02-02-2015, 02:41PM
|
عضو مشارك - وفقه الله -
|
|
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
|
|
بسم الله الرحمن الرحيم
القول المفيد على كتاب التوحيد
باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}
ج / 2 ص -382- باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1 الآية.
ــ
ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الأولى: قوله تعالى: "يظنون": الضمير يعود على المنافقين، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق على اليقين; كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}2 أي: يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمى وهما.
قوله: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} عطف بيان لقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ}.
و (الجاهلية): الحال الجاهلية، والمعنى: يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل.
والظن بالله عز وجل على نوعين
الأول: أن يظن بالله خيرا.
الثاني: أن يظن بالله شرا.
والأول له متعلقان:
1- متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون; فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله -سبحانه وتعالى- في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة، قد تصل العقول إليها
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة البقرة آية: 46.
ج / 2 ص -383-
وقد لا تصل، وبهذا تتبين عظمة الله وحكمته في تقديره; فلا يظن أن الله إذا فعل شيئا في الكون فعله لإرادة سيئة، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله، أما المتعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير; فهذا واقع; كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}1.
2- متعلق بالنسبة لما يفعله بك;
فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك; فعليك أن تظن أن الله يقبل منك، ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب; فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه. وأما إن كان الإنسان مفرطا في الواجبات فاعلا للمحرمات، وظن بالله ظنا حسنا; فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله; إذ إن حكمة الله تأبى مثل ذلك.
النوع الثاني: وهو أن يظن بالله سوء، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلما أو نحو ذلك; فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق.
قوله: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}2 مرادهم بذلك أمران:
الأول: رفع اللوم عن أنفسهم.
الثاني: الاعتراض على القدر.
وقوله: (لنا): خبر مقدم.
1 سورة الأحزاب آية: 17.
2 سورة آل عمران آية: 154.
ج / 2 ص -384-
قوله: "من شيء": مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
قوله: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1 أي: فإذا كان كذلك; فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره، فالله عز وجل يفعل ما يشاء من النصر والخذلان.
وقوله: "إن الأمر" واحد الأمور لا واحد الأوامر; أي: الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله -سبحانه-; فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله.
قوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ}2 أي: ما لا يظهرون لك، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق; فيخفي في نفسه ما لا يبديه لغيره; لأنه يرى من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان.
قوله: {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}3 أي: في أحد، والمراد بمن "قتل": من استشهد من المسلمين في أحد; لأن عبد الله بن أبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد، وقال: إن محمدا يعصيني ويطيع الصغار والشبان.
قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}4 هذا رد لقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له; لأنه إذا كتب القتل على أحد; لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لا بد أن يخرج إلى مكان موته.
والكتابة قسمان:
1- كتابة شرعية، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}5 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}6.
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة النساء آية: 103.
6 سورة البقرة آية: 183.
ج / 2 ص -385-
2- كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}1 وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}2.
قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ}3 أي: يختبر ما في صدوركم من الإيمان بقضاء الله وقدره والإيمان بحكمته، فيختبر ما في قلب العبد بما يقدره عليه من الأمور المكروهة; حتى يتبين من استسلم لقضاء الله وقدره وحكمته ممن لم يكن كذلك.
قوله: {وليمحص ما في قلوبكم}4 أي: إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر; صار في ذلك تمحيص لما في القلب; أي: تطهير له وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي.
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}5 خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}67.
1 سورة الأنبياء آية: 105.
2 سورة المجادلة آية: 21.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة آل عمران آية: 173.
6 سورة آل عمران آية: 174.
7 حديث عائشة رضي الله عنها: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم قالت لعروة: "يا ابن أختي! كان أبواك منهم, الزبير وأبو بكر, لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد, وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا, قال: من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير".
أخرجه: البخاري في (المغازي, باب الذين استجابوا لله والرسول , 3/110). ولم يخرجه البخاري في التفسير في هذا الباب المشار إليه, بل ساقه ابن حجر في "الفتح" لكون البخاري لم يسق حديثا في الباب كله, وأشار ابن حجر إلى أن الحديث تقدم في (المغازي- الفتح, 8/76, ط الريان), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب من فضائل طلحة والزبير, 4/1880). وأما خروجهم إلى حمراء الأسد; فقد أخرجه النسائي, وابن أبي حاتم, والطبراني; عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (2/101). وقال السيوطي: "بسند صحيح".
ج / 2 ص -386- وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}1 الآية.
قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}2 جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور; أي: بصاحبة الصدور، والمراد بها القلوب; كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}3 فالله لا يخفى عليه شيء، فيعلم ما في قلب العبد، وما ليس في قلبه متى يكون وكيف يكون.
الآية الثانية: قوله تعالى: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) المراد بهم: المنافقون والمشركون، قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}4 أي: ظن العيب، وهو كقوله فيما سبق: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ومنه ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمهما الله: أنهم يظنون أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك.
قوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}5 أي: أن السوء محيط بهم جميعا من كل جانب، كما تحيط الدائرة بما في جوفها، وكذلك تدور عليهم دوائر السوء، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلى عن رسوله وأن أمره سيضمحل; فإن الواقع خلاف ظنهم، ودائرة السوء راجعة عليهم.
قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}6 الغضب من صفات الله الفعلية التي
1 سورة الفتح آية: 6.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة الحج آية: 46.
4 سورة الفتح آية: 6.
5 سورة الفتح آية: 6.
6 سورة الفتح آية: 6.
ج / 2 ص -387-
تتعلق بمشيئته ويترتب عليه الانتقام، وأهل التعطيل قالوا: إن الله لا يغضب حقيقة: فمنهم من قال: المراد بغضبه الانتقام. ومنهم من قال: المراد إرادة الانتقام. قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم"1.
فيجاب عن ذلك: بأن هذا هو غضب الإنسان، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}2 ويدل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}3.
ف "آسفونا": بمعنى أغضبونا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فجعل الانتقام مرتبا على الغضب، فدل على أنه غيره.
وقوله: "ولعنهم": اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}4 أي: هيأها لهم وجعلها سكنا لهم ومستقرا.
قوله: {وَسَاءَتْ مَصِيراً}5 أي: مرجعا يصار إليه.
و "مصيرا": تمييز، والفاعل مستتر; أي: ساءت النار مصيرا يصيرون إليه.
1 أخرجه: الإمام أحمد (3/19, 61), والترمذي في (الفتن, باب ما جاء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة, 6/351), وقال: "حسن صحيح".
2 سورة الشورى آية: 11.
3 سورة الزخرف آية: 55.
4 سورة الفتح آية: 6.
5 سورة الفتح آية: 6.
ج / 2 ص -388- قال ابن القيم في الآية الأولى: " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته.
قوله: "قال ابن القيم": هو محمد ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الكبار الملازمين له رحمهما الله، وقد ذكره في "زاد المعاد" عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها.
قوله: "في الآية الأولى": يعني قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}1 فسر بأن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل; أي: يزول، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، يؤخذ هذا التفسير من قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}2 ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره الله على الدين كله. ففسر بما يكون طعنا في الربوبية وطعنا في الأسماء والصفات; فالطعن في القدر طعن في ربوبية الله عز وجل ؛ لأن من تمام ربوبيته عز وجل أن نؤمن بأن كل ما جرى في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله، وسوف يضمحل أمره; لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعنى ذلك أن إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام عبث وسفه، فما الفائدة من أن يرسل رسول ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسى؟ فهذا بعيد. ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم النبيين; فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقى إلى يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون
ـــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
ج / 2 ص -389- ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح.
والمشركون في سورة الفتح".
وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:
الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق; فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}1.
الثاني: أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره; لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.
الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليه الحمد; لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافا كبيرا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله -سبحانه وتعالى-.
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله; لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيها; فما بالك بالخالق الحكيم؟!
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}2 فالظن بأنها خلقت باطلا لا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}3
ـ
1 سورة الفتح آية: 12.
2 سورة ص آية: 27.
3 سورة الدخان آية: 38.
ج / 2 ص -390- وإنما كان هذا ظن السوء; لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة; فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
ــــــ
خلقناهما إلا بالحق}1 الذي هو ضد الباطل، وهؤلاء قالوا: إن الله تعالى خلقهما باطلا لغير حكمة، قال الله: {ذالك ظن الذين كفروا }2 أي: الذين يظنون أن الله خلقهما باطلا وعبثا سفها ولعبا.
والمعتزلة على العكس من ذلك، يقولون: لا يقدر إلا لحكمة، ويفرضون على الله ما يشاءون، وقد ذكر صاحب "مختصر التحرير الفتوحي" رحمه الله: أن في المسألة قولين في المذهب. ولكن الصواب بلا ريب أنه لا يفعل شيئا ولا يقدره على عبده ولا يشرع شيئا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر.
قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}3 "ويل": مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة: للتعظيم، وخبر المبتدأ: "للذين كفروا"، والجار والمجرور "من النار" بيان لويل، وفي هذا دليل على أن كلمة "ويل" كلمة وعيد وليست كما قيل: واد في جهنم، ولهذا نقول: ويل لك من البرد، ويل لك من فلان، ويقول المتوجع: ويلاه، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد.
ـ
1 سورة الدخان آية: 38 - 39.
2 سورة ص آية: 27.
3 سورة ص آية: 27.
ج / 2 ص -391- وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
ــــــــ
قوله: "وأكثر الناس": أي: من بني آدم لا من المؤمنين.
وقوله {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}1 أي: العيب فيما يختص بهم، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم.
قوله: "فيما يفعله بغيرهم": كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائما; فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقتضي ذلك.
قوله: "ولا يسلم من ذلك": أي: من الظن السوء.
قوله: "إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده": صدق رحمه الله، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله عز وجل وما له من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفة تحريف وتأويل.
ولهذا حُجب المحرِّفون والمؤوّلون عن معرفة أسماء الله وصفاته; فتجد قلوبهم مظلمة غالبا، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقى أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه، وسلك في ذلك مذهب السلف، فإن قلبه لا يرد عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين; لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دل ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه،
1 سورة الفتح آية: 6.
ج / 2 ص -392-
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما كون كل معطل ممثلا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيئ بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها; فمثل أولا، وعطل ثانيا، ثم إنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفا من تشبيهه بالموجود; فقد شبهه بالمعدوم، وأما كون كل ممثل معطلا; فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق.
وعلى هذا; فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جرى عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وعرف موجب حكمة الله; أي: مقتضى حكمة الله; لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء.
وقوله: "موجب": موجب; بالفتح: هو المسبب الناتج عن السبب بمعنى المقتضى، وبالكسر: السبب الذي يقتضي الشيء بمعنى المقتضي، والمراد هنا الأول. فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة; فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدا، ولاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين، وفي هزيمتهم في أحد; فإن في ذلك حكما عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة; فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون; كمنع الإنبات والفقر; فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده; لأنه عز وجل أكرم الأكرمين، وعلى هذا فقس.
ج / 2 ص -393- فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت; لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك; هل أنت سالم؟
قوله: "اللبيب": على وزن فعيل، ومعناه: ذو اللب، وهو العقل.
قوله: "بهذا": المشار إليه هو الظن بالله عز وجل ؛ ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق، لا ظن السوء وظن الجاهلية.
قوله: "وليتب إلى الله": أي: يرجع إليه; لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة.
قوله: "وليستغفره": أي: يطلب منه المغفرة، واللام في قوله: "فليتب" وقوله: "وليستغفره" للأمر.
قوله: "تعنتا على القدر وملامة له": أي: إذا قدر الله شيئا لا يلائمه تجده يقول: ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصاب بالجوائح، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا.
قوله: "فمستقل ومستكثر": "مستقل": مبتدأ، خبره محذوف. و"مستكثر": مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل، ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}1 ف"سعيد" مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد، ولا يقال بأن "سعيد" معطوف على شقي; لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد.
قوله: "وفتش نفسك: هل أنت سالم": وهذا ينبغي أن يكون في
1 سورة هود آية: 105.
ج / 2 ص -394- فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
ـ
جميع المسائل مما أوجبه الله، فتش عن نفسك: هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك: هل أنت سالم من الوقوع فيه؟
قوله: "فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة": "تنج" الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو، "تنج" الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو.
وقوله: "من ذي عظيمة": أي: من ذي بلية عظيمة.
قوله: "وإلا; فإني لا إخالك ناجيا": التقدير; أي: وإلا تنج من هذه البلية; فإني لا أخالك ناجيا. ومعنى أخالك: أظنك، وهي تنصب مفعولين: الأول هنا الكاف، والثاني ناجيا.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران: وهي قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}1 وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثانية: تفسير آية الفتح: وهي قوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}2 وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر: أي: ظن السوء،
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة الفتح آية: 6.
ج / 2 ص -395- الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
ـ
والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمه الله، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه: أي: لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب; فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
ولا تظن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل
مناسبة الباب للتوحيد
إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات; لأن الله قال في الأسماء: {وَلِلَّهِ {الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}1 فإذا ظن بالله ظن السوء; لم تكن الأسماء حسنى، وقال في الصفات: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}2 وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.
1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة النحل آية: 60.
المصدر :
كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد
رابط التحميل المباشر
http://waqfeya.com/book.php?bid=1979
|