عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 19-01-2015, 09:44AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله

ج / 1 ص -100- [الباب الخامس:] * باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله


قال المؤلف رحمه الله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
مناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب ظاهرة جدّاً، فإنه في الأبواب السابقة ذكر في الباب الأول: معرفة التّوحيد، وفي الباب الثاني: ذكر فضل التّوحيد، وفي الباب الثالث: ذكر فضل من حقق التّوحيد، وفي الباب الرابع: ذكر ما يضاد التّوحيد، وهو الشرك. فإذا كان طالب العلم ألَمَّ بهذه الأبواب، وعرفها معرفة جيدة، عرف التّوحيد وفضله وتحقيقه، وعرف ما يضاده من الشرك الأكبر أو ينقصه من الشرك الأصغر والبدع وسائر المعاصي، فإنه حينئذٍ تأهّل للدعوة إلى الله عزّ وجلّ، لأنه لا يجوز للإنسان إذا علم شيئاً من هذا العلم أن يختزنه في صدره، ويُغلق عليه، ويختصه لنفسه، هذا العلم مشتَرك بين الأمة، فمن عرف شيئاً منه فإنه يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو الناس إليه، فإن هذه الأمة أمة دعوة، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}، فلا يجوز للمسلم الذي عرف شيئاً من العلم أن يسكت عليه وهو يرى الناس في حاجة إليه، خصوصاً علم التّوحيد وعلم العقيدة، لأنه إذا فعل ذلك فقد ترك واجباً عظيماً، ولا يقول الإنسان أنا ما علي إلاَّ من نفسي- كما يقوله بعض الجهلة أو الكسالى-، أنا ما عليَّ من الناس!! بل عليك نفسك أولاً، ثم عليك أن تدعو الناس إلى دين الله عزّ وجلّ، فإن اقتصرت على نفسك تركت واجباً عظيماً تحاسب عنه يوم القيامة، وتعرّض نفسك لغضب الله عزّ وجلّ حيث تركت ما أوجبه عليك من الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، هذا وجه المناسبة، وهي ظاهرة.


فقوله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله" أي: الدعوة، وأن المسلم الذي منّ الله عليه بمعرفة التّوحيد، ومعرفة الشرك لا يسعه أن يسكت وهو يرى الناس يجهلون التّوحيد، ويقعون في الشرك الأكبر والأصغر، ويسكت على ذلك، كما هو واقع كثير من طلبة العلم والعلماء، الذين يرون الناس على العقائد الفاسدة
ج / 1 ص -101- وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية.


والعقائد الباطلة وعبادة الأضرحة، ويسكتون على ذلك، ويقولون: نحن لا نهتم إلاَّ بأنفسنا. بهذا ضيّعوا واجباً عظيماً، ولو أن العلماء وطلبة العلم قاموا بما أوجب الله عليهم من هذا الأمر في جميع الأمصار لرأيت للمسلمين حالة غير هذه الحالة، فالآن بلاد الإسلام تعج بالشرك الأكبر، تُبنى فيها المشاهد، والمزارات الشركية، ويُنفق عليها الأموال، ودول الكفر تساعد على ذلك، والمسلمون ساكتون على هذا الوضع، وهذا خطر عظيم أصاب الأمة، وما أصيبت به من حروب ومجاعات وأمور تعرفونها إنما هو نتيجة لهذا الإهمال- والعياذ بالله-، فهذا واجب عظيم.


قال رحمه الله تعالى: "وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)} هذه الآية في آخر سورة يوسف، يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس عن بيان منهجه ومنهج أتباعه، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فدل على أن من لم يدع على بصيرة فإنه لم يحقق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عالماً وفقيهاً.


قوله تعالى: {قُلْ} أي: قل يا محمد للناس.
{هَذِهِ سَبِيلِي} السبيل معناها: الطريق التي أسير عليها.
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الدعوة إلى بقيّة شرائع الدين، فتكون الدعوة للكفار للدخول في الإسلام، وتكون الدعوة للعصاة من المسلمين للتوبة إلى الله عزّ وجلّ وأداء الواجبات والتحذير من الوقوع في الشرك، واجتناب المحرمات، فالدعوة ليست مقصورة على دعوة الكفار، بل حتى المسلمون الذين هم بحاجة إلى الدعوة لوقوعهم في المعاصي والمخالفات يحتاجون إلى دعوة، دعوة إلى التوبة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والمخافة من الله عزّ وجلّ، فالدعوة عامة. والدعوة إلى معرفة التّوحيد ومعرفة ضده.


{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} قال الشيخ رحمه الله: "فيه التنبيه على الإخلاص، فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه" فقد يكون الإنسان يدعو، ويحاضر ويخطب، لكن قصده من ذلك أنه يتبيّن شأنه عند الناس، ويصير له مكانة، ويمدح من الناس، ويتجمهرون

ج / 1 ص -102- عليه، ويكثرون حوله، فإذا كان هذا قصده، فهو لم يدع إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه والإنسان الذي يترك الدعوة فإنه ترك واجباً عظيماً، والإنسان الذي لم يُخلص في الدعوة يقع في محظور عظيم، بل لابد من الدعوة وأن تكون خالصة لوجه الله عزّ وجلّ، ويكون القصد منها إقامة شرع الله، والقصد منها هداية الناس ونفع الناس، مدحوك أو ذمُّوك، فبعض الناس، إذا لم يُمدح ويشجّع تَرَكَ الدعوة، وهذا دليل على أنه لا يدعو إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه، فليتنبّه المسلم ويكون رائده وقصده من دعوته هو الإخلاص لوجه الله عزّ وجلّ، ونفع الناس، وتخليصهم من الشرك، ومن البدع، ومن المخالفات، وأن يؤدي الواجب الذي عليه، والكثرة حول الشخص لا تدل على فضله، بعض الأنبياء لم يتبعه إلاَّ القليل: "النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحداً"، هل هذا يدل على عدم فضل هذا النبي؟، لا، حاشا وكلاّ، فالإنسان لا ينظر إلى كثرة الحاضرين، "لأن يهدي الله بك وجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم".


اجتمع الناس على باب ابن مسعود رضي الله عنه وهو يريد الخروج إلى الصلاة فلما خرج ومشوا خلفه، التفت إليهم وقال: "ارجعوا، فإنه فتنة للمتبوع، ذِلّة للتابع".
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} البصيرة معناها: العلم، بل هي أعلى درجات العلم.
وفي هذا دليل على أنه يُشترط في الداعية أن يكون على بصيرة، أي: على علم بما يدعو إليه، أما الجاهل فلا يصلح للدعوة، بل لابد أن يتزوّد بالعلم قبل أن يَشْرَع في الدعوة، لأنه في دعوته يتعرض إلى شبهات ومناظرات، فمن أين يجيب إذا وقف في وجه معاند أو معارض أو مشبِّه، كيف يستطيع الخلاص. إنه يفشل، ويصير نَكْسَة على الدعوة، أو يجيب بجهل ويكون الأمر أخطر، إما أن يسكت عن الجواب وينتصر عليه الخصم، وإما أن يجيب بجهل فيكون الأمر أخطر. هذا من ناحية. والناحية الثانية: أن الداعية يحتاج إلى معرفة الحلال والحرام، فقد يقول بجهله هذا الشيء حرام وهو حلال، وقد يقول بجهله: هذا الشيء حلال وهو حرام، فالداعية يجب أن يكون على علم بما يدعو إليه، بحيث أنه يعرف الحلال والحرام، ويعرف

ج / 1 ص -103- الواجب والمستحب والمحرّم والمكروه والمباح، ويعرف كيف يجيب على الاعتراضات والشبه والمجادلات، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، كيف يستطيع أن يجادل بالتي هي أحسن وهو ليس عنده علم؟!، فيُشترط في الداعية: أن يتأهل بالعلم، فإن بعض الدعاة اليوم ليس عندهم علم، وإنما يجيد الكلام والشَّقْشَقَة والخطابة، لكن ليس عنده علم، بحيث لو عرضت له أدنى شُبهة، أو سئل عن أدنى مسألة في الحرام والحلال تخبّط فيها.


{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: وأتباعي يدعون إلى الله على بصيرة، فدلّ على أن من لم يدع إلى الله لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأن من دعا إلى الله على جهل لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه أدخل نفسه فيما ليس من شأنه، وصار خطراً على الدعوة، وعلى الدعاة.
ثم قال: {وَسُبْحَنَ اللَّهِ} سبحان: اسم مصدر من سبّح بمعنى: نَزَّه الله عما لا يليق به من الشرك والقول عليه سبحانه وتعالى بلا علم، فإن الله يُنَزَّه عن الشرك ويُنَزَّه عن القول عليه بلا علم، فهذا فيه وجوب تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وأعظمها الشرك.


{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين، كما تبرّأ منهم خليل الله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ففيه البراءة من المشركين، يعني: قطع المحبة والمودّة والمناصرة بينك وبين المشركين، لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله، فلا يجوز لك أن تَوَدَّهم بقلبك أو تناصرهم أو تدافع عنهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
ج / 1 ص -104- آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }.


ففي هذا دليل على أنه يجب البراءة من المشركين، وأن من أصول الدعوة إلى الله: البراءة من المشركين، أما الداعية الذي لا يتبرأ من المشركين، فهذا ليس بداعية، وليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه يدعو إلى الله، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، فلابد من البراءة من المشركين، أما الذين يقولون: "ما علينا من عقائد الناس، من دخل في جماعتنا وصار معنا فهو أخونا، وعقيدته له" هذه ليست دعوة إلى الله عزّ وجلّ، وإنما هي دعوة إلى الحزبية والعصبية.


ففي هده الآية الكريمة مسائل عظيمة:
المسألة الأولى:
أن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة أتباعه على الحقيقة: الدّعوة إلى الله.
المسألة الثانية: أن من لم يدع إلى الله وهو يستطيع الدعوة إلى الله، فإنه لم يحقق إتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم بل إتباعه فيه نقص عظيم.
المسألة الثالثة: وهي المسألة التي نبّه عليها الشيخ في مسائله: التنبيه على الإخلاص في الدعوة لقوله: {إِلى اللَّهِ} فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه، فالذي يقصد المدح والثناء وكثرة الأتباع وكثرة الجماعة وكذا وكذا والفَخْفَخَة، هذا لا يدعو إلى الله.
المسألة الرابعة: -وهي المسألة العظيمة-: أن الداعية إلى الله لابد أن يكون على بصيرة، مؤهّلاً بالعلم النافع الذي يستطيع به أن يدعوَ إلى الله، وأن يجادله المُغرضين والمعارضين، ويَدْحضَ حججهم بلسانه وبقلمه، الدعوة إلى الله تكون باللسان وتكون بالقلم أيضاً، وتكون بالسيف والجهاد، فيُشترط في الداعية شرط أساسي، بل أصلي، بأن يكون على علم، وأما الجاهل فلا يصلح للدعوة، وإن كان عنده عبادة، وعنده. ورع، وعنده تُقى، وعنده غيرة على الدين، وعنده محبة للدين، هذا شيء طيّب، وصفات طيّبة، لكن نقول له: يا أخ الدعوة لا يدخل فيها إلاَّ من
ج / 1 ص -105- كان على علم، أما مجرّد الخوف والخشية والعبادة والورع والغيرة والصلاح، فهذا شيء طيّب، لكن أنت لا تصلح للدعوة لأنك لست على علم، والله تعالى يقول: {عَلَى بَصِيرَةٍ}.


ويقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}، والحكمة هي العلم، فأنت لا تصلح للدعوة، تعلّم أولاً، فإذا تعلّمت تعال للدعوة، فالدعوة ليست بالمسألة الهيّنة، ولذلك عندما حصل هذا الإهمال في الدعوة حصل ما ترون الآن من التفكك والتخاذل لأن الدعوة دخل فيها ما هب ودب، من الجهال والمُغرضين وأصحاب المطامع، ولا تنجح دعوة لم يتوفر فيها الشروط الإلهية التي اشترطها الله تعالى، ولا يبقى إلاَّ الأصلح دائماً وأبداً، ولو كثرت الجماعات الدعوية، ما دامت أنها ليست على الشروط التي اشترطها الله، والمنهج الذي رسمه الله ورسوله، فإنها لا تنجح مهما بلغت من الكثرة والقوة، وستتلاشى وتصاب بالنَكْسَة والفشل، أما إذا كانت مؤسَّسة على العلم وعلى الإخلاص والنصيحة، فهذه هي التي تنجح بإذن الله ولو كانت من فرد واحد.
المسألة الخامسة: أن الشرك نقص عظيم يجب تنزيه الله عنه، لأن الله عزّ وجلّ كامل، له الكمال المطلق فمن أشرك به فقد تنقصه ومن نفى صفات الله عزّ وجلّ أو أوّلها فقد تنقص الله عزّ وجلّ، فالمؤوّلة والمشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، أو يؤوِّلون صفات الله، أو يُلحدون في أسمائه، هؤلاء تنقّصوا الله عزّ وجلّ، وهذا نقص ينزّه الله جل وعلا عنه، ومن وصفه بما لا يليق به أو سماه بغير ما سمى به نفسه فقد تنقصه، ومن حكم بغير ما أنزل فقد تنقصه، ومن عصى أمره أو ارتكب نهيه فقد تنقصه سبحانه.


المسألة السادسة:- وهي مهمة جدًّا-: البراءة من المشركين، فالذي يدعو إلى الله -بل وكل مسلم- لكن الذي يدعو إلى الله من باب أولى، لأنه قدوة، يجب عليه أن يتبرّأ من المشركين، لأنهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المؤمنين، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، فمن لم يتبرأ من المشركين فإنه لم يحقق الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، حتى وإن انتسب إليها، وهذه مسألة عظيمة.



ج / 1 ص -106- وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله".


قوله: "بعث معاذاً" البعث معناه: ا لإرسال.
"إلى اليمن" القُطر المعروف، جنوب الجزيرة، سُمِّيَ باليمن لأنه يقع أيمن الكعبة، والشام سُمِّيَ بالشام لأنه يقع شاميَّ الكعبة.
وكان بعث معاذ في السنة العاشرة، وقيل: في آخر السنة التاسعة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم. أرسل قاضياً ومعلّماً وداعياً إلى الله عزّ وجلّ، ينوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمات.


فهذا أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سنة نبوية.
وثانياً: فيه فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لهذه المهمة العظيمة، مما يدل على فضله وعلمه، لأن الرسول لا يرسل إلاَّ من توفّرت فيه الشروط المطلوبة، وقد توفّرت في معاذ رضي الله عنه، وكان أعلم الناس بالحلال والحرام.
وفيه- أيضاً- العمل بخبر الواحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً وحده.


وهذا يدل على أنه يعتمد خبر الواحد ولا يشترط التواتر- كما يقوله بعض الضُّلاّل-، يقولون: أمور العقائد لا يقبل فيها خبر الواحد. والرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بخبر الواحد، فأرسل معاذاً إلى اليمن يدعو إلى الله ويعلم التّوحيد، وهكذا، ما كان الرسول يُرسل رسله جماعات وإنما كان يرسلهم أفراداً، كما بعث عليًّا، وبعث معاذاً، وبعث أبا عبيدة بن الجرّاح، وهذا يدل على قبول خبر الواحد في أصول الدين وفروعه، وأما ما قاله علماء الكلام فهو باطل.


"قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" هذا فيه وصية الإمام لمندوبه حينما يرسله، أنه يخط له المنهج، ويرسم له الطريق الذي يسير عليه، وهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعوثه، أنه إذا أرسل جيشاً أو سَرِيَّة يوصيهم.
"أهل الكتاب" أهل الكتاب المراد بهم: اليهود والنصارى، سُمُّوا أهل الكتاب لأن الله أنزل عليهم التوراة والإنجيل، التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى - عليهما الصلاة والسلام-، فسُمَّيَ أتباع الرسولين بأهل الكتاب، فرقاً بينهم وبين الوثنيين، الذين ليس لهم كتاب، ولا يؤمنون بالرسل.
ج / 1 ص -107- وقصْد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن يتأهّب معاذ لمن سيقدَم عليهم، وأنهم أهل كتاب يحتاجون إلى استعداد علمي للمجادلة والمناظرة.


وفي هذا أنه يجب على الداعية معرفة حالة المدعوين، وهذا من منهج الدعوة: أن الداعية ينظر في حالة المدعوين، ويخاطب كلاً منهم بحسب ما يليق به، فإن كان يخاطب علماء فإنه يخاطبهم بما يليق بهم، وإن كان يخاطب عواماً يخاطبهم بما يليق بهم، الناس ليسوا على حد سواء، فلا يليق بالداعية أنه يخاطب العلماء بخطاب الجهال، ولا يليق به أنه يخاطب الجهال بخطاب العلماء، ولا يليق بالداعية أنه يخاطب السلاطين بخطاب عامة الناس، أو يخاطب عامة الناس بخطاب السلاطين، كل يخاطبه بما يرى أنه أقرب إلى قبوله للحق، قال الله تعالى لرسوليْه موسى وهارون عليه السلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.


قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله" هذا فيه التدرّج في الدعوة، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم، وهذه طريقة الرسل، أنهم أول ما يبدءون بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، لأنها الأصل والأساس، الذي يُبنى عليه الدين، فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإنه يمكن البناء عليها بالأمور الأخرى، أما إذا لم تحقق شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فلا فائدة من بقية الأمور، فلا تأمر الناس بالصلاة وعندهم شرك، ولا تأمرهم بالصيام والصدقة والزكاة وصلة الأرحام وكذا وكذا وهم يشركون بالته، لأنك لم تضع الأساس أولاً، وهذا بخلاف كثير من دعاة اليوم الذين لا يهتمون بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وإنما يدعون الناس إلى ترك الربا، والى المعاملات الحسنة، وإلى الحكم بما أنزل الله، وإلى، وإلى، لكن التّوحيد لا يذكرونه، ولا يلتفتون له، وكأنه ليس مفروضاً، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فهؤلاء مهما أتعبوا أنفسهم فإن عملهم لا ينفع، حتى يحققوا الأصل في الأساس الذي تُبنى عليه أمور الدين، من: حاكمية، ومن صلاة، ومن زكاة، ومن حج، إلى آخره، هذا منهج الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكذلك ذكر الله عن نوح عليه السلام أنه قال أول ما قال لقومه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا

ج / 1 ص -108- "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله".


فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة.


نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}،{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، فكل رسول أول ما يبدأ بالدعوة يبدأ بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، فيدعو إلى التّوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، ثم بعد ذلك يأمرهم ببقية أوامر الدين، أما إنه يبدأ بالعكس، يبدأ بالأمور الجزئية والأمور الفرعية، ويترك الأصل، فهذا العمل لا ينفع، فلو فرضنا أن المجتمع صار بعيداً عن الربا، ويحافظ على الصلاة، وتمتلئ المساجد، وكل الأعمال تُعمل، لكن ليس هناك إخلاص في التّوحيد فهم يدعون غير الله، يدعون الأولياء والصالحين والأنبياء والقبور، فلا فائدة في أعمالهم، وهؤلاء ليسوا مسلمين، مهما صلوا وصاموا.


"وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله" لماذا جاء الشيخ بهذه الرواية؟، لأنها تفسِّر شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بأن معناها: توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، ليس المقصود منها اللفظ فقط، بأن يقول أشهد أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد أن يوحّد الله في العبادة، أما إذا نطق بها بلسانه ولم يوحّد الله في العبادة، فلا تنفعه شهادة أن لا إله إلاَّ الله.
وفي هذا دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مبعوث إلى العالم كله، بما فيهم أهل الكتاب، كما كتب صلى الله عليه وسلم لهِرَقْل عظيم الروم، وكما كتب للمُقَوْقِس ملك مصر، وكما كتب لكِسْرى ملك الفُرس، وكما كتب لملوك الأرض، لأن الله أرسله إلى الناس عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}.


وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك" يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله وعملوا بمقتضاهما.
"فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل بوم وليلة" هذا الركن

ج / 1 ص -109- فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.
فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم.


الثاني: لما حقق الركن الأول والأساس، انتقل إلى الركن الثاني وهو الصلاة، وهذا يدل على أهمية الصلاة، وأنها تأتي بعد التّوحيد مباشرة.
فمن لم يصل فإنه ليس بمسلم، وإن كان يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله. كما دلت على ذلك الأدلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة" وغيره من الأدلة.


وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" هذه هي الزكاة، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
"تُؤخذ من أغنيائهم" في هذا دليل على أن الزكاة لا تجب على الفقير، وإنما تجب على الغني وهو من يملك النِّصاب فأكثر.


"فتردُّ في فقرائهم" هذا فيه مصرف من مصارف الزكاة، فالفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية.
واستدل العلماء -رحمهم الله- بهذا على أن الزكاة لا تحل لغني، وأن مصرف الزكاة يجوز الاقتصار فيه على صنف واحد من الأصناف الثمانية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا اقتصر على الفقراء، ويدخل فيهم المساكين.


واستدلوا به- أيضاً- على أن مصرف الزكاة في البلد الذي فيه المال، لا ينبغي نقلها إلى بلد آخر، إلاَّ إذا كان البلد الذي فيه المال ليس فيه فقراء، فإنها تنقل إلى أقرب بلد فيه فقراء من بلدان المسلمين.
"فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم" الكرائم جمع كريمة وهي: النفيسة من المال، يعني: لا تأخذ في الزكاة أحسن الأموال، لأن هذا فيه إجحاف بهم، كما أنك لا تأخذ أردأ المال، لأن هذا فيه ظلم للفقراء، ولكن خذ المتوسط، بين النفيس وبين الرديء، هذا هو العدل، إن أخذت النفيس
ج / 1 ص -110- واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه.


ظلمت أصحاب الأموال، وإن أخذت الرديء ظلمت الفقراء، إذا أخذت الوسط اعتدلت.
"وإياك وكرائم" تخدير من الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجب العدل على الولاة، وعدم الظلم.
"واتق دعوة المظلوم" هذه وصيّة هامة، يجب على الراعي والأمير وكل مسلم أن يحذر من دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، أي دعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان كافراً: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فالمظلوم ترفع دعوته إلى الله عزّ وجلّ، والله جل وعلا يجيب دعوة المظلوم.


وهنا سؤال أورده العلماء على هذا الحديث، يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أركان، الشهادتان والصلاة والزكاة، ولم يذكر الصيام، ولم يذكر الحج، فما الجواب عن هذا؟
فيه أجوبة كثيرة، لكن أصحها والذي اختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأركان العظيمة الأساسية التي يقاتَل من تركها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة، قال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.


فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر الأركان التي يُقاتل عليها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة. هذا من ناحية.
والناحية الثانية: أن هذه أركان ظاهرة، يراها الناس ويسمعونها، أما الصيام فهو أمر خفي بين العبد وبين ربه، والحج لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، وأيضاً إنما يجب مرة في العمر، بخلاف الشهادتين، فإن الإنسان يلازمها طول الحياة، ولا يتخلى عنها، والصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرّات، والزكاة كل عام، أما الحج فإنه يجب مرة واحدة في العمر، ولا يجب
ج / 1 ص -111- ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خَيْبَر:


إلاَّ على المستطيع، وأما الصيام فلأنه أمر خفي، وأيضاً من حافظ على الشهادتين، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه سيحافظ على الصيام ويحافظ على الحج من باب أولى.


ما يستفاد من الحديث:

دل هذا الحديث على مسائل كثيرة:
أوّلاً: فيه إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ.
ثانياً: فيه فضيلة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه.
ثالثاً: فيه قبول خبر الواحد في العقائد وغيرها.
رابعاً: فيه بيان منهج الدعوة، وهذا أصل عظيم، وهو أنه يتدرج فيها، ويبدأ بالأهم فالأهم.
خامساً: في الحديث دليل على عظم رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث إلى جميع العالم اليهود والنصارى وغيرهم، وإذا كان مبعوثاً إلى اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، فغيرهم من باب أولى.
سادساً: فيه المسألة التي أشار إليها الشيخ، وهي أن من العلماء من يجهل معنى لا إله إلاَّ الله، لأن أهل الكتاب يدعون إليها وهم أهل كتاب وأهل علم.
سابعاً: في الحديث دليل على أنه لا يجوز أخذ الكرايم في الزكاة، وإنما يُؤخذ المتوسط.
ثامناً: فيه دليل على التحذير من دعوة المظلوم، وأنه ليس بينها وبين الله حجاب.


قال الشيخ رحمه الله: "ولهما" يعني: البخاري ومسلم.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه راوي الحديث هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري الخزرجي- رضي الله تعالى عنه، هو وأبوه صحابيان.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خبير" خَيْبَر: حصن لليهود شمالي الحجاز، وكان به مزارع ونخيل، ولا يزال يحمل هذا الاسم إلى الآن، كانت بلاداً زراعيّة، وبلاد

ج / 1 ص -112- تخيل وإنتاج للتمور، ويُضرب المثل فيقال: كجالب التمر إلى خَيْبَر، أو كجالب التمر إلى هجر، يعني: أن الذي يأتي بشيء إلى بلد هي تُنْتِج ذلك الشيء يصبح كجالب التمر إلى خَيْبَر، ولهذا يقول حسان رضي الله عنه.

إنا ومن يُهدي القصائد نحونا كمُسْتَبْضِع تمراً إلى أهل خَيْبرَا
وكانت خيبر بلاداً يَقْظُنُها اليهود، وجلا إليها اليهود من المدينة، لما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير الذين غدروا بالعهد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتركوا له ما معهم من السلاح والقوة، ويجلوا إلى خَيْبَر وإلى أَذْرِعات بأرض الشام، كما ذكر الله ذلك في أول سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} إلى آخر الآيات، فهؤلاء هم بنوا النضير من اليهود، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاهم في السنة السابعة من الهجرة، بعد صُلح الحُدَيْبِيَة، وقبل فتح مكة، ومكّنه الله منهم، وفتح خَيْبَر، وحصل المسلمون منها على خيرات كثيرة، ثم إنهم تعاقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبقوا فيها عمّالاً للمسلمين، يزرعونها بأجرة، فأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا فيها إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- بعد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرهم فيها إقراراً دائماً، وإنما قال: "نُقِرُّكُم فيها ما شئنا"، حاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد الأمر بالمسلمين في الحصار من قلّة ذات اليد، ومن طول الحصار فبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة من أجل أن يَذهب عنهم ما يجدون من المشقّة وطول الانتظار.


قال الشيخ رحمه الله: "في هذا ما يجري على أولياء الله من الجوع، ومن الوباء" يعني: ما جرى عليهم في هذا الحصار من المشقّة، مع أنهم أولياء الله، وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم ومع هذا نالهم مشقّة وجوع في هذا الحصار، وفي هذا دليل على أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وأن الجوع والفقر ليسا دليلاً على بغض الله لمن يصيبه ذلك، فإن هذا قد يصيب أفضل الخلق.

ج / 1 ص -113- "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ يفتح الله على يديه" فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها".


قال "لأعطين الراية"، الراية هي: العَلَمِ الذي يحمله الجُند، من أجل أن يهتدوا به، ويَلْتَفُّوا حوله في القتال، وحمل العَلَم في الغزو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان له رايات، وكان مكتوباً في رايته صلى الله عليه وسلم: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله.


"رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، هذه مِيزة عظيمة لهذا الرجل الذي يُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففيه فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بهذه الشهادة العظيمة أنه يحب الله ورسوله، وأنه يحبه الله ورسوله، وله فضائل كثيرة، وان كان الله جل وعلا يحب المؤمنين كلهم، والمؤمنون يحبون الله، كما قال الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.


فالحاصل؛ أن مِيزة محبة الله ورسوله للمؤمنين موجودة في كل مؤمن ومؤمنة عموماً، ولكن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب بخصوصه فيها مزية له. ففي هذا ردٌّ على الخوارج ، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفّروه،كما أن فيها ردّاً على النواصب الذين يُبغضون علياً، ويسبُّونه، وفيها إثبات فضيلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم الرسول، ورابع الخلفاء الراشدين، وفي هذا-أيضاً- إثبات صفة لله سبحانه وتعالى، وأنه يحب عباده المؤمنين، فالله يحب عباده المؤمنين، ويحب أولياءه، ففيه إثبات المحبة لله عزّ وجلّ، ردًّا على من ينفي هذه الصفة من الأشاعرة وغيرهم.
"يفتح الله على يديه" هذه المِيزة الثانية لعلي بن أبي طالب أن الله جل وعلا يفتح هذا البلد المستعصي على يد هذا الولي من أوليائه.


وفيه: علامة من علامات النبوّة، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عما يحصل في المستقبل، وقد حصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
فالناس لما سمعوا هذه البشارة العظيمة، وسمعوا وصف هذا الرجل الذي يتولى ذلك، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتموا بهذا الأمر لمحبتهم للخير، وباتوا ليلتهم "يَدُوكُون"؛ يبحثون عنه، مثل ما مَرّ معنا في السبعين الألف الذين أخبر عنهم رسول الله: "ثم نهض ودخل منزله، فخاض الناس في أولئك"، وهذا دليل على أن

ج / 1 ص -114- فلما أصبحوا غدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعْطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟".


فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه، ودعا له؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع.


الصحابة يهتمون بالفضائل، ويهتمون بأمور الآخرة، أكثر مما يهتم أهل الدنيا بدنياهم، وأنهم يتنافسون في الخيرات.
حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ما تمنيت الإمارة إلاَّ هذه الليلة"،"تمنى أن يكون هو ذلك الأمير الذي يقود الجيش، ويفتح هذا البلد، حتى ينال هذه الميزة: "يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".


وقوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله" يعني: ذهبوا إليه مبكِّرين، من الغَدْوة، يقال: غدا إذا ذهب في الغُدُو وهو الصباح، ويقال راح إذا ذهب في المساء، وقت الرّواح، فالغُدُوُّ: الذهاب في أول النهار، والرواح: الذهاب في آخر النهار.


"كلهم يرجو أن يُعطاها" أي: كلٌ يرجو أن يكون هو ذلك الرجل، لرغبتهم في الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، والحصول على هذه البَشارة العظيمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب؟" قال الشيخ رحمه الله: في هذا دليل على: "الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى"، وأن الإنسان وإن فعل السبب فإنه قد لا يحصل على المطلوب، لكنا مأمورون بفعل الأسباب، أما النتائج فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن يُؤجرون على مسعاهم، وعلى نيتهم الطيّبة، وعلى رغبتهم في الخير، وعلى خطواتهم ومشيهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ- أيضاً-: "فيه تَفَقُّد الإمام أو القائد لجنده" يعني: من حضر ومن تخلف.


"قال: أين علي؟" هذا تَفَقُّد للجند، ما سكت وترك الذي لم يحضر، بل تَفَقُّده، فالإمام والقائد يَتَفَقَّد جنوده، يَتَفَقَّد رعيّته، ولا يسمح لأحد أن يتخلف من غير عذر.
"قيل: هو يشتكي عينيه" أي أصابه رمد، وهو مرض من أمراض العيون

ج / 1 ص -115- فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم".


المعروفة عند الأطباء. ويُروى أنه أصابه في المدينة، وأنه لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المرض، ولكن بعدما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من المدينة، ضاقت عليه نفسه، وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فخرج وهو مريض، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما طابت نفسه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}.
"فأرسلوا إليه" أرسل إليه من يأتي به.


"فأتي به، فبصق في عينيه" يعني: تفل من ريقه الطيب الطاهر في عيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
"ودعا له" بالشفاء.


"فبرأ كأن لم يكن به وجع" وهذا- أيضاً- كن معجزاته صلى الله عليه وسلم، حتى قال علي "لم يصبني رمد بعد ذلك" يعني: استمر هذا الشفاء طول حياته رضي الله عنه؛ ببركة ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم وبعَرَقِه وبوضوئه أمر مشروع، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره فلا يُتبرك بشيء منه، لا يتبرك بشيء من الصالحين والأولياء، لأن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمة بعد نبيِّها هو أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يُتبرك بريقه ولا بعرقه رضي الله عنه، ما فعله الصحابة معه لعلمهم أن هذا لا يجوز إلاَّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم، أما أن يُتبرّك بحجرته أو بقبره، فهذا لا يجوز، لأن هذا ليس منفصلاً عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتينا باب خاص بمن تبرّك بشجرة أو حجر أو نحوها.


وقوله: "فأعطاه الراية" دفعها إليه.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أرشده وأوصاه على عادته صلى الله عليه وسلم مع قُوّاده وأمرائه إنه كان يوصي القُوّاد والأمراء حينما يبعثهم.

ج / 1 ص -116- ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه،


فهذا فيه دليل على أن وليّ الأمر يوصي قُوَّاده ويخط لهم الخِطط النافعة التي يسيرون عليها في مهمّتهم، ولا يتركهم لأنفسهم يذهبون بدون وصية، وبدون إرشاد، وبدون وضع خطة يسيرون عليها.
وقال: "انفذ على رِسْلِك" "انفذ" يعني: أمض "على رِسْلِك" يعني: على هيّنتك، لا تُسرع في المشي، ولا يكون هناك أصوات أو صخب، بل يكون هناك هدوء تام، وسير بالرفق.


فهذا فيه دليل على مشروعية الهدوء في الجهاد، وترك العجلة ورفع الأصوات، لأن ذلك يدل على الثبات والشجاعة، ويدل على التدبر في الأمر، وعدم العجلة والتسرع، بخلاف الطيش والركض ورفع الأصوات، فإن هذا يدل على الجبن، ويدل على عدم الثبات.
"حتى تنزل بساحتهم" الساحة يُراد بها: ما قَرُب من المكان، أي: حتى تنزل قريباً من الحصن، وهذا فيه أن المجاهدين ينزلون قريباً من البلاد المحاصرة، ويقربون منها.


وقوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله". حيث قال: "ادعهم إلى الإسلام" فهذا فيه دليل على وجوب الدعوة إلى الإسلام، وأن العدو يُدعى قبل أن يُقاتل، ولا يُبدأ بالقتال قبل الدعوة.


والإسلام هو: الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، انقياد مع خضوع وتعبد لله تعالى، من لم يستسلم لله كان مستكبراً، ومن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، ومن استسلم لله وحده كان موحّداً مسلماً.


"وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه " يعني. اشرح لهم معنى الإسلام، وبينّه لهم، وما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من أركان الإسلام، فلا يكفي الدعاء إلى الإسلام
ج / 1 ص -117- مجملاً، كما يُثَرْثِرُ به بعض الدعاة اليوم ممن يقومون بالدعوة المجملة إلى الإسلام. ولو تسألهم ما هو الإسلام؟، ما استطاعوا أن يُعرِّفوه، فكيف يدعون إلى شيء وهم لا يعرفونه؟، الذي يدعو إلى الإسلام لابد أن يعرف الإسلام ما هو، ويبينه للمدعوِّين، ويشرحه لهم، وإلاَّ ما معنى "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".
أما الإسلام المجمل، فكل يقول: إنما هو عليه هو الإسلام؛ من الطوائف الضالة والمنحرفة والكافرة، كل يفسر الإسلام بمذهبه، وكلمة الإسلام غطاء كل يدّعيها الآن من الطوائف المنحرفة والضالة والكافرة: القاديانية، والباطنية، والقبورية، وغيرهم من الطوائف المنحرفة، كلهم يدّعون أن الإسلام هو ما هم عليه، لكن لو شُرح الإسلام بأنه التّوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من المشركين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات من الذبح والنذر والاستغاثة والاستعاذة، حينئذٍ يتبيّن الإسلام الصحيح من الإسلام المزيّف، وهذا لا يريدونه، لا يريدون أن يبين الإسلام على حقيقته لأنه يتبين بطلان ما هم عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ادعوا إلى الإسلام وبيّنوا ما هو الإسلام، كما أوصى علي بن أبي طالب بقوله: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه"، ولهذا لما ارتد من ارتد عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزمَ أبو بكر على قتالهم، قال له الصحابة -ومنهم عمر-: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله؟، قال؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("إلاَّ بحقها"، وإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).


فالإسلام ليس مجرّد انتساب ودعوى فقط، أو قول: لا إله إلاَّ الله بدون التزام بمعناها ومدلولها، حتى لو كان عِقالاً يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر من حق لا إله إلاَّ الله، فكيف بالذي لا يصلي وهو يقول: أنه مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الزكاة ويقول: أنا مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الصوم ويقول: أنا مسلم؟، بل أعظم من ذلك كيف بالذي يدعو غير الله وهو يقول أنا مسلم؟، يدعو القبور

ج / 1 ص -118- فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم".
يَدُوكُون أي: يخوضون".


والأضرحة ويذبح لها وينذر لها ويقول أنا مسلم؟. هل هذا هو الإسلام؟.
يجب أن نعرف هذا الأمر العظيم، وهذا الأصل العظيم، وهذه القاعدة العظيمة، وهذا الذي يجب أن يركِّز الدعاة عليه، إذا كانوا يريدون أن تكون دعوتهم إلى الله دعوة صحيحة، أما إذا كانت مجرد انتساب، كلٌ يدخل تحتها، ويجعل الإسلام مجرد غطاء، فهذا لا يُرضي الله عزّ وجلّ، وليس هو الإسلام، لأن كلاًّ يدعِّي أنه، على الإسلام ولو كان مشركاً.
الإسلام والإيمان ليس مجرد دعوى، أو انتساب، أو هويّة تُكتب في حفيظة النفوس، أو يُكتب أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ والعمل على خلافه، يأبى الله ذلك سبحانه وتعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
خذوا منهج الدعوة من هذا وأمثاله، لا تأخذوا، منهم الدعوة من نظام الجماعة الفلانية أو الجماعة العلاّنية، خذوا نظام الدعوة، ومنهج الدعوة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو منهج الدعوة.


ثم بيّن صلى الله عليه وسلم فضيلة الدعوة إلى الله، فقال: "فوالله" أقسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، والقَسَم أحياناً يُؤتى به من أجل الاهتمام بالشيء وتوكيده، ولهذا يقول الشيخ في مسائله فيه: "الحَلِف على الفتيا"، الإنسان إذا أفتى بفتوى وهو يتأكد أنها هي حكم الله عزّ وجلّ يقسم عليها، ويحلف عليها.
"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم" هذا ترغيب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ. و"حُمْر النعم" الإبل الحُمْر، جمع حمراء، وهتي الناقة النفيسة، لأن الإبل الحُمْر أنفس أموال العرب.
فكيف إذا اهتدى على يديك جماعة؟، أو اهتدى على يدك أمة، أو اهتدى على يدك أجيال تأتي من بعدك؟
هذا فيه: فضل الدعوة إلى الله.


انظروا ماذا حقق الله من الخير بسبب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومن اهتدى بسببه من الأجيال التي لا تزال إلى الآن والحمد لله، ومن بركات دعوة

ج / 1 ص -119- شيخ الإسلام ابن تيمية: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في أمور العقيدة، فقام بهذه الدعوة المباركة.
إذاً ماذا يحصل للداعية الأول من الأجر؟ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، فكيف بالأجر الذي يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم سيّد الدعاة، وإمام الدعاة؟، من يؤمن من الخلق إلى يوم القيامة يحصل للرسول مثل أجره، وكذلك الأئمة من بعده، الدعاة الذين جاءوا بعد الرسول، يحصل لهم من الأجور مثل أجور من تبعهم، نسأل الله الكريم من فضله.


فهذا فيه: فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، والدعوة إلى الله أن تدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإخلاص العبادة لله عزّ وجلّ، والحكم بما أنزل الله، هذه هي الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ليست مجرد انتساب، أو مجرّد شكليّات، أو مجرّد شعارات، ولهذا كل دعوة ترتكز على المنهج الصحيح تنجح بإذن الله ولو بعد حين.
هذا شيخ الإسلام عُذِّب ومات في السجن؛ لكن نجحت دعوته فيما بعد، لماذا؟، لأنها دعوة أصيلة، ترتكز على الكتاب و، لسنّة، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
أما دعاة الضلال- حتى ولو تَجَمْهَر حولهم مئات الألوف- فإن هذا غثاء كغثاء السيل.


فالدعوة الصحيحة يبقى خيرها وأثرها على مرِّ الأجيال، أما الدعوة غير الصحيحة، أو الدعوة المغرضة التي يُقصد منها أشياء أخرى؛ فهذه وإن تَجَمْهَر الناس حولها في وقت من الأوقات، إلاَّ أنها لا بركة فيها، ولا خير فيها، ولا تؤثر في الناس خيراً.
وهذا الحديث فيه من المسائل ما مررنا عليه، ويمكن أن نجمله فيما يلي:
أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علي بن أبي طالب داعياً إلى الله قبل الجهاد.

ج / 1 ص -120- ثانياً: -وهي مسألة مهمة-: أن الدعوة تكون قبل القتال، ولا يجوز أن يكون القتال قبل الدعوة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.


ثالثاً: فيه وصية الإمام لمن يبعثه للدعوة إلى الله، وأنه يخطط له المنهج السليم، ويُرشده إلى الطريق الصحيح الذي يسير عليه، وأن المُرسل يستمد الإرشادات من قائده ومن إمامه، ولا يستبد هو بشيء، لأن هذا أضبط للأمور.
رابعاً: في الحديث دليل على إثبات صفة من صفات الله عزّ وجلّ، وهي المحبة، ردًّا على نُفاة الصفات، الذين ينفون صفات الله عزّ وجلّ.
خامساً: في الحديث دليل على معجزات من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
أحدها: قوله: "لأعطيّن الراية غداً"، وقد وقع هذا.
ثانياً: إخباره عن وقوع الفتح، وقد وقع.


ثالثاً: بصقه صلى الله عليه وسلم في عيني المريض فيُشفى في الحال.
هذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم وعلامات نبوته- عليه الصلاة والسلام-.
سادساً: فيه فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-، ردّاً على أعدائه من الخوارج والنواصب وغيرهم ممَن يتنقّصون الصحابة، ويقلّلون من قدرهم وشأنهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولاسيّما الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم.
سابعاً: في الحديث دليل على حرص الصحابة على الخير، وأنهم يتنافسون في أمور الخير، لأنهم باتوا ليلتهم "يَدُوكون" يعني: يبحثون من سيحصل على هذه الميزة العظيمة، وأيضاً بادروا كلهم في الصباح، كلهم يرجوا أن يُعطاها.
ثامناً: فيه الإيمان بالقدر، وهو أن الأمر قد يحصل لمن لم يسع إليه، ولا يحصل لمن سعى إليه لكن السعي إلى الخير مأمور به وحصول النتائج من الله سبحانه.


تاسعاً:- وهي المسألة المهمة التي ساق الشيخ رحمه الله - هذا الحديث في الباب من أجلها-: وهي بيان منهج الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يدعو إلى الإسلام ويشرحه للناس.

ج / 1 ص -121- عاشراً: فيه بيان خطة الجهاد الشرع، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اذهب على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"، هذا فيه التدرّج في الدعوة، والتهيُّء لها شيئاً فشيئاً، بدون تسرّع، وبدون جَلَبَة، وفَخْفَخَة.


حادي عشر: فيه كما ذكر الشيخ رحمه الله: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، مع أنهم أهل كتاب، ويزعمون أنهم مؤمنون، وأنهم على الإسلام، وبيان أن ما هم عليه ليس هو الإسلام، وإن كان ينتسبون إلى الأنبياء، فهم ليسوا على الإسلام، لماذا؟، لأن الله أوجب إتباع هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على كل مخلوق على وجه الأرض، من اليهود والنصارى وغيرهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لأن الله نسخ الأديان السابقة بهذا الدين العظيم، وجعله هو الدين الباقي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} يعني: هذه الأمة، فتحول الكتاب والدين والدعوة إلى ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: كما أنه يملك السموات والأرض فهو الذي أرسلني، والأمر له سبحانه وتعالى.
ثاني عشر: فيه فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يحصل له من الأجر مثل أجر المدعويِّن، وأيضاً يحصل له من الأجر ما هو خير وأنفس مما في الدنيا من الأموال.




المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf




رد مع اقتباس