#1
|
|||
|
|||
حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام (الحلقة الثانية)
الفصل الثالث
ذكر ضلالات وشبه أهل الأهواء حول السنة قديماً ودحضها لأهل الأهواء من المتكلمين وغيرهم شبه أثاروها ضدّ سنّة رسول الله ، وتهماً وجهوها ضد أصحاب رسول الله وضد أئمة الحديث، فتصدى لأباطيلهم وشبهاتهم وطعونهم عددٌ من أئمة الإسلام: كالإمام الشافعي، والإمام أحمد، وابن قتيبة، وعثمان بن سعيد الدارمي، وغيرهم. ولقد رأيت الإمام ابن قتيبة أطال النفس في تصديه لهم، ونصّ على عدد من رؤوس أهل الضلال، وفنّد مطاعنهم؛ فآثرت أن أقدم للقراء بعض جهاده –رحمه الله- في كتابه "تأويل مختلف الحديث" قال(1 ) – رحمه الله - "بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد: أسعدك الله تعالى بطاعته، وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله، فإنك كتبت إلىّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضاً وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث، فالخوارج تحتج بروايتهم " ضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم"( 2). و" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم". و "من قتل دون ماله فهو شهيد". والقاعد يحتج بروايتهم" عليكم بالجماعة فإن يد الله عزّ وجل عليها". و"من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". و"اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدّع الأطراف"(3 )." ثم ساق عدداً من الروايات الباطلة والروايات الصحيحة التي يرون أنها متناقضة، ويطعنون بالجميع في أصحاب رسول الله e وفي أهل الحديث، وفي هذا دلالة على ضلالهم وجهلهم، فالصحيح من الروايات غير متناقض، والباطل منها إنما هو من افتراءات أهل الأهواء، وقد بيّن ذلك أهل الحديث فلا وجه للطعن عليهم ". ثم قال مبيناً حال أهل الكلام: "( باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي). 1- قال أبو محمد: "وقد تدبرت -رحمك الله- مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس، وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرهم في النقل، ولا يتهمون آراءهم في التأويل. ومعاني الكتاب والحديث، وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغـة، لا يدرك بالطفـرة والتولد والعرض والجوهر والكيفية والكمية والأينية( 4). ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما؛ وضح لهم المنهج، واتسع لهم المخرج. ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة، وحب الأتباع، واعتقاد الإخوان بالمقالات والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضاً. ولو ظهر لهم من يدعي النبوة -مع معرفتهم بأن رسول الله خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية- لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً. وقد كان يجب -مع ما يدعـونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر- أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحساب والمساح والمهندسون؛ لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد، وإلا على شكل واحد، وكما لا يختلف حذاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق. لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمر واحد فما بالهم أكثر الناس اختلافاً، لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمر واحد في الدين. فـ"أبو الهذيل العلاف" يخالف "النظَّام" و"النجار" يخالفهما و"هشام بن الحكم" يخالفهم، وكذلك "ثمامة"، و"مويس"، و"هاشم الأوقص"، و"عبيدالله ابن الحسن"، و"بكر العمى"، و"حفص"، و"قبّة"، وفلان وفلان. ليس منهم واحد إلا وله مذهب في الدين، يدان برأيه، وله عليه تبع"( 5) . 2- قال أبو محمد: "لو كان اختلافهم في الفروع والسنن، لاتسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم، في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبيّ إلا بوحي من الله تعالى. ولن يعدم هذا من رد مثل هذه الأصول إلى استحسانه ونظره وما أوجبه القياس عنده، لاختلاف الناس في عقولهم وإراداتهم واختياراتهم. فإنك لا تكاد ترى رجلين متفقين، حتى يكون كل واحد منهما، يختار ما يختاره الآخر، ويرذل ما يرذله الآخر، إلا من جهة التقليد"( 6). 3- "ولو أردنا – رحمك الله – أن ننتقل عن أصحاب الحديث ونرغب عنهم إلى أصحاب الكلام، ونرغب فيهم، لخرجنا من اجتماع إلى تشتت، وعن نظام إلى تفرق، وعن أُنس إلى وحشة، وعن اتفاق إلى اختلاف، لأن أصحاب الحديث كلهم مجمعون على أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون. وعلى أنه خالق الخير والشر، وعلى أن القرآن كلام الله غير مخلوق، وعلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة، وعلى تقديم الشيخين، وعلى الإيمان بعذاب القبر، لا يختلفون في هذه الأصول، ومن فارقهم في شيء منها، نابذوه وباغضوه وبدعوه وهجروه. وإنما اختلفوا في اللفظ بالقرآن، لغموض وقع في ذلك وكلهم مجمعون على أن القرآن بكل حال -مقروءاً ومكتوباً، ومسموعاً، ومحفوظاً- غيرُ مخلوق فهذا الإجماع"( 7). 4- "فإذا نحن أتينا أصحاب الكلام، لما يزعمون أنهم عليه من معرفة القياس، وحسن النظر، وكمال الإرادة، وأردنا أن نتعلق بشيء من مذاهبهم، ونعتقد شيئاً من نحلهم، وجدنا النظام شاطراً من الشطار، يغدو على سكر، ويروح على سكر، ويبيت على جرائرها، ويدخل في الأدناس، ويرتكب الفواحش، والشائنات وهو القائل. ما زلتُ آخذُ رُوح الزِق في لُطُف .... وأستبيحُ دماً من غير مجرُوحِ حتى انثنيتُ وليِ روحان فيِ جسدي .... والزقُ مُطرحُ جسم بلا روحِ"(8 ) ثم ذكر من ضلالاته قوله: يجوز أن يجمع المسلمون جميعاً على الخطأ، وأنه طعن في حديث:" بعثت إلى الناس كافة"، وادعى أن كل نبي كذلك. وحكى عنه أقوالاً باطلة في الطلاق والظهار والوضوء والطعن في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت بالتناقض في أقوال افتراها عليهم، والطعن في عبدالله بن مسعود -- وتكذيبه في حديث انشقاق القمر وحديث خلق الجنين في بطن أمه..." (9 )، وفيه: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها". كما طعن في حذيفة --، وأبي هريرة --، وأن عمر وعثمان وعلياً وعائشة قد كذبوه. وقد تابعه في الطعن في أبي هريرة أحمد أمين وأبو رية كافأهما الله بما يستحقان، وقد رد ابن قتيبة هذه الطعون( 10). ثم ذكر بكراً صاحب الطائفة البكرية، وذكر من أقواله: أن من سرق حبة خردل ثم مات غير تائب فهو في النار مخلـد فيها أبداً مع اليهـود والنصارى، وذكر بعض ضلالاته ثم ناقشه فيها ( 11)، وذكر هشام بن الحكم وأنه كان رافضياً غالياً وأنه غال في الجبر. وذكر له شناعات أخرى (12 ). ثم قال: " ثم نصير إلى ثمامة فنجده من رقة الدين وتنقص الإسلام والاستهزاء به وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله تعالى ويؤمن به. ومن المحفوظ عنه المشهور أنه رأى قوماً يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة، فقال: انظروا إلى البقر انظروا إلى الحمير، ثم قال لرجل من إخوانه: ما صنع هذا العربي بالناس" (13 )، يعني: رسول الله فالرجل شعوبي حاقد على الإسلام ونبي الإسلام. ثم ذكر محمد بن الجهم البرمكي، وذكر اشتغاله بكتب أرسطاطاليس في الكون والفساد والكيان وحدود المنطق بها يقطع دهره في ذلك. ويعارض رسول الله في عدد من الأحاديث فيقول بخلافها عمداً وعناداً ( 14). ثم ذكر الجاحظ وتلاعبه إلى أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج لفضل السودان علي البيضان. وتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرة يفضل علياً –- ومرة يؤخره. ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز في الحجة كأنه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة من المسلمين. وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث، وشراب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، كذكره كبد الحوت، وقرن الشيطان، وذكر الحجر الأسود، وأنه كان أبيض فسوده المشركون، وقد كان يجب أن يبيضه المسلمون حين أسلموا، وذكر له مساوئ أخرى. ثم قال: "وهو مع هذا من أكذب الأمة، وأوضعهم لحديث، وأنصرهم لباطل( 15)". ثم قال: "وبلغني أن من أصحاب الكلام من يرى الخمر غير محرمة، وأن الله تعالى إنما نهى عنها على جهة التأديب كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء: 29 ). ومنهم من يرى نكاح تسع، ومنهم من يرى شحم الخنـزير وجلده حلالاً ومنهم من يقول: إن الله لا يعلم شيئاً حتى يكون، ولا يخلق شيئاً حتى يتحرى، وذكر لهم آراء فاسدة، منها: اختلافهم في ثبوت الخبر إلى أقوال، منها أنه يثبت بعشرين رجلاً، ومنها أنه يثبت بسبعين بناء على استدلالات عجيبة ثم رد عليهم رداً علمياً جيداً. وذكر لهم تفاسير للقرآن عجيبة يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم. وذكر أنه أعجب من تفسيرهم تفسير الرافضة وما يدعونه من علم باطنه بما وقع إليهم من الجفر، وفسّر الجفر بأنه جلد جفر ادّعوا أنه كتب لهم فيه الإمام كل ما يحتاجون إلى علمه وكل ما يكون إلى يوم القيامة. وقولهم في قول الله عز وجل: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ ( النمل: 16 ). إنّه الإمام ورث علم النبي ، وقوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ( البقرة: 67 )، إنّها عائشة، وقوله: فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ( البقرة: 73)، إنّه طلحة والزبير. وقولهم في الخمر والميسر: إنهما أبو بكر وعمر. والجبت والطاغوت: إنهما معاوية وعمرو"، ثم قال: "مع عجائب أرغب عن ذكرها". ثم ذكر بعض فرقهم، ثم قال: "ولا نعلم في أهل البدع والأهواء أحد ادّعى الربوبية لبشر غيرهم وذكر أن ابن سبأ فعل ذلك" ( 16). ذكر هذه الفرق ورؤسها ليبين ضلالهم ومنها طعنهم في سنة رسول الله وأصحابه وقد ناقش ضلالاتهم خلال هذه الصفحات وفيما بقي من كتابه رحمه الله ، وقد ورثهم أقوام في هذه الضلالات سيأتي ذكر بعضهم ومناقشتهم إن شاء الله. ثمّ ذكر أهل الحديث وفضائلهم فقال: "فأما أصحاب الحديث، فإنهم التمسوا الحق من جهته وتتبعوه من مظانّه، وتقربوا من الله باتباعهم سنن رسول الله وطلبهم لآثاره وأخباره براً وبحراً وشرقاً وغرباً يرحل الواحد منهم راجلاً مقوياً( ) في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة، ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي"( 17). ثم ضرب عدداً من الأمثلة لأحاديث موضوعة كيف ردوها ونصوا على واضعيها، وذكر أحاديث صحيحة كشف وجوه إشكالها وبين مخارجها على طريق أهل العلم الراسخين. ثم واصل بحثه في رد الأباطيل وبيان مخارج الأحاديث وصحة معانيها ورداً لمطاعن الزنادقة والمنحرفين عن النهج القويم، ومنها أحاديث باطلة تعلق بها أبو رية وأمثاله للطعن في السنة، ومنها أحاديث صحيحة هوش عليها النظام وأمثاله. وقد تصدى للرد على هؤلاء المرجفين على سنة رسول الله الإمام الشافعي في كتابه "الرسالة" تحت عنوان "الحجة في تثبيت خبر الواحد" ذكر فيه حججاً كثيرة توجب قبول خبر الواحد العدل، ثم قال -رحمه الله تعالى-:"وفي تثبيت خبر الواحد أحاديث يكفي بعض هذا منها، ولم يزل سبيل سلفنا والقرون بعدهم إلى من شاهدنا هذه السبيل، وكذلك حكي لنا عمن حكي لنا عنه من أهل العلم بالبلدان وذكر أهل المدينة، ومنهم: سعيد بن المسيب وعروة والقاسم بن محمد وعدد آخرين منهم. وذكر من أهل مكة: عطاء، وطاووساً، ومجاهداً، وابن أبي مليكة، وعكرمة ابن خالد. ومن أهل اليمن: وهب بن منبه، ومكحولاً، وعبد الرحمن بن غنم بالشام، والحسن، وابن سيرين بالبصرة. وعلقمة والأسود والشعبي بالكوفة، ومحدثي الناس وأعلامهم بالأمصار كلهم يحفظ عنه تثبيت خبر الواحد عن رسول الله والانتهاء إليه والإفتاء به، ويقبله كل واحد منهم عمن فوقه ويقبله عنه من تحته. ولو جاز لأحد من الناس أن يقول في علم الخاصة: أجمع المسلمون قديماً وحديثاً على تثبيت خبر الواحد والانتهاء إليه بأنه لم يعلم من فقهاء المسلمين أحد إلا وقد ثبته جاز لي. ولكن أقول: لم أحفظ عن فقهاء المسلمين أنهم اختلفوا في تثبيت خبر الواحد"( 18). وفي كتاب "جُـمّاع العلم"(19 ) حيث ناظر رؤوس منكري السنة بحضور عدد من هذه الفئة الضالّة التي ترد الأخبار كلّها فدحض أباطيلهم وشبهاتهم بردود قوية وحجج دامغة تبين منـزلة الرسول الكريم ومنـزلة سنته وتدحض أباطيل هؤلاء المرجفين المعارضين وتثبت حجية السنة النبوية. كما ناقش في كتابه "جُمّاع العلم"(20 ) -أيضاً- فئة أخرى ترد أخبار الآحاد بحجج بيّنة واضحة قويّة. كما تصدى لهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي -رحمه الله- في كتابه "الرد على بشر المريسي"( 21)، فقد ضمَّن هذا الكتاب الردّ على تحريفهم وتعطيلهم لصفات الله كاستواء الله على عرشه وتأويل الوجه واليدين والسمع والبصر وإنكار رؤية الله في الآخرة. ثم دلف إلى الحثّ على طلب الحديث، والرد على من زعم أنه لم يكتب على عهد النبي وأصحابه، والذب عن الصحابة وأصحاب الحديث وأهل السنة وفضّلهم على غيرهم، والذب عن أبي هريرة ، والذب عن معاوية وعبدالله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهم-. والذابون عن السنة والصحابة وأهل الحديث لا يحصون في قديم الزمان وحديثه وإنما نذكر في هذا البحث من ذلك ما يتيسر لنا ذكره. كما نذكر من خصوم السنة وأهلها ما يتيسر لنا ذكره مع دحض أباطيلهم وجهالاتهم. -------------------------------------------------------------------------------- الفصل الرابع ذكر شبهات أهل الأهواء حول السنة في العصر الحاضر ودحضها. وفي القرن الرابع عشر استفحلت الفتنة ضد الشريعة الإسلامية كتاباً وسنة، وأقول: كتاباً وسنة؛ لأنّ الطعن في السنة طعن في القرآن. على أيدي أناس ينتمون إلى الإسلام. وجاءت فتنتهم امتداداً للفتن السابقة ومبنية على شبهاتها، وانتشرت الفتنة في الشرق والغرب على أيدي بعض أعداء الإسلام من المستشرقين أحياناً، وعلى أيدي أناس ينتسبون إلى الإسلام في الغالب، ويرجع هذا البلاء في نظري إلى مدرستين يجمعهما عصر واحد وهدف واحد كان من ورائها الاستعمار الصليبي. إحداهما: مدرسة أحمد خان الهندي مؤسس جامعة عليكره. لقد تأثر هذا الرجل بالحضارة الغربية تأثراً عميقاً فدفعه ذلك إلى الدعوة بحماس إلى تقليدها، وإلى تفسير الإسلام والقرآن بما يطابقها ويطابق هوى الغربيين، بل أرى أنه إلى جانب هذا كان متأثراً بفكر الباطنية يظهر ذلك في تفسيره وكتاباته. لقد نسب إليه أنه أنكر الجنة والنار. وقال عن الملائكة بأنها: "القوى المدبرة للعالم التي يمكن السيطرة عليها أو هي القوى التي في مقدور الإنسان تسخيرها"( 22). وقال عن الجن بأنهم:" سكان الغابات والصحاري من البشر"( 23). ومثل تأويله الشيطان: بأنه القوى العدائية التي لا يملك الإنسان السيطرة عليها ( 24). بل أنكر الأحاديث الثابتة التي تدل على أنهم خلقوا من نار، وأنها تتحرك بالإرادة وتتشكل بأشكال مختلفة ( 25). هذا ما نقله عنه الشيخ محمد إسماعيل السلفي في كتابه "مقالات سرسيد"، وأضيف أن إنكاره هذا لم يتوقف عند إنكار السنة بل تجاوزه إلى إنكار الآيات القرآنية المصرحة بأن الله خلق الجان من مارج من نار. قال تعالى: خَلَقَ الإِنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّار * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ( الرحمن: 14-15 ). وقال تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ( الحجر:27). وقال تعـالى لإبليس حين أبى أن يسجد لآدم: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَـهُ مِنْ طـِينٍ(الأعراف:12). والجنّ ذرية إبليس، قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ( الكهف:50 ). ولقد جره تهوره في إنكار المغيبات وإنكار المعجزات إلى إنكار ما صرح به القرآن الكريم، كإنكاره إلقاء إبراهيم- عليه الصلاة السلام- في النار، وإنكاره ولادة عيسى -عليه الصلاة السلام- من غير أب، والتقام الحوت ليونس -عليه الصلاة والسلام-. فمثل هذا الرجل الذي جمع بين العقلية الغربية والباطنية لا يستغرب منه أن يتناول السنة بالطرق الباطنية، أو ينكرها، أو يضع لتأويلها وإنكارها القواعد والمناهج الفاسدة المشككة فيها. انظر إليه يقول: "بعد وفاة النبي ظلت الروايات تتناقل على الألسنة إلى عهد التصنيف في الكتب المعتمدة غير أننا لا نستطيع أن نغض الطرف عن الهيئة التي دونت بها كتب الأحاديث تلك التي كان مبناها روايات الذاكرة.. بينما البعد الزمني كفيل بمزج الزائد بها وإضافة الجديد إليها"( 26). ويؤكد تشكيكه في السنة ورواتها بقوله: " بأن مادون في هذه الكتب من الأحاديث إنما هي ألفاظ للرواة ولا نعرف ما بين الأصلي-الصادر من شفتيه عليه الصلاة والسلام- والمعبر به من وفاق وخلاف، وليس من العجب أن يخطئ أحد الرواة في فهم الحديث مما يكون سبباً في ضياع المفهوم الصحيح" (27 ). ويقول: "وإنَّا لا ندري عن الأحاديث التي وثقت، أَوُجِّهَت الجهود إليها من حيث المضمون والمحتوى أم لا؟، وأي السبل سلكت في ذلك؟." ( 28). وجهل هذا الرجل أو تجاهل ما كان يتمتع به الصحابة والتابعون وأئمة الحديث وحفاظه من الأمانة والعدالة والحفظ المذهل وجهل أو تجاهل العناية التي لا نظير لها في أمة من الأمم بسنة رسول الله حفظاً ومراعاة لألفاظها ومعانيها. وإذا كان لا يدري هل الجهود قد وجهت إلى الأحاديث من حيث المضمون والمعنى أو لا، ولا يدري أي السبل التي سلكت في ذلك؛ فكل هذا راجع إلى جهله أو سوء قصده، وتاريخ أئمة الحديث وواقعهم يشهدان أن جهودهم العظيمة كانت موجهة إلى الأسانيد وإلى ألفاظ الحديث ومعانيه بدقة بالغة لا تجد لها نظيراً. ومن المستنكر المستفظع لدى العقلاء أن يأتي إنسان جاهل بعلم من العلوم أو صناعـة من الصناعات الدنيوية فيضع لها قوانين وشروطاً يمليها على كبار خبرائها وعباقرتها ظاناً أنه قد أَتى بما لم تستطعه الأوائل، وظاناً أنّ أهل تلك العلوم قد قصرت مداركهم عن الشروط والقوانين التي عن طريقها يتقنون علومهم وصناعاتهم ويحفظونها من الخلل والضياع. فلو جاء هذا المسكين إلى كبار المتخصصين في الطب أو الهندسة أو علمـاء الذرة، أو جاء أعجمي لا يعرف العربيـة إلى فطاحل علوم النحـو والتصريف والبلاغة بأنواعها يقترح عليهم ضوابط وقواعد لعلومهم فهل سيقابل بالتقدير والاحترام؟. وما مصير العلوم الشرعية والدنيوية لو قبلوا من الجهلة والموسوسين ما يتخيلونه من المقترحات والشروط عليهم؟ إنه الهدم كما يريد هذا الرجل وأمثاله لسنة رسول الله بل للقرآن نفسه. يقول أحمد خان:" والمعيار السليم لقبولها: هو أن ينظر إلى المروي بمنظار القرآن فما وافقه أخذناه وما لم يوافقه نبذناه..، وإن نسب شيء من ذلك إلى الرسول فيجب فيه توفر شروط ثلاثة: 1- أن يكون الحديث المروي قول الرسول بالجزم واليقين. 2- أن توجد شهـادة تثبت أن الكلمات التي أتى بها الراوي هي الكلمات النبوية بعينها. 3- أن لا يكون للكلمات التي أتى بها الرواة معان سوى ما ذكره الشرَّاح. فإن تخلف أحد هذه الشروط الثلاثة لم يصح نسبة القول إلى الرسول أو أنه حديث من أحاديثه"( 29). والجواب أن يقال: أولاً: إذا تحقق الشـرط الأول على ما فيه من بلاء فيكـون اشتراط الأخيرين من الهذيان يقصد بهما التهويل. لقد وضع علماء الحديث شروطاً حيث قالوا في تعريف الحديث الصحيح:" هو رواية عدل تام الضبط متصل السند غير معل ولا شاذ"، ولهم بحوث عميقة في رد الروايات المردودة -ومنها المكذوب المفترى على رسول الله- كفيلة بحفظ السنة وحمايتها من الدخيل والكذب والأخطاء والأوهام. قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله-: " معرفة الموضوع المختلق المصنوع، وعلى ذلك شواهد كثيرة: منها: 1- إقرار واضعه على نفسه قالاً أو حالاً. 2- ومن ذلك ركاكة ألفاظه وفساد معناه. 3- أو مجازفة فاحشة. 4- أو مخالفة للكتاب والسنة الصحيحة. فلا تجوز روايته لأحد من الناس إلاَّ على سبيل القدح فيه ليحذره الناس ومن يغترّ به من الجهلة والعوام والرعاع"(30 ) . ثم قال:" والواضعون أقسام كثيرة: منهم زنادقة ،ومنهم متعبدون يحسبون أنهم يحسنون صنعاً... إلخ "(31). وقد بين الحافظ ابن حجر الدوافع إلى الكذب على رسول الله فقال رحمه الله: " والحامل للواضع على الوضع: 1- إما عدم الدين، كالزنادقة. 2- أو غلبة الجهل، كبعض المتعبدين. 3- أو فرط العصبية، كبعض المقلدين. 4- أو اتّباع هوى بعض الرؤساء. 5- أو الإغراب لقصد الاشتهار"( 32) . وهناك أسباب آخرى يطعن بها في الرواة تضمن التعريف السابق الإشارة إليها؛ منها ما يتعلق بالعدالة، ومنها ما يتعلق بالضبط. فالمتعلق بالعدالة، مثل: الكذب وتهمة الراوي به والفسق والجهالة والبدعة. والمتعلق بالضبط، مثل: فحش الغلط أو الغفلة أو وهم الراوي أو مخالفته للثقات أو سوء الحفظ. وهناك شروط تتعلق بالإسناد، حيث اشترط فيه المحدثون الاتصال بعد اشتراطهم للعدالة والضبط في الرواة. ولقد اشترط المحدثون لصحة الرواية اتصال الإسناد من أوله إلى آخره، فإذا حصل سقط راو في إسناد في أي موضع منه لا يقبل المتن الذي جاء عن طريق هذا الإسناد الذي حصل فيه السقط، فما وقع السقط من آخره -بأن سقط منه الصحابي بين رسول الله والراوي عنه- سمي: مرسلاً. وإن كان السقط من أوله من بعض المصنفين سمي: معلقاً. وإن كان السقط في أثناء الإسناد فإن كان الساقط واحداً سمي: منقطعاً، وإن كان باثنين فصاعداً على التوالي سمي: معضلاً، ويلحق بذلك التدليس، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ قد سمع منه ما لم يسمعه منه موهماً أنه قد سمعه من شيخه. والإرسال الخفي، وهو: أن يروي الراوي عن شيخ عاصره ولم يلقه، وهناك أمور أخرى روعيت بدقة ودراسات طويلة ودقيقه جداً لحماية سنة رسول الله من تسلل الكذب وتطرق الخلل إليها من أي ناحية من النواحي، ولا يتسع المقام لذكرها وموضعها كتب علوم الحديث. وهي أحوط وأشد حماية وضبطاً ودفعاً للدخيل على سنة رسول الله مما يضعه الجاهلون المغرضون من الشروط. ولأئمة الحديث من الإدراك والوعي وقوة التمييز بين الحق والباطل، وما يصح نسبته إلى رسول الله وما لا يصح ما يبهر العقول. قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم في تقدمة كتاب "الجرح والتعديل"( 33): " سمعت أبي رحمه الله يقول: جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أخبرك راوي هذا الكتاب بأني غلطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا، ما أدري هذا الجزء من رواية من هو ؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب، فقال تدعي الغيب؟ قال: قلت: ما هذا ادعاء الغيب قال: فما الدليل على ما تقول ؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة، قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم، قال: هذا عجب، فأخذ فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث ثم رجع إلي وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث، فما قلت أنه باطل قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت أنه كذب قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت أنه منكر قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت أنه صحاح قال أبو زرعة: صحاح، فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما، فقلت فقد ذلك(34) أنا لم نجازف وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن ديناراً نبهرجاً(35) يحمل إلى الناقد فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له من أين قلت أن هذا نبهرج؟ هل كنت حاضراً حين بهرج هذا الدينار؟ قال: لا، فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل فمن أين قلت أن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت، وكذلك نحن رزقنا معرفة ذلك، قلت له فتحمل فص ياقوت إلى واحد من البصراء من الجوهريين فيقول: هذا زجاج، ويقول لمثله: هذا ياقوت، فإن قيل له: من أين علمت أن هذا زجاج وأن هذا ياقوت؟ هل حضرت الموضع الذي صنع فيه هذا الزجاج ؟ قال: لا، قيل له: فهل أعلمك الذي صاغه بأنه صاغ هذا زجاجاً ؟ قال: لا، قال: فمن أين علمت ؟ قال: هذا علم رزقت؛ وكذلك نحن رزقنا علماً لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه. قال أبو محمد: تعرف جودة الدينار بالقياس إلى غيره فإن تخلف عنه في الحمرة والصفاء علم أنه مغشوش، ويعلم جنس الجوهر بالقياس إلى غيره فإن خالفه في الماء والصلابة علم أنه زجاج، ويقاس صحة الحديث بعدالة ناقليه، وأن يكون كلاماً يصلح أن يكون من كلام النبوة، ويعلم سقمه وإنكاره بتفرد من لم تصح عدالته بروايته والله أعلم". وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: " فكل حديث رأيته يخالف المعقول أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع، فلا تتكلف اعتباره"( 36). قال: " واعلم أن حديث( 37) المنكر يقشعر له جلد طالب العلم منه وقلبه في الغالب "( 38). وقال الإمام ابن القيم في كتابه "المنار المنيف في الصحيح والضعيف( 39)": "فصل: وسئلت هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط، من غير أن ينظر في سنده؟. فهذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع من معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله وهديه، فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه ويحبه ويكرهه، ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول ، كواحد من أصحابه. فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز، مالا يعرفه غيره. وهذا شأن كل متبع من متبوعه، فإن للأخص به، الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه، ومالا يصح، ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم، يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم -والله أعلم-". ثـم ضرب عدداً من الأمثلة مما لا يصح نسبته إلى رسول الله ، ثم قال -رحمه الله- (40 ): " والأحاديث الموضوعة عليها ظلمة وركاكة ومجازفات باردة تنادي على وضعها واختلاقها على رسول الله ، مثل حديث: "من صلى الضحى كذا وكذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبياً". وكأن هذا الكذاب الخبيث لم يعلم أن غير النبي لو صلى عمر نوح -عليه السلام- لم يعط ثواب نبي واحد. ثم قال -رحمه الله-: فصل: "ونحن ننبه على أمور كلية يعرف بها كون الحديث موضوعاً. فمنها: 1- اشتماله على مثل هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله وضرب لذلك مثالاً ( 41). 2- قال: "ومنها: تكذيب الحس له كحديث: "الباذنجان لما أكل له"، و"الباذنجان شفاء لكل داء" قبح الله واضعهما فإن هذا لو قاله يوحنس أمهر الأطباء لسخر الناس منه... الخ". وضرب عدداً من الأمثلة لهذا النوع. ثم قال - رحمه الله -: "فصل: 3- ومنها: "سماجة الحديث وكونه مما يسخر منه، كحديث: "لو كان الأرز رجلاً لكان حليماً ما أكله جائع إلا أشبعه "؛ فهذا من السمج البارد الذي يصان عنه كلام العقلاء، فضلاً عن كلام سيد الأنبياء. وحديث: " الجوز دواء والجبن داء، فإذا صار في الجوف صار شفاءً "، فلعن الله واضعه على رسول الله صلى الله عليه وسلم(42) ". ثم ذكر أمثلة متعددة لهذا النوع. 4- ثم قال - رحمه الله -: فصل: ومنها: "مناقضة الحديث لما جاءت به السنة الصريحة مناقضة بينة، فكل حديث يشتمل على فساد، أو ظلم، أو عبث، أو مدح باطل، أو ذم حق، أو نحو ذلك فرسول الله منه برئ. ومن هذا الباب: أحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد وأن كل من تسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار. وهذا مناقض لما هو معلوم من دينـه : أن النار لا يجار منها بالأسماء والألقاب، وإنما النجاة منها بالإيمان والأعمال الصالحة... (43 ) ". ثم قال -رحمه الله-: " فصل: 5- ومنها: "أن يدعي على النبي أنه فعل فعلاً ظاهراً بمحضر من الصحابة كلهم وأنهم اتفقوا على كتمانه، ولم ينقلوه كما يزعم أكذب الطوائف وضرب لذلك، بحديث الوصية لعلي وأن الشمس ردت له بعد العصر والناس يشاهدونها (44 )". ثم قال -رحمه الله-: " فصل ". 6- ومنها: أن يكون الحديث باطلاً في نفسه، فيدل بطلانه على أنه ليس من كلام الرسول . وضرب لذلك عدداً من الأمثلة منها: حديث المجرة التي في السماء من عرق الأفعى التي تحت العرش ". ( 45) ثم قال -رحمه الله-: " فصل: 7- ومنها: أن يكون كلامه لا يشبه كلام الأنبياء فضلاً عن كلام رسول الله الذي هو وحي يوحى... بل لا يشبه كلام الصحابة ".(46 ) ثم ضرب لذلك عدداً من الأمثلة. ثم قال -رحمه الله-: " فصل: 8- ومنها: أن يكون في الحديث تاريخ كذا وكذا مثل قوله: إذا كان سنة كذا وقع كيت وكيت". وضرب لذلك مثالاً ثم قال:"وأحاديث هذا الباب كلها كذب مفترى ".(47 ) ثم قال: فصل: 9- ومنها: أن يكون الحديث بوصف الأطباء والطرقية أشبه وأليق كحديث " الهريسة تشد الظهر ".( 48) ثم ذكر أمثلة أخرى. ثم قال: فصل: 10- ومنها: أحاديث العقل كلها كذب كقوله لما خلق الله العقل قال له أقبل... الخ ثم نقل عن الدارقطني: أن كتاب العقل وضعه أربعة فذكرهم منهم ميسرة بن عبد ربه. ثم قال - رحمه الله -: فصل: 11- ومنها: الأحاديث التي يذكر فيها الخضر وحياته كلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد وساق في ذلك أقوال بعض الأئمة وحججهم من الكتاب والسنة ومن المعقول من عشرة أوجه ( 49). ثم قال - رحمه الله -: " فصل: 12- أن يكون الحديث مما تقوم الشواهد الصحيحة على بطلانه كحديث عوج بن عنق الطويل الذي قصد واضعه الطعن في أخبار الأنبياء( 50)". ثم بين بطلانه بالأدلة من وجوه، ثم ضرب أمثلة أخرى لهذا النوع، ثم قال - رحمه الله -: " فصل: 13- ومنها: مخالفة الحديث صريح القرآن. كحديث مقدار الدنيا: " وأنها سبعة آلاف سنة ونحن في الألف السابعة". ثم قال: " وهذا من أبين الكذب لأنه لو كان صحيحاً لكان كل أحد عالماً أنه قد بقي للقيامة من وقتنا هذا مئتان وإحدى وخمسين سنة ". وساق الأدلة من القرآن والسنة على بطلان هذا الحديث. أقول: ومما يؤكد كذب هذا الحديث أن هذه الأمة قد تجاوزت الألف السابعة بأربع وعشرين وأربعمائة سنة. وساق - رحمه الله - كذبات أخرى تجاوزتها اختصاراً. ثم قال - رحمه الله -: " فصل: 14- ومنها: ما يقترن بالحديث من القرائن التي يعلم بها أنه باطل، مثل: حديث وضع الجزية عن أهل خيبر"، ثم قال: "وهذا كذب من عدة وجوه(51 )"، وساق عشرة أوجه. ثم قال - رحمه الله -: " فصل: في ذكر جوامع وضوابط كلية في هذا الباب ( 52)". وساق عدداً من هذه الجوامع والضوابط مقرونة بأمثلتها إلى آخر كتابه( 53) تركتها لأن المجال لا يتسع لها. فهل يعرف هؤلاء الجهال المغرضون هذه الضوابط والأصول التي حافظت على سنة رسول الله بحيث لا يفلت منها حديث مكذوب أو حديث فيه خطأ ولو كلمة واحدة؟، وهل عرفوا مدى العبقرية التي حباها الله لأئمة الحديث النقاد الصيارفة الذين أعدهم الله أيما إعداد لحماية السنة والحفاظ عليها وفاءً بما وعد من حفظه وحيه وذكره؟ وهل عرف الجهلة المغرضون مدى الجهل الذي يتخبطون فيه ومدى الحماقات التي ارتكبوها، ومنها: التطاول على سنة رسول الله ورجالها الأفذاذ؟ وهل أدركوا أن الله لهم بالمرصاد، وأنه سيفضحهم ويرد كيدهم خاسئاً؟. نعود هنا إلى فتنة أحمد خان وما ترتب عليها ونشأ عنها. قال العلامة المجاهد المحدث الشيخ ثناء الله الأمرتسرى رحمه الله( 54): " ما أشأم ذلك اليوم الذي خرج فيه صوت عليكرة المخالف لجميع الأمة الإسلامية الداعي إلى اعتماد القرآن وحده في الدين، وأن السنة لا تكون دليلاً شرعياً، فأثر هذا الصوت على الحافظ محب الحق عظيــم أبادي في بتنه (بالهند)، كما أثر على عبد الله جكرالوي في لاهور تأثيراً عظيماً"، يعني بالرجلين المذكورين مؤسسي دعوة القرآنيين. والجكرالوي هذا قد ترجم له الشريف عبد الحي بن فخر الدين الحسني في كتابه "نزهة الخواطر"( 55). ومن ترجمته قوله: "الذي دعا الناس إلى مذهب جديد سماهم أَهلَ الذكر دعاهم إلى القرآن وأنكر الأحاديث قاطبة، وصنف الرسائل في ذلك، وقال إن الناس افتروا على النبي ، ورووا عنه الأحاديث وما كان ينبغي له أن يقول ويفعل شيئاً ليس له ذكر في القرآن. وأما ما ورد في القرآن وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (النساء:59)، والمراد به القرآن فليس القرآن والرسول شيئين متغايرين يجب اتباع كل واحد منهما على حدة. فالمراد بالرسول في قوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ (النساء:170). وقوله تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ (النساء: 59 ). وقوله: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ( النور: 48 ). وقوله: مَا حرّمَ اللهُ وَرَسُولُه ( التوبة:29 ). وقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ (آل عمران:31). وغيرها من الآيات الكريمة القرآن"( 56). وهـذه زندقـة واضحـة تجاوزت زندقة الباطنية، وإسقاط للرسول الكريم . وللقرآنيين زعماء آخرون، مثل: الخواجة أحمد الدين، والحافظ محمد أسلم، وغلام أحمد برويز، ولهم تلاعب بدين الله وشعائره لا يتسع المقام لذكره، وقد تولى نقاشهم علماء الهند وباكستان، وبينوا كفرهم وزندقتهم، وأنهم ليسوا من هذه الأمة المحمدية. وفتنتهم امتداد لفتنة أحمد خان وللحركات الباطنية، كما أن لها تعلق بتأويلات وآراء الجهمية والمعتزلة والروافض والفرق التي تابعتها في هذه الآراء والتأويلات، مما يحتم على المسلمين رفض هذه الآراء والتأويلات التي تفتح الباب للزنادقة لهدم الإسلام وتقويض مقوماته وأركانه والتلاعب بشعائره، والعودة إلى الإسلام الفطري الخالص من الشوائب والبعيد كل البعد عن هذه الآراء المنحرفة والتأويلات الباطلة. أقول: يجب رفض هذه التأويلات والآراء المنحرفة؛ لأنني رأيت لهذه الفرقة الملحدة شبهاً من بينها شبه موروثة عن المعتزلة والخوارج والروافض، كالقول بأن أخبار الآحاد تفيد الظن، وأنها تحتمل الصدق والكذب. قال أحد زعمائهم وهو الحافظ محمد أسلم: " لا تتجاوز السنة مرحلة أخبار الآحاد طبقاً للأصول التي أقرها المحدثون، ولا تبلغ رواية من رواياتها إلى التواتر المفيد للعلم واليقين"( 57). ويقول: "كما أن تمحيصها بعلم الجرح والتعديل قياسي مبناه التخمين والظن.. فليست السنة ظنية وحدها بل معيار فحصها ظني أيضاً"( 58). ألا يكفي هذا زاجراً لمن عنده احترام لسنة رسول الله وغيرة عليها عن التعلق بهذا الأصل الفاسد، وألا يكفيه دافعاً لمحاربته ورفضه، ثم السير على منهاج السلف وفي ركاب أهل السنة والحديث الذين رفضوه وحاربوه من فجر التاريخ. ثانياً: مدرسة جمال الدين الأفغاني أو الإيراني المتوفى سنة 1314هـ. فإن على هذا الرجل مآخذ كبيرة وقوية منها: 1- أنه كان متهماً بالماسونيـة بل كان أحـد كبار أعضاء الماسون وقدمت الأدلة على هذه الاتهامات، من مكاتبته لأعضائها وطلبه الانضمام إليها واستمراره فيها ( 59). 2- الدعوة إلى التفرنج باسم التجديد. 3- الدعوة إلى التحرر والانحلال من القيود الشرعية. 4- الدعوة إلى توحيد الأديان الثلاثة: الإسلام، واليهودية، والنصرانية. 5- الدعوة إلى وحدة الشرق بما فيه من ملل. 6- الدعوة إلى القومية. 7- الدعوة إلى الاشتراكية. 8- الدعوة إلى الوطنية. 9- الدعوة إلى السفور. 10- القول بوحدة الوجود. أما موقفه من السنة، فيوضحه قوله: أ- "فالتواتر والإجماع وأعمال النبي المتواترة إلى اليوم هي السنة الصحيحة التي تدخل في مفهوم القرآن وحده والدعوة إلى القرآن وحده". وهذا القول هو الذي تراجع إليه محمد توفيق صدقي مع الشك في صدق هذا التراجع. ب- " القرآن القرآن وإني لآسف إذ دفن المسلمون بين دفتيه الكنوز وطفقوا في فيافي الجهل يفتشون عن الفقر المدقـع "( 60). ولا أدري ما هي هذه الكنوز التي دفنها المسلمون وطفقوا يفتشون في فيافي الجهل عن الفقر المدقع طوال أربعة عشرة قرناً حتى جاء الأفغاني فاكتشفها أهي تفسيرات الباطنية؟! أم هي تأويلاته لنصوص القرآن لمطابقة سياسة الغـرب واكتشافاته وتقاليده الفاسدة؟!. وقال جمال الدين الأفغاني:" قرأت في القرآن أمراً تغلغل في فهمه روحي وتنبهت إليه بكليتي وهو وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.. (البقرة:30)، فاندهشت الملائكة لهذا النبأ ولهذه المشيئة الربانية إذ علمت أن ذلك الخليفة سيكون الإنسان، وأن ذلك الإنسان – الخليفة- سيصدر منه موبقات وسيئات، أعظمها وأهمها أنه يسفك الدماء (البقرة:30)، فقالت بملء الحرية المتناسبة مع الملأ الأعلى وعالم الأنوار والأرواح الذي لا يصح أن يكون هناك شيء من رياء ونفاق أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء (البقرة:30)، ووقفت الملائكة عند هذا الحد من الطعن في الإنسان ولم تذكر باقي السيئات من أعماله إذ رأتها لغواً بالنسبة لهذين الوصمين الفساد وسفك الدماء". ثم يمضي في التفسير على هذا المنوال إلى أن يقول:" وبأبسط المعاني إن الله تعالى أفهم الملائكة أنكم علمتم ما في خليفتي في الأرض وهو الإنسان من الاستعداد لعمل الفساد وسفك الدماء، وجهلتم ما أعددته لصونه وصرفه عن الإتيان بالنقيصتين المذكورتين ألا وهو العلم فقال: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(البقرة:31)". وهذا تفسير ديمقراطي، كأن الملائكة حزب معارض. ويفسر آيات أخرى فيقول:" غضب سليمان -عليه السلام- على الهدهد إذ تفقده ولم يجده فلما حضر قال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ (النمل:22)، غير ملفق ولا مشوب بالكذب كما تفعل أكثر الجواسيس مع الملوك والحكام إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (النمل:23)، ثم يقول بعد ذلك وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ (النمل:24)،" ثم يقول بعد ذلك: "فلما جاء الكتاب إلى ملكة سبأ جمعت فوراً مجلس الأمة قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (النمل:32)، وبعد أن تداول مجلس الأمة – الوزراء اليوم مثلاً- واستخرجوا إحصاءً من سجلاتهم بما عندهم من المعدات الحربية أعلنوا للملكة وأنبؤوها أنه في إمكانهم محاربة سليمان بما توفر لديهم من القوة إذا هي وافقت على إعلان الحرب قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (النمل:33)"، ثم مضى بعد يقول:" فرد سليمان الهدية وتحفز لإخراج الملكة وقومها أذلة بالحرب وأراد أن يريها ما لديه من القوى وما تسخر له من الريح يمتطيها وتجري بأمره –طيارات مثلاً- وسرعة نقل الأخبار والأشياء –التلغراف اللاسلكي مثلاً-". وكان يشطح في تفسيره فيفسر الربا المحرم في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً (آل عمران:130)، بـ"جواز أكل الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المدين ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال ويصير أضعافاً مضاعفة". ويفسر جدّ في قوله تعالى: وأنه تعالى جدُّ ربِّنَا (الجنّ:3) "بالعرش" "لأنَّ جدّ معرب كدّ، ومعناه العرش بالفارسية أو الهندية"، وهذا تفسير باطل إذ يصير المعنى "وأنه تعالى عرش ربنا". ويفسر فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة (النساء:3) بأنه " قيد من خاف أن لا يعدل بالمرأة الواحدة وترك لمن يخشى أن لا يعدل -حتى مع المرأة الواحدة- عدم الزواج وهذا ما يستنتجه العقل مادام يحمله العاقل ويقول به الحق والعدل". ويفسر الأمور الغيبية من غير نص فيقول وترى الأرض بارزة (الكهف:47) : "أي خارجة عن محورها غير راضخة للنظام الشمسي، وإذا ما حصل ذلك فلا شك يختلف ما عرف من الجهات اليوم فيصير الغرب شرقاً والجنوب شمالاً، وبذلك الخروج عن النظام الشمسي وما يحدث من الزلزال العظيم، لا شك تتبعثر الأرض لبعدها عن المركز، وتنسف الجبال نسفاً، وتتحول براكين هائلة، وبالنتيجة تخرب الكرة الأرضية ويعمها الفناء بما فيها من الحيوان وتقوم القيامة والله أعلم"(61 ). وهذا تفسير باطل، فمصير الأرض والسموات والجبال والشمس والقمر والكواكب مصير واحد تحدث عنه القرآن في عدد من سوره من ذلك قول الله تعالى: إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَـرَتْ * وَإِذَا الْبِحَـارُ فُجِّـرَتْ * وَإِذَا الْقُبـُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (الإنفطار:1-5). وقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ. إلى قوله : وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ * وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (التكوير:1- 14). وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ إلى قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (الحاقة:13- 18). فمصير هذا الكون واحد والنهاية واحدة، فلماذا لا يتحدث الأفغاني إلا عن مصير الأرض فقط مفصولة عن الكون وبحديث يختلف عن حديث القرآن والإسلام والمسلمين؟!. ولماذا يتحدث على الطريقة الغربية لا على الطريقة الإسلامية المستمدة من القرآن -الذي يرى أنه وحده كتاب الهداية- فلماذا لا يهتدي به؟!. وهل يرى أزلية أو أبدية الكون فلا يلحقه التغير الذي تحدث عنه القرآن وآمن به المؤمنون؟!. قال محمد حميد الله في مجلة الفكر الإسلامي- بيروت السنة الثانية العدد الثاني في مقال" صلات آرنست رينان مع جمال الدين الأفغاني العبارات الآتية: " عند قراءة المحاضرة ( يعني: محاضرة رينان التي يرد عليها الأفغاني) لا يقدر الإنسان على منع نفسه من التساؤل:- أن أصل تلك العوائق هل هو من دين المسلمين أو من خصائص الملل التي أكرهت بالسيف على قبول ذلك الدين ". ومنها: "وفي الحقيقة إن الدين الإسلامي حاول خنق العلم وسد جميع التطور، ولذلك نجح في سد الحركات الفكرية والفلسفية وطرد الأذهان عن طلب الحقيقة العلمية". ومنها: "كان هذا صحيحاً أن دين المسلمين يعوق من تطور العلم، فهل يقدر أحد على أن يدعي أن هذه الطائفة سوف لا تزول يوماً؟ ففيم يختلف دين المسلمين في هذا من سائر الأديان؟ إن جميع الأديان لا سماحة عندها أبداً كل واحد حسب شاكلته، إن المجتمع النصراني الذي تحرر واستقل الآن يتقدم بادي الرأي سريعاً في سبيل التقدم والعلوم بينما المجتمع الإسلامي لم يتحرر إلى الآن من تسلط الدين". ومنها: "لا شك عندما سار الإسلام في البلاد التي تملكها باستعمال الجبر والقهر ما هو معروف نقل إليها لغته وعاداته ومعتقداته وهذه البلاد لم تستطع إلى الآن من الخلاص من مخالبه". ومنها: "... ولماذا لم يزل العلم العربي مغطى بالظلمات العميقة؟ في هذه الناحية تظهر مسؤولية الدين الإسلامي كاملة. ومن الظاهر أن هذا الدين حيثما حل حاول خنق العلوم". هذه النصوص نقلها الأستاذ محمد حميد الله من جريدة "جورنال ديه ديبا" الفرنسية المؤرخة في 18 مايو1883 "( 62). فإن صحت عنه فإنما تدل على حقده الخطير على الإسلام وظلمه الكبير له بتصويره في هذه الصورة الشوهاء التي لا يفتريها ألد الأعداء لهذا الدين العظيم الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور وأعتقها من الأغلال والآصار التي ضربها عليها محرفو الأديان وفتح الآفاق أمام العقول والمدارك. ج- ومن أقواله الخطيرة التي خاطب بها أتباعه في مصر قوله: "إنكم معاشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنـزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتنتزف قوام حياتكم ومواد غذائكم المجموعة بما يتحلب من عروق جباهكم بالمقرعة والسوط". إلى أن قال: "وأنتم ضاحكون، تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان والفرس ثم العرب والأكراد، والمماليك، ثم الفرنسيين والمماليك والعلويين كلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه ويهيض عظامكم بأداة عسفه وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت، انظروا أهرام مصر وهياكل منفيس وآثار ثيبة ومشاهد سيون وحصون دمياط شاهدة بمنعة أجدادكم. وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبه بالرشيد فلاح" ( 63). انظر كيف اعتبر الفتح الإسلامي دخول مستعمرين مستبدين لا يفرق بينه وبين الاستعباد والاستبداد اليوناني والروماني إلخ. وانظر كيف يشيد بحضارة الفراعنة ويحض المصريين على الاعتزاز بها، ورؤية الفلاح والرشد في التشبه بهم. إنّه لا يستغرب مثل هذا المكر والموقف من الإسلام من رجل فيلسوف رافضي ماسوني، وإنما المستغرب أن يكون له أتباع في بلاد الإسلام من مفكرين ومفسرين يعظمونه ويسيرون على منواله إن لم يكن في كل شيء ففي أصول ومناهج أثخنت في الإسلام والمسلمين. موقفه من السنة: يرى هذا الرجل –إن صدق في قوله- أن سبب الهداية هو القرآن وحده وهو وحده العمدة فيقول (64 ):"القرآن وحده سبب الهداية، أما ما تراكم عليه وتجمع حوله من آراء الرجال واستنباطهم ونظرياتهم، فينبغي ألا نعول عليه كوحي وإنما نستأنس به كرأي، ولا نحمله على أكفنا مع القرآن في الدعوة إليه وإرشاد الأمم إلى تعاليمه، لصعوبة ذلك وتعسره وإضاعة الوقت في عرضه، ألسنا مكلفين بالدعوة إلى الإسلام وحمل الأمم على قبوله؟ وهل تمكن الدعوة من دون ترجمة تعاليم الإسلام إلى لغة الأقوام الذين ندعوهم؟ هل في طاقة سكان البرازيل -مثلاً- إذا أردنا دعوتهم إلى الإسلام أن يفهموا كنه الإسلام من ترجمة علماء الإسلام وآرائهم المتشعبة في تفسير القرآن والحديث؟ ألق نظرك على فهرست أحد الكتب الدينية الكبرى، وتأمل فيها ما الذي يمكن عرضه والدعوة إليه من أحكامه وتعاليمه وما لا يمكن تجد أن ما لا يمكن العمل به ولا الدعوة إليه ولا تطبيق مفاصلة أصبح عبئاً يجب الاستغناء عنه بما يمكن والممكن هو ما في القرآن وحده" ( 65). أقول : أ- وهذا فيه صرف الناس عن السنة النبوية التي لا يفهم كثير من نصوص القرآن ولا يمكن تطبيقها إلا بالسنة المبينة لمجملاته والمخصصة لعموماته والمقيدة لمطلقاته والمتحدثة عن كثير مما سكت عنه القرآن، كما هو إلغاءٌ لتفسير أئمة الإسلام، ومن سار على نهجهم من أعلام الأمة في فهم القرآن ومعرفة معانيه ومقاصده ومراميه. ب- إن الرجل يريد أن يفك ارتباط المسلمين بسنة نبيهم وتراث سلفهم الصالح ثم ربطهم بضلالاته وخرافاته بما فيها من إلحاد وهدم للإسلام تلك الطوام التي أسلفنا الإشارة إليها قريباً. هذا هو مغزى هذا الرجل ومن وراءه من الاستعماريين والماسونيين، وبهذا القول أخذ منكرو السنة النبوية ومنهم محمد توفيق صدقي في أول أمره حيث كتب مقالاً أو مقالين تحت عنوان "الإسلام هو القرآن وحده". وحامل لواء هذه المدرسة ومرسخ جذورها هو محمد عبده المصري الذي ضخمه النافخون في كير هذه الفتنة الكبيرة فسموه بالأستاذ الإمام فإنّ له مقالات تدل على فساد عقيدته وقبح منهجه، فمنها -على سبيل المثال- قوله: " نعم كنت فيمن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقها على حاكمها وهي هذه الأمة لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مــدة تزيد على عشرين قرناً، دعوناهم إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعته هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتهم، وأنه لا يرده عن خطئه ولا يوقف طغيان شهوته إلا نصح الأمّة له بالقول والفعل، جهرنا بهذا القول والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والنّاس كلّهم له عبيد أي عبيد"(66 ). أقول : سبحان الله!! دخلت مصر في الإسلام في مطالع القرن الأول الهجري ونعمت به طوال أربعة عشر قرناً، فلم تعرف طوال هذه الفترة ولم يخطر ببال علمائها ومفكريها وطلاب العلم حتى العوام حقها على الحاكم حتى جاء محمد عبده وعرفها هذا الحق!!، لعل هذا الحق الذي عرفه محمد عبده من غير الإسلام أليس الإسلام قد عرف الأمة حقها على الحاكم وحق الحاكم عليها وحقوق المسلمين بعضهم على بعض وحقوق سائر البشر بل حقوق البهائم والطيور؟، إن هذا الكلام يلتقي مع كلام شيخه جمال الدين الأفغاني. " إنكم معشر المصريين نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد.. الخ "، وهي دعوة ماسونية حملت على عاتقها الدعوة إلى القوميات ومنها الفرعونية. 2- ومنها قوله: " إن خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع الخلاف والنـزاع فيه، ونحن الآن مبينون –بعون الله- ماهيّة هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه"(67 )، ثم قام ببيان ذلك بطريقة ليست من الإسلام في شيء. إنّ الإسلام هو الذي يحارب النـزاع والخلاف بين أهله، أما القومية والوطنية فلم تمنع النـزاع والخلاف بين أهلها في يوم من الأيام لا في غابر التاريخ ولا في حاضره. ثم أين وضع هذا الرجل الإسلام حينما دعا إلى هذه الوحدة بين طوائف المسلمين واليهود والنصارى والأغلبية فيها للمسلمين؟. ومن كوارثه المزلزلة للإسلام وأهله: دعوته إلى التقريب بين الأديان السماوية، فبعد عودته من فرنسا إلى بيروت أنشأ جمعية سياسية دينية سرية هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة السماوية (الإسلام واليهودية والنصرانية) وإزالة الشقاق من بين أهلها، والتعاون على إزالة ضغط أوربا عن الشرقيين، ولا سيما المسلمين منهم وتعريف الإفرنج بحقيقة الإسلام وحقيته من أقرب الطرق. واشترك معه في تأسيس هذه الجمعية: ميرزا باقر، وبيرزادة، وعارف أبو تراب، وجمال بك نجل رامز بك التركي قاضي بيروت، ثم انضم إليها مؤيد الملك أحد وزراء إيران، وحسن خان مستشار السفارة الإيرانية بالآستانة، والقس إسحاق طيلر، وجي دبليو لنتر وشمعون مويال وبعض الإنكليز، واليهود. وكان الشيخ محمد عبده صاحب الرأي الأول في موضوعها ونظامها، وميرزا باقر هو الناموس (السكرتير) العام لها وهو إيراني تنصر وصار مبشراً نصرانياً وتسمى بميرزا يوحنا ثم عاد إلى الإسلام كما يزعم. ودعا أعضاؤها إلى فكرتهم في صحفهم ورسائلهم. ولا ندري إلى أي إسلام يدعى الإفرنج؟ أهو الإسلام الذي جاء به محمد الذي أدان اليهود والنصارى وعقائدهم بالكفر والشرك؟ أم المزيج المركب من الرفض والماسونية وغيرها من الضلالات التي تحملها هذه الجمعية؟!!. وهذا الشيخ محمد عبده يكتب رسالة إلى القس إسحاق طيلر يقول فيها: "كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده"، إلى أن قال: "...ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان: المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين" (68 ). ويقول أيضـاً:" وإنا لنرى التـوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتبـاً متوافقة، وصحفاً متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أصحاب الدينين فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله" ( 69). أقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ( التوبة: 32-33 ). لقد أمر الله بجهاد اليهود والنصارى الأمر الذي يريد محمد عبده إبطاله ونص في هذه الآيات على كفرهم وشركهم. ومن أسباب كفرهم وشركهم أن اليهود قالوا: عزير ابن الله، وأن النصارى قالوا: المسيح ابن الله أو هو الله أو ثالث ثلاثة، وأضافوا إلى هذا الكفر والشرك بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. وأنهم أعداء الله وأعداء الرسالة التي جاء بها محمد ومن هذا المنطلق يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ليعيشوا هم والإنسانية جميعاً في ظلمات الجهل والكفر حسداً وبغياً على محمد ورسالته وأمته. ويأبى الله إلا أن يتم نوره ذلكم النور الذي لا يوجد إلا في الإسلام ولو جاء موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء والرسل فلا يسعهم إلا اتباع خاتم النبيين محمد يأبى الله إلا أن يتم نوره ولوكره الكافرون وفي طليعتهم اليهود والنصارى الذين يتخبطون في ظلمات الكفر والشرك والجهل والضلال ولقد حصر الهدى ودين الحق في الإسلام وحده وحصر فيه نور الله ويأبى إلا أن يظهر الإسلام على الأديان كلها، لكن محمد عبده يرى ضد ذلك يرى أنه لا يتم نور الله إلا باجتماع الأديان الثلاثة؛ وكفى بما يراه ضلالاً ومصادمة واضحة لما قرره القرآن والسنة في نصوص كثيرة لا يتسع المقام لسردها وإجماع المسلمين، ومنها قول الله تعالى : وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( البقرة:135). فلقد أبطلوا أسباب الهداية من الكتابين بتحريفهم وكفرهم وجرأتهم على هذا التحريف. وأخيراً يقول الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ( البقرة: 120). قال فهد بن عبد الرحمن الرومي: "نشر محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم"، زعم فيه أن ورود الخبر في القرآن لا يقتضي وقوعه وأنه يذكر أشياء وهي لم تقع، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ. وقال: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن أساطير. وعندما رفضت جامعة فؤاد هذه الرسالة دافع عنها أمين الخولي المشرف على الرسالة قائلاً: " إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً "( 70). وهذا أمر ينطوي على كفر غليظ فإن ثبت هذا عن الشيخ محمد عبده فإنها لطامة كبرى تدل على كيد كبير للإسلام وتكذيب للقرآن نفسه ونرجو أن يكون هذا افتراءاً عليه. وفي خطاب له يخاطب فيه شيخه جمال الدين يقول: " نحن الآن على سنتك القويمة لا نقطع رأس الدين إلا بسيف الدين ولهذا لو رأيتنا لرأيت زهاداً عباداً ركعاً سجداً لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" تساءل بعض النقاد (71 ) فقال: هل هي دعوة باطنية يخفيها الرجلان ويسعيان تحت ستارة الدين و" بسيف الدين نقطع رأس الدين وقيامهم بالصلاة أمام الناس هل هو سعي إلى القبض على سيف الدين؟ ثم تركهم للصلاة بعض الأحيان هل هو تنفيس " لضيق العيش وعودتهم إليها حيناً لأجل" فسحة الأمل". موقفه من أخبار الآحاد: قال أبو رية: "قال الأستاذ الإمام محمد عبده- رضي الله عنه-(72 ): "إن المسلمين ليس لهم إمام في هذا العصر غير القرآن، وإن الإسلام الصحيح هو ما كان عليه الصدر الأول قبل ظهور الفتن". وقال رحمه الله تعالى:" لا يمكن لهذه الأمة أن تقوم ما دامت هذه الكتب فيها (يعني: الكتب التي تدرس في الأزهر وأمثالها، كما ذكره بالهامش) ولن تقوم إلا بالروح التي كانت في القرن الأول وهو (القرآن) وكل ما عداه فهو حجاب قائم بينه وبين العلم والعمل" ( 73). فإن صح هذا النقل من أبي رية -ولا يستبعد من محمد عبده- فإنه قد سار على منهج أستاذه جمال الدين الأفغاني، ويخفف من وطأة هذا القول -شيئاً ما- ما قاله في كتابه المسمى بـ"رسالة التوحيد" تحت عنوان: "التصديق بما جاء به النبي "، حيث قال: "بعد أن ثبتت نبوته -عليه السلام- بالدليل القاطع على ما بيّنا وأنه إنما يخبر عن الله تعالى؛ فلا ريب أنه يجب تصديق خبره والإيمان بما جاء به. ونعني بما جاء به ما صرح به الكتاب وما تواتر الخبر به تواتراً صحيحاً مستوفياً لشرائطه، وهو ما أخبر به جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة في أمر محسوس، ومن ذلك أحوال ما بعد الموت من بعث، ونعيم في جنة، وعذاب في نار، وحساب على حسنات وسيئات وغير ذلك مما هو معروف؛ ويجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح، ولا تجوز الزيادة على ما هو قطعي بظني" ( 74). فترى في كلامه هذا: 1- أنه لا يلزم الناس من تصديق ما جاء به الرسول إلا بما صرح به الكتاب العزيز والخبر المتواتر من السنة. 2- وأنه يجب أن يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، ولا تجوز الزيادة في الاعتقاد على ما هو قطعي بظني. ومقتضى هذا: 1- أن يعمد من شاء من أهل الأهواء إلى تحريف نصوص القرآن والسنة المتواترة أو تأويلها بحجة أنها غير صريحة في دلالاتها وإن كانت قطعية الثبوت وهذا أمر واقع. 2- وأن يعمد أهل الأهواء إلى الأحاديث الصحيحة المتلقاة بالقبول من الأمة بما في ذلك أخبار الصحيحين فيدفعوا في نحورها ولا يحتجوا بها في أبواب الاعتقاد لأنها غير قطعية الثبوت وإنما هي من الظنيات، وما كان كذلك فلا يجوز أن يبنى عليه الاعتقاد ولا الإيمان بالغيبيات. ومن هنا يقول محمد عبده:" وشرط صحة الاعتقاد أن لا يكون فيه شيء يمس التنـزيه وعلو المقام الإلهي عن مشابهة المخلوقين، فإن ورد ما يوهم ظاهره ذلك في المتواتر وجب صرفه عن الظاهر. إما بالتسليم لله في العلم بمعناه مع اعتقاد أن الظاهر غير مراد أو بتأويل تقوم عليه القرائن المقبولة (75 )". وأنت ترى أنه لا يسلّم بظاهر المتواتر، فهذا هو موقفه من السنة: لا يجب على عموم النّاس التصديق بكل حديث صح عن النبي بل بما تواتر عنه، وأنه يقتصر في الاعتقاد على ما هو صريح في الخبر، وباب التأويل والتحريف مفتوح ودعاوى عدم الصراحة سهلة جداً لمن يريد الخروج عن معتقدات السلف الصالح إلى معتقدات أهل الأهواء. ويقول: " أما أخبار الآحاد فإنما يجب الإيمان بما ورد فيها على من بلغته وصدق بصحة روايتها. أما من لم يبلغه الخبر أو بلغه وعرضت له شبهة في صحته وهو ليس من المتواتر فلا يطعن في إيمانه عدم التصديق به، والأصل في جميع ذلك أن من أنكر شيئاً وهو يعلم أن النبي حدث به أو قرره فقد طعن في صدق الرسالة وكذب بها"( 76). 1- أنه إذا بلغته أخبار الآحاد ولم يصدق بصحتها –ولو كانت مما قرر صحتها أئمة الحديث والسنة وسلموا بها ودانوا بما فيها من عقائد وعمل- فإن عدم تصديق هذا المتحرر لا يطعن في إيمانه، وله الحق أن يردها ويكذب بها، ولو كانت في الصحيحين وتلقتها الأمة بالقبول، وله ردها عند عارض أي شبهة فلا يلزمه النظر إلى الأسانيد ولا التقيد بها مهما بلغت من الصحة وتوفرت لصحتها الشروط فعقول العقلانيين فوق كل اعتبار. ثم قال: "ويلحق به من أهمل العلم بما تواتر وعلم أنه من الدين بالضرورة وهو في الكتاب وقليل من السنة في العمل" ( 77). إلى أن قال: " والأصل في ذلك أن الإيمان هو اليقين في الاعتقاد بالله ورسله واليوم الآخر بلا قيد في ذلك إلا احترام ما جاء به على ألسنة الرسل" (78 ). يعني: لا حرج على من أهمل غير المتواتر من السنن القولية والعملية والتقريرية مهما بلغت من الصحة وتلقتها الأمة بالقبول سواء تعلقت بالعقائد أو الأعمال. ومعلوم أن هذا الصنف ينكر المتواترات ويردها بدعوى أنها أخبار آحاد مثل: نزول عيسى(79 )، وخروج المهدي، وطلوع الشمس من مغربها، وخروج الدجال ( 80)، وأحاديث فتنة القبر وعذابه، وأحاديث الشفاعة، وأحاديث رؤية الله في الدار الآخرة، إلى عقائد أخرى ثبتت بالتواتر فردت أحاديثها بحجة أنها أخبار آحاد. ثم قال:" ومن اعتقد بالكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع العملية وعسر عليه فهم أخبار الغيب على ما هي عليه في ظاهر القول وذهب بعقله إلى تأويلها بحقائق يقوم له الدليل عليها مع اعتقاد بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد ولا ينقص شيئاً من بناء الشرعية في التكليف كان مؤمناً حقاً( 81)، وإن كان لا يصح اتخاذه قدوة في تأويله فإن الشرائع الإلهية قد نظر فيها إلى ما تبلغه طاقة العامة"(82 ). ونرى هنا أنه يقصر الاعتقاد على الكتاب العزيز وبما فيه من الشرائع فلا ندري أهذا سهو منه عن السنة المتواترة أم هو مغازلة لمنكري السنة وتلويح لهم بتأييد مذهبهم؟!. ونرى أنه يعطي الحرية الكاملة للعقلانيين وغيرهم أن يفهموا القرآن كل على حسب عقله دون التفات إلى بيان الرسول وما كان عليه النبي وأصحابه من بيان وعقيدة. ويرى أنه مؤمن حقاً إذا آمن بحياة بعد الموت وثواب وعقاب على الأعمال والعقائد بحيث لا ينقص تأويله شيئاً من قيمة الوعد والوعيد فلا يضره بعد ذلك أن ينكر معجـزات الرسـول ومنها الإسراء والمعراج وانشقاق القمر ولا تفسير الملائكة بأنها نوازع الخير في أنفسنا أو تفسير الشياطين بأنها نوازع الشر إلى آخر التأويلات الباطنية المعروفة التي تعبث بنصوص القرآن وتنكر السنة أو تعبث بتأويلها. فقد سئل محمد عبده عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: " إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها". وأن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار وسنة رسول الله مبينة لذلك، فلا حاجة للبشر إلى الإصلاح وراء الرجوع إلى ذلك، وقال بعد أن حكى الخلاف في تفسير قول الله تعـالى لعيسى عليه السلام إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ (آل عمران:55). مرجحاً أن الوفاة هي وفاة موت وأن الرفع إنما كان لروحه قال: ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنـزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي؛ لأن المطلوب فيها اليقين وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس، وهو ما غلب على تعاليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت اليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى -عليه السلام- ويوقفهم على فقهها والمراد منها ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب. أي ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة، قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها معبراً عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقاً لروحها ذاهباً بحكمتها كان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي. وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان. فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر. قال رشيد رضا: " هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه. ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما فهمه "( 83). 1- ونقول: إن أحاديث نزول عيسى في آخر الزمان وقتله للدجال والحكم بشريعة محمد متواترة وليست بأخبار آحاد -كما يدعي محمد عبده- ولو كانت آحاداً فيكفيها أنها في الصحيحين اللذين تلقتهما الأمة بالقبول وهذا التلقي يفيد العلم. 2- هل يعجز محمد عن التعبير الذي ادعاه محمد عبده حتى يذهب فيحدث عنه على طريقة الألغاز والأحاجي حاشاه أن يستخدم هذا الأسلوب. 3- كلام محمد عبده هنا عن فهم الأمة للقرآن فيه استخفاف بتراث الأمة العظيم من تفسير وفقه وشروح حديث رسول الله . وأنه تعبير عن آرائهم وفهمهم وأن هذا الفقه والفهم قد أزهق روح الشريعة وذهب بحكمتها.ولعله يريد بالإصلاح الذي لا بد منه إصلاحه هو وشيخه الأفغاني ومدرستهما وقد عرف القارئ نبذة من هذا الإصلاح الذي يحق لمن يعرف الإسلام أن يقول: إن إصلاحكم المزعوم هو المزهق لروح الإسلام بعد التهوين من شأن نصوصه وبعد تأويلاتها الفاسدة التي هي أشبه بتأويل الباطنية. 4- لم يكتف محمد رشيد رضا بنقل هذا الكلام الباطل فذهب يلقن الطاعنين في السنة بقوله: " ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل بفهمه. وهذا طعن ماكر في السنة ونقلتها الأمناء وإهدار لأمانتهم وحفاظهم على السنة المحمدية بطرق محكمةلم تعهدها البشرية طوال تاريخها، وتشكيك في السنة متواترها وآحادها، وتلقين لأعداء السنة أن يتخذوا هذه المقولة الباطلة سلاحاً لمحاربة السنة وأهلها، وقد اتخذوها فعلاً سلاحاً، ولكن الله يرد أسلحتهم الفاسدة في نحورهم بنضال أهل السنة وحججهم الساطعة وبراهينهم القاطعة. وفعلاً فلقد نقل أبو رية عن رشيد رضا كلاماً في الطعن في رواية من اشتهر بالصدق والضبط ومنهم بعض الصحابة كأبي هريرة وابن عباس وأنها ترد بالطعن فيها أو بالتأويل ومن ضمن هذا الكلام قوله: " وإما بتأويل الحديث بأنه مروي بالمعنى وأن بعض رواته لم يفهم المراد فعبر بما فهمه.... ". فرد عليه العلامـة الشيخ عبد الرحمن المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة"(84 ) باثني عشرة مؤاخذة، قال في العاشرة: " إن هذا الطعن يترتب عليه من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله تعالى وهي المكيدة التي مرت الإشارة إليها (ص:201) وإيضاحها قبل ذلك، وكل من التأويل ولو مستكرها والوقف أسلم من هذا الطعن، ولو غير السيد رشيد رضا قاله لذكرت قصة المرأة التي اشتكى طفلها، ولم تعلم ما شكواه غير أنها نظرت إلى يافوخه يضطرب كما هو شأن الأطفال، فأخذت سكيناً وبطت يافوخه كما يصنع بالدمل... إلى آخر ما جرى " أي: أن في كلام محمد رشيد رضا هذا قتل للشريعة الإسلامية كما قتلت هذه المرأة ابنها. وبعد فلقد فتح جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده باب فتنة عظيمة ومحنة كبيرة على الإسلام كتاباً وسنةً وتراثاً إسلامياً، وخلَّفا مدرسة فكرية عقلانية جمعت بين ضلال الفرق القديمة من روافض ومعتزلة وجهمية، ومن تحريفات وتأويلات باطلة، ومن طعون في السنة وحملتها بدءاً بالصحابة وانتهاء بأهل الحديث والفقه والتفسير وبين حملات أعداء الإسلام المستشرقين والمستعمرين على الإسلام والمسلمين. ومن هذه المدرسة: 1- محمد توفيق صدقي في مقالات نشرتها مجلة المنار في عدد من مجلداتها. 2- وأحمد أمين في "فجر الإسلام وظهره". 3- ومحمود أبو رية في كتابه "أضواء على السنة". 4- ومحمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة". وقد تناول هؤلاء السنة بسوء على تفاوت بينهم، وقد تصدى للرد عليهم ودحض شبهاتهم وأباطيلهم عدد من العلماء. ومن هؤلاء العلماء الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي في كتابه "الأنوار الكاشفة". والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة في كتابه "ظلمات أبي رية". والشيخ محمد أبو شهبة في كتابه "الدفاع عن السنة". وكل هؤلاء قد ردوا على أبي رية وتوسعوا في ردودهم على هذا الضال المفتري ولا سيما على الصحابي الجليل أبي هريرة ، وبينوا –أيضاً- ما وقع فيه من التناقضات والكذب الكثير والخيانات والنقول الكاذبة عن أعداء الصحابة -رضي الله عنهم-، واحتجاجه بالروايات الواهية والموضوعة، واعترافه بالمتواتر ثم تشكيكه فيه إلى آخر مخازيه. هذا مع تبجحه بالغيرة على السنة النبوية والدفاع عنها وعما يشينها وقد بين الشيخ المعلمي زيف هذه الدعوى وأمثالها. وأما أحمد أمين فقد رد عليه الدكتور مصطفى السباعي كما ناقش أبا رية في طعنه على أبي هريرة. وأما محمود شلتوت فقد رد على تشويشه على السنة الشيخ عبد الله بن علي بن يابس في كتابه "إعلام الأنام بمخالفة شيخ الأزهر شلتوت للإسلام"، كما رد عليه مخالفات أخرى في الكتاب المذكور. ولقد آثرت في هذا البحث أن أركز على شبهات محمد توفيق صدقي لأسباب: 1- أن هؤلاء المذكورين من المدافعين عن السنة والذين انتشرت مؤلفاتهم في أوساط طلاب العلم لم يتعرضوا لنقد هذا الرجل. 2- أن الدكتور السبـاعي من بين هؤلاء قد تعرض لنقد أربع شبهـات من شبهـات محمد توفيق ولعله لم يقف على كل شبهاته. 3- هناك عالمان ناقشا محمد توفيق ولم تنشر ردودهما وهما الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر، والثاني الشيخ صالح بن علي بن ناصر اليافعي، نشرت ردودهما في أعداد من مجلة المنار ولم يستوفيا مناقشة شبهات هذا الرجل حسب اطلاعي. 4- أن شبهات محمد توفيق صدقي يشاركه في كثير منها أحمد أمين وأبو رية وغيرهما فالرد عليه رد عليهم -أيضاً- وعلى غيرهم من الطاعنين في السنة النبوية. محمد توفيق صدقي هذا الرجل من أشد الناس إنكاراً للسنة وطعنا فيها وهو ثمرة لدعوة الشيخ محمد عبده وشيخه الأفغاني ومنهجهما العقلاني الذي عانى منه الإسلام والمسلمون. لقد أبدى هذا الرجل صفحته وكشف عن قناعه فكتب مقالات في الطعن في سنة رسول الله وردها، نشرها في مجلة المنار وغيرها. ومن هـذه المقالات التي نشرتها هذه المجلة( 85) مقالة بعنوان: "الإسلام هو القرآن وحده"، قال في طليعة هذا المقال:" هذا عنوان مقال لي جديد أريد أن أفصح فيه عن رأي أبديه لعلماء المسلمين المحققين منهم لا المقلدين، حتى إذا ما كنت مخطئاً أرشدوني، وإذا ما كنت مصيـباً أيدونـي، وبشيء من علمهـم أمدوني. فإني لست ممن يهوى الإقامة على الضلال، ولا ممن يلتذ بحديث مع الجهال، فلذا أجهد النفس في تحقيق الحق وتمحيصه والإسراع إليه راجياً من الله التوفيق للهداية إلى أقوم طريق"(86 ). فأقول: لا خلاف بين أحد من المسلمين في أن متن القرآن الشريف مقطوع به؛ لأنه منقول عن النبي باللفظ بدون زيادة ولا نقصان ومكتوب في عصره بأمر منه ، بخلاف الأحاديث النبوية فلم يكتب منها شيء مطلقاً ( 87) إلا بعد عهده بمدة تكفي لأن يحصل فيها من التلاعب والفساد ما قد حصل (88 ) ؛ من ذلك نعلم أن النبي لم يرد أن يبلغ عنه للعالمين شيء بالكتابة (89 ) سوى القرآن الشريف الذي تكفل الله تعالى بحفظه في قوله جل شأنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر:9). ثم قام بالرد على محمد توفيق صدقي الشيخ طه البشري أحد علماء الأزهر في مقال ضاف نشرته مجلة المنار (90 ) تحت عنوان: "أصول الإسلام الكتاب والسنة والإجماع والقياس" ناقشه مناقشة جيدة إلا أنه مع الأسف جاراه في أن أخبار الآحاد تفيد الظن. ثم رد الدكتور محمد توفيق صدقي على الشيخ طه البشري بجواب أصر فيه على رأيه بل زاده تأكيداً بإيراد شبه جديدة لم يذكرها في مقاله الأول، صدر هذا المقال في المنار -أيضاً-( 91). فتعقب صاحب المنار الشيخ محمد رشيد رضا بتعليق وصل فيه إلى القول بأن الدين اللازم هو القرآن والمتواتر من السنة العملية، وأورد شبهاً على السنن القولية. فكان في موقفه هذا فيما يبدو ما حمل الدكتور محمد توفيق صدقي على التظاهر بالتراجع(92 ) إلى ما قرره الشيخ محمد رشيد رضا، وهذا التراجع يظهر منه أنّه مصطنع، وأنّه لم يستفد شيئاً من انتقاد الشيخ طه البشري، ولذا نراه استمر في محاربة السنة مما ألجأ العلامة السلفي الشيخ صالح بن علي اليافعي أن يقول: "وقوله هذا -وإن كان أهون من قوله السابق- ومآله وحقيقته بعد التزامه ثم تطبيقه على ما في نفس الأمر الواقع هو حقيقة قوله الأول من رد أكثر السنن الفعلية، بل لا يبعد إذا قلنا كلها"( 93). كما ألجأه إلى أن يرد عليه في عدد من المقالات نشرتها مجلة المنار قال في إحداها: "قال الدكتور محمد توفيق صدقي: " أنا لا أنكر ما للأحاديث من الفوائد، ثم قال: ولكن ذلك لا يوجب العمل بها على المسلمين ولا يلحقها بالقرآن الشريف. الدين الذي يكفر منكره شيئان: القرآن وما تواتر من السنة" ( 94). ثم أجابه الشيخ صالح بن علي اليافعي بقوله: " ونقول: 1- إن الله جل شأنه أرسل رسلاً أوجب على عباده تصديقهم واتباعهم في كل ما أرسلوا به وليس من شرط الرسول أن يأتي بكتاب من عند الله. وبعبارة أخرى: لم يقل أحد من العقلاء بعد ثبوت رسالته أنه يجب على الله أن ينـزل عليه كتاباً يقرؤه أو كلاماً يتلوه بلفظه. بل عرَّفوا الرسول بأنه بشر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه سواء كان التبليغ والبيان بالقول أم الفعل. على أن القول مقدم على الفعل، ومعرفة الشرع بالقول أكثر منه بالفعل. والله جل شأنه لم يخصص طريقاً ولا طرقاً معينة لحملة الشرائع في تبليغها إلى من نأى وبعد مكاناً أو زماناً، ولم يذكر في موضع ما من أي كتاب من كتبه أن من رد ما بلغه من الدين بغير تواتر معذور، ولم يقل ذلك أحد من رسله أو ممن يعول عليه من أتباعهم، بل لم يشترط ذلك أحد من البشر في شئون دنياهم الاجتماعية. وإنما مدار ذلك- والله أعلم- هو حصول التصديق بالنسبة إلى خصوص من بلغه خبر ولم يقصر في البحث عن صحته وصدقه فحين تصديقه لا يجوز له رده، وهذا هو الذي دل الشرع والعقل عليه، وعليه اتفق أهل الملل قاطبة. 2- بعث الله رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس عليه حجة، وهو لا يأمر بالمحال ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فلو أوجب على الأمم تبليغ كل مسألة من شرعه بالتواتر وعلى المبلغين رد غير التواتر لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، مستلزماً لملاشاة الأديان، ومعطلاً لسائر المواصلات ومعاملات بني الإنسان، والله منزه عن إرادة ذلك فبطل اشتراط التواتر لنقل مسائل الدين. 3- دل القرآن على أن من جاءته الحجة عن الله بتوسط رسله وردها جحداً أو مكابرة، أو بما شاكل ذلك وداناه، فقد كفر بالله وبرسله واستحق العقاب وشديد العذاب...والحق أن من أنكر ما عرف وجوبه من دين الإسلام وصار ذلك معلوماً له ولو بخبر الآحاد كفر، وكذلك من أنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة ولم يكن قريب عهد بالإسلام أو نشأ بعيداً عن العلماء كفر، وإن لم يكن منقولاً بالتواتر المعروف عن التواترية، ونحن لا ننكر أن بعض أنواع التواتر يفيد العلم ولكن ننكر انحصار العلم الخبري فيه، أو فيما باشر الشخص سماعه، كما أنا لا نسلم أن ما هو متواتر عند أناس يلزم أن يسلم تواتره الآخرون" (95 ). واستمر الدكتور محمد صدقي في نشر أفكاره المسمومة حول السنة القولية ودلالتها والجدال بالباطل وقذف الشبه المضلة التي تؤدي إلى الانسلاخ من الدين كما قال العلامة اليافعي. -------------------------------------------------------------------------------- الحواشي: (1 ) (ص:3). (2 ) ضعيف، انظر: السلسلة الضعيفة للألباني، حديث ( 1643 ). (3 ) هذه الأحاديث صحيحة، لكن القوم لم يفقهوها. (4 ) هذه ألفاظ يستعملها المتكلمون يخالفون بها نصوص الكتاب والسنة وما عليه السلف الصالح ولا سيما في أبواب صفات الله عز وجل. (5 ) (ص:14-15) (6 ) (ص:15). (7 ) (ص:16). (8 ) (ص:17-18). (9 ) ومن المؤسف أن محمداً الغزالي المعاصر قد تابعه في الطعن في ابن مسعود وتكذيبه في هاتين القضيتين، وطعن في عبدالله بن عمرو بن العاص ومعاوية -رضي الله عنهما- كما شارك في الطعن في أهل الحديث وكثير من الأحاديث النبوية. (10 ) انظر: (ص:18-43). (11 ) (ص: 46). (12 ) (ص :48-49). (13 ) (ص: 49). (14 ) (ص: 49-50). (15 ) (ص: 59 – 60). (16 ) (ص: 60- 73). (17 ) المقوي، هو: الذي لا زاد معه. [انظر مختار الصحاح، مادّة قوي]. (18 ) (ص: 73 – 74). (19 ) الرسالة (ص:453-458) (20 ) (ص:4-19). (21 ) (ص:20-57). (22 ) (ص:127-140) (23 ) مقالات سرسيد ( 2/220 )، كل ما عزوته إلى المقالات فهو نقل عن كتاب القرآنيون لخادم حسين من (ص102-106 ). (24 ) في كتابه الجن والجان (ص:5) ، نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم للأستاذ خادم حسين (ص: 102). ( 25) مقالات سرسيد ( 1/219 ). ( 26) المصدر السابق ( 2/252 ) ( 27) مقالات ( 2/23 ). ( 28) مقالات ( 1/49 ). ( 29) مقالات (1/23 ). (30) مقالات ( 1/40 ). (31) مختصر ابن كثير لمقدمة ابن الصلاح (ص:78) تعليق الشيخ أحمد شاكر. (32 ) نزهة النظر (ص:45)نشر مكتبة طيبة. (33 ) (ص: 349-351). (34) لعله : بان لك . (35) الظاهر " بهرجاً " (36 ) الموضوعات ( 1/106 ). (37 ) الظاهر أنه "الحديث". (38 ) الموضوعات ( 1/103 ). (39 ) ( ص: 43-44 ). (40 ) ( ص: 50 ). (41 ) ( ص: 50 ). (42 ) ( ص: 54 ). (43 ) ( ص: 56-57 ). (44 ) ( ص: 57 ). (45 ) ( ص 59 ). (46 ) ( ص 61 ). (47 ) ( ص: 63-64 ). (48 ) ( ص: 64 ). (49 ) ( ص: 67-76 ). (50 ) ( ص: 76-79 ). (51 ) ( ص 102-105 ). (52 ) ( ص 106 ). (53 ) (ص: 155). (54 ) مجلة أهل الحديث ص 3 عدد مارس 1948م نقلاً عن كتاب القرآنيون وشبهاتهم حول السنة. (55 ) ( 8/289-291 ). (56 ) كذا وواضح أن كلمة (في) أقحمت خطأ. (57 ) سيأتي الرد على هذا في الرد على القائلين بأن أخبار الآحاد تفيد الظن. (58 ) مجلة أهل الحديث (ص: 9) عدد 3 ابريل 1936م وتعليمات قرآن (ص: 2): ويقول بمثله برويز ومحب الحق، انظر: " مقام حديث " (ص: 37) وبلاغ الحق (ص: 115) "، نقلاً عن صاحب كتاب القرآنيون (ص: 253). (59 ) خاطرات جمال الدين الأفغاني لمحمد المخزومي ( ص: 20). وكتاب جمال الدين الأفغاني لعبد الرحمن الرافعي (ص: 46). وانظر منهج المدرسة العقلية للدكتور فهد بن عبدالرحمن الرومي (ص: 95-123) وقد قدم في هذه الصحائف من مكاتباته ومكاتبات أصدقائه ما يدينه بالماسونية الغليظة. (60 ) خاطرات جمال الدين الأفغاني محمد المخزومي (ص:99)، بواسطة المدرسة العقلية (ص:76). (61 ) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 87-90). (62 ) منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (ص: 160). (63 ) زعماء الإصلاح في العصر الحديث (ص: 72-73)، والإستاذ الإمام (ص:46-47). (64 ) جمال الدين الأفغاني لعبدالقادر المغربي بواسطة المدرسة العقلية (ص: 86). (65 ) موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين للشيخ مصطفى صبري (1/281). (66 ) تاريخ الأستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا ( 1/12 ). (67 ) تاريخ الإستاذ الإمام لمحمد رشيد رضا ( 2/194 ). (68 ) تاريخ الأستاذ الإمام للسيد رشيد رضا ( 1/819، 820، 828 )، وانظر: المدرسة العقلية (ص:137-138). (69 ) الأعمال الكاملة لمحمد عبده جمع وتحقيق محمد عمارة ( 2/363 ) بواسطة منهج المدرسة العقلية (ص: 138). (70 ) منهج المدرسة العقلية ص ( 165-166 ) وأحال على (ص: 180) من الفن القصصي في القرآن الكريم لمحمد أحمد خلف الله وعلى (ص :ح) من مقدمة هذا الكتاب. ( 71) هو فهد بن عبدالرحمن الرومي وحق له ذلك. ( 72) أضواء على السنّة (ص:378-379)، الطبعة الخامسة، دار المعارف. ( 73) أضواء على السنة (ص:379). ( 74) رسالة التوحيد ص ( 157 ). ( 75) رسالة التوحيد (ص:158). ( 76) رسالة التوحيد ( ص: 158 ). ( 77) رسالة التوحيد (ص: 158). ( 78) رسالة التوحيد ( ص: 158). ( 79) انظر كتاب "التصريح بما تواتر في نزول المسيح" لأنوار شاه الكشميري حيث ساق أكثر من سبعين حديثاً في نزول عيسى –عليه الصلاة والسلام-. ( 80) انظر كتاب" قصة المسيح الدجال ونزول عيسى –عليه الصلاة والسلام- وقتله إياه"، للمحدث الألباني، وقد تناول في مقدمته محمد عبده ورشيد رضا باللوم على تأويل أحاديث نزول عيسى وخروج الدجال، كما تناول بعض طلاب الأزهر، انظر (ص:12-13). ( 81) أرى أن هذا غلو في الإرجاء فالمؤمنون حقاً هم الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً والمؤمنون حقاً الذين يؤمنون بكل ما ثبت عن نبيهم ويبنون عليه عقائدهم وأعمالهم. ( 82) انظر هذه الأحاديث المتواترة في هذه الأمور العقدية كتاب "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" للكتاني (ص: 82، 84، 114، 132، 135، 146، 147، 149). ( 83) تفسير المنار ( 3/316-317 ). ( 84) ( ص: 295-298 ). ( 85) المنار ( 9/515 ). ( 86) لقد حلى نفسه بهذه الصورة الجميلة وما أبعده عنها فلو كان كذلك لما وقع في هذه المهواة، ولرجع= عن هذا المنهج المهلك بعد أن رد عليه الشيخان طه البشري وصالح اليافعي، لكنه تمادى وتمادى وعاند كشأن أهل الباطل والأهواء في كل زمان ومكان. ( 87) هذه مجازفة كبيرة فقد كتب الكثير منها في عهد رسول الله كما سيأتي بيانه . ( 88) سبحان الله ! خير أمة أخرجت للناس تتلاعب بنصوص نبيها ؟!. ( 89) هذه مجازفة كبيرة فالرسول يريد البلاغ عنه بالكتابة والحفظ الأمين. ( 90) المجلد ( 9/699، 711 ). ( 91) المجلد ( 9/906-925 ). ( 92) المجلد ( 10/140 ). ( 93) المجلد ( 11/142 ). ( 94) المنار ( 11/371 ). ( 95) المنار ( 11/371-372 ) وأورد اليافعي حججاً أخرى لم ننقلها خشية التطويل. (انتهت الحلقة الثانية ويليها الحلقة الثالثة بمشيئة الله تعالى)
__________________
استخدم زر التحكم لتعديل توقيعك |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 11 ( الأعضاء 0 والزوار 11) | |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
ردع الشيخ المحدث مقبل الوادعي لجناية علي رضا على كتب العلل واستخفافه ببعض المتقدمين | ماهر بن ظافر القحطاني | منبر الجرح والتعديل | 0 | 05-05-2005 01:07AM |
حجية خبر الآحاد في العقائد والأحكام (الحلـــــــــقة الرابعـــــــــــــة) | الشيخ ربيع المدخلي | السنن الصحيحة المهجورة | 0 | 26-05-2004 01:05PM |