عرض مشاركة واحدة
  #35  
قديم 31-01-2015, 08:41PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}،

ج / 2 ص -87- باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، [المائدة: من الآية23]:


مناسبة هذا الباب لما قبله:
هي أن الإنسان إذا أفرد الله - سبحانه - بالتوكل; فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه، ولا يعتمد على غيره.
والتوكل: هو الاعتماد على الله- سبحانه وتعالى- في حصول المطلوب، ودفع المكروه، مع الثقة به، وفعل الأسباب المأذون فيها، وهذا أقرب تعريف له.


ولا بد من أمرين:
الأول: أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا.
الثاني: فعل الأسباب المأذون فيها.
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب; نقص توكله على الله، ويكون قادحا في كفاية الله; فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه.


ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب، فقد طعن في حكمة الله; لأن الله جعل لكل شيء سببا، فمن اعتمد على الله، اعتمادا

ج / 2 ص -88-


مجردا، كان قادحا في حكمة الله; لأن الله حكيم، يربط الأسباب بمسبباتها، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج.
والنبي ( أعظم المتوكلين، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب; فكان يأخذ الزاد في السفر، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين; أي: لبس درعين اثنين(1) ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق(2) ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق، وكان ( يتقي الحر والبرد، ولم ينقص ذلك من توكله.
ويذكر عن عمر ( أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد، فجيء بهم إلى عمر، فسألهم، فقالوا: نحن المتوكلون على الله. فقال: لستم المتوكلين، بل أنتم المتواكلون.


والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فنطلب من الله العون؛ اعتمادا عليه سبحانه، بأنه سيعيننا على عبادته.
وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْه}، [هود: من الآية123]، وقال تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}، [هود: من الآية88]، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل; لأن الإنسان لو وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز، ولم يتمكن من القيام بالعبادة; فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل، ولكن الغـالب عندنا ضعف التوكل،



(1) أخرجه الإمام أحمد (3/ 449), وأبو داود في (الجهاد, باب في لبس الأدرع/3/ 71), ولم يجزم سفيان بسماعه هذا الحديث.
(2) أخرجه البخاري في (الإجارة, باب استئجار المشركين/2/130) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ج / 2 ص -89-


وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك; فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها.


والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: توكل عبادة وخضوع، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر; فيعتمد عليه اعتمادا كاملا، مع شعوره بافتقاره إليه; فهذا يجب إخلاصه لله تعالى، ومن صرفه لغير الله; فهو مشرك شركا أكبر; كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار.


الثاني: الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك، وهذا من الشرك الأصغر، وقال بعضهم: من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار; فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر; فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب، بل جعله فوق السبب.


الثالث: أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه، كما لو وكلت شخصا في بيع شيء أو شرائه، وهذا لا شيء فيه; لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه; لأنه جعله نائبا عنه وقد وكل

ج / 2 ص -90-


النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب؛ أن يذبح ما بقي من هديه(1)، ووكل أبا هريرة على الصدقة(2)، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية(3)، وهذا بخلاف القسم الثاني؛ لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتمادَ افتقارٍ.


ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شئونه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية"; لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه.


وكذلك القدرية; لأنهم يقولون: إن العبد مستقل بعمله، والله ليس له تصرف في أعمال العباد.
ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات، أو لها ما جعله ترجمة للباب، وهي:
قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}، [المائدة: من الآية23]، "على الله" متعلقة بقوله: "فتوكلوا"، وتقديم المعمول يدل على الحصر; أي: على الله لا على غيره، "فتوكلوا"; أي: اعتمدوا.



(1) أخرجه مسلم في (الحج, باب حجة النبي (/2/892) من حديث جابر رضي الله عنه.
(2) أخرجه البخاري في (الوكالة/2311).
(3) أخرجه البخاري في (المناقب, باب حدثنا محمد بن المثنى/2/539).

ج / 2 ص -91- وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية.


والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة; لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين; فتكون لتحسين اللفظ; كقوله تعالى: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ}، [الزمر: من الآية66]، والتقدير: "بل الله اعبد".
قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ "إن": شرطية، وفعل الشرط "كنتم"، وجوابه قيل: إنه محذوف دل عليه ما قبله، وتقدير الكلام: إن كنتم مؤمنين فتوكلوا، وقيل: إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق; فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء، وهذا أرجح; لأن الأصل عدم الحذف.
وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته، كما لو قلت: إن كنت كريما فأكرم الضيف. فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم.


وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله; إلا إن حصل اعتماد كلي على غير الله; فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله.
الآية الثانية قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ}؛ "إنما": أداة حصر، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه، والمعنى: ما المؤمنون إلا هؤلاء. وذكر الله في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف:
أحدها: قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، أي: خافت؛ لما

ج / 2 ص -92-


فيها من تعظيم الله تعالى، مثال ذلك: رجل هم بمعصية، فذكر الله، أو ذكر به، وقيل له: اتق الله. فإن كان مؤمنا; فإنه سيخاف، وهذا هو علامة الإيمان.
الوصف الثاني: قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، أي: تصديقا وامتثالا، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول ( عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه، فقال: كيف أقرأ عليك وعليك أنزل؟ فقال: ( إني أحب أن أسمعه من غيري((1) فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً}، [النساء:41]. قال: "حسبك". فنظرت; فإذا عيناه تذرفان(2).


الوصف الثالث: قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، أي: يعتمدون على الله لا على غيره، وهم مع ذلك يعملون الأسباب، وهذا هو الشاهد.
الوصف الرابع: قوله: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ}، أي: يأتون بها مستقيمة كاملة، والصلاة: اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل.
الوصف الخامس: قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.


"من" للتبعيض; فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس; فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل، والصواب: أنها لبيان الجنس، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء؛ إذا توكل



(1) البخاري: فضائل القرآن (5049), ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها (800), والترمذي: تفسير القرآن (3025), وأبـو داود: العلم (3668) , وابن ماجه: الزهد (4194), وأحمد (1/374،380،432).
(2) أخرجه البخاري في (التفسير, باب فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد/3/ 217), ومسلم في (صلاة المسافرين, باب فضل استماع القرآن/1/ 551).

ج / 2 ص -93- وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ}، [الأنفال: من الآية64]، الآية.


على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعله أبو بكر(1) أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله; فلا ينبغي أن ينفق ماله كله.
الآية الثالثة قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ( المراد به الرسول ( يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا وبوصف الرسالة أحيانا، فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة، وأما في الأحكام الخاصة; فالغالب أن يناديه بوصف النبوة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، [التحريم: من الآية1]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}، [الطلاق: من الآية1].
و"النبي": فعيل بمعنى مفعَل بفتح العين، ومفعِل بكسرها; أي: منبأ، ومنبئ، فالرسول ( منبأ من قبل الله، ومنبئ لعباد الله.


قوله: "حسبك الله": أي: كافيك، والحسب: الكافي، ومنه قوله: أعطي درهما فحسب، وحسب خبر مقدم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما الله إلا حسبك، ويجوز العكس; أي: أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره، ويكون المعنى: ما حسبك إلا الله، وهذا أرجح.



(1) أخرجه أبوداود في (الزكاة, باب الرخصة في ذلك- أي: خروج الرجل من ماله-/2/ 313), والترمذي في (المناقب, باب الصديق ينفق كل ماله/9/77), والدارمي (1/391). وقال الترمذي: "حسن صحيح". وأخرجه أحمد في (فضائل الصحابة, من طريق آخر/1/ 460).

ج / 2 ص -94-


قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية64]، "من": اسم موصول مبنية على السكون، وفي عطفها رأيان لأهل العلم: قيل: حسبك الله، وحسبك من اتبعك من المؤمنين; فـ "من" معطوفة على لفظ الجلالة لأنه أقرب، ولو كان العطف على الكاف في (حسبك); لوجب إعادة الجار، وهذا كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال: من الآية62]، فالله أيد رسوله بالمؤمنين، فيكونون حسبا له هنا كما كان الله حسبا له.
وهذا ضعيف،

والجواب عنه من وجوه:
أولا: قولهم: عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح; فقد يكون العطف على شيء سابق، حتى إن النحويين قالوا: إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول.
ثانيا: قولهم: لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار، والصحيح أنه ليس بلازم، كما قال ابن مالك:

وليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا
ثالثا: استدلالهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}، فالتأييد لهم غير كونهم حسبه; لأن معنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه، وبينهما فرق.


رابعا: أن الله - سبحانه - حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ}، [التوبة: من الآية59]، ففرق بين الحسب والإيتاء، وقال تعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، [الزمر: من الآية38]، فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز; فكذلك الحسب، لا يمكن أن يكون غير الله

ج / 2 ص -95- وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، الآية.


حسبا، فلو كان; لجاز التوكل عليه، ولكن الحسب هو الله، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون.
خامسا: أن في قوله: "ومن اتبعك" ما يمنع أن يكون الصحابة حسبا للرسول ( وذلك لأنهم تابعون; فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع؟! هذا لا يستقيم أبدا; فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله: "حسبك"; أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك.
الآية الرابعة قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره; فالله حسبه، ولو حصل له بعض الأذية، فإن الله يكفيه الأذى، والرسول ( سيد المتوكلين، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة; لأن الله حسبه; فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة.


والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل; لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم، فمن توكل على غير الله تخلى الله عنه، وصار موكولا إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله.

ج / 2 ص -96- وعن ابن عباس; ( قال: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ; قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد ( حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا( الآية. رواه البخاري والنسائي(1).


قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "قالها محمد ( حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، [آل عمران: من الآية173]".
وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أحد أراد أن يرجع إلى النبي ( وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه، فلقي ركبا، فقال لهم: إلى أين تذهبون؟ قالوا: نذهب إلى المدينة. فقال: بلغوا محمدا وأصحابه أنا راجعون إليهم فقاضون عليهم. فجاء الركب إلى المدينة. فبلغوهم; فقال رسول الله ( ومن معه: حسبنا الله ونعم الوكيل. وخرجوا في نحو سبعين راكبا، حتى بلغوا حمراء الأسد، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين; حيث اعتمدوا عليه تعالى.
قوله: "قال لهم الناس": أي: الركب.
قوله: "إن الناس": أي: أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس هنا يمثل بها الأصوليون للعام الذي أريد به الخصوص.
قوله: "حسبنا": أي: كافينا، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره.
قوله: "ونعم الوكيل": "نعم": فعل ماض، "الوكيل":




(1) أخرجه البخاري في (التفسير, باب تفسير سورة آل عمران/3/211), ولعله في "سنن النسائي الكبرى".

ج / 2 ص -97-


فاعل، والمخصوص محذوف تقديره: هو; أي: الله، والوكيل: المعتمد عليه سبحانه، والله - سبحانه - يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا موكل، والوكيل في مثل قوله تعالى: "ونعم الوكيل"، وقوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}، [النساء: من الآية81]، وأما الموكل; ففي مثل قوله تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ}، [الأنعام: من الآية89].
وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه; فليس توكيله سبحانه من حاجة له، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون.
وقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إن إبراهيم قالها حين ألقي في النار" قول لا مجال للرأي فيه; فيكون له حكم الرفع. وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل; فيحتمل أنه أخذه منهم، ولكن جزمه بهذا، وقرنه لما قاله الرسول ( مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل.


الشاهد من الآية; قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173]، حيث جعلوا حسبهم الله وحده.
(تنبيه): قولنا: "وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل" قول مشهور عند علماء المصطلح، لكن فيه نظر; فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل; ففي "صحيح البخاري" (5/291- فتح) أنه قال: "يا معشر المسلمين! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه ( أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب؟! فقالوا: هذا من



ج / 2 ص -98- فيه مسائل:
الأولى:
أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية (الأنفال).
الرابعة: تفسير الآية في آخرها



عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟! ولا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم".


فيه مسائل:

الأولى:
أن التوكل من الفرائض ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها.
الثانية: أنه من شروط الإيمان: تؤخذ من قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وسبق تفسيرها.
الثالثة: تفسير آية الأنفال: وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، [الأنفال: من الآية2] الآية، والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل، وإلا; فالإنسان يكون مؤمنا وإن لم يتصف بهذه الصفات، لكن معه مطلق الإيمان، وقد سبق تفسير ذلك.


الرابعة: تفسير الآية في آخرها; أي: آخر الأنفال: وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، [الأنفال:64]، أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، وهذا هو الراجح على ما سبق.

ج / 2 ص -99- الخامسة: تفسير آية(لطلاق).
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومحمد ( في الشدائد.


الخامسة: تفسير آية الطلاق: وهي قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، [الطلاق: من الآية3]، وقد سبق تفسيرها.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد ( في الشدائد: يعني قول: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، [آل عمران: من الآية173].


وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف:
منها: زيادة الإيمان; لقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، [الأنفال: من الآية2].
ومنها: أنه عند الشدائد ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب; لأن الرسول ( وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ولكنهم فوضوا الأمر إلى الله، وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ومنها: أن اتباع النبي ( مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس