النبوة له أتباعه القاديانية، ويُسمون بالأحمدية نسبة إلى اسمه؛ لأن اسمه أحمد القادياني، وقد كفره العلماء وطردوه من البلاد الإسلامية، وكفَّروا أتباعه؛ لأن هذا تكذيب لله ولرسوله، وتكفيرهم بإجماع المسلمين، لم يخالف في هذا أحد.
فلابد للمسلم أن يعتقد أنه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء والمرسلين، وإمام الأتقياء؛ يعني القدوة الوحيد للأتقياء الذين يتقون الله عز وجل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) [الأحزاب:21]
أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فيقتدى به إن كان يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما من خالف الرسول عليه الصلاة والسلام فلا يجوز الاقتداء به: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) [آل عمران:31]، فلا طريق إلى الله إلا باتباع الرسول عليه الصلاة والسلام والاقتداء به.
"وسيد المرسلين" هو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"( ) أخبر الأمة بذلك من باب الشكر لله عز وجل، ولتشكر الأمة ربها عز وجل على هذه النعمة: أن جعل رسولها سيد الرسل.
و"سيد" معناه: المقدم والإمام، فهو أفضل الرسل عليه الصلاة والسلام، وإمامهم ومقدمهم .
و"حبيب رب العالمين" هذه العبارة فيها مؤاخذة؛ لأنه لا يكفي قوله: حبيب، بل هو خليل رب العالمين؛ والخلة أفضل من مطلق المحبة؛ فالمحبة درجات، أعلاها الخلة، وهي خالص المحبة، ولم تحصل هذه المرتبة إلا لاثنين من الخلق إبراهيم عليه الصلاة والسلام (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النسا:125]، ونبينا عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر بذلك فقال: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"( ). فلا يقال: حبيب الله؛ لأن هذا يصلح لكل مؤمن، فلا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم في هذا ميزة، أما الخلة فلا أحد يلحقه فيها .
(43) وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى:
هذا سبق في معنى أنه خاتم النبيين، فكل دعوى للنبوة بعده فباطله وكفر؛ لأنه لا يأتي بعد نبينا عليه الصلاة والسلام نبي، وعيسى عليه الصلاة والسلام لما ينـزل آخر الزمان فإنه لا يأتي على أنه نبي ورسول أو يأتي بشريعة جديدة، إنما يأتي على أنه مجدد لدين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحكم بالشريعة الإسلامية.
(44) وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى، وبالنور والضياء:
كذلك، هذا ما يجب اعتقاده في النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكفي أن نعتقد أنه رسول الله فقط، بل أنه رسول إلى الناس عامة، بل إلى الجن والإنس، قال سبحانه: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، وقال له: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) [الأعراف: 158] فرسالته إلى الناس عامة، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، فهو رسول للناس عامة، ووجبت طاعته على جميع الخلق، عربهم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، وإنسهم وجنهم، فكل من بلغته دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام وجب أن يطيعه وأن يتبعه، فمن أقر أنه رسول الله للعرب خاصة، كما يقوله طائفة من النصارى، أنه رسول الله للعرب خاصة، وينكرون نبوته لغيرهم، فهذا كفر بالله عز وجل، وتكذيب لله عز وجل ولرسوله، فالله يقول: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) [سبأ:28]، ويقول سبحانه : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) [الفرقان:1] فرسالته عالمية .
وقال عليه الصلاة والسلام: "كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" ( ). وكاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، فدل على أنه مرسل إلى أهل الأرض كلهم، وأمر بالجهاد حتى يدخل الناس في الإسلام، فدل على عموم رسالته عليه الصلاة والسلام، فيجب اعتقاد هذا.
فتجب في حقه هذه الاعتقادات:
أولاً: أنه عبد الله ورسوله.
ثانياً: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده .
ثالثاً: أن رسالته عامة للإنس والجن.
ودليل عمومها للإنس: كما سبق من الآيات ومكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأما عمومها للجن: فلقوله تعالى : (وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا انصتوا فلما قُضي ولوا إلى قومهم منذرين*قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم*يا قومنا أجيبوا داعي الله) [الأحقاف:29،31] يعنون : محمداً عليه الصلاة والسلام.
وفي قوله تعالى : (قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرءاناً عجباً*يهدي إلى الرشد فآمنا به) [الجن:1،2]، فدل على عموم رسالته للجن، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث لأهل الأرض كلهم، إنسهم وجنهم، فمن آمن به دخل الجنة، ومن لم يؤمن به دخل النار، من الإنس والجن. وقوله: (وبالنور والضياء) هما بمعنى واحد وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم بهما. قال تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً*وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً) [الأحزاب: 45،46].
(45) وأن القرآن كلام الله :
بعد أن تؤمن بالله عز وجل، وتؤمن برسوله صلى الله عليه وسلم، تؤمن أن القرآن كلام الله؛ لأن هذا هو الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله عليه القرآن، وهذا القرآن ليس من كلام محمد صلى الله عليه وسلم ولا من كلام جبريل، إنما هو كلام الله عز وجل، تكلم الله به، وتلقاه جبريل من الله، وتلقاه النبي عليه الصلاة والسلام من جبريل عليه السلام، وتلقته الأمة من النبي صلى الله عليه وسلم .
فهو كلام الله، منه بدأ سبحانه، لم يأخذه جبريل من اللوح المحفوظ كما يقوله أهل الضلال، ولم يكن من كلام جبريل ولا محمد، إنما هو من كلام رب العالمين. وأما جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام فهما مبلغان عن الله عز وجل، فالكلام إنما يقال ويضاف لمن قاله مبتدأ، لا من قاله مبلغاً ومؤدياً.
فمن قال: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ، أو : إن الله خلقه في شيء وأخذه جبريل من ذلك الشيء، فهو كافر بالله عز وجل كفراً مخرجاً من الملة، كما تقوله الجهمية والمعتزلة ومن نحا نحوهم، فهو كلام الله، حروفه ومعانيه، تكلم الله به كيف شاء، فنحن نصف الله بأنه يتكلم، والكلام من صفاته الفعلية، والكيفية التي تكلم بها نقول: الله أعلم بها، هذه كسائر صفاته، نؤمن بها ولا نعلم كيفيتها، فالمعنى معروف، وأما الكيفية فهي مجهولة لنا.
(46) منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً:
أي : أن القرآن نزل من الله، تكلم الله به وأنزله، لم ينـزل من غيره ولم يبدأ من غيره، ليس كما يقولون: إنه بدأ من جبريل، أو من اللوح، أو من الهواء، إنما بدايته من الله، وسمعه جبريل وبلغه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحياً، والنبي عليه الصلاة والسلام بلغه للناس، ولو كان هذا القرآن من كلام البشر لاستطاع أحد من الناس أن يأتي بسورة من مثله، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه من كلام الله عز وجل، قال تعالى : (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين) [البقرة:23]، وقال سبحانه وتعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات) [هود: 13] فعجزهم الله بذلك، مع أنهم عرب فصحاء، والقرآن بلغة العرب، وبالحروف التي يتكلمون بها، وهم يحرصون على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولو كان باستطاعتهم أن يعارضوا هذا القرآن، لما ادخروا وسعاً في ذلك، فلما عجزوا عن ذلك دل على أنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
(47) وصدّقه المؤمنون على ذلك حقاً:
فالمؤمنون بالله ورسوله يصدقون بأن القرآن كلام الله عز وجل، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هو مبلغ عن الله.
وأما قول الله عز وجل: (إنه لقول رسول كريم*ذي قوةٍ عند ذي العرش مكين) [التكوير: 19،20] فالمراد بإسناده إلى جبريل هو من باب التبليغ؛ لأنه لا يمكن أن يكون القرآن من كلام الله ومن كلام جبريل، الكلام لا يكون إلا من واحد، فلا يمكن وصفه بأنه كلام أكثر من واحد، ونسبته إلى الله حقيقية، وأما نسبته لجبريل فمن باب التبليغ. وفي الآية الأخرى: (إنه لقول رسول كريم*وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون) [الحاقة:40،41] يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم، فالإضافة إليه إضافة تبليغ. وقد أضافة سبحانه تارة إلى نفسه وتارة إلى جبريل وتارة إلى محمداً، والكلام الواحد لا يمكن أن يتكلم به أكثر من واحد. فتكون إضافة إلى الله إضافة ابتداء وهو كلامه وإضافته إلى جبريل ومحمد إضافة تبليغ.
(48) وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة:
ليس بالمجاز كما يقوله الجهمية والمعتزلة، هم يقولون: كلام الله، ولكن نسبته إلى الله مجاز؛ لأن الله خالقه، فإضافته إلى الله إضافة مخلوق إلى خالقه.
فنقول: كذبتم؛ لأن الإضافة إلى الله على نوعين: إضافة معانٍ، وإضافة أعيان:
النوع الأول: إضافة المعاني إلى الله مثل الكلام، فإضافة المعاني إلى الله إضافة صفة إلى موصوف، فالكلام والسمع والبصر والقدرة والإرادة إضافة صفة إلى موصوف؛ لأن هذه معانٍ لا تقوم بنفسها وإنما تقوم بالموصوف بها.
النوع الثاني: إضافة أعيان، مثل: بيت الله، ناقة الله، عبد الله. هذه إضافة مخلوق إلى خالقه، وفائدة الإضافة هنا التشريف والتكريم.
(49) ليس بمخلوق ككلام البرية:
أي كلام الله ليس بمخلوق. رداً على الجهمية والمعتزلة الذين يقولون: إن القرآن مخلوق؛ لأن الله عندهم لا يتكلم، على منهجهم في نفي الصفات كلها، فراراً –بزعمهم- من التشبيه؛ لأنهم لم يفرقوا بين صفات الخالق وصفات المخلوق ففروا من التشبيه الموهوم ووقعوا في التعطيل المذموم وهو شر منه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ولو أنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه، وعرفوا أن هناك فرقاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، لأصابوا عين الحق واستراحوا وأراحوا الناس، ولكنهم في ضلال.
(50) فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر، فقد كفر:
فمن سمع كلام الله وزعم أنه كلام البشر فقد كفر؛ لأنه جحد كلام الله عز وجل، فإذا لم يكن لله كلام ينـزله على عباده فبم تقوم الحجة عليهم؟ فقصدهم بقولهم هذا هدم الشرائع، فإذا كان ليس في الكون كلام لله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا القرآن، فمعنى ذلك أنه ما قامت على الناس الحجة من الله، وهذا من أعظم الكفر وأعظم الضلال.
(51) وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: (سأصليه سقر) [المدثر:26].
وقد ذم الله عز وجل من قال هذه المقالة، فجعل القرآن كلام البشر، كما قال الوليد بن المغيرة المخزومي، وهو من أكابر كفار مكة ومن عظمائهم وكانوا يسمونه: زهرة مكة؛ لشرفه فيهم، فلما سمع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم أعجبه وعلم أنه ليس من كلام البشر، ومدح القرآن فقال: ليس بالشعر وليس بالسحر، أنا أعرف ضروب الشعر، وأعرف أنواع السحر، وأعرف الكهانة، وأعرف وأعرف…. فليس القرآن من هذه الأمور. فعند ذلك توجه إليه قومه الكفار بالتوبيخ والتعنيف؛ لأن معنى هذا أنه اعترف للرسول عليه الصلاة والسلام بالرسالة، فلما رأى ذلك انحرف –والعياذ بالله- بالكلام فقال: (إن هذا إلا قول البشر) [المدثر: 25] فأنزل الله عز وجل : (إنه فكر وقدر*فقتل كيف قدر*ثم قتل كيف قدر*ثم نظر*ثم عبس وبسر* ثم أدبر واستكبر*فقال إن هذا إلا سحر يؤثر*إن هذا إلا قول البشر) [المدثر:18،25] قال عز وجل: (سأصليه سقر) [المدثر:26]، وهي النار.
(52) فلما أوعد الله بسقر لمن قال : (إن هذا إلا قول البشر) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر:
فمن قال: إن القرآن ليس كلام الله وإنه كلام البشر، أو الملك، فهو مثل الوليد بن المغيرة، فما الفرق بين هذا وهذا إلا أنه ادعى الإسلام والوليد لم يدع الإسلام؟ فدعوى الإسلام لا تكفي، فإنه إن كفر بالقرآن لم ينفعه ادعاء الإسلام؛ لأن هذا ردة –والعياذ بالله- . فتبين بهذا أنه لابد من الاعتراف بأن القرآن كلام الله حقيقة.
(53) ولا يشبه قول البشر:
لو كان الكلام من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فلا لوم على الوليد ابن المغيرة إن قال إن القرآن من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يتوعده الله بهذا الوعيد الشديد؟ فدل على أنه قال مقاله عظيمة وفظيعة –حيث نسب القرآن لغير الله، وكل من سار على هذا المذهب وهذا المنهج فإنه مثل الوليد بن المغيرة، يكون في النار خالداً فيها.
(54) ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر:
يعني: من شبه الله بمعنىً من معاني البشر فقد كفر لأنه تنقص الله عز وجل.
(55) فمن أبصر هذا اعتبر:
لأن هناك فرقاً واضحاً بين صفات الخالق وصفات المخلوق، وإن اشتركت في الاسم والمعنى، ولكن تختلف في الحقيقة وتختلف في الواقع والخارج، فلا تشابه بين كلام الله وكلام البشر، ولا تشابه بين سمع الله وسمع البشر، ولا تشابه بين بصر الله وبصر البشر، ولا علم الله وعلم البشر، ولا مشيئة وإرادة الله ومشيئة وإرادة البشر. ففرق بين صفات الله وصفات المخلوق، فمن لم يفرق بينهما صار كافراً.
(56) وعن مثل قول الكفار انزجر:
من تدبر الآيات القرآنية التي أنزلها الله في الوليد بن المغيرة، من تدبرها عرف بطلان أقوال هذه الفرق الضالة في كلام الله عز وجل.
(57) وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر.
وصفاته من الكلام وغيره ليست كصفات البشر للفرق بين صفات الخالق وصفات المخلوق.
(58) والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية:
الرؤية: أي : رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، فإن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في الآخرة، يرونه عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بذلك في الأحاديث الصحيحة المتواترة عنه عليه الصلاة والسلام( )، ولذلك قال المصنف: الرؤية حق، أي : ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة والجماعة من السلف والخلف، ولم يخالف فيها إلا المبتدعة وأصحاب المذاهب المنحرفة.
فالمؤمنون يرون ربهم سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: (وجوه يومئذٍ ناضرة*إلى ربها ناظرة) [القيامة: 22،23]، وهي وجوه المؤمنين (ناضره) يعني من النضرة وهي: البهاء والحسن (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) [المطففين:24] وأما (ناظرة) فمعناها: المعاينة بالأبصار، تقول: نظرت إلى كذا، أي : أبصرته، فالنظر له استعمالات في كتاب الله عز وجل، إذا عُدّي بـ(إلى) فمعناه المعاينة بالأبصار، (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت*وإلى السماء كيف رُفعت…) [الغاشية:17،18]، أي : ألم ينظروا بأبصارهم إلى هذه المخلوقات العجيبة الدالة على قدرة الله عز وجل. وفي هذه الآية : (إلى ربها ناظرة) [القيامة:22،23] معداة بـ(إلى).
وإذا عُدي النظر بنفسه وبدون واسطة فمعناه التوقف والانتظار: (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم) [الحديد:13]، (انظرونا) أي : انتظرونا من أجل أن نستضيء بنوركم؛ لأن المنافقين ينطفئ نورهم والعياذ بالله، فيبقون في ظلمة، فيطلبون من المؤمنين أن ينتظروهم حتى يقتبسوا من نورهم. وقوله تعالى: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله) [البقر:210] أي : ما ينتظرون إلا مجيء الرب يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده.
وإذا عُدي النظر بفي فمعناه التفكر والاعتبار، كما قال تعالى: (أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) [الأعراف:185]، أي : يتفكروا في مخلوقات الله العلوية والسفلية، ويستدلون بها على قدرة الله الخالق سبحانه وتعالى واستحقاقه للعبادة.
الحاصل: أن النظر هنا عُدي بـ(إلى) ومعناه: الرؤية والمعاينة.
وقال سبحانه وتعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [يونس:26] فسر النبي صلى الله عليه وسلم (الحسنى) بأنها الجنة، وفسر (الزيادة) بأنها النظر إلى وجه الله الكريم، وهذا في صحيح مسلم( ).
وقال تعالى: (لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) [ق:35] المزيد: هو النظر إلى وجه الله الكريم.
وقال تعالى عن الكفار: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [المطففين:15] فإذا كان الكفار محجوبون عن الله، أي : لا يرونه؛ لأنهم كفروا به في الدنيا فهم حجوبون عن النظر إليه يوم القيامة، وهذا أعظم حرمان وأعظم عذاب، والعياذ بالله، فدلت الآية على أن المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله يوم القيامة، وأنهم يرونه بالنظر إليه في الآخرة؛ لأنهم آمنوا به في الدنيا ولم يروه، وإنما استدلوا عليه سبحانه بآياته ورسالاته، فالله أكرمهم بالنظر إليه يوم القيامة.
والنظر إلى وجه الله عز وجل أعظم نعيم في الجنة.
هذا مذهب أهل السنة والجماعة، وهذه بعض أدلتهم من القرآن
وأما أدلتهم من السنة فكثيرة جداً بلغت حد التواتر، كما قال العلامة ابن القيم في كتابه القيم "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح"، وساق الأحاديث الواردة في الرؤية وقد بلغت حد التواتر.
منها: قوله عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم يوم القيامة، كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تُضامون في رؤيته –أو: لا تَضامُّون في رؤيته-"( ) . يعني : لا تزدحمون على رؤية الله عز وجل؛ لأن كل واحد يرى الرب وهو في مكانه من غير زحام كما أن الناس يرون الشمس والقمر من غير زحام؛ لأن العادة إذا كان الشيء في الأرض وخفي يزدحمون على رؤيته ولكن إذا كان الشيء مرتفعاً كالشمس والقمر فإنهم لا يزدحمون على رؤيته ، كلٌ يراه وهو في مكانه، إذا كان هذا في المخلوق الشمس والقمر، فكيف في الخالق سبحانه وتعالى؟
ولم ينكر الرؤية إلا أهل البدع كالجهمية والمعتزلة الذين ينفون الرؤية، يقولون: يلزم من إثبات الرؤية أن يكون الله في جهة، والله عندهم ليس في جهة، وهو عندهم لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمنه ولا يسرة، ليس في جهة، وهذا معناه أنه معدوم، تعالى الله عما يقولون ، فنفوا الرؤية من أجل هذا الرأي الباطل.
وأما الأشاعرة: لما لم يمكنهم إنكار الأدلة من الكتاب والسنة أثبوا الرؤية وقالوا: يُرى ولكن ليس في جهة، وهذا من التناقض العجيب! ليس هناك شيء يُرى وهو ليس في جهة، ولذلك رد عليهم المعتزلة؛ لأن هذا من المستحيل. وأهل السنة يقولون: يُرى سبحانه وتعالى وهو في جهة العلو من فوقهم، فالجهة إن أريد بها الجهة المخلوقة فالله ليس في جهة؛ لأنه ليس بحال في خلقه سبحانه وتعالى.
وإن أريد بها العلو فوق المخلوقات فهذا ثابت لله عز وجل، فالله في العلو فوق السماوات، فالجهة لم يرد إثباتها أو نفيها في كتاب الله، ولكن يقال فيها على التفصيل السابق.
ومعنى: "بغير إحاطة ولا كيفية" أنهم لا يحيطون بالله عز وجل، ويرونه سبحانه بغير إحاطة، والله عظيم لا يمكن الإحاطة به، قال سبحانه: (ولا يحيطون به علماً) [طه:110]، وقال جل وعلا: (لا تدركه الأبصار) [الأنعام:103] يعني : لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يقل: لا تراه الأبصار، إنما قال: (لا تدركه الأبصار) فالإدراك شيء والرؤية شيء آخر، فهي تراه سبحانه بدون إحاطة، وفي هذا رد على من استدل بهذه الآية على نفي الرؤية وقال: الرؤية لا تمكن ؛ لأن الله قال: (لا تدركه الأبصار) . فنقول لهم: أنتم لا تعرفون معنى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) .
(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) ، معناها: لا تحيط به، وليس معناه: لا تراه، ولم يقل سبحانه: لا تراه الأبصار.
واستدلوا أيضاً فقالوا: موسى عليه السلام قال : (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) [الأعراف:143] هذا دليل على نفي الرؤية.
نقول لهم: هذا في الدنيا، لأن موسى سأل ذلك في الدنيا، ولا أحد يرى الله في الدنيا لا الأنبياء ولا غيرهم، وأما في الآخرة فيرى المؤمنون ربهم، وحال الدنيا ليست كحال الآخرة، فالناس في الدنيا ضعاف في أجسامهم وفي مداركهم، لا تستطيع أن ترى الله عز وجل، وأما في الآخرة فإن الله يعطيهم قوة يستطيعون بها أن يروا ربهم –جل وعلا- إكراماً لهم.
ولهذا لما سأل موسى ربه في هذه الآية: (قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً) [الأعراف:143] الجبل اندك وصار تراباً، والجبل أصم صلب، فكيف بالمخلوق المكون من لحم ودم وعظام؟ فهو لا يستطيع رؤية الله في الدنيا.
وسؤال موسى رؤية الله دليل على جواز الرؤية وإمكانها؛ لأن موسى لا يسأل ربه شيئاً لا يجوز، إنما سأله شيئاً يجوز، ولكن لا يكون هذا في الدنيا، فالله سبحانه قال: (لن تراني) ولم يقل: إني لا أرى.
فالله يُرى في الآخرة( )، وأولى الناس بهذه الرؤية الأنبياء.
وقوله: "ولا كيفية" أي : لا يقال: كيف يرون الله؟ لأن هذا كسائر صفات الله عز وجل لا نعرف كيفيتها، فنحن نؤمن به ونعرف معناها ونثبتها، ولكن الكيفية مجهولة ولا نعرفها، فالله أعلم بها سبحانه.
(59) كما نطق به كتاب ربنا: (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة):
هذا صريح أنه نظر إلى الله بالأبصار حيث عُدّي بإلى، فمعناه الرؤية بالأبصار، قالت المعتزلة: (إلى ربها) (إلى) جمع بمعنى: نِعَم. أي إلى نِعَم ربها ناظرة. وهذا تخريف يضحك منه العقلاء، لأن الحرف لا يحول إلى جمع.
(60) وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه:
أي تفسير (إلى ربها ناظرة) [القيامة: 23] أي : على ما أراده الله جل وعلا، وهو المعاينة بالأبصار، لا على ما أراده المبتدعة.
(61) وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال:
كل ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في إثبات الرؤية فهو حق على حقيقته، مثل ما جاء في القرآن سواء، يجب الإيمان به؛ لأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وحي من الله (وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى) [النجم:3،4]، ويسمى بالوحي الثاني، ولقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة متواترة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، فيجب الإيمان بذلك من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تمثيل ولا تكييف.
(62) ومعناه على ما أراد:
أي ما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم، لا على ما أراده المبتدعة والمحرفة.
(63) لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا:
كما يفعله الجهمية والمعتزلة ومن تتلمذ عليهم وأخذ برأيهم من التأويل الباطل.
بل الواجب علينا أن نتبع الكتاب والسنة، ولا نتدخل بعقولنا وأفكارنا ونحكمها على ما جاء في الكتاب والسنة، الواجب أن الكتاب والسنة يحكمان على العقول والأفكار( ).
(64) فإنه ما سَلِمَ في دينه إلا من سلّم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
ومعنى (سلَّم) أي : قَبِلَ ما جاء عن الله ، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وآمن به على ما جاء، من غير أن يتدخل بتحريفه وتأويله، هذا معنى التسليم.
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "آمنت بالله وبما جاء في كتاب الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي : لا على الهوى والتحريف وأقوال الناس( ).
من سَلَّم وانقاد وردّ ما اشتبه عليه، ولم يعرف معناه أول لم يعرف كيفيته، رده إلى عالمه، وهو الله، سبحانه وتعالى، فالذي يشكل عليه شيء يرجع إلى أهل العلم وفوق كل ذي علم عليم، فإن لم يكن عند العلماء علم بهذا فإنه يجب تفويضه إلى الله جل وعلا.
(65) ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه:
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأل أصحابه عن بعض الأشياء التي لا يعرفونها قالوا: الله ورسوله أعلم. فلا يدخلون في المتاهات ويتخرصون.
فإن وجدت عالماً موثوقاً يبين لك فالحمد لله، وإلا فابق على تسليمك واعتقادك أنه حق وأن له معنى، ولكن لم يتبين لك.
(66) ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام:
لا يثبت الإسلام الصحيح إلا بالتسليم لله عز وجل، قال سبحانه: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً) [النساء:65].
والاستسلام هو: الانقياد والطاعة لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
(67) فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان:
من لم يؤمن بما حجب عنه علمه، مثل علم الكيفية، فالواجب علينا الإيمان بها وردها، أي : رد علمها إلى الله عز وجل (فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً) [البقرة:26].
وقال عز وجل: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله) [آل عمران:7]، حجب الله علمه عن الخلق فلا تتعب نفسك، ثم قال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلٌ من عند ربنا) [آل عمران:7]. يسلّمون ويستسلمون، ولا يمنعهم عدم معرفة معناه من الإيمان به والتسليم له. أو أن المعنى أنهم يردون المتشابه من كتاب الله إلى المحكم منه ليفسروه ويتضح معناه ويقولون: (كل من عند ربنا) .
(68) فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق التكذيب، والإقرار والإنكار:
من لم يُسلِّم لله ولا إلى الرسول، فإنه يحجب عن معرفة الله ومعرفة الحق، فيكون في متاهات وضلالات( ).
وهذه حال المنافقين الذين يتذبذبون، تارة مع المسلمين وتارة مع المنافقين، وتارة يصدقون وتارة يكذبون (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) [البقر:20]. أما أهل الإيمان فما عرفوا قالوا به، وما لم يعرفوا وكلوا علمه إلى الله جل وعلا، ولا يكلفون أنفسهم شيئاً لا يعرفونه، أو يقولون على الله ما لا يعلمون –فالقول على الله بغير علم هو عديل الشرك، بل هو أعظم من الشرك، قال تعالى: (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) [الأعراف:33]. فجعل القول على الله بغير علم فوق الشرك بالله، مما يدل على خطورة القول على الله بغير علم.
(69) موسوساً تائهاً شاكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً:
هذه حالة أهل التردد والنفاق، دائماً شاكين ، دائماً مترددين ومتذبذبين؛ لأنه ما ثبتت قدم أحدهم في الإسلام ولم يسلم لله ولا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
كما ذكر الله عن المنافقين أنهم (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) [النساء:143].، (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون*الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) [البقرة:14،15].
(70) ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم:
دار السلام هي الجنة، فلا يصح الإيمان بالرؤية أي رؤية الله فيها لمن يتوهم ويتأول فيها وينفي حقيقتها، ولم يسلم لله ولا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويتدخل فيها بفكره وفهمه.
(71) إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يُضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم :
كل هذا تأكيد لما سبق في أنه يجب التسليم لما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الرؤية، لا نتدخل فيها كما تدخل أهل البدع، بل نثبتها كما جاءت ونؤمن بها، ونثبت أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات يوم القيامة قبل دخول الجنة، وبعد دخولهم الجنة يرونه أيضاً، إكراماً لهم حيث آمنوا به في الدنيا ولم يروه.
(72) وعليه دين المسلمين:
وهذا الأمر عليه دين المسلمين، وهو الإيمان والتسليم لما جاء عن الله ورسوله، وعدم التدخل في ذلك بالأفهام والأوهام والتأويلات الباطلة، والتحريفات الضالة، هذا دين الإسلام، بخلاف غير المسلمين، فإنهم يتدخلون فيما جاء عن الله وعن رسوله عليه الصلاة والسلام، ويحرفون الكلم عن مواضعه.
(73) ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنـزيه:
لابد كما سبق من الوسط بين التعطيل وبين التشبيه، فلا يبالغ ويغلو في تنـزيه الله حتى يعطل الله من صفاته كما فعل المعطلة، ولا يُثبت إثباتاً فيه غلو حتى يشبه الله بخلقه، بل يعتدل فيُثبت لله ما ثبته لنفسه له رسوله، من غير تشبيه ولا تمثيل، ومن غير تعطيل ولا تكييف، هذا هو الصراط المستقيم المعتدل.
فالله سبحانه وتعالى لا شبيه له، ولا مثيل ولا عديل له، سبحانه وتعالى.
(74) فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية:
صفات الوحدانية بأن الله واحد لا شريك له، لا في ربوبيته ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، فهو واحد في كل هذه الحقائق.
(75) منعوت بنعوت الفردانية . ليس في معناه أحد من البرية:
منعوت، أي: موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، بل أسماؤه وصفاته خاصة به ولائقة به، وصفات المخلوقين وأسماء المخلوقين خاصة بهم ولائقة بهم، وبهذا يتضح لك الحق والصواب، وتبرأ من طريقة المعطلة ومن طريقة المشبهة.
(76) وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات:
هذا فيه إجمال: إن كان يريد الحدود المخلوقة فالله منـزه عن الحدود والحلول في المخلوقات، وإن كان يريد بالحدود: الحدود غير المخلوقة، وهي جهة العلو، فهذا ثابت لله جل وعلا وتعالى، فالله لا ينـزه عن العلو، لأنه حق، فليس هذا من باب الحدود ولا من باب الجهات المخلوقة.
والغايات فيها إجمال أيضاً، فهي تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً، فإن كان المراد بالغاية: الحكمة من خلق المخلوقات، وأنه خلقها لحكمة، فهذا حق، ولكن يقال: حكمة، لا يقال: غاية، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات:56].
وإن أريد بالغاية: الحاجة إلى المخلوقات، فنعم، هذا نفي صحيح، فالله عز وجل لم يخلق الخلق لحاجته وفقره إليهم، فإنه غني عن العالمين.
(والأركان، والأعضاء، والأدوات) فيها إجمال أيضاً، إن أُريد بالأركان والأعضاء والأدوات: الصفات الذاتية مثل الوجه، واليدين، فهذا حق، ونفيه باطل. وإن أُريد نفي الأعضاء التي تشابه أعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين فالله سبحانه منـزه عن ذلك، فالأبعاض والأعضاء فالحاصل أن هذا فيه تفصيل:
أولاً: إذا أُريد بذلك نفي الصفات الذاتية عن الله تعالى من الوجه واليدين، وما ثبت له سبحانه وتعالى من صفاته الذاتية، فهذا باطل.
ثانياً: أما إن أُريد بذلك أن الله منـزه عن مشابهة أبعاض المخلوقين وأعضاء المخلوقين وأدوات المخلوقين، فنعم، الله منـزه عن ذلك؛ لأنه لا يشبهه أحد من خلقه، لا في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته.
الحاصل: أن هذه الألفاظ التي ساقها المصنف فيها إجمال ولكن يحمل كلامه على الحق؛ لأنه –رحمه الله تعالى- من أهل السنة والجماعة، ولأنه من أئمة المحدثين، فلا يمكن أن يقصد المعاني السيئة، ولكنه يقصد المعاني الصحيحة،وليته فصّل ذلك وبيّنه ولم يجمل هذا الإجمال .
(77) لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات.
نقول: هذا فيه إجمال، إن أُريد الجهات المخلوقة، فالله منـزّه عن ذلك، لا يحويه شيء من مخلوقاته، وإن أُريد جهة العلو وأنه فوق المخلوقات كلها، فهذا حق ونفيه باطل، ولعل قصد المؤلف بالجهات الست، أي: الجهات المخلوقة؛ لا جهة العلو لأنه مثبت للعلو –رحمه الله-، ومثبت للاستواء.
(78) والمعراج حق، وقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:
معنى الإسراء هو السير ليلاً، فقد أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في ليلة واحدة.
أسرى به جبريل بأمر من الله تعالى قال تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا) [الإسراء:1]..
وهذا من معجزاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه المسافة كانت تقطع في شهر أو أكثر، وقطعها النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة.
وأما المعراج: فهو آله الصعود وعرج، يعني صعد (تعرج الملائكة والروح إليه) [المعارج:4]. يعني : تصعد، فالعروج معناه: الصعود، والمعراج آلة الصعود التي يصعد بها.
وكلاهما ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم ( ).
فالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأما المعراج فمن الأرض إلى السماء، وكل هذا حصل في ليلة واحدة، أُسري به إلى بيت المقدس وصلى فيه بالأنبياء، ثم عرج به إلى السماء وجاوز السبع الطباق، وأراه الله من آياته ما أراه من آياته الكبرى، ثم نزل إلى الأرض، ثم جاء به جبريل إلى المكان الذي أُسري به منه في ليلة واحدة.
فالإسراء مذكور في سورة الإسراء، والمعراج مذكور في سورة النجم (والنجم إذا هوى*ما ضل صاحبكم وما غوى*وما ينطق عن الهوى*إن هو إلا وحي يوحى* علمه شديد القوى) [النجم:1،5] يعني : جبريل (ذو مرة فاستوى*وهو بالأفق الأعلى) [النجم: 6،7] هذا العروج، (ثم دنا) من ربه سبحانه وتعالى أو أن جبريل دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى) [النجم:8،10].
فالإسراء والمعراج حق، ومن أنكرهما واستبعدهما فهو كافر بالله عز وجل، ومن تأولهما فهو ضال، ولم ينكره إلا المشركون، فمن يقول: أُسري بروحه دون جسده، أو كان ذلك مناماً لا يقظة، فهذا ضلال؛ لأن الله قال: (أسرى بعبده) والعبد اسم للروح والبدن، لا يقال للروح إنها عبد، وكان الإسراء في حال اليقظة ولم يكن مناماً؛ لأن المنام ليس فيه عبرة، كل الناس يرون الرؤيا ويرون عجائب، وليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(79) وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء :
عرج بشخصه، رد على الذين يقولون: عرج بروحه، بل عرج بشخصه –والشخص اسم للروح والجسم، والله يقول: (أسرى بعبده) .
(80) ثم إلى حيث شاء الله من العلا. وأكرمه الله بما شاء :
هذا المعراج إلى السماء
(81) وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) :
أوحى الله إليه بذلك المكان ما أوحى ، وكلمه الله سبحانه ولم ير الله؛ لأن الله لا يُرى في الدنيا .
هذا المعراج المذكور في سورة النجم .
(82) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى:
هذا من حقوقه عليه الصلاة والسلام: أن يصلى عليه ويسلم عند ذكره (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) [الأحزاب:56].
ولما أصبح النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وأخبر المشركين بهذه الحادثة اشتد كفرهم وتكذيبهم بهذه المناسبة؛ من أجل أن يشوهوا الرسول صلى الله عليه وسلم. ويقولون: نحن نمشي إلى فلسطين مدة شهر فأكثر، وهو يقول: في ليلة واحدة ! فارتد بعض ضعاف الإيمان بسبب هذه الحادثة، وأما أهل الإيمان الصحيح فثبتوا وصدقوا، ولهذا لما قالوا لأبي بكر رضي الله عنه: أما ترى صاحبك كيف يقول؟ قال: وماذا يقول؟ قالوا: إنه يقول: إنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة واحدة، قال: فإن كان قاله فهو كما قال. لأنه لا ينطق عن الهوى. وقال: أنا أصدقه بخبر السماء –أي الوحي- أفلا أصدقه في هذا!؟ هذا هو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا يتزعزع.
(83) والحوض الذي أكرمه الله تعالى به –غياثاً لأمته- حق:
من جملة ما يعتقده أهل السنة والجماعة ما صح فيه الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمور يوم القيامة، وما يحدث في يوم القيامة من أمور، فمن ذلك :
الحوض: فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن له حوضاً( ) في يوم القيامة في المحشر يرده أتباعه الذين آمنوا به واتبعوه، فيشربون منه، فإذا شربوا منه شربة واحدة لم يظمؤوا بعدها أبداً، وذلك لأن يوم القيامة يوم شديد وعصيب وفيه حر شديد.
فيحصل الظمأ الشديد، فجعل الله هذا الحوض غياثاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم يغيثهم به، ومعلوم أن الغيث الذي ينـزله الله من السماء تحيا به الأرض وتحيا به النفوس، فكذلك الحوض فإنه غياثٌ يغيث الله به العباد عند شدة حاجتهم إلى الماء .
والحوض هو مجمع الماء، وقد وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه حوض عظيم طوله شهر وعرضه شهر، وآنيته عدد نجوم السماء، وأن من يشرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل( ).
وأخبر عليه الصلاة والسلام أنه يرده أقوامٌ ثم يذادون ويمنعون من الشرب منه، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "يارب، أمتي، أمتي" فيقول الله عز وجل : "إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك" فيقول عليه الصلاة والسلام: "سُحقاً وبُعداً لمن بدّل وغير" ( )، ويمنع من وروده أهل البدع المضلة المخالفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كفروا وارتدوا على أعقابهم، تاركين السنة، وذاهبين بأهوائهم وآرائهم المذاهب المنحرفة، هؤلاء يمنعون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم بدلوا وغيروا من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرده إلا من كان متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، وبعض العلماء يرى أن الكوثر المذكور في قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) [الكوثر:1] هو الحوض، وبعض العلماء يرى أن معنى الكوثر: الخير الكثير، ولا شك أن الحوض يدخل في هذا الخير الكثير؛ لأنه خير لهذه الأمة( )، فهذا هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب الإيمان به واعتقاده، وأن يتمسك الإنسان بالسنة، حتى يرد هذا الحوض، ولا يُردّ عنه يوم القيامة.
(84) والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما رُوي في الأخبار:
الشفاعة أيضاً من مسائل العقيدة المهمة( )؛ لأنه قد ضل في إثباتها أناس، وغلا في إثباتها أناس، وتوسط فيها أناس.
فالشفاعة يوم القيامة الناس فيها على ثلاثة أقسام:
قوم غلوا في إثباتها حتى طلبوها من الأموات ومن القبور ومن الأصنام والأشجار والأحجار (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) [يونس:18]، (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) [الزمر:3].
وطائفة غلت في نفي الشفاعة كالمعتزلة والخوارج، فإنهم نفوا الشفاعة في أهل الكبائر، وخالفوا ما تواترت به الأدلة من الكتاب والسنة في إثبات الشفاعة.
وأهل السنة والجماعة توسطوا فأثبتوا الشفاعة على الوجه الذي ذكره الله ورسوله، وآمنوا بها من غير إفراط ولا تفريط.
والشفاعة في اللغة مأخوذة من الشفع، وهو ضد الوتر، فالوتر هو الفرد الواحد. والشفع هو أكثر من واحد، اثنين أو أربعة أو ستة، وهو ما يسمى بالعدد الزوجي.
وشرعاً: الوساطة في قضاء الحاجات، وساطة بين من عنده الحاجة وصاحب الحاجة، وهي على قسمين: شفاعة عند الله، وشفاعة عند الخلق.
فالشفاعة عند الخلق على قسمين:
شفاعة حسنة، وهي الأمور الحسنة النافعة المباحة، تتوسط عند من عنده حاجات الناس من أجل أن يقضيها لهم، قال سبحانه: (من يشفع شفاعةً حسنة يكن له نصيب منها) [النساء:85]، وقال عليه الصلاة والسلام: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء"( ). هذه شفاعة حسنة وفيها أجر؛ لأن فيها نفعاً للمسلمين في قضاء حاجاتهم وحصولهم على مطلوبهم الذي فيه نفع لهم، وليس فيها تعدّ على أحد أو ظلمٌ لأحد .
والقسم الثاني: شفاعة سيئة، وهي التوسط في أمور محرمة، كالشفاعة في إسقاط الحدود إذا وجبت، وهذا يدخل فيمن لعنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لعن الله من آوى محدثاً"( ). والشفاعة أيضاً في أخذ حقوق الآخرين وإعطائها لغير مستحقها، قال تعالى: (ومن يشفع شفعة سيئة يكن له كفلٌ منها) [النساء:85].
أما الشفاعة عند الله فليست كالشفاعة عند المخلوق، فالشفاعة عند الخالق: أن يكرم الله جل وعلا بعض عباده في أن يدعو لأحد المسلمين المستحقين للعذاب بسبب كبيرة ارتكبها، فيشفع عنده الشافع في أن يعفو عنه ولا يعذبه؛ لأنه مؤمن موحد، فيشفع الشافع عند الله جل وعلا بأن يعفو عنه، أو فيمن دخل النار في معصية فيشفع الشافع عند الله في أن يخرج ويرفع عنه العذاب، وهي ما تسمى بالشفاعة في أهل الكبائر.
لكن الشفاعة عند الله يشترط لها شرطان:
الشرط الأول: أن تكون بإذن الله، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذن، فهو الذي يأذن للشافع أن يشفع، أما من قبل أن يأذن فلا أحد يتقدم إلى الله عز وجل: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه) [البقرة: 255]، وليس كالمخلوق الذي يتقدم الناس للشفاعة عنده وإن لم يأذن، فالله جل وعلا لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه.
الشرط الثاني: أن يكون المشفوع فيه من أهل التوحيد وأهل الإيمان، ممن يرضى الله عنهم قولهم وعملهم، (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء:28]، أي: رضي الله قوله وعمله، وجاء الشرطان في قوله تعالى: (إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) [النجم:26]. أن يأذن الله هذا الشرط الأول، ويرضى هذا الشرط الثاني.
أما الكافر فإنه لا تنفعه الشفاعة (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) [المدثر:48]، (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) [غافر:18] فالشفاعة في القرآن شفاعتان؛ شفاعة منفية وهي التي انتفت شروطها، وشفاعة مثبتة وهي التي تحققت شروطها.
فالكافر لا تنفعه الشفاعة؛ لو شفع فيه أهل السماوات وأهل الأرض ما قبل الله فيه شفاعتهم؛ لأنه مشرك كافر بالله عز وجل، لا يرضى الله قوله ولا عمله، إلا ما جاء في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب، فهي شفاعة خاصة، وأيضاً ليست شفاعة من أجل خروجه من النار، إنما هي شفاعة من أجل تخفيف العذاب عن هذا الرجل؛ لما حصل منه من مؤازرة النبي صلى الله عليه وسلم وحمايته له –عليه الصلاة والسلام- والمدافعة عنه، فالنبي صلى الله عليه وسلم يشفع في تخفيف العذاب عنه فقط.
هذه هي الشفاعة الثابتة بشروطها ، وهي أنواع:
منها أنواع خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنواع مشتركة بينه وبين غيره من الأنبياء، والملائكة والصالحين والأفراط الذين ماتوا قبل البلوغ، كل هؤلاء يشفعون عند الله سبحانه وتعالى.
وأما الشفاعة الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فهي أنواع:
أولها: شفاعته عليه الصلاة والسلام في أهل الموقف إذا طال الموقف يوم القيامة، واشتد الكرب، واشتد الزحام، ودنت الشمس من الرؤوس، وحصل الكرب العظيم، أهل المحشر يريدون من يشفع لهم لفصل القضاء بينهم وصرفهم من هذا الموقف: إما إلى جنة وإما إلى نار؛ فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيعتذر لهيبة المقام وجلالته، ثم يذهبون إلى نوح عليه السلام أول الرسل فيعتذر، ثم يذهبون إلى موسى كليم الله فيعتذر، ثم يذهبون إلى عيسى عليه السلام فيعتذر أيضاً، ثم يذهبون إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثم يأتي فيخر ساجداً بين يدي الله عز وجل، ويحمده ويثني عليه ويدعوه حتى يقال له: "ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع"( ) بعد الدعاء والاستئذان، لا يشفع مباشرة، بل يسجد ويدعو ويثني على الله ويتوسل إليه بأسمائه وصفاته، ثم يؤذن له بالشفاعة، ثم يشفع للفصل بين الخلائق فيقبل الله شفاعته، ويأتي سبحانه وتعالى لفصل القضاء بين عباده، قال سبحانه : (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً* وجاء ربك والملك صفاً صفاً) [الفجر:21،22] وقال سبحانه: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر) [البقرة:210].
هذه شفاعته عليه الصلاة والسلام في الفصل بين الخلائق، وهي مقام عظيم شرّف الله به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي قال الله سبحانه فيه: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً)[الإسراء:79]؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، ويظهر فضله عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف العظيم.
الشفاعة الثانية: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة( )، فأول من يستفتح باب الجنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أول من يدخلها( ) ، وأول من يدخلها من الأمم أمته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الثالثة: الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم : شفاعته لأهل الجنة بأن يرفع الله منازلهم ودرجاتهم، فيشفع في أناس في أن يرفع الله درجاتهم في الجنة، فيرفعهم الله بشفاعته عليه الصلاة والسلام.
الشفاعة الرابعة: -وهي مشتركة- الشفاعة في أهل الكبائر من المؤمنين فيمن استحق دخول النار أن لا يدخلها، وفي من دخلها أن يخرج منها، وهذه هي محط الخلاف بين الفرق؛ فالجهمية والخوارج وأضرابهم أنكروها وقالوا: من دخل النار لا يخرج منها، وأهل السنة والجماعة أثبتوها كما جاءت واعتقدوها، ويجب على المسلم أن يعتقدها ويؤمن بها، وأن يسأل الله أن يُشفع فيه نبيه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بحاجة إليها.
الشفاعة الخامسة: وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعته في عمه أبي طالب، أبو طالب مات على الشرك وعلى دين عبد المطلب المشرك، قال: هو على ملة عبد المطلب، ومات على ذلك، فصار من أهل النار الخالدين فيها. ولكن الله عز وجل يشفع رسوله عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه، فيكون في ضحضاح من نار، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، مع أنه أهون أهل النار عذاباً( ).
والشفاعة في أهل الكبائر مشتركة، فالملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والأولياء والصالحون يشفعون( )، والأفراط يشفعون لآبائهم.
(85) والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق :
الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً حق، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله استخرج ذرية آدم من ظهره كأمثال الذر، وأشهدهم على أنفسهم بالوحدانية، وأخذ عليهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً( )، فنحن نؤمن بذلك، وهذا العهد والميثاق لا يكفي، بل لابد معه من إرسال الرسل، ولذلك أرسل الله الرسل، ولو كان هذا يكفي وحده لما أرسل الله الرسل، ولكن أرسل الرسل من أجل أن تذكر به وتدعو الناس إلى ما تضمنه.
وأما قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم) [الأعراف:172] فذهب بعض المفسرين إلى أن هذا هو العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم والميثاق، وليس كذلك، بل هذا شيء آخر، والله يقول: (من ظهورهم) ولم يقل: من ظهر آدم، وتكملة الآية: (وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) ، وقال بعض العلماء: معنى ذلك: الفطرة التي فطرهم الله عليها، والآيات الكونية التي نصبها الله لهم؛ ليعرفوا منها ربهم.
فالله سبحانه فطرهم على التوحيد وعلى الإسلام( ) (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها) [الروم: 30] وهي دين الإسلام ودين التوحيد، فالإسلام معناه التوحيد الذي جاءت به الرسل، ومعناه: عبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو الدين القيم.
ومع هذا نصب الأدلة على ربوبيته فيما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم العجيب، وما فيهم من الآيات العجيبة التي تدل على الخالق سبحانه وتعالى، وكذلك ما نصبه أمامهم من السماوات والأرض والمخلوقات التي تدل على الخالق، إن هذه المخلوقات لابد لها من خالق، لم توجد صدفة أو توجد بدون خالق (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون * أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون) [الطور:35،36].
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آيـــة تدل على أنه واحـــد
كل ما أمامك يدل على وحدانية الله، ويشهد لله بالانفراد في خلق هذه المخلوقات (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) [الحج:73] فالخالق الله سبحانه، ولا أحد يخلق معه، فكيف يُعبد غيره ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! فمعنى الآية (وإذ أخذ ربك…) [الأعراف: 172] شهادة الفطرة وشهادة الكائنات على وحدانية الله سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يعتذر يوم القيامة ويقول : (إنا كنا عن هذا غافلين) [الأعراف:172]. فالاحتجاج بالتقليد لا يصلح أمام البراهين القاطعة والأدلة الساطعة .
(86) وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد ، ولا ينقص منه:
هذا الكلام وما بعده من كلام الشيخ –رحمه الله- كله في موضوع القضاء والقدر.
والإيمان بالقضاء والقدر هو أحد أركان الإيمان الستة، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره"( )، وفي القرآن قوله جل وعلا: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49] وقوله : (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2].
فليس هناك شيء بدون تقدير، أو أن هناك أشياء تقع صدفة، أو أن الأمر أُنف؛ إن كل شيء يحدث فإنه مقدر ومكتوب.
والإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع درجات، نلخصها فيما يلي:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الشامل المحيط بكل شيء، وأن الله علم الأشياء أزلاً، علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، لا يخفى على علمه شيء سبحانه وتعالى.
وهي الكتابة العامة الشاملة لكل شيء، وفي الحديث: "إن أول ما خلق الله القلم، قال: أكتب، قال : ما أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"( ) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة.
المرتبة الثانية: أن الله جلا وعلا كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق، بعد أن علمها سبحانه .
المرتبة الثالثة: مرتبة المشيئة، لا يكون في هذا الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته مما هو في اللوح المحفوظ، وفي علمه سبحانه وتعالى، لا يحدث شيء بدون إرادته، ولا يكون في ملكه ما لا يريد سبحانه، (إن الله يفعل ما يريد) [الحج:14]، (كذلك الله يفعل ما يشاء) [آل عمران:40]، فما يحدث في هذا الكون من حياة وموت، وغنىً وفقر، وإيمان وكفر، كل ذلك شاءه الله وأراده، شاء الخير وشاء الشر، وشاء الإيمان وشاء الكفر، فدخل في مشيئته كل شيء، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق والإيجاد، فما شاءه وأراده فإنه يوجده ويخلقه (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل) [الزمر:62] (ألا له الخلق والأمر) [الأعراف:54]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) [الحديد: 22].
وأدلة العلم أدلة كثيرة جداً.
ومن جملة الذي وصف الله به نفسه، العلم، فإنه سبحانه وتعالى يعلم عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وذلك في علمه الأزلي.
وأن ما قدره الله تعالى، لا يزاد فيه ولا ينقص، ومن ذلك: أنه يعلم أهل الجنة وأهل النار، ويعلم ما هم عاملون، نؤمن بذلك ونتجه إلى العمل، ولا نتناقش في القضاء والقدر: كيف؟ ولماذا؟ وكيف يُحاسبُ على شيء قد قدره؟ إلى آخر الهذيانات وإضاعة الأوقات، والاعتراض على الله عز وجل.
الواجب عليك فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فليس شأن العبد التفتيش في سر الله عز وجل ومخاصمة الرب جل وعلا، إنما شأنه العمل، ولذلك لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن ما منهم من أحد إلا مكتوب مقعده من الجنة أو مقعده من النار، قالوا : يا رسول الله، ألا نتكل على كتابنا ونترك العمل؟ قال: "لا، اعملوا فكل ميسر لما خُلق له"( ) ، قال تعالى: (إن سعيكم لشتى *فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى) [الليل:4،7] السبب من العبد نفسه، إما أن يسعد وإما أن يشقى (وأما من بخل واستغنى*وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل:8،10] فالمطلوب منا العمل الصالح وترك العمل السيئ
أما الاحتجاج بالقضاء والقدر فليس بعذر، فإن الله عز وجل قد بين لنا الخير والشر فليس هناك عذر، فالناس يقعون في مشاكل بسبب دخولهم في أشياء ليست من اختصاصهم، فيقول: إن كان الله قد كتب لي أن أدخل الجنة دخلتها، وإن كان قد كتب لي أن أدخل النار دخلتها، ولا يعمل شيئاً.
فيقال له: أنت لا تقول بهذا في نفسك، هل تقعد في البيت وتترك طلب الرزق وتقول: إن كان الله قد كتب لي رزقاً فسييسره لي؟ أو تخرج وتسعى وتطلب الرزق؟ البهائم والطيور لا تقعد في أوكارها، بل تخرج وتطلب الرزق، وجاء في الحديث : "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً "( ) فالله فطرها على طلب الرزق، وعلى فعل الأسباب، وهي بهائم ، وأنت رجل عاقل! .
وأيضاً : لو أن أحداً سرق منك شيئاً، هل تقول: هذا قضاء وقدر، أم تشتكيه؟ بل تشتكيه وتطلب وتخاصم، ولا تحتج بالقضاء والقدر!
(87) وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه:
أي : علم أفعالهم في الأزل
(88) وكلٌ ميسرٌ لما خُلق له:
قال تعالى: (فأما من أعطى وأتقى * وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى* وأما من بخل واستغنى* وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى) [الليل :5،10].
(89) والأعمال بالخواتيم:
(والأعمال بالخواتيم) : الإنسان لا يغتر بعمله وإن كان أصلح الصالحين، بل يخاف من سوء العاقبة، ولا يحكم على أحد بأنه من أهل النار بموجب أفعاله؛ لأنه لا يدري بماذا يختم له، ويوضح ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود: "إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"( ).
فالإنسان يخاف من سوء الخاتمة، ولا يحكم على أحد بسوء الخاتمة؛ لأنه لا يدري بما يختم له. فالتوبة تجبُّ ما قبلها: (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف …) [الأنفال: 38].
فالأعمال بالخواتيم، ولكن من لطف الله عز وجل بعباده أن من عاش على الخير فإنه يختم له بالخير، ومن عاش على الشر فإنه يختم له بالشر، فالإنسان يعمل الأسباب ويحسن الظن بالله عز وجل.
وبعض الناس يقول: أتوب قبل الموت، فنقول له: وهل تدري متى تموت؟ يمكن أن تموت في لحظة لا يمكن معها التوبة، ولا تدري هل التوبة مقبولة أم لا؛ لأن التوبة لها شروط.
(90) والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله:
لا يشقى بقضاء الله عز وجل، إنما يشقى بعمله الذي قدره الله له. من قدر الله أنه يشقى أو يسعد فسييسره له.
(91) وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه:
أي : لن تصل إلى سره، مهما حاولت التفتيش في القضاء والقدر. فلا تكلف نفسك، ولكن آمن بالقضاء والقدر، واعمل الأعمال الصالحة واجتنب الأعمال السيئة، وأما أن تبحث عن أسرار القدر فهذا ليس من اختصاصك، ولا هو من شأنك، وما كلفت به.
(92) لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل:
هذا من شأن الله عز وجل، ومن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، ولا يعلمه غيره، لا الملائكة ولا الأنبياء ولا غيرهم، وأفضل الرسل يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188].
(93) والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلّم الحرمان، ودرجة الطغيان:
هذا كلام عظيم، أي التعمق في القضاء والقدر ومسائله، وإشغال الوقت والنفس والقلب، مما يورث الشكوك ويخذل عن العمل، فهذا من اللعب والخذلان.
إذا خذل الله العبد شغله في هذه الأمور، وإذا أكرم الله العبد شغله في طاعته، واغتنام وقته.
فنحن لنا حدود لا نتعداها، فالله ما كلفنا بالبحث في القضاء والقدر، ولكن كلفنا باعتقاد ذلك بالعمل الصالح وترك العمل السيئ .
(94) فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة:
أي احذر من هذه الأمور، والنظر في هذه الأمور، والتفكير فيها، والوسوسة وهي: التردد والشك، اترك هذه الأمور، وسد هذا الباب أصلاً.
(95) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه:
هذا تأكيد لما سبق "القدر سر الله تعالى" ومعنى طوى: أخفى، فطوى الله هذه المعلومات عن خلقه؛ لأنه ليس لهم فيها مصلحة.
(96) ونهاهم عن مرامه:
عن مرام القدر أن يبحثوا فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم غضب لما رأى الصحابة يتساءلون في هذا فقال: "أبهذا أُمرتم؟ أم لهذا خُلقتم؟"( ) .
(97) كما قال تعالى في كتابه: (لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون) :
أنت لا تسأل الله ولا تناقشه عن أفعاله وعن قضائه وقدره، تأدب مع الله؛ لأنك عبد، فلا تتدخل في شؤونه جل وعلا، فالله لا يسأل عما يفعل؛ لأن الله لا يفعل شيئاً إلا لحكمة، والحكمة قد تظهر وقد تخفى علينا، فنؤمن بأن الله لا يفعل شيئاً عبثاً؛ إنما يفعله لحكمة، سواءً ظهرت لنا أو لم تظهر.
فالإنسان مسؤول عن عمله، ليس مسؤولاً عن أعمال الله عز وجل، فاعتن بما أنت مسؤول عنه يوم القيامة، وهو عملك، فعلى العبد التسليم لله.
(98) فمن سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب:
أي قال: لم فعل الله كذا؟ لم قدّر الله كذا وكذا؟ فمن قال هذا، فقد رد حكم الكتاب؛ لأن الله يقول: (لا يسأل عما يفعل) [الأنبياء:23].
(99) ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين:
فمن رد حكم الكتاب والسنة، واعترض على ذلك، وذهب إلى العقل والتفكير صار من الكافرين( ) ؛ لأن الإيمان بالكتاب والسنة هما ركنان من أركان الإيمان.
(100) فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منّور قلبه من أولياء الله تعالى:
أي يحتاجه في أمور القضاء والقدر، فأنت تؤمن بالقدر ومراتبه الأربع؛ تؤمن بتفاصيلها التي جاءت في الكتاب والسنة، ولا تدخل في المناقشات والاعتراضات، بل تعمل العمل الصالح والأسباب المناسبة.
(101) وهي درجة الراسخين في العلم:
الراسخون، يعني : الثابتين في العلم، الذين عندهم علم راسخ، وليس عندهم شكوك ولا جهل، فهم يؤمنون بالقضاء والقدر، ويعملون الأعمال الصالحة، ويتركون الأعمال السيئة، ولا يتدخلون مع الله في سر من أسراره، ولا يناقشونه ويعترضون عليه، هذا شأن الراسخين في العلم، وأما الجهّال فيدخلون في ضلالات وأمور ابتدعوها.
(102) لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود:
العلم علمان: علم استأثر به الله، فلا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى، وهو علم الغيب.
وعلم في الخلق موجود، علّمهم الله إياه، وهو ما لهم فيه مصلحة وذلك بما أنزل الله من الكتاب، وما أرسل به الرسول (ويعلمهم الكتاب والحكمة) [البقر:129] الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة، وقيل: الفقه في دين الله فالله علمنا والرسول علمنا (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) [البقر:151].
(103) فإنكار العلم الموجود كفرٌ، وادعاء العلم المفقود كفرٌ:
إنكار العلم الشرعي وما فيه من الأمر والنهي والإخبار عن الماضي والمستقبل، إنكاره كفر.
وادعاء علم الغيب كفر (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) [النمل:65]، وأكمل الخلق عليه الصلاة والسلام يقول: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) [الأعراف:188] فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب إلا ما علمه الله (ولا يحيطون بشيء من عمله إلا بما شاء) [البقرة:255].
(104) ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود:
لا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وهو علم الكتاب والسنة، وترك علم الغيب لله (فقل إنما الغيب لله) .
(105) ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رُقم:
هذا تابع لما سبق من الكلام عن القضاء والقدر، وقد سبق أن من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: الإيمان بما كتب في اللوح المحفوظ، وأن الله لما علم كل شيء كتب ذلك في اللوح المحفوظ، وذلك أن الله خلق الخلق، وأول ما خلق القلم، فقال له: "اكتب"، قال: ما أكتب؟ قال: "أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة"، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء في الحديث ( ).
ولا يعلم كيفية اللوح والقلم إلا الله، وهما مخلوقان من مخلوقات الله عز وجل، نؤمن بذلك، ولذلك قال المؤلف: (نؤمن باللوح والقلم وبما فيه قد رقم)؛ يعني اللوح المحفوظ، والكتابة فيه.
وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر، وهي: الإيمان بالكتابة في اللوح المحفوظ.
(106) فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن- لم يقدروا عليه. ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه، ليجعلوه كائناً-لم يقدروا عليه:
الكتابة التي كتبها الله تعالى في اللوح المحفوظ لا يقدر أحد على تغييرها، فلو اجتمع الخلق على أن يغيروا شيئاً كتبه الله لما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يوجدوا شيئاً لم يكتبه الله في اللوح المحفوظ لم يوجدوه، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف"( ).
فلا تغيير ولا تبديل لما كتبه الله جلا وعلا في اللوح المحفوظ.
(107) جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه:
هذا معنى الإيمان بالقضاء والقدر، أن تعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتبه الله عليك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
فإذا أصابتك مصيبة مما تكره، فإنك تعلم أن هذا مكتوب في اللوح المحفوظ، ولابد أن يقع، فتتسلى بذلك عن الجزع والسخط، وتؤمن بالله عز وجل.
وما أخطأك لم يكن ليصيبك، لو حرصت على طلب شيء وبذلت كل وسعك وجهدك فلن تحصل عليه، فإذا فعلت السبب وبذلت كل شيء ولم تحصل عليه، فإنك تسلم وتؤمن بالقضاء والقدر، ولا تنـزعج ويكون عندك هواجس وهموم، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل : قدّر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"( )، إذا علمت هذا هان عليك الأمر، ولا يحصل منك جزع، ولا تحسر، الأمور بيده سبحانه، نعم أنت تفعل الأسباب وتحرص على ما ينفعك، ولكن النتائج من لدن الله عز وجل، وما تدري ما الخيرة؟ فلا يعطيك الله عز وجل ذلك الشيء؛ لأنك لو حصلت عليه يكون عليك منه ضرر، فالله يعلم، وأنت لا تعلم، عليك أن ترضى بقضاء الله وقدره.
وفي القرآن الكريم يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [التوبة:51].
ويقول رداً على الكفار لما قالوا في شأن الذين قتلوا في يوم أحد: (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا) [آل عمران:156]، قال عز وجل: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم) [آل عمران:154].
فما كُتب على الإنسان لابد من نفاذه فيه، ولو تحرز وتحصن وعمل من الاحتياطات ما عمل، لم يمنعه ذلك من قضاء الله وقدره، قال تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة) [النساء:78].
(108) وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه:
هذه هي المرتبة الأولى من مراتب الإيمان بالقضاء والقدر: على العبد أن يؤمن ويعتقد أن الله علم ما كان وما لم يكن بعلمه الأزلي، الذي هو موصوف به أبداً وأزلاً، علم الأشياء كلها بعلمه المحيط قبل وقوعها، فلابد من اعتقاد ذلك.
(109) فقدّر ذلك تقديراً محكماً مبرماً:
عَلِمَهُ سبحانه وتعالى وقدّره (وخلق كل شيء فقدّره تقديراً) [الفرقان:2].
فالأمور ليست فوضى أو ليست لها ضوابط، كلها مرتبة ومنضبطة بقضاء الله وقدره وكتابته، والله منـزه عن الفوضى والعبث.
(110) ليس فيه ناقض، ولا معقّب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه:
لا أحد يتصرف، فيغير ما قضاه الله وقدّره، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه (والله يحكم لا معقب لحكمه) [الرعد:41]. فلا أحد ينقص شيئاً من قضاء الله، ولا يزيد شيئاً أبداً، هذا شيء قضي منه وانتهى منه.
إذا اعتقد المسلم ذلك أراحه من كثير من الشكوك والأوهام، ولكن ليس معنى ذلك أنه يتكل على القضاء والقدر والكتاب، ويترك العمل( )، هو مأمور بالعمل وطلب الرزق وفعل الأسباب، هذا من ناحية العمل، وأما من ناحية النتائج فهي بيد الله عز وجل.
(111) وذلك من عُقد الإيمان، وأصول المعرفة:
هذه العقيدة، عقيدة القضاء والقدر، من عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالذي لا يكون مؤمناً بالقضاء والقدر لا يكون مؤمناً بالله جل وعلا، بل كان متنقصاً لله عز وجل، فالإيمان به من العقيدة وليس من الأشياء الثانوية أو الفرعية، فالإيمان بالقضاء والقدر من صميم العقيدة، وهو ركن من أركان الإيمان، كما قال عليه الصلاة والسلام: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" ( ).
(112) والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه (وخلق كل شيء فقدره تقديراً) وقال تعالى : (وكان أمر الله قدراً مقدوراً):
الإيمان بالقضاء والقدر يدخل في توحيد الربوبية؛ لأنه من أفعال الله جل وعلا، فمن جحد القضاء والقدر لم يكن مؤمناً بتوحيد الربوبية.
(وخلق كل شيء فقدره تقديراً) [الفرقان:2] (وكان أمر الله قدراً مقدوراً) [الأحزاب: 38]، (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [القمر:49]، هذه الآيات الثلاث مع غيرها من الآيات تدل على الإيمان بالقضاء والقدر (ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله) [التغابن:11]، (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب) [الحديد:22]. يعني اللوح المحفوظ.
(113) فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً:
الذي يدخل في أمور القضاء ويشكك فيه خصيم الله، ولا يصح الإيمان إلا بالإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع، حسب ما جاء في الكتاب والسنة، ولا تتدخل في السؤالات والإشكالات والشكوك والأوهام، فإن هذا معناه مخاصمة الله عز وجل، فالذين تدخلوا في القضاء والقدر لم يتوصلوا إلى شيء، بل وقعوا في حيرة واضطراب وإفساد للعقيدة.
(114) وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً:
فأمور القضاء والقدر وشؤون الله عز وجل لا يدركها النظر والتفكير والعقل، فلا تكلف عقلك شيئاً لا يستطيعه، فالعقل محدود، لا يمكنه أن يدرك كل شيء، فلا تدخله في متاهات وأمور لا يطيقها.
(115) لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً:
لأن القضاء والقدر سر الله جل وعلا في خلقه، فلا تبحث عنه، ولا تُكلف بذلك، إنما كُلفت بالعمل والطاعة والامتثال.
(116) وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً:
أي يكون كل كلامه وكل بحثه إفكاً، يعني : كذباً وإثماً –والعياذ بالله- لأنه فعل ما لم يؤمر به، وتدخل فيما ليس من شأنه.
(117) والعرش والكرسي حق :
الله سبحانه وتعالى خلق السماوات، وخلق الأرض، وخلق الكرسي، وخلق العرش، كلها مخلوقات لله عز وجل، السماوات فوق الأرض، وفوق السماوات البحر، وفوق البحر الكرسي، وفوق الكرسي العرش، فهو أعلى المخلوقات، وذلك كما جاء في الحديث: "إن السماوات السبع بالنسبة للكرسي كسبع دراهم ألقيت في ترس"، يعني : السماوات السبع وعظمها وما فيها –مقارنة بالكرسي- كسبعة دراهم ألقيت في مثل الصحن الذي يتترس به المقاتل، فما نسبة سبعة دراهم في ترس مستدير؟ نسبتها قليلة، وفي ذلك قوله تعالى: (وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255]، والعرش أعظم من الكرسي، فالكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ملقاة في أرض فلاة، كما جاء في الحديث، فلو ألقيت حلقة في أرض واسعة فما نسبتها إلى هذه الفلاة؟ لا شيء .
هذه مخلوقات عظيمة وواسعة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
فالعرش أعلى المخلوقات، والله سبحانه عالٍ فوق عرشه فوق مخلوقاته.
والكرسي تحت العرش، وجاء في الأثر أنه موضع القدمين، فالكرسي مخلوق، وليس المقصود به العلم، كما نسب ذلك لابن عباس رضي الله عنه، أنه قال في قوله: (وسع كرسيه) أي : علمه، أي: وسع علمه السماوات والأرض. المعنى صحيح، ولكن ليس هذا المقصود من الآية، فالكرسي مخلوق، والعلم صفة من صفات الله عز وجل ليست من مخلوقاته، فيجب الإيمان بالعرش وبالكرسي، هذا حق على حقيقته، وليس العرش كما يقوله الأشاعرة –ومن نحا نحوهم- إن العرش هو الملك، فيقولون في قوله تعالى : (استوى على العرش) [الأعراف:54]، أي : استولى على الملك، وهذا ضلال، فالعرش مخلوق: (وكان عرشه على الماء) [هود:7]، فالعرش تحته الكرسي، والكرسي تحته السماوات، والأرض تحت السموات . في الحديث: "فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس الأعلى، فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن"( ) فالفردوس هو أعلى الجنان وفوقه عرش الرحمن.
فعرشه مخلوق وله حملة، وهم طائفة من الملائكة: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) [الحاقة:17] قبل يوم القيامة يحمله أربعة، فإذا جاء يوم القيامة تضاعفوا وصاروا ثمانية، فكل واحد من الملائكة لا يُتصور خلقه وعظمته وقوته.
وهل يقال: إذا قيل إن العرش هو الملك. إن المُلك تحمله الملائكة؟
(118) وهو مستغن عن العرش وما دونه:
لا تتصور أن معنى قوله تعالى: (ثم استوى على العرش) [الأعراف:54] أنه محتاج إلى العرش كاستواء المخلوق على المخلوق، بل الله عز وجل مستوٍ على العرش، وهو غني عن العرش وما دون العرش.
جميع المخلوقات محتاجة إلى الله (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) [فاطر:41] فهو الذي يمسك العرش، ويمسك السماوات، ويمسك الأرض والمخلوقات، بقدرته وعزته، فهي المحتاجة إليه، وهو غني عنها سبحانه وتعالى .
ولا يلزم من كون الشيء فوق الشيء أن يكون الأعلى محتاجاً إلى ما تحته، فالسماوات فوق الأرض وليست محتاجة إلى الأرض.
(119) محيط بكل شيء وفوقه:
محيط بكل شيء (إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء) [آل عمران:5] وإحاطته بالأشياء: علمه بها، وإلا فالله عز وجل في جهة العلو.
(120) وقد أعجز عن الإحاطة خلقه:
فالله سبحانه وتعالى يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً، قال الله عز وجل: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض) [البقرة:255] فالله محيط بكل شيء علماً (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً) [الطلاق:12].
(121) ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً:
من عقيدة المسلمين أن الرسل أفضل الخلق وأن الرسل يتفاضلون فهم يعتقدون أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، كما قال الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلاً) [النساء:125] والخلة هي أعلى درجات المحبة، فالله جل وعلا يحب عباده المؤمنين والمتقين والمحسنين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ولكن الخلة لم يحصل عليها إلا اثنان من العالم: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً" ( ).
(وكلم الله موسى تكليماً) [النساء:164] ففضل بعض النبيين على بعض، وإن كانوا كلهم بالمرتبة العليا، لكن الله جل وعلا فضل بعضهم على بعض (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات) [البقرة:253] فكل نبي يعطيه الله عز وجل تفضيلاً خاصاً به، فضل إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام بالخلة، وفضل موسى بأنه كلمه تكليماً بدون واسطة الملك، وسمع موسى كلامه، ناداه سبحانه وناجاه؛ والمناداة: الصوت المرتفع، والمناجاة: الصوت الخفي، كل هذا حصل لموسى عليه الصلاة والسلام، وهذه فضيلة لم يحصل عليها غيره، وقال: (تكليماً) للتأكيد، حتى لا يقول أحد: إن هذا مجاز، فلما أكده بالمصدر، دل على أنه تكليم حقيقي من الله عز وجل، وهذا فيه إثبات الكلام لله عز وجل، وفيه إثبات الفضيلة لموسى عليه الصلاة والسلام على غيره من النبيين في هذه الخصلة، ولا يلزم إذا كان عند نبي من الأنبياء ميزة خاصة أن يكون أفضل من غيره على الإطلاق، بل هو أفضل من غيره من الأنبياء في هذه الخصلة.
|