عرض مشاركة واحدة
  #62  
قديم 02-02-2015, 02:08PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في منكري القدر

ج / 2 ص -396- باب: ما جاء في منكري القدر


قوله: "منكري": أصله منكرين -جمع مذكر سالم-; فحذفت النون للإضافة كما يحذف التنوين أيضا، قال الشاعر:
فأين تراني لا تحل جواري

كأني تنوين وأنت إضافة
وقيل: (مكاني) بدل (جواري).
قوله: "القدر": هو تقدير الله عز وجل للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه.
قال بعض أهل العلم: القدر سر الله عز وجل في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه، سواء كان خيرا أو شرا.


والقدر يطلق على معنيين:
الأول: التقدير; أي: إرادة الله عز وجل الشيء.
الثاني: المقدر; أي: ما قدره الله عز وجل.
والتقدير يكون مصاحبا للفعل وسابقا له ; فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو الذي قدره الله عز وجل في الأزل.
مثال ذلك: خلق الجنين في بطن الأم، فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل; أي; تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه.


ج / 2 ص -397-


والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصا وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات; لأنه من صفات الكمال لله عز وجل. والناس في القدر ثلاث طوائف:
الأولى: الجبرية الجهمية، أثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا: ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه; فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منه ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارا وبين أن يلقى من السطح مكرها.


الطائفة الثانية: القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق، ونفى غلاتهم علم الله به قبل وقوعه; فأكل العبد وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم.


استدل الأولون الجبرية: بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}1 والعبد وفعله من الأشياء. وبقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}2 وبقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}3 فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه. وبقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}4 ولهم شبه أخرى تركناها خوف الإطالة.


والرد على شبهاتهم بما يلي:
أما قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}5 فاستدلالهم بها معارض


1 سورةالزمر آية: 62.
2 سورة الصافات آية: 96.
3 سورة الأنفال آية: 17.
4 سورة الأنعام آية: 148.
5 سورة الزمر آية: 62.


ج / 2 ص -398-


بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة.


وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1 فهو حجة عليهم; لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه; فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله عز وجل فكان الحاصل بهما مخلوقا لله.
وأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}2 فهو حجة عليهم;

لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم لكن الرمي في الآية له معنيان:
أحدهما: حذف المرمي، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أضافه الله إليه.
والثاني: إيصال المرمي إلى أعين الكفار الذين رماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله; إذ ليس بمقدور النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم.
وأما قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}3 فلعمر الله; إنه لحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذين احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}4 وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به.


ثم نقول: القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته.



1 سورة الصافات آية: 96.
2 سورة الأنفال آية: 17.
3 سورة الأنعام آية: 148.
4 سورة الأنعام آية: 148.


ج / 2 ص -399-


فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}1 فأثبت للعبد إرادة. وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}2.
وقال: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}3.
وقال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}4 فأثبت للعبد إرادة قولا وفعلا وعملا.
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه; فاجتنبوه، وما أمرتكم به; فأتوا منه ما استطعتم"6 ولهذا إذا أكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه; لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا.


وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر; فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم.
وأما دلالة العقل على بطلانه; فلأنه لو كان العبد مجبرا على عمله; لكانت عقوبة العاصي ظلما ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل; لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة.
وأما دلالة الحس على بطلانه; فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله




1 سورة آل عمران آية: 152.
2 سورة آل عمران آية: 167.
3 سورة النمل آية: 88.
4 سورة المنافقون آية: 11.
5 رواه: البخاري (1), ومسلم (1907).
6 رواه: البخاري (7288), ومسلم (1337).


ج / 2 ص -400-


باختياره; كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره; كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك.
واستدل الطائفة الثانية (القدرية) بقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}1 فأثبت للعبد إرادة، وبقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}2 ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك.


والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان: نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله; كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}3 وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}4 وكقوله تعالى في العمل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}5.


والنوع الثاني: مطلق; كقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}6 وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}7 وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}8 إلى قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}9 وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم.



1 سورة آل عمران آية: 152.
2 سورة فصلت آية: 46.
3 سورة آية: 28-29.
4 سورة آية: 29-30.
5 سورة البقرة آية: 253.
6 سورة البقرة آية: 223.
7 سورة الكهف آية: 29.
8 سورة الإسراء آية: 18.
9 سورة الإسراء آية: 19.


ج / 2 ص -401-

ـ
الثاني: أن إثبات استقلال العبد بعمله مع كونه مملوكا لله تعالى يقتضي إثبات شيء في ملك الله لا يريده الله، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة1.
الثالث: أن نقول لهم: هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد؟ فسيقول غير الغلاة منهم: نعم، نقر بذلك، فنقول: هل وقع فعلهم على وفق علم الله أو على خلافه؟ فإن قالوا: على وفقه، قلنا: إذن قد أراده، وإن قالوا: على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خصموا، وإن أنكروه، كفروا.


وهاتان الطائفتان -الجبرية والقدرية- ضالتان طريق الحق؛ لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر; فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر.


ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم:
الطائفة الثالثة: أهل السنة والجماعة، الطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة; فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارا وقدرة; فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم; فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى، لا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله عز وجل، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى; كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ



1 أخرجه: أحمد (2/ 86)، وأبو داود (4691)، وهو مشهور عند أهل العلم، لكن فيه ضعف.


ج / 2 ص -402-


الْعَالَمِينَ}1، فإذا شاء العبد شيئا وفعله; علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة.
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول; فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة القدر. وأدلتهم على إثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته.


وبهذا نعرف أن كلا من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد; فهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
حكاية: مما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزليا أيضا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فقال عبد الجبار على الفور: سبحان من تنزه عن الفحشاء! فقال أبو إسحاق فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق: أيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى; أحسن إلي أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق: إن كان منعك ما هو لك; فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له; فيختص برحمته من يشاء. فانصرف الحاضرون وهم يقولون: والله; ليس عن هذا جواب. ا ه.


وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أهل السنة والجماعة

1 سورة التكوير، آية: 28-29.


ج / 2 ص -403-


وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في "العقيدة الواسطية"; فلتراجع هناك.


مراتب القدر:

وهي أربع يجب الإيمان بها كلها:
المرتبة الأولى: العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلا، فعلم ما كان وما يكون; فكل شيء معلوم لله، سواء كان دقيقا أم جليلا من أفعاله أو أفعال خلقه. وأدلة ذلك في الكتاب كثيرة منها: قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}1 فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر; فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى. ولاحظ سعة علم الله عز وجل وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق; فهذه ظلمات متعددة: ظلمة الطبقة الأرضية، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الأمواج، وظلمة الليل; فكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ}2 ثم جاء العموم المطلق: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}3 ولا كتابة إلا بعد علم. ففي هذه الآية إثبات العلم وإثبات الكتابة.
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}4 ففي الآية أيضا إثبات العلم وإثبات الكتابة.



1 سورة الأنعام آية: 59.
2 سورة الأنعام آية: 59.
3 سورة الأنعام آية: 59.
4 سورة الحج آية: 70.


ج / 2 ص -404-

المرتبة الثانية: الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان.
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي عامة، ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته; فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبدا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله المخلوق، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1 وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}2 وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}3 الآية.


المرتبة الرابعة: الخلق; فما من شيء في السماوات والأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}4 وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله; لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان،

ولأن فعله ناتج عن أمرين:
1- إرادة جازمة.
2- قدرة تامة.
والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة التامة ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم.


والعبد يتعلق بفعله شيئان:
1- خلق، وهذا يتعلق بالله.
2- مباشرة، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}5 وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ



1 سورة يس آية: 82.
2 سورة الأنعام آية: 112.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 سورة الزمر آية: 62.
5 سورة الواقعة آية: 24.


ج / 2 ص -405-

ـــ
تَعْمَلُونَ}1، ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثابته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع،

وقد جمعت في بيت:

علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وهناك تقديرات أخرى نسبية: منها: تقدير عمري: حين يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر يرسل إليه الملك; فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. ومنها: التقدير الحولي، وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}2 ومنها التقدير اليومي: كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}3 فهو كل يوم يغني فقيرا، ويفقر غنيا، ويوجد معدوما، ويعدم موجودا، ويبسط الرزق ويقدره، وينشئ السحاب والمطر، وغير ذلك.


فإن قيل: هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره؟
الجواب: لا ينافيه; لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله; كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له: إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم: نرجع. فعزم على الرجوع، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال: يا أمير المؤمنين! أفرارا من قدر الله؟ فأجاب



1 سورة النحل آية: 32.
2 سورة الدخان آية: 4.
3 سورة الرحمن آية: 29.


ج / 2 ص -406-


عمر: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"1.
يعني: أن مضينا في السفر بقدر الله ورجوعنا بقدر الله، ثم ضرب له مثلا، قال: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة; أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله.
وقال أيضا: "أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخصبة; أكنت معجزه؟ قال: نعم. قال: فسر إذن" ومعنى معجزه: ناسبا إياه إلى العجز. فالإنسان وإن كان يفعل; فإنما يفعل بقدر الله.


فإن قيل: إذا تقرر ذلك; لزم أن يكون العاصي معذورا بمعصيته; لأنه عصى بقدر الله؟
أجيب: إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر. أما بطلانه بالشرع: فقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}2 فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}3 ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}4 وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله، وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}5 فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل; لأن القدر باق حتى مع إرسال



1 أخرجه: البخاري في (الطب, باب ما يذكر في الطاعون, 4/41), ومسلم في (السلام, باب الطاعون والطيرة, 4/ 1740); عن ابن عباس رضي الله عنه.
2 سورة الأنعام آية: 148.
3 سورة الأنعام آية: 148.
4 سورة الأنعام آية: 148.
5 سورة النساء آية: 165.


ج / 2 ص -407-


الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله.
وأما بطلانه بالنظر; فنقول: لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبها كذا وكذا، ووظيفة أخرى أقل منها; فإنك سوف تطلب الأعلى، فإن لم يكن; طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شيء منها; فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها مع أول الناس. وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه في كل يوم خمس مرات، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة; فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة; فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة؟!


مثال آخر: رجل قال: عسى ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج; فنقول: تزوج حتى يأتيك. فقال: لا; فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج; فإن الله بمشيئته قد يرزقه الولد المطلوب. وكذلك من يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك; فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك.


فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة مانعة نافعة: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: اعملوا; فكل ميسر لما خلق له"12 فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا كلمة واحدة، فقال: "اعملوا..."، وهذا فعل أمر، "فكل ميسر لما خلق له".


وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة منها:


1 البخاري: تفسير القرآن (4945) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: القدر (2136) وتفسير القرآن (3344) , وأبو داود: السنة (4694) , وأحمد (1/82 ,1/129 ,1/132 ,1/140 ,1/157).
2 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب فأما من أعطى واتقى , 3/ 324), ومسلم في (القدر, باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه, 4/ 2039-2040); عن علي رضي الله عنه.


ج / 2 ص -408- وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده; لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله; ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر" ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:.......


1- أنه من تمام توحيد الربوبية.
2- أنه يوجب صدق الاعتماد على الله عز وجل لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله.
3- أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك; اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة.
4- منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملا يشكر عليه; لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}1 أي: فرح بطر وإعجاب بالنفس.


5- عدم حزنه على ما أصابه; لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة.
6- أن الإنسان يفعل الأسباب; لأنه يؤمن بحكمة الله عز وجل وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها.
قوله: "والذي نفس ابن عمر بيده": الصيغة هنا قسم، جوابه: جملة "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله; ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر": وابن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه- ذكر حكمهم



1 سورة الحديد، آية: 22-23.


ج / 2 ص -409- "الإيمان أن تؤمن بالله......


بالنسبة لقبول عملهم، ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أناسا من البصرة يقولون: إن الله عز وجل لم يقدر فعل العبد، وإن الأمر أنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه; فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله: "ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر; لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}1 ثم استدل ابن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"2 فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة; فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ; كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً}3.


ووجه استدلال ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان مبنيا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان; سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئا واحدا من هذه الأركان الستة; صار كافرا، وإذا كان كافرا; فإن الله لا يقبل منه.


قوله: "أن تؤمن بالله": والإيمان بالله عز وجل يتضمن أربعة أمور:
1- الإيمان بوجوده.
2- وبربوبيته.
3- وبألوهيته.
4- وبأسمائه وصفاته.
فمن أنكر وجود الله; فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل



1 سورة التوبة آية: 54.
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).
3 سورة آية: 150-151.


ج / 2 ص -410- وملائكته وكتبه.....


شيء، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أنكر أن يكون مختضا بها; فهو غير مؤمن بالله.
قوله: "وملائكته":


والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
1- الإيمان بوجودهم.
2- الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم.
3- الإيمان بأفعالهم.
4- الإيمان بصفاتهم.
فمِمّن علمنا صفاته جبريل عليه السلام، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح، قد سد الأفق; كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدا; فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي أحيانا بصورة بشر; فأتى مرة بصورة دحية الكلبي، وأتى مرة بصورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتعلم المتأدب1.
قوله: "وكتبه": أي: الكتب التي أنزلها على رسله.


والإيمان بالكتاب يتضمن ما يلي:
1- الإيمان بأنها حق من عند الله.
2- تصديق أخبارها.
3- التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلى هذا، فلا يلزمنا أن نلتزم بأحكام الكتب السابقة; لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن. وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن; لأن القرآن فيه أشياء منسوخة.



1 أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/ 36); عن ابن عمر, عن أبيه رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -411- ورسله......


4- الإيمان بما علمناه معينا منها، مثل: التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى.
5- الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب; كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}1 وقال عيسى: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}2 وقال عن يحيى كذلك3.


تنبيه:

الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان; فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب.
قوله: "ورسله": هم الذين أوحى الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق؛ ليبلغوا شريعة الله.


والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي:
1- أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون.
2- أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام; ما لم تنسخ.
3- أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه; فنؤمن بهم على سبيل الإجمال، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل لكل أمة رسولا تقوم به الحجة عليهم; كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}4.


والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورون; لأنهم يقولون:


1 سورة الحديد آية: 25.
2 سورة مريم آية: 30.
3 كما في قوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا [مريم: 12].
4 سورة النساء آية: 165.


ج / 2 ص -412- واليوم الآخر 1...


يا ربنا! ما أرسلت إلينا رسولا; كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}2 فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق.
فإن قيل: قوله تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}3 يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول; فهل قامت عليهم الحجة؟
الجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة; لأن فيها بقايا; كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه"; "إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم; إلا بقايا من أهل الكتاب"4 وكما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا}5.


قوله: "واليوم الآخر": أي: اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبرى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في "العقيدة الواسطية"، وهو كتاب مختصر; لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه.
وعلى هذا; فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة




1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).
2 سورة طه آية: 134.
3 سورة المائدة آية: 119.
4 أخرجه: مسلم في (الجنة, باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة, 4/ 2197); من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
5 سورة هود آية: 116.


ج / 2 ص -413- وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم1.


عراة غرلا بهما من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيها من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم; كل هذا من الإيمان باليوم الآخر. ومنه ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به.
"قوله: "وتؤمن بالقدر خيره وشره": هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف; لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه.


والإيمان بالقدر هو أن تؤمن بتقدير الله عز وجل للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله عز وجل قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم; فالعلم سابق على الكتابة، ثم إنه ليس كل معلوم لله -سبحانه وتعالى- مكتوبا; لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله عز وجل ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنها مكتوبة.


وهذا القدر، قال بعض العلماء: إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يطلع الله عليه أحدا; لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا; إلا ما أوحاه الله عز وجل إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا; فإنه سر مكتوم، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً}2 الآية، وإذا قلنا: إنه سر مكتوم; فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته; لأننا نقول لهذا الذي عصى الله عز وجل وقال: هذا مقدر



1 أخرجه: مسلم (في الإيمان, باب بيان الإيمان والإسلام, 1/36).
2 سورة لقمان آية: 34.


ج / 2 ص -414-

ــ
علي: ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت; أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟
قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}1 فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين.


وقوله: "خيره وشره": الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه. ومعلوم أن المقدورات خير وشر; فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا.
وإذا كان القدر من الله; فكيف يقال: الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله؟
فالجواب: أن الشر لا ينسب إلى الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك"2، فلا ينسب إليه الشر لا فعلا ولا تقديرا ولا حكما، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}3 تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجى به من العاقبة الحميدة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار; فالكي شر، لكن




1 سورة الصف آية: 5.
2 أخرجه: مسلم برقم (771).
3 سورة الروم آية: 41.


ج / 2 ص -415-


الفعل خير; لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شرا محضا، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر; صار ذلك شرا بالنسبة له، وقد يكون خيرا له من وجه آخر، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به، فيكون خيرا، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}1.


وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه; فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله. وكم من إنسان أذنب ذنبا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرا منه قبلها; لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها; فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}2 فقال تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}3.


والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالهم بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم; حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم -صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه-، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدا، وصارت حالهم أيضا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ



1 سورة البقرة آية: 66.
2 سورة الأعراف آية: 23.
3 سورة طه آية: 122.


ج / 2 ص -416-


الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}1 فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه، وهذا شيء عظيم.
وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن هاهنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله -سبحانه وتعالى-; فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه; فهو خير، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "الخير بيديك، والشر ليس إليك"2 ولم يقل: والشر بيديك; فلا ينسب الشر إلى الله أبدا، فضلا عن أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء; فالله لا يريد بقضاء الشر شرا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية; فهذا في المقضي، ومع ذلك; فهو وإن كان شرا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرا محضا، حتى المقضي وإن كان شرا ليس شرا محضا، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر.


ولنضرب لذلك مثلا: الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي


1 سورة التوبة آية: 118.
2 أخرجه: مسلم في (صلاة المسافرين, 771).


ج / 2 ص -417-


النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1 والرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيرا كثيرا; فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذه إذا كان يعقبه الصلاح، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله عز وجل واشتغلوا بالمال، فإذا أصيبوا بفقر; رجعوا إلى الله، وعرفوا أنهم ضالون; فهذا الشر صار خيرا باعتبار آخر.


كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له; فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضا خير في غير السارق; فإن فيه ردعا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضا حفظ للأموال; لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده; امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس،


ولهذا قال بعض الزنادقة:

يد بخمس مئين عسجدا وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من النار


لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما; فقيل فيه:

قل للمعري عار أيما عاري جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري
يد بخمس مئين عسجدا وديت لكنها قطعت في ربع دينار
حماية النفس أغلاها وأرخصها حماية المال فافهم حكمة الباري


1 سورة الروم آية: 41.


ج / 2 ص -418- وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك،.....


· قوله في حديث عبادة "أنه قال لابنه: يا بني!... إلخ: أفاد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال: "يا بني!"، وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر.


قوله: "لن تجد طعم الإيمان": هذا يفيد أن للإيمان طعما كما جاءت به السنة وطعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة; فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتى بعدها طعام آخر أزالها، لكن طعم الإيمان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله عز وجل فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة; فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم.


قوله: "حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك": قد تقول: ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل; لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلا بد أن نعرف معنى هذه العبارة;

فتحمل هذه العبارة على أحد معنيين أو عليهما جميعا:
الأول: أن المعنى "ما أصابك"; أي: ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة; لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب.
الثاني: ما أصابك; فلا تفكر أن يكود مخطئا لك، فلا تقل: لو أنني فعلت كذا ما حصل كذا; لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك; فكل التقديرات التي تقدرها وتقول: لو أني فعلت كذا ما حصل


ج / 2 ص -419- وما أخطأك لم يكن ليصيبك،.....


كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئا، وأيا كان; فالمعنى صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلا بد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبا للإنسان; فإنه لن يمنعه شيء، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت طعم الإيمان; لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لا بد أن يقع على ما وقع عليه، ولا يمكن أن يتغير أبدا.


مثال ذلك: رجل خرج بأولاده للنزهة، فدب بعض الأولاد إلى بِركة عميقة، فسقط، فغرق، فمات، فلا يقول: لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لا بد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير; فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضى، ويعرف أنه لا مفر، وأن كل التقديرات والتخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان; فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضى ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}1.
فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك; ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة; فتجده يعمل أعمالا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله عز وجل مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره.


وقوله: "وما أخطأك لم يكن ليصيبك": نقول فيه مثل الأول; يعني: ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدا سمع بموسم تجارة في بلد


1 سورة آية: 22-23.


ج / 2 ص -420- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم،...


ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات; نقول له: ما أخطأك من هذا الربح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك مهما كان ومهما عملت، أو نقول: لم يكن ليصيبك; لأن الأمر لا بد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان.


ثم استدل لما يقول بقوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم ". القلم بالرفع، وروي بالنصب. فعلى رواية الرفع يكون المعنى: أن أول ما خلق الله هو القلم، لكن ليس من كل المخلوقات، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وأما على رواية النصب; فيكون المعنى: أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه له; يعني: خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلى هذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول الذي هو الرفع: هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟


الجواب: لا; لأننا لو قلنا: إن القلم أول المخلوقات، وإنه أمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء، وأن أول بدء خلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله عز وجل لأن الله عز وجل لم يزل ولا يزال خالقا، وعلى هذا; فيكون: إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن.


قال أهل العلم: وتأويله: إن المعنى: أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من المخلوقات; كالسماوات والأرض... فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته:


ج / 2 ص -421- فقال له: اكتب. فقال: رب! وماذا أكتب؟..

ــــــ

والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان
قوله: "فقال له: اكتب": القائل هو الله عز وجل يخاطب القلم، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}1 أي: لا بد أن تنقادا لأمر الله طوعا أو كرها; فكان الجواب: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}2 فقد خاطب الله السماوات والأرض وأجابتا ودل قوله: "طائعين" على أن لها إرادة وأنها تطيع; فكل شيء أمام الله; فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل.


قوله: "قال: ربي وماذا أكتب؟": "ماذا": اسم استفهام مفعوله مقدم، و"أكتب": فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، هذا إذا ألغيت "ذا"، أما إذا لم تلغ; فنقول: "ما": اسم استفهام مبتدأ، و"ذا": خبره; أي; ما الذي أكتب؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره: ما الذي أكتبه؟
وفي هذا دليل على أن الأمر المجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا; فإننا نقول: إذا كان الأمر مجملا; فإن طلب استبانته لا يكون معصية; فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله -سبحانه



1 سورة آية: 9-11.
2 سورة فصلت آية: 11.


ج / 2 ص -422- قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"1. يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"2.


وتعالى-، ومع ذلك قال: "رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، فكتب المقادير.
فإن قيل: هل القلم يعلم الغيب؟
فالجواب: لا، لكن الله أمره، ولا بد أن يمتثل لأمر الله، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادا بالنسبة لمفهومنا، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه; لأن الله إذا أراد شيئا قال له: كن; فيكون على حسب مراد الله.
و"كل": من صيغ العموم; فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين.


وقوله: "حتى تقوم الساعة": الساعة هي القيامة، وأطلق عليها لفظ الساعة; لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة; يعني: الساعة المعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور.
قوله: "يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا": أي: الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء.
قوله: "فليس مني": تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كافر، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء من كل كافر.



1 سنن الترمذي: كتاب القدر (2155) وكتاب تفسير القرآن (3319) , وسنن أبي داود: كتاب السنة (4700).
2 أخرجه: أبو داود في (السنة, باب في القدر, 4/76) وفيه حبيش بن شريح, وهو مقبول. ومن طريق آخر أخرجه: الترمذي في (القدر, 6/325), والطيالسي (557) , وابن أبي عاصم في "السنة" (105). وفيه عبد الواحد بن سليم. ومن طريق آخر أخرجه: ابن أبي عاصم (104) في "السنة" و "الأوائل" (2). وفيه بقية بن الوليد ومعاوية بن سليم. ومن طريق آخر أخرجه: أحمد (5/317), وابن أبي عاصم (107), والآجري (ص 177, 178). وفيه أيوب بن زياد الحمصي. وأخرجه أيضا: ابن أبي عاصم في "السنة" (103). وفيه ابن لهيعة. والحديث صححه الألباني; كما في "تعليقه على المشكاة" (1/34).


ج / 2 ص -423-


ويستفاد من هذا الحديث:
1- ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله: "يا بني!".
2- أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها، وذلك أنه لم يقل: إن الله كتب... وسكت، ولكنه أسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمثلا: إذا أردت أن تقول لابنك: سم الله على الأكل، وأحمد الله إذا فرغت; فإنك إذا قلت ذلك يحصل به المقصود، لكن إذا قلت: سم الله على الأكل، وأحمد الله إذا فرغت; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتسمية عند الأكل، وقال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها، ويشرب الشربة ويحمده عليها"1.


إذا فعلت ذلك استفدت فائدتين:
الأولى: أن تعود ابنك على اتباع الأدلة.
الثانية: أن تربيه على محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، وهذه في الحقيقة كثيرا ما يغفل عنها; فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة.


ـ
1 أخرجه: مسلم في (الذكر والدعاء, باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب, 4/2095); عن أنه رضي الله عنه.


ج / 2 ص -424- وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة"1.

ـ
قوله: "وفي رواية لأحمد: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب...": هذه الرواية تفيد أمرا زائدا على ما سبق، وهو قوله: "فجرى في تلك الساعة"; فإنه صريح في أن القلم امتثل، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالا لأمر الله تعالى; فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله - سبحانه وتعالى- كل شيء إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}2 وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}3 أي: من قبل أن نبرأ الخليقة، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}4.


قوله: "إلى يوم القيامة": هو يوم البعث، وسمي يوم القيامة; لقيام أمور ثلاثة فيه:
الأول: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين; كما قال تعالى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}5.
الثاني: قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم; لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}6.



1 أخرجه: الإمام أحمد (5/317), وابن أبي عاصم (107). وفيه أيوب بن زياد الحمصي, لم يوثقه غير ابن حبان; كما في "تعجيل المنفعة" (ص 79).
2 سورة الحج آية: 70.
3 سورة الحديد آية: 22.
4 سورةالحديد آية: 22.
5 سورة آية: 5-6.
6 سورة غافر آية: 51.


ج / 2 ص -425- وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار".

ــــــ
الثالث: قيام العدل; لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}1.
قوله: "وفي رواية لابن وهب": ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث.
قوله: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار": في هذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم الإيمان إلا به، وأما من لم يؤمن به; فإنه يحرق بالنار.
وقوله: "أحرقه الله بالنار": بعد قوله: "فمن لم يؤمن" يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار;

لأن لدينا ثلاث مقامات:
الأول: الإيمان والجزم بالقدر بمراتبه الأربع.
الثاني: إنكار ذلك.
وهذان واضحان; لأن الأول إيمان والثاني كفر.
الثالث: الشك والتردد.
فهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال: "فمن لم يؤمن"، ودخل في هذا النفي من أنكر ومن شك.


وفي قوله: "أحرقه الله بالنار" دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون لها بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة



1 سورة الأنبياء آية: 47.


ج / 2 ص -426- وفي " المسند " و"السنن" عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر; فحدثني بشيء، لعل الله أن يذهبه من قلبي......


أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما1 يعني: فحما أسود، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}2 وفي قوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}3.
قوله: "في نفسي شيء من القدر": لم يفصح عن هذا الشيء، لكن لعله لما حدثت بدعة القدر، وهي أول البدع حدوثا صار الناس يتشككون فيها ويتكلمون فيها، وإلا; فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر، فغضب النبي عليه الصلاة السلام من ذلك، وأمرهم بأن لا يتنازعوا وأن لا يختلفوا، فكف الناس عن هذا4 حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشبه، فلهذا يقول ابن الديلمي: "في نفسي شيء من القدر...".


قوله: "فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي": أي: يذهب هذا

1 أخرجه: البخاري في (الرقاق, باب صفة الجنة والنار, 1/20), ومسلم في (الإيمان, باب معرفة طريق الرؤية, 1/ 167- 171).
2 سورة الحج آية: 22.
3 سورة النساء آية: 56.
4 حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه; قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر; فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب, فقال: بهذا أمرتم, أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض؟! بهذا هلكت الأمم قبلكم". أخرجه: ابن ماجه في (المقدمة, باب في القدر, 1/33)- قال في "الزوائد": "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"-, واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1119). وأخرجه: أيضا أحمد في "المسند"- تحقيق شاكر- طريق حماد (6846), ومن طريق أبي معاوية (6668), ومن طريق أنس بن عياض عن أبي حازم (6702). وقال أحمد شاكر: "إسناد صحيح".



ج / 2 ص -427- فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا; ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا; لكنت من أهل النار.....


الشيء، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضي الله عنهم; كأبي بن كعب; فلكل داء طبيب.
قوله: "لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر": هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر; لأن الذي لا تقبل منه النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: "حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك": قد سبق الكلام على هذه الجملة.


قوله: "ولو مت على غير هذا; لكنت من أهل النار": "مت" بالضم; لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخرى بالكسر "مت "; كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}1، في إحدى القراءتين، وهي على هذه القراءة من مات يميت بالياء.
قوله: "على غير هذا; لكنت من أهل النار": جزم أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار; لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها. وهل هذا الدواء يفيد؟


الجواب: نعم يفيد، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا; فلا بد أن يرتدع، ولا بد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.



1 سورة آل عمران آية: 158.


ج / 2 ص -428- قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت; فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"1 حديث صحيح رواه الحاكم في " صحيحه" 2.


وقوله: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت; فكلهم حدثني بمثل ذلك": المشار إليه الإيمان بالقدر، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وهؤلاء العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن.
فأبي بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى "إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة "لم يكن..." البينة، وقال: "إن الله أمرني أن أقرأها عليك"، فقال: يا رسول الله! سماني الله لك. قال: "نعم".


فبكى رضي الله عنه" بكاء فرح أن الله عز وجل سماه باسمه لنبيه، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة3. وأما عبد الله بن مسعود; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل; فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"4. وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب



1 أبو داود: السنة (4699) , وابن ماجه: المقدمة (77) , وأحمد (5/182 ,5/185 ,5/189).
2 أخرجه: أحمد (5/185, 189), وأبو داود في (السنة, باب في القدر, 5/75), وابن ماجه في (المقدمة, باب في القدر, 1/29), وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" (ص 107), وابن أبي عاصم في "السنة" (245), والطبراني في "الكبير" (4940), وابن حبان (1817), والخطيب في "الموضح" (1/184). وأخرجه من طريق آخر: الآجري في "الشريعة" (ص 187). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/198): "رواه الطبراني بإسنادين, ورجال هذه الطريق ثقات".


3 أخرجه: البخاري في (مناقب الأنصار, باب مناقب أبي بن كعب, 3/44), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب من فضائل أبي, 4/1914); عن أنه رضي الله عنه.
4 أخرجه: أحمد (1/7), وابن ماجه في (المقدمة, فضل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه; 1/49); عن أبي بكر وعمر. وأخرجه: أحمد (1/26, 38), وابن سعد (2/432, 7/35), والحاكم (3/318) -وصححه على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي-; عن عمر رضي الله عنه. وأحمد (1/445, 454), وابن سعد, والطيالسي (2/15), والطبراني, والبزار; كما في "مجمع الزوائد" (9/287); عن ابن مسعود. وقال الهيثمي: "وفيه عاصم بن أبي النجود, وهو على ضعفه حسن الحديث, وبقية رجال أحمد رجال الصحيح, ورجال الطبراني رجال الصحيح, عدا فرات بن محبوب وهو ثقة". والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/360); عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -429-



القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه1. وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين2.
والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع.
مسألة: الإيمان بالقدر هل هو متعلق بتوحيد الربوبية، أو بالألوهية، أو بالأسماء والصفات؟
الجواب: تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالألوهية والأسماء والصفات، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضا ظاهر; لأن الألوهية بالنسبة لله يسمى توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمى توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد; فلها تعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة.
مسألة: هل اختلف الناس في القدر؟


1 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم , 3/240).
2 أخرجه: البخاري في (فضائل الصحابة, باب مناقب عمار وحذيفة, 3/30); عن أبي الدرداء رضي الله عنه.




ج / 2 ص -430- فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان.
الثالثه: إحباط عمل من لم يؤمن به.


الجواب: نعم، اختلفوا فيه على ثلاث فرق، وقد سبق1.


فيه مسائل:

الأولى:
بيان فرض الإيمان بالقدر دليله قوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"2.
الثانية: بيان كيفية الإيمان: أي: بالقدر وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر; لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارا في بيت واحد، وهو قوله:

علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر.


الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به: تؤخذ من قول ابن عمر: "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" ويتفرع منه ما ذكرناه سابقا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر; لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل.



1 انظر: (ص 397).
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).


ج / 2 ص -431- الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة.


الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به: أي: بالقدر، وهو كذلك; لقول عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان... إلخ. وقد سبق أن الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة الإنسان بما قضاه الله عز وجل ويستريح لأنه علم أن هذا أمر لا بد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدا، "ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا; لأن لو تفتح عمل الشيطان"12 ولا ترفع شيئا وقع مهما قلت.


الخامسة: ذكر أول ما خلق الله: ظاهر كلام المؤلف: الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله، لأنه ثبت في "صحيح البخاري": "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شيء"34 وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق تحمل على أنه أول ما خلق بالنسبة لما يتعلق بهذا العالم المشاهد; فهو قبل خلق السماوات والأرض، فتكون أوليته نسبية.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام


ـ
1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سبق (ص 372).
3 البخاري: التوحيد (7418) , وأحمد (4/431).
4 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب وكان عرشه على الماء, 4/ 387); عن عمران بن حصين رضي الله عنه.


ج / 2 ص -432- السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.


الساعة: لقوله في الحديث: "فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". وفيه أيضا من الفوائد: توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأنه يعقل أمر الله; لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال: "ماذا أكتب؟".

السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به: لقوله: "من مات على غير هذا; فليس مني"، وهذه البراءة مطلقة; لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة.


الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء: لأن ابن الديلمي يقول: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت" بعد أن أتى أبي بن كعب; فدل هذا على أن من عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم. وفيه أيضا مسألة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم للتثبت; لأن ابن الديلمي سأل عدة علماء، أما سؤال أكثر من عالم لتتبع الرخص; فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود; فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنا وكثر الزنى في أشرافهم; غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وزنا منهم رجل بامرأة قالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئا آخر; لأجل أن يتتبعوا الرخص.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا


ج / 2 ص -433-


الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط: لقول ابن الديلمي: "كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا مزيل للشبهة، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله; زالت الشبهة تماما، لكن تزول عن المؤمن، أما غير المؤمن; فلا تنفعه; فالله عز وجل يقول: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}2 لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله; كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}3 ولهذا لما "قالت عائشة للمرأة: كان يصيبنا ذلك -تعني الحيض-; فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"4 لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يؤمن، ولهذا يذكر الله عز وجل إحياء الموتى ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك; فقال في أدلة العقل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}5 فهذه دلالة عقلية; فالعقل يؤمن إيمانا كاملا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى. وذكر أدلة حسية، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى}6.
فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتطمئن الموافق.



1 سورة يونس آية: 101.
2 سورة آية: 96-97.
3 سورة الأحزاب آية: 36.
4 أخرجه: البخاري في (الحيض, باب لا تقضي الحائض الصلاة, 1/ 120), ومسلم في (الحيض, باب وجوب قضاء الصوم على الحائض, 1/ 265).
5 سورة الروم آية: 27.
6 سورة فصلت آية: 39.


ج / 2 ص -434-


وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة; فلا مانع أيضا أن تأتي به للاستدلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث إن أبا المعالي الجويني -غفر الله لنا وله- كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال له الهمداني: "دعنا من ذكر العرش; فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو". فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني.
فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية. وأشدها إقناعا للمؤمن هو الدليل السمعي; لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقا.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





رد مع اقتباس