عرض مشاركة واحدة
  #37  
قديم 31-01-2015, 09:07PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله:

ج / 2 ص -109-
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله:



"الصبر": في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: " قتل صبرا"; أي: محبوسا مأسورا.
وفي الاصطلاح: حبس النفس على أشياء وعن أشياء.


وهو ثلاثة أقسام:
الأول: الصبر على طاعة الله; كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، [طـه: من الآية132]، وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، وهذا من الصبر على الأوامر; لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه; فيكون مأمورا بالصبر على الطاعة، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، [الكهف: من الآية28]، وهذا صبر على طاعة الله.
الثاني: الصبر عن معصية الله; كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه، ومع ذلك صبر وقال: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}، [يوسف:33]، فهذا صبر عن معصية الله.
الثالث: الصبر على أقدار الله، قال تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [القلم: من الآية48]، فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري، ومنه قوله تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُم}،

ج / 2 ص -110-


[الأحقاف: من الآية35].لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله ( لرسول إحدى بناته: ( مرها فلتصبر ولتحتسب((1).
إذن الصبر ثلاثة أنواع، أعلاها الصبر على طاعة الله، ثم الصبر عن معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله.
وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به، وإلا; فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلا بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة; فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس، قد يصلي الإنسان مئة ركعة وتكون أهون عليه من هذا.


وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة; فقد يموت له مثلا قريب أو صديق أو عزيز عليه جدا، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة.
وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول: إن هذا الترتيب فيه نظر; إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطاعات، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق; فنقول: نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر.
وكان الصبر على الطاعة أعلى; لأنه يتضمن إلزاما وفعلا، فتلزم نفسك الصلاة فتصلي، والصوم فتصوم، والحج فتحج... ففيه إلزام وفعل وحركة فيـها نوع من المشقة والتعب، ثم الصبر عن المعصية لأن فيه



(1) أخرجه البخــــاري في (الجنائز, باب قول النبي (: "يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه"/1/395), ومسلم في (الجنائز, باب البكاء على الميت/2/635).

ج / 2 ص -111-


كفا فقط; أي: إلزاما للنفس بالترك، أما الصبر على الأقدار; فلأن سببه ليس باختيار العبد، فليس فعلا ولا تركا، وإنما هو من قدر الله المحض.
وخَصَّ المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله; لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية; لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى.
قوله: "على أقدار الله": جمع قَدَر، وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر وهو الله تعالى، أما بالنسبة لفعل المقدر; فيجب على الإنسان الرضا به والصبر، وبالنسبة للمقدور; فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا. مثال ذلك: قدر الله على سيارة شخص أن تحترق، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضى به; لأنه من تمام الرضا بالله ربا.
وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة; فالصبر عليه واجب، والرضا به مستحب وليس بواجب على القول الراجح.


والمقدور قد يكون طاعات، وقد يكون معاصي، وقد يكون من أفعال الله المحضة; فالطاعات يجب الرضا بها، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور، أما من حيث كونها قدر الله; فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال، ولهذا قال ابن القيم:

فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط ااـ مقضي حين يكون بالعصيان
فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل معصية; فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا، وله الحكمة في تقديره، وإذا نظر إلى فعله; فلا يجوز له أن يرضى به لأنه معصية، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور.
ج / 2 ص -112- وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11].


قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله; فيرضى ويسلم".
وفي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة; أن رسول الله ( قال: ( اثنتان.........

قوله: تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ}، "من": اسم شرط جازم، وفعل الشرط "يؤمن"، وجوابه "يهد"، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره.
قوله: (يَهْدِ قَلْبَهُ يرزقه الطمأنينة، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح; لقوله (: ( إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب((1).
قوله: "قال علقمة": هو من أكابر التابعين.


قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة..." إلخ: وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان; لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله، فيرضى ويسلم، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر.
قوله: في حديث أبي هريرة: "اثنتان": مبتدأ، وسوغ الابتداء به التقسيم، أو أنه مفيد للخصوص.



(1) أخرجه البخاري (452) ومسلم (1599).

ج / 2 ص -113- في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت((1).


قوله: "بهم كفر": الباء يحتمل أن تكون بمعنى "من"; أي: هما منهم كفر، ويحتمل أن تكون بمعنى "في"; أي: هما فيهم كفر.
قوله: "كفر": أي: هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان; كالحياء، والشجاعة، والكرم; أن يكون مؤمنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "بخلاف قول رســول الله (: ( بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة((2) فإنه هنا أتى بأل الدالة على الحقيقة; فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة، بخلاف مجيء "كفر" نكرة; فلا يدل على الخروج عن الإسلام(3).
قوله: "الطعن في النسب": أي: العيب فيه أو نفيه; فهذا عمل من أعمال الكفر.


قوله: "النياحة على الميت": أي: أن يبكي الإنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام; لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر، فهو مناف للصبر الواجب، وهذه الجملة هي الشاهد للباب.


والناس حال المصيبة على مراتب أربع:
الأولى: التسخط: وهو إمــا أن يكون بالقلب، كأن يسخط على ربه،


(1) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة/1/82).
(2) أخرجه مسلم في (الإيمان, باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة/1/88) عن جابر رضي الله عنه.
(3) انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم" (1/208, 209).

ج / 2 ص -114-


ويغضب على قدر الله عليه، وقد يؤدي إلى الكفر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ}، [الحج: من الآية11]، وقد يكون باللسان; كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح; كلطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك.
الثانية: الصبر،

وهو كما قال الشاعر:

الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه، لكنه يتحمله ويتصبر، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط.
الثالثة: الرضا، وهو أعلى من ذلك، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة; لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، إن أصيب بنعمة أو أصيب بضدها; فالكل عنده سواء، لا لأن قلبه ميت; بل لتمام رضاه بربه - سبحانه وتعالى - يتقلب في تصرفات الرب ( ولكنها عنده سواء; إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه، وهذا الفرق بين الرضا والصبر.


الرابعة: الشكر، وهو أعلى المراتب، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير

ج / 2 ص -115- ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: ( ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية((1).


سيئاته، وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك، قال النبي ( ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها، حتى الشوكة يشاكها((2). كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك.
قوله في حديث ابن مسعود: "مرفوعا": أي: إلى النبي (.
قوله: "من ضرب الخدود": العموم يراد به الخصوص; أي: من أجل المصيبة.
قوله: "من شق الجيوب": هو طوق القميص الذي يدخل منه الرأس، وذلك عند المصيبة تسخطا وعدم تحمل لما وقع عليه.


قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية": دعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه، وتنازع هنا أمران:
الأول: صيغة العموم (دعوى الجاهلية); لأنه مفرد مضاف فيعم.
الثاني: القرينة; لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة، مثل قولهم: واويلاه!



(1) أخرجه: البخاري (1226), ومسلم (1/ 99).
(2) أخرجه: البخاري في (المرضى, باب كفارة المرض, 4/ 23), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن, 4/ 1992).

ج / 2 ص -116- وعن أنس; أن رسول الله ( قال: ( إذا أراد الله بعبده الخير، عجل له بالعقوبة في الدنيا، ..........


وانقطاع ظهراه!
والأولى أن ترجح صيغة العموم، والقرينة لا تخصصه; فيكون المقصود بالدعوى كل دعوى منشؤها الجهل.
وذكر هذه الأصناف الثلاثة; لأنها غالبا ما تكون عند المصائب، وإلا; فمثله هدم البيوت، وكسر الأواني، وتخريب الطعام، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة. وهذه الثلاثة من الكبائر; لأن النبي ( تبرأ من فاعلها.
ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية; مثل: ضرب الأب لابنه، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة.


قوله في حديث أنس: " إذا أراد الله بعبده الخير": الله يريد بعبده الخير والشر، ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مرادا لذاته بدليل قول النبي ( : ( والشر ليس إليك((1)، ومن أراد الشر لذاته كان إليه، ولكن الله يريد الشر لحكمة وحينئذ يكون خيرا باعتبار ما يتضمنه من الحكمة.
قوله: " عجل له بالعقوبة في الدنيا": العقوبة: مؤاخذة المجرم بذنبه، وسميت بذلك; لأنها تعقب الذنب، ولكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على


ـ
(1) أخرجه مسلم في (صلاة المسافرين, باب الدعاء في صلاة الليل/1/534).

ج / 2 ص -117- وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه،

الشر.
وقوله: "عجل له بالعقوبة في الدنيا": كان ذلك خيرا من تأخيرها للآخرة; لأنه يزول وينتهي، ولهذا قال النبي ( للمتلاعنين: ( إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة((1).
وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب، وهذا أعلى; لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة; فهذا هو الخير كله، ولكن الرسول ( جعل تعجيل العقوبة خيرا باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد; كما قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}، [طـه: من الآية127].


والعقوبة أنواع كثيرة:
منها: ما يتعلق بالدين، وهي أشدها; لأن العقوبات الحسية قد يتنبه لها الإنسان، أما هذه; فلا يتنبه لها إلا من وفقه الله، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي; فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها، وكذلك التهاون بترك الواجب، وعدم الغيرة على حرمات الله، وعدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من المصائب، ودليله قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}، [المائدة: من الآية49].
ومنها: العقوبة بالنفس، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية.
ومنها: العقوبة بالأهل; كفقدانهم، أو أمراض تصيبهم.
ومنها: العقوبة بالمال; كنقصه أو تلفه وغير ذلك.


قوله: ( وإذا أراد بعبده الشر; أمسك عنه بذنبه((2):
" أمسك عنه"; أي:



(1) أخرجه مسلم (1493).
(2) الترمذي: الزهد (2396).

ج / 2 ص -118- حتى يوافي به يوم القيامة "((1).


ترك عقوبته.
والإمساك فعل من أفعال الله، وليس معناه تعطيل الله عن الفعل، بل هو لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد، لكنه يمسك عن الفعل في شيء ما لحكمة بالغة; ففعله حكمة، وإمساكه حكمة.
قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة": أي: يوافيه الله به: أي: يجازيه به يوم القيامة، وهو الذي يقوم فيه الناس من قبورهم لله رب العالمين. وسمي بيوم

القيامة لثلاثة أسباب:
1- قيام الناس من قبورهم; لقوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، [المطففين:6].
2- قيام الأشهاد; لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}، [غافر:51].
3- قيام العدل; لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، [الأنبياء: من الآية47].
والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث: تسلية الإنسان إذا أصيب بالمصائب لئلا يجزع، فإن ذلك قد يكون خيرا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فيحمد الله على أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة.
وعلى فرض أن أحدا لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة; فنقول له: إن



(1) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)، وقال: "حسن غريب", والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 154), والبغوي في "شرح السنة" (5/ 245). والحديث له شاهد من حديث عبد الله بن مغفل وابن عباس وعمار بن ياسر رضي الله عنهم; فهو صحيح بمجموع طرقه. وانظر: "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1220).

ج / 2 ص -119-


هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر، ورفع درجاته باحتساب الأجر، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يري أنه لم يخطئ أن يقول: أنا لم أخطئ; فهذه تزكية، فلو فرضنا أن أحدا لم يصب ذنبا وأصيب بمصيبة; فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا تكفره لكنها تلاقي قلبا تمحصه; فيبتلي الله الإنسان بالمصائب لينظر هل يصبر أو لا؟ ولهذا كان أخشى الناس لله ( وأتقاهم محمد ( يوعك كما يوعك رجلان منا(1) وذلك لينال أعلى درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلى وجوهها، ولذلك شدد عليه ( عند النزع، ومع هذه الشدة كان ثابت القلب، ودخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وهو يستاك، فأمده بصره (يعني: ينظر إليه)، فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك، فقالت: آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم. فأخذت السواك وقضمته وألانته للرسول ( فأعطته إياه، فاستن به، قالت عائشة: ما رأيته استن استنانا أحسن منه، ثم رفع يده وقال: ( في الرفيق الأعلى((2).
فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة، كل هذا لأجل أن يصل الرسول ( أعلى درجات الصابرين، صبر لله، وصبر بالله، وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات.


فمن أصيب بمصيبة، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من معائبه; فإنه يدل على ربه بعمله ويمن عليه به; فليحذر هذا.
ومن ذلك يتضح لنا أمران: 1- أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيرا لسيئاته وتعجيلا



(1) أخرجه البخاري في (المرضى, باب شدة المرض/4/54), ومسلم في (البر والصلة, باب ثواب المؤمن/4/1991); من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في (المغازي, باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم/3/82).

ج / 2 ص -120- وقال النبي ( ( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما; ابتلاهم، ...

ـ
للعقوبة في الدنيا، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة.
2- قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
قوله: وقال النبي ( "إن عظم الجزاء" إلى آخره: هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك ( عن النبي (- فصحابيه صحابي الحديث الذي قبله-: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء". أي: يتقابل عظم الجزاء مع البلاء، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم; لأن الله عدل لا يجزي المحسن بأقل من إحسانه، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر، وهذا دليل على كمال عدل الله، وأنه لا يظلم أحدا، وفيه تسلية المصاب.


قوله: ( وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم(، أي: اختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية; كالأمراض، وفقدان الأهل، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}، [الإنسان:23-24]، فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر; لأن هذا الذي نزل عليه تكليف يكلف به.
كذلك من الابتلاء الصبر عن محارم الله: كما في الحديث: ( ورجل

ج / 2 ص -121- فمن رضي، فله الرضا، ومن سخط; فله السخط((2)، حَسَّنَهُ الترمذي(3).


دعته امرأة ذات منصب وجمال; فقال: إني أخاف الله((1)، فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. "من": شرطية، والجواب: "فله الرضا"; أي: فله الرضا من الله، وإذا رضي الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعا، والمراد بالرضا: الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله: "ومن سخط"؛ فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية.


ولم يقل هنا "فعليه السخط" مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه; كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}، [فصلت: من الآية46].
فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على; كقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}، [الرعد: من الآية25]، أي: عليهم اللعنة.
وقال آخرون: إن اللام على ما هي عليه، فتكون للاستحقاق; أي: صار عليه السخط باستحقاقه له، فتكون أبلغ من "على"; كقوله تعالى: ، أي: حقت عليهم باستحقاقهم لها، وهذا أصح.


ويستفاد من الحديث:

إثبات المحبة والسخط والرضا لله ( وهي من الصفات



(1) رواه البخاري (660), ومسلم (1031).
(2) الترمذي: الزهد (2396).
(3) أخرجه الترمذي في (الزهد, باب ما جاء في الصبر على البلاء/7/123)- وقال: "حسن غريب"-, وابن ماجه في (الفتن, باب الصبر على البلاء, 2/1338), والبغوي في "شرح السنة" (5/245). وإسناده حسن. انظر: "المشكاة" (1/493), و"سلسلة الأحاديث الصحيحة" (146).
(4) الترمذي : الزهد (2396).



ج / 2 ص -122- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.

ــ
الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى; لأن ( إذا) في قوله: "إذا أحب قوما" للمستقبل، فالحب يحدث; فهو من الصفات الفعلية.والله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة، ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا; فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبا إلى الله وفي آخر مبغضا إلى الله; لأن الحكم يدور مع علته.


وأما الأعمال; فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات، فيئولون المحبة والرضا بالثواب أو إرادته، والسخط بالعقوبة أو إرادتها، قالوا: لأن إثبات هذه الصفات يقتضي النقص ومشابهة المخلوقين، والصواب ثبوتها لله ( على الوجه اللائق به، كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل.


ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران:
1- إثباتها على حقيقتها وظاهرها.
2- الحذر من التمثيل أو التكييف.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية التغابن: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، [التغابن: من الآية11]، وقد فسرها علقمة كما سبق تفسيرا مناسبا للباب.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله: المشار إليه بقوله: (هذا) هو الصبر على أقدار الله.

ج / 2 ص -123- الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.


الثالثة: الطعن في النسب: وهي عيبه أو نفيه، وهو من الكفر، لكنه لا يخرج من الملة.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية: لأن النبي ( تبرأ منه.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير: وهو أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا.
السادسة: إرادة الله به الشر: أي: علامة إرادة الله به الشر، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة.
السابعة: علامة حب الله للعبد: وهي الابتلاء.
الثامنة: تحريم السخط: يعني: مما يبتلى به العبد; لقوله ( "من سخط; فله السخط"، وهذا وعيد.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء: وهو رضا الله عن العبد; لقوله ( "من رضي; فله الرضا".




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس