عرض مشاركة واحدة
  #41  
قديم 01-02-2015, 12:58PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}

ج / 2 ص -167- باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، الآيات، [النساء:60].


هذا الباب له صلة قوية بما قبله; لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله


وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات:
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى:
" ألم تر": الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي (.
قوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي ( هنا، ولم يقل الذين آمنوا; لأنهم لم يؤمنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون. والذي أنزل إلى النبي ( الكتاب والحكمة، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، [النساء: من الآية113]، قال المفسرون: الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم؛

ج / 2 ص -168-


حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله.
قوله: "إلى الطاغوت": صيغة مبالغة من الطغيان; ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعنى الأعم; فقد حده ابن القيم بأنه: "كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع"، وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد1.


قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، أي: أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه; فهذه الإرادة على بصيرة; إذ الأمر قد بين لهم.
قوله: "ويريد الشيطان": جنس يشمل شياطين الإنس والجن.
قوله: {أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، أي: يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج.
فقوله: "بعيدا" أي: ليس قريبا، لكن بالتدريج شيئا فشيئا؛ حتى يوقعهم في الضلال البعيد.


قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، أي: قال لهم الناس: أقبلوا " إلى ما أنزل الله" من القرآن "وإلى الرسول" نفسه في حياته، وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته.
قوله: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}، الرؤية هنا رؤية



1سبق في المجلد الأول. ص

ج / 2 ص -169-


حال، لا رؤية بصر، بدليل قوله: " تعالوا"; فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده. والمعنى: كأنما تشاهدهم.
وقوله: "يصدون عنك صدودا": يعرضون عنك إعراضا.
وقوله: "رأيت المنافقين":

إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد:
الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين.
الثانية: أن هذا لا يصدر إلا من منافق; لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود.
الثالثة: التنبيه; لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه.
وقوله: "رأيت المنافقين" جواب "إذا"، وكلمة "صد" تستعمل لازمة; أي: يوصف بها الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود; كما في هذه الآية، ومتعدية; أي: صد غيره، ومصدرها صد; كما في قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، [الفتح: من الآية25].


وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، [النساء:62]، الاستفهام هنا يراد به التعجب; أي: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين.
فالدنيوية مثل: الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.

ج / 2 ص -170- ....


والشرعية: إذا أظهر الله رسوله على أمرهم; خافوا وقالوا: يا رسول الله! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، الباء: هنا للسببية، و "ما" اسم موصول، و "قدمت" صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل; أي: بما قدموه من الأعمال السيئة.


وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، "إن" بمعنى: "ما"; أي: ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان; أي: نمشي معكم ونمشي مع الكفار، وهذه حال المنافقين; فهم قالوا: أردنا أن نحسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين.


قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، [النساء: من الآية63]، توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع; فالله علام الغيوب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الِْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، [قّ: من الآية16]، بل إن الله أعلم منك بما فيك، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، [الأنفال: من الآية24]، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة، أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي: "بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم".
فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة، بدون سبب ظاهر.
قوله: "فأعرض عنهم": وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار.

ج / 2 ص -171-


قوله: "وعظهم": أي: ذكرهم وخوفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك; فلا تخفهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة.
قوله: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}، اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ; أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم; أي: يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا.
الثاني: أن المعنى: انصحهم سرا في أنفسهم.


الثالث: أن المعنى: قل لهم في أنفسهم (أي: في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة; لأن اللفظ صالح لها جميعا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم، إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض: فإنه يؤخذ بجميع المعاني.


وبلاغة القول تكون في أمور:
الأول: هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب; احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيشا، يقول: صبحكم ومساكم1.
الثاني: أن تكون ألفاظه جزلة، مترابطة، محددة الموضوع.


1أخرجه مسلم في (الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة/2/592) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

ج / 2 ص -172- قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة:11].


الثالث: أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه: سليم التركيب، موافقا للغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله; لأن هؤلاء يقولون: إنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول; يعرضون، ويصدون، ويقولون: نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم; قالوا: نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع". ذكره رحمه الله في "الفتوى الحموية".
الآية الثانية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}:


الإفساد في الأرض نوعان:
الأول: إفساد حسي مادي، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك.
الثاني: إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي; فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، [الروم:41]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ

ج / 2 ص -173- وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56].


وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، الأعراف: من الآية96].وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، [المائدة: الآية65-66].
قوله: "إنما نحن مصلحون": وهذه دعوى من أبطل الدعاوى، حيث قالوا: ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح. ولهذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، [البقرة: من الآية12]، "ألا": أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات، وهي: "ألا"، و"إن"، وضمير الفصل "هم"، والجملة الاسمية; فالله قابل حصرهم بأعظم منه; فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح؛ هم المفسدون حقيقة لا غيرهم.
ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض.


الآية الثالثة قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق.
قوله: "بعد إصلاحها": من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم، والوقوف ضد دعوة السلف، وضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "بعد إصلاحها": من باب تأكيد اللوم والتوبيخ; إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة، والخبث، والشر! فالإفساد

ج / 2 ص -174- وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الآية، [المائدة: من الآية50].


بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد.
ومناسبة الآية للباب: أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح، وأن التحاكم إلى غيره هو الإفساد.
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الاستفهام للتوبيخ، و"حكم": مفعول مقدم ل "يبغون"، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى: أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية.
و"يبغون": يطلبون، والإضافة في قوله: "أفحكم الجاهلية" تحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى: أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة، ومنها: البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد.


ثانيها: أن يكون المعنى: أفحكم الجهل الذي لا يبنى على العلم يبغون، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن، وهذا أعم.
والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير، وكل حكم يخالف حكم الله; فهو جهل وجهالة.
فإن كان مع العلم بالشرع; فهو جهالة، وإن كان مع خفاء الشرع; فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ

ج / 2 ص -175-


عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، [النساء: من الآية17]، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه، لكن عليه أن يتعلم. قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً}، "من": اسم استفهام بمعنى النفي; أي: لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي; فهو أبلغ من قول: لا أحسن من الله حكما; لأنه متضمن للنفي وزيادة.
وقوله: "حكما": تمييز; لأنه بعد اسم التفضيل، وهو مبهم; فبين هذا التمييز المبهم وميزه. والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي.
فإن قيل: يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها; فأين الحسن في ذلك؟


أجيب: أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعلها حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا; فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، [البقرة:66]، وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد، كما قال تعالى: "لقوم يوقنون"، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا، وعلى هذا; فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية.



ج / 2 ص -176- وعن عبد الله بن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"1........


وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص، وقالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، [آل عمران: من الآية7]، وعرفوا حسن أحكام الله تعالى، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد; فلم يرضوا عنها بديلا.


قوله في حديث عبد الله بن عمر: "لا يؤمن أحدكم": أي: إيمانا كاملا، إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية; فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية، لأنه إذا كره ما أنزل الله فقد حبط عمله لكفره، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، [محمد:9].
قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به": الهوى بالقصر هو: الميل، وبالمد هو: الريح، والمراد الأول.


و "حتى": للغاية، والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة.
وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار، وامتثالا للأوامر، واجتنابا للنواهي.
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى

ـ

1أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15), والخطيب في "التاريخ" (4/369), والبغوي في "شرح السنة" (1/212), وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 18). وانظر: كلام ابن رجب على سند الحديث في "جامع العلوم والحكم" حديث رقم (41).

ج / 2 ص -177- قال النووي: " حديث صحيح، رويناه في كتاب " الحجة"، بإسناد صحيح"1.
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود


الإيمان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، [الجاثية: من الآية23]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، [محمد: من الآية14]، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان محمودا، وهو من كمال الإيمان.


وقد سبق بيان أن من اعتقد أن حكم غير الله مساو لحكم الله، أو أحسن، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله; فهو كافر. وأما من لم يكن هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان كارها له; فهو كافر، وإن لم يكن كارها ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك; فليس بكافر، لكن يكون ناقص الإيمان.


قوله: "قال النووي: حديث صحيح": صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم"، ولكن معناه صحيح.
قوله في أثر الشعبي: "وقال الشعبي": أي: في تفسير الآية.
قوله: "رجل من المنافقين": هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقا من النافقاء، وهي جحر اليربوع، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء - أي يحفر في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقي شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف -، فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء.
قوله: "ورجل من اليهود": اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى



1"الأربعون النووية" (حديث رقم 41).

ج / 2 ص -178- خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد; عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية، [النساء: من الآية60]"1.


عليه السلام، وسموا بذلك إما من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، أي: رجعنا، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكن بعد التعريب صار بالدال.
قوله: "إلى محمد": أي: النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره بوصف الرسالة; لأنهم لا يؤمنون برسالته، ويزعمون أن النبي الموعود به سيأتي.
قوله: "عرف أنه لا يأخذ الرشوة": تعليل لطلب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والرشوة: مثلثة الراء; فيجوز الرِّشوة، والرَّشوة، والرُّشوة.
والرشوة هي: المال المدفوع للتوصل إلى شيء.


قال أهل العلم: "لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه; فليست حراما على الباذل، أما على آخذها; فحرام".
قوله: "فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة": كأنه صار بينهما خلاف، وأبى المنافق أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


والكاهن: من يدعي علم الغيب في المستقبل، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء، فيقولون: سيحدث كذا وكذا، فربما أصابوا مرة من المرات، وربما أخطئوا، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب،



1أخرجه ابن جرير (5/97) عن الشعبي مرسلا.

ج / 2 ص -179- وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله"1.


فكان العرب يتحاكمون إليهم; فنزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية.
قوله: "وقيل": ذكر هذه القصة بصيغة التمريض، لكن ذكر في "تيسير العزيز الحميد" أنها رويت من طرق متعددة، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها. اه.


قوله: "رجلين": هما مبهمان; فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين، ويحتمل أن يكونا من المنافقين، ويحتمل غير ذلك.
قوله: "إلى كعب بن الأشرف": وهو رجل من زعماء بني النضير.
قوله: "أكذلك": خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: أكذلك الأمر.
قوله: "فضربه بالسيف": الضارب عمر.
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر يجب قتله، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه.



1علقه الواحدي في "أسباب النزول" (ص107, 108), والبغوي في "تفسيره" (1/552), وقد أشار الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى ضعفه بقوله: "وقيل...". وانظر: "تيسير العزيز" (ص573).



ج / 2 ص -180- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، [البقرة: من الآية11]، الآية.


فإن قيل: كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم؟
أجيب: أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله; لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه"1.


فيه مسائل:

الأولى: "تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، [النساء: من الآية60].
وقوله: "وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": أي: أن الطاغوت مشتق من الطغيان، وإذا كان كذلك; فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع; فالأصنام والأمراء والحكام الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا



1أخرجه البخاري في (الجهاد, باب لا يعذب بعذاب الله/4/363) من حديث ابن عباس.

ج / 2 ص -181- الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56].
الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، [المائدة: من الآية50].
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.


إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة: من الآية11]: ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض; لأنها في سياق المنافقين، والفساد يشمل جميع المعاصي.
الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقد سبق.
الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، وقد سبق ذلك، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع، وأضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه، وأنه مبني على الجهل والضلال.
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى: وقد سبق.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب: فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك.
السابعة: قصة عمر مع المنافق: حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبيحا لقتله لردته، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه.

ج / 2 ص -182- الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.



الثامنة: كون الأيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا واضح من الحديث.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





رد مع اقتباس