عرض مشاركة واحدة
  #33  
قديم 31-01-2015, 10:46AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}

ج / 2 ص -44- باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165].


قوله: باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}، جعل المؤلف رحمه الله تعالى الآية هي الترجمة، ويمكن أن يعنى بهذه الترجمة باب المحبة.
وأصل الأعمال كلها هو المحبة فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب; إما لجلب منفعة، أو لدفع مضرة، فإذا عمل شيئا; فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام، أو لغيره كالدواء.


وعبادة الله مبنية على المحبة، بل هي حقيقة العبادة; إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرا لا روح فيها، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته; فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك.
ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم؛ توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله، أو مع الله.


والمحبة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: محبة عبادة، وهي التي توجب التذلل والتعظيم، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه؛ ما يقتضي أن يمتثل أمره، ويجتنب نهيه، وهذه خاصة بالله، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة; فهو مشرك شركا أكبر، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة.
القسم الثاني: محبة ليست بعبادة في ذاتها، وهذه أنواع:

ج / 2 ص -45-


النوع الأول: المحبة لله وفي الله، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله، أي: كون الشيء محبوبا لله تعالى من أشخاص; كالأنبياء، والرسل، والصديقين، والشهداء، والصالحين. أو أعمال; كالصلاة، والزكاة، وأعمال الخير، أو غير ذلك. وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله.
النوع الثاني: محبة إشفاق ورحمة، وذلك كمحبة الولد، والصغار، والضعفاء، والمرضى.
النوع الثالث: محبة إجلال وتعظيم لا عبادة; كمحبة الإنسان لوالده، ولمعلمه، ولكبير من أهل الخير.
النوع الرابع: محبة طبيعية; كمحبة الطعام، والشراب، والملبس، والمركب، والمسكن.


وأشرف هذه الأنواع النوع الأول، والبقية من قسم المباح; إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة; فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب؛ من أجل أن يقوم ببر والده، صارت عبادة، وكذلك يحب ولده محبة شفقة، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد؛ صارت عبادة.
وكذلك المحبة الطبيعية; كالأكل والشرب، والملبس والمسكن؛ إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة، ولهذا ( حبب للنبي النساء والطيب (1)، مـن هـذه الدنــيا; فحبب إليه النســاء; لأن ذلك مقتضى الطبــيعة




(1) أخرجه الإمام أحمد (3/128, 199, 285), والنسائي في ( عشرة النساء, باب حب النسـاء/7/61)، وفي "تعليق الألباني على المشكاة" (3/1448): "إسناده حسن".

ج / 2 ص -46-


ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة، وحبب إليه الطيب; لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين، والله طيب لا يقبل إلا طيبا.
فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة؛ صارت عبادة، قال النبي (: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى(1).
وقال العلماء: إن ما لا يتم الواجب إلا به; فهو واجب، وقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وهذا أمر متفق عليه.


وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
الأولى: التي ترجم بها، وهي قوله: "ومن الناس": "من" تبعيضية، هي ومجرورها خبر مقدم، و "من يتخذ" مبتدأ مؤخر.
قوله: "أندادا": جمع ند، وهو الشبيه والنظير.
قوله: "يحبونهم كحب الله": أي: في كيفيته ونوعه; فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة. والكيفية: أن يحبه كمحبة الله أو أشد، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه، ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له، فلو قيل: احلف بالله; لحلف، وهو كاذب ولم يبال، ولو قيل: احلف بالند; لم يحلف، وهو كاذب، وهذا شرك أكبر.
وقوله: "كحب الله": للمفسرين فيها قولان:



(1) أخرجه البخاري في (بدء الوحي, باب كيف كان بدء الوحي/1/13), ومسلم في (الإمارة, باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات/3/1515).

ج / 2 ص -47-


الأول: أنها على ظاهرها، وأنها مضافة إلى مفعولها; أي: يحبونهم كحبهم الله، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله، فيجعلونها شركاء لله في المحبة، لكن الذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لله، وهذا هو الصواب.
الثانية: أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين: أي: كحب المؤمنين لله; فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله ( وهذا وإن احتمله اللفظ، لكن السياق يأباه; لأنه لو كان المعنى ذلك; لكان مناقضا لقوله تعالى فيما بعد: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وكانت محبة المؤمنين لله أشد; لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك; فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله.


فإن قيل: قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد؛ نظرا لقوله: {أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}، فما الجواب؟
أجيب: أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين؛ وأحدهما خال منه تماما، ومنه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}، [الفرقان:24]، مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير، وقال تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، [النمل: من الآية59]، والطرف الآخر ليس فيه شيء من هذه الموازنة، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده.


مناسبة الآية لباب المحبة:

منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله; لأن هذا من الشرك الأكبر، المخرج عن الملة، وهذا يوجـد في بعض العباد، وبعض الخدم; فبعض

ج / 2 ص -48- وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: من الآية24].


العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله، ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله، قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا، رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً}[الأحزاب:67-68].
الآية الثانية قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}:
"آباؤكم": اسم كان، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، والخطاب في قوله: "قل" للرسول ( والمخاطب في قوله: "آباؤكم" الأمة.


والأمر في قوله: " فتربصوا" يراد به التهديد: أي: انتظروا عقاب الله، ولهذا قال: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية، على محبة الله ورسوله، وجهاد في سبيله.
فدلت الآية على أن محبة هؤلاء، وإن كانت من غير محبة العبادة؛ إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة.
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده; فهو يحب أباه أكثر من ربه.



ج / 2 ص -49-


وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله، لكن له شاهد في الجوارح، ولذا يروي عن الحسن رحمه الله أنه قال: "ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه"; فالجوارح مرآة القلب.
فإن قيل: المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها، ولهذا يروي عن النبي ( أنه قالت: ( اللهم إن هذا قسمي فيما أملك; فلا تلمني فيما لا أملك )(1) وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا؟
أجيب: أن هذا إيراد ليس بوارد; فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة، فمثلا: لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك، فتكرهه لهذا السبب، أو لإرادة صادقة; كرجل يحب شرب الدخان، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة، فكره الدخان، فأقلع عنه.


وقال عمر ( للنبي (: ( إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي ( لا والذي نفسي بيده; حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال: الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال



(1) أخرجه أحمد في "المسند" (6/144), وأبـو داود في (النكــاح, باب في القسم بين النساء/2/601), والترمذي في (النكاح, باب في التسوية بين الضرائر/4/107), والنسائي في (عشرة النساء, باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض/7/64), وابن ماجه في (النكاح, باب القسمة بين النساء/1/633), والدارمي (2/67), وابن حبـان- وصححه- (4192), والحاكم (2/187)- وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي-. ورجح الترمذي إرساله; فقال: "رواية حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة مرسلا أصح". وانظر: "تحفة الأشــراف" (11/471/ رقم 16290), و "جامع الأصول" (11/514)،) و"نيل الأوطار" (6/372).

ج / 2 ص -50- عن أنس; أن رسول الله ( قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ( أخرجاه(1).


النبي ( الآن يا عمر )(2)، فقـد ازدادت محبـة عمـر ( للنبي )؛ وأقـره النبي ( على أن الحب قد يتغير.
وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب; فتعود محبتك إياه.
قوله في حديث أنس: "لا يؤمن": هذا نفي الإيمان، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب، وتارة يراد به نفي الوجود; أي: نفي الأصل. والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب; إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول ( إطلاقا; فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان.
قوله: "من ولده": يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد; لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا.


قوله: "ووالده": يشمل أباه، وجده وإن علا، وأمه، وجدته وإن علت.
قوله: "والناس أجمعين": يشمل إخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه; لأنه من الناس; فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين.
وإذا كان هذا في محبة رسول الله (؛ فكيف بمحبة الله تعالى؟!!



(1) أخرجه البخاري في (الأيمان, باب كيف كانت يمين النبي (/4/216) من حديث عمر (.
(2) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل/1/67).

ج / 2 ص -51-


ومحبة رسوله الله ( تكون لأمور:
الأول: أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شيء; فرسوله أحب إليك من كل مخلوق.
الثاني: لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته.
الثالث: لما آتاه الله من مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال.
الرابع: أنه سبب هدايتك، وتعليمك، وتوجيهك.
الخامس: لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة.
السادس: لبذل جهده بالمال والنفس؛ لإعلاء كلمة الله.


ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:

1- وجوب تقديم محبة الرسول ( على محبة النفس.
2- فداء الرسول ( بالنفس والمال؛ لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك.
3- أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله ( ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته لأن ذلك من كمال محبة رسول الله ( ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ}، [الكوثر:3]، أي: مبغضك، قالوا: وكذلك من أبغض شريعته ( فهو مقطوع لا خير فيه.
4- جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم؛ لقوله (: "أحب إليه من ولده ووالده..."; فأثبت أصل المحبة، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد.


5- وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس; لأن من

ج / 2 ص -52-


لازم كونه أحب من كل أحد؛ أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس، حتى على نفسك، فمثلا: أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله، فيأتي إليك رجل ويقول لك: هذا يخالف قول الرسول ( فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك; فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك، وترد على نفسك بقول الرسول ( فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول ( وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس، ولهذا قال بعضهم:

تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول ( على قول كل الناس حتى على قوله أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}، [الأحزاب: من الآية36].


لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة، أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة; فالواجب التثبت والتأني في الأمر; لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ.
ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة، أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها; فلا تتعجل في قبوله، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر، فإذا تبين; فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة; فالمهم التثبت في الأمر.


وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا، وتركها الأقدمون، وصارت محل نقاش بين الناس; فإنه يجب اتباع هذه القاعدة، ويقال: أين الناس من هذه الأحاديث؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله; لكانت منقولة باقية معلومة.مثل ما ذكر: أن

ج / 2 ص -53- ولهما عنه، قال: قال رسـول الله: ( ثـلاث مـن كن فيــه



الإنســان إذا لم يطف طواف الإفاضة، قبل أن تغرب الشمس يوم العيد; فإنه يعود محرما! فإن هذا الحديث(1)، وإن كان ظاهر سنده الصحة; لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا فالأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت، ولا نقول: إنها لا يمكن أن تكون صحيحة.


مناسبة هذا الحديث للباب:

مناسبة هذا الحديث ظاهرة; إذ محبة الرسول ( من محبة الله، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول ( أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين; فمحبة الله أولى وأعظم.
قوله في حديث أنس الثاني: "ثلاث من كن فيه": أي: ثلاث خصال، و "كن" بمعنى وجدن فيه.


وإعراب "ثلاث": مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك:

ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تفد......(2)
وقوله: "من كن فيه": "من": شرطية، و"كن": أصلها كان; فتكون فعلا ماضيا ناسخا، والنون اسمها، و"فيه": خبرها.


(1) أخرجه أبـو داود (بـاب الإفاضة في الحج/3/508). وقال المنــذري في "مختصر السنن" (2/ 428): "في إسناده محمد بن إسحاق, وقد تقدم الكلام عليه". وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (2/427).
(2)"ألفيه ابن مالك" (ص16).

ج / 2 ص -54- وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، .......


قوله: "وجد بهن": وجد: فعل ماض في محل جزم جواب الشرط، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ.
وقوله: " وجد بهن حلاوة الإيمان": الباء للسببية، وحلاوة: مفعول وجد، وحلاوة الإيمان: ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح، وليست مدركة باللعاب والفم; فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.


الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث:
قوله: ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما(:
الرسول محمد (، وكذا جميع الرسل تجب محبتهم.
قوله: " أحب إليه مما سواهما": أي: أحب إليه من الدنيا كلها، ونفسه، وولده، ووالده، وزوجه، وكل شيء سواهما، فإن قيل: لماذا جاء الحديث بالواو "الله ورسوله" وجاء الخبر لهما جميعا "أحب إليه مما سواهما"؟
فالجواب: لأن محبة الرسول ( من محبة الله، ولهذا جعل قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا; لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي .


الخصلة الثانية:
قوله: ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
قوله: "وأن يحب المرء" يشمل الرجل والمرأة.
قوله: "لا يحبه إلا لله": اللام للتعليل، أي: من أجل الله; لأنه قائم بطاعة الله .

ج / 2 ص -55- وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار((1).
وفي رواية: ( لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى...(، إلى آخره(2).


وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة يحبه للدنيا، ويحبه للقرابة، ويحبه للزمالة، ويحب المرء زوجته للاستمتاع، ويحب من أحسن إليه، لكن إذا أحببت هذا المرء لله; فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان.
الخصلة الثالثة: قوله: ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار(.
هذه الصورة في كافر أسلم; فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار، وإنما ذكر هذه الصورة; لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا; فربما يرجع إليه، بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا.
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار; فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان.


قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد حلاوة الإيمان": أتى المؤلف بهذه الرواية; لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم، وهذه عن طريق المنطوق، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.



(1) أخرجه البخاري في (الإيمان, باب حلاوة الإيمان/1/22), ومسلم في (الإيمان, باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان/1/ 66).
(2) أخرجها البخاري في (الأدب, باب الحب في الله/4/ 98).

ج / 2 ص -56- وعن ابن عباس، قال: ( من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله; فإنما تنال ولاية الله بذلك،


قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما: "من أحب في الله".
" من": شرطية، وفعل الشرط أحب، وجوابه جملة: " فإنما تنال ولاية الله بذلك".

و "في": يحتمل أن تكون للظرفية; لأن الأصل فيها الظرفية، ويحتمل أن تكون للسببية; لأن "في" تأتي أحيانا للسببية; كما في قوله (: ( دخلت امرأة النار في هرة((1) أي: بسبب هرة.
وقوله: "في الله". أي: من أجله، إذا قلنا: إن "في" للسببية، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية، فالمعنى: من أحب في ذات الله; أي: في دينه وشرعه، لا لعرض الدنيا.


قوله: "وأبغض في الله": البغض الكره; أي: أبغض في ذات الله، فإذا رأى من يعصي الله كرهه.
وفرق بين "في" التي للسببية و "في" التي للظرفية; فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهة هو في ذات الله (، فيبغض من أبغضه الله، ويحب من أحبه الله.
قوله: "ووالى في الله": الموالاة: هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك.
قوله: "وعادى في الله": المعاداة ضد الموالاة; أي: يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله.


قوله: " فإنما تنال ولاية الله بذلك": هذا جواب الشرط; أي: يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها; لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله.



(1) سبق تخريجه (ص 31).

ج / 2 ص -57- ولن يجد عبد طعم الإيمان - وإن كثرت صلاته وصومه - حتى يكون كذلك، .......


وقوله: " ولاية": يجوز في الواو وجهان: الفتح والكسر، قيل: معناهما واحد، وقيل: بالفتح بمعنى النصرة، قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}، [الأنفال: من الآية72]، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء.
قوله: "بذلك": الباء للسببية، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه، والموالاة فيه والمعاداة فيه.


وهذا الأثر موقوف، لكنه بمعنى المرفوع; لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف، إلا أن الأثر ضعيف.
فمعنى الحديث: أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته؛ حتى يكون كذلك، ولو كثرت صلاته وصومه، وكيف يستطيع عاقل فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله، فيرى أعداء الله يشركون به، ويكفرون به، ويصفونه بالنقائص والعيوب، ثم يواليهم ويحبهم؟! فهذا لو صلى وقام الليل كله، وصام الدهر كله; فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته، ويكون مملوءا ببغض أعداء الله ومعاداتهم، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبـا له ما ذاك في إمـــــــكان
وقال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا رأيت النصراني أغمض عيني; كراهة أن أرى بعيني عدو الله".


هذا الذي يجد طعم الإيمان، أما - والعياذ بالله - الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي (، فهو خارج عن الإسلام، مكذب بقول الله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}، [المائدة: من الآية3]، وقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ}، [آل عمران: من الآية19].

ج / 2 ص -58- ( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا . .........


وقوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، [آل عمران:85]، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنيين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين مسلم وكافر، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله ( بل هو عدو له أيضا; لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، [الممتحنة: من الآية1]، فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}، [المائدة:51].


فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم; لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم ويحبوهم، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم; فهذه البلاد قال فيها الرسول (: ( لأخرجن اليهود والنصـارى من جزيرة العــرب حتى لا أدع إلا مسلما((1)، وقال (: ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب((2)، وقال (: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب((3)، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس، ويختلط أولياء الله بأعدائه.
قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا".



(1) أخرجه مسلم في (الجهاد, باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب/3/ 1388) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(2) انظر: "التلخيص الحبير" (4/ 125/ رقم 1917).
(3) أخرجه البخاري في (الجهاد, باب هل يستشفع إلى أهل الذمة/2/ 373), ومسلم في (الوصية, باب ترك الوصية/3/ 1257).

ج / 2 ص -59- رواه ابن جرير(1).


قوله: "عامة": أي: أغلبية.
وقوله: "مؤاخاة الناس": أي: مودتهم ومصاحبتهم: أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا، وهذا قاله ابن عباس، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه; فما بالك بالناس اليوم؟
فقد صارت مؤاخاة الناس- إلا النادر- على أمر الدنيا، بل صار أعظم من ذلك، يبيعون دينهم بدنياهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [الأنفال:27]، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}، [الأنفال:28].


ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما: أن لله تعالى أولياء، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية55]، فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63].



(1) أخرجه ابن المبـارك في "الزهد" (353) عن ابن عباس موقوفا, وأخرجه أبو نعيم في "الحلية" (1/312) عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا, والطبراني في "الكبير" (13537) عن ابن عمر موقوفا. ومداره على ليث بن أبي سليم, وهو ضعيف مختلط. انظر: "تهذيـب التهذيـب" (8/ 467), و"تقريب التهذيب" (2/ 138).

ج / 2 ص -60- ( وقال ابن عباس في قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ; قال: المودة((1) .


قال شيخ الإسلام: "من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا"، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة.
والولاية تنقسم إلى: ولاية من الله للعبد، وولاية من العبد لله; فمن الأولى قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا}، [البقرة: من الآية257]، ومن الثانية قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا}، [المائدة: من الآية56].
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة; فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق; فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}، [الأنعام:62].


والولاية الخاصة: أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته، وهذه خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}، [البقرة: من الآية257]، وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}، [يونس:62-63].
قوله: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة: من الآية166].
قال: المودة"؛ يشير إلى قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}، [البقرة:166].




(1) أخرجه ابن جرير (2/ 43), والحاكم (2/ 272) وصححه, ووافقه الذهبي.

ج / 2 ص -61- فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية (البقرة).

ــ
الأسباب: جمع سبب، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء. وفي اصطلاح الأصوليين: ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم; فكل ما يوصل إلى شيء; فهو سبب، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: من الآية15]، ومنه سمي الحبل سببا؛ لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر.
وقوله: "قال: المودة": هذا الأثر ضعفه بعضهم، لكن معناه صحيح; فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تتقطع بهم، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها; فإنها لا تنفعهم، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات; فقد قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه}[البقرة: من الآية165]، ثم قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة:166].
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية، فأما المودة الإيمانية؛ كمودة الله تعالى، ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص; فإنها نافعة موصلة للمراد، قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].


فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية البقرة: وهي قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وسبق ذلك.

ج / 2 ص -62- الثانية: تفسير آية (براءة).
الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.


الثانية: تفسير آية براءة: وهي قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُم} الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: وجوب محبته ( على النفس والأهل والمال: وفي نسخة: "وتقديمها على النفس والأهل والمال".


ولعل الصواب: وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث، وأيضا قوله: "على النفس" يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}؛ فذكر الأقارب والأموال.


الرابعة:
أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام: سبق أن المحبة كسبية، وذكــرنا في ذلك حديث عمر ( لما قال للرسول (: ( والله إنك لأحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال له: ومن نفسك. فقال: الآن، أنت أحب إلي من نفسي((1).
وقوله: "الآن" يدل على حدوث هذه المحبة، وهذا أمر ظاهر، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله (: ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده...((2) لا يدل على الخروج من الإسلام; لقوله ( في الحديث الآخر: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان"; لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله; أي: إن الدليل مركب من الدليلين.



(1) البخاري: الأيمان والنذور (6632), وأحمد (4/336،233)، (5/293).
(2) صحيح مسلم: كتاب الإيمان (44), وسنن النسائي: كتاب الإيمان وشرائعه (5013،5015), وسنن ابن ماجه: كتاب المقدمة (67), ومسند أحمد (3/207،275،278).

ج / 2 ص -63- الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.


ونفي الشيء له ثلاث حالات: فالأصل أنه نفي للوجود، وذلك مثل: لا إيمان لعابد صنم، فإن منع مانع من نفي الوجود; فهو نفي للصحة، مثل: "لا صلاة بغير وضوء"، فإن منع مانع من نفي الصحة; فهو نفي للكمال، مثل: "لا صلاة بحضرة طعام"; فقوله: "لا يؤمن أحدكم" نفي للكمال الواجب لا المستحب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لا ينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع".


الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها تؤخذ من قوله: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان(، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
وهي: الحب في الله، والبغض في الله، والولاء في الله، والعداء في الله. لا تنال ولاية الله إلا بها، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله; فإنه لا يناله ولاية الله، قال ابن القيم:

أتحب أعداء الحبيب وتدعي حبا له ما ذاك في إمــــــــكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم.


وقوله: "ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها" مأخوذة من قول ابن عباس: "ولن يجد عبد طعم الإيمان..." إلخ.

ج / 2 ص -64- السابعة: فهم الصحابي للواقع; أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.


السابعة: فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا الصحابي يعني به ابن عباس رضي الله عنهما، وقوله: "إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا"، هذا في زمنه; فكيف بزمننا؟!
الثامنة: تفسير قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}؛ فسرها بالمودة، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال; لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم; فإنما يقصد به التمثيل، أي: مثل المودة، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة; فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا.


التاسعة:
أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا: تؤخذ من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا، وتؤخذ من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه}؛ فأشد: اسم تفضيل، يدل على الاشتراك في المعنى مع الزيادة; فقد اشتركوا في شدة الحب، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم.


العاشرة:
الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه: الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ

ج / 2 ص -65- الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله; فهو الشرك الأكبر.


وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا}، [التوبة: من الآية24].
والوعيد في قوله: "فتربصوا"; فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الأمر هنا للوعيد.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر: لقوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، [البقرة: من الآية165]، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر، بدليل ما لهم من العذاب.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس