عرض مشاركة واحدة
  #31  
قديم 31-01-2015, 10:16AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في التنجيم

ج / 2 ص -5- باب: ما جاء في التنجيم:



التنجيم: مصدر نجّم بتشديد الجيم; أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم.
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
1- علم التأثير.
2- علم التسيير.
فالأول:
علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أ: أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور; فهذا شرك أكبر; لأن من ادعى أن مع الله خالقا; فهو مشرك شركا أكبر; فهذا جعل المخلوق المسخر خالقا مُسَخِّرًا.

ب: أن يجعلها سببا يدعي به علم الغيب; فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا; لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء; لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة; لأنه ولد في النجم الفلاني; فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لا دعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة; لأن الله يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} [سورة النمل: من الآية 65] وهذا من أقوى أنواع الحصر; لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب; فقد كَذَّب القرآن.


ج / 2 ص -6-



ج: أن يعتقدها سببا لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه; فهذا شرك أصغر.
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده"1؛ فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.

فالجواب من وجهين:

الأول: أنه لا يُسلَّم أن للكسوف تأثيرا في الحوادث والعقوبات، من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته" لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب.
الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيرا; فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصا به.


لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلا أن لهما تأثيرا في هذا; لأن الحديث لا يقتضيه; فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط.
الثاني: علم التسيير.

وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية; فهذا مطلوب، وإذا



1 أخرجه: البخاري في (الكسوف, باب الصدقة في الكسوف/1/328), ومسلم في (الكسوف, باب صلاة الكسوف/2/618).


ج / 2 ص -7- قال البخاري في " صحيحه": "قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث....


كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجبا، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة; فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة; فهذا فيه فائدة عظيمة.
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية; فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات; كمعرفة أن القطب يقع شمالا، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالا، وهكذا; فهذا جائز، قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [سورة النحل: الآية 16].


النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر; فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني; فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح.
والصحيح عدم الكراهة; كما سيأتي إن شاء الله1.
قوله: في أثر قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث"، اللام للتعليل; أي: لبيان العلة والحكمة.
قوله: "لثلاث": ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد.



1 انظر: ص (10).


ج / 2 ص -8- زينة للسماء،...


والثلاث هي:
الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}[الملك: من الآية5] لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله; فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد.

وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟
الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الانبياء: الآية33] أي: يدورون، كل له فلك. وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها; فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان.
إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء.

فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: {زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} [الملك: من الآية5]؟
قلنا: إنه لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقا له، أرأيت لو أن رجلا عمر قصرا وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه; فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له.


ج / 2 ص -9- ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك; أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به"1 انتهى.



الثانية: رجوما للشياطين; أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس; لأن شياطين الإنس لم يصلوا إليها، لكن شياطين الجن وصلوا إليها; فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ}، [صّ:37]، أي: سخرنا لسليمان: {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}، [صّ:38]، وقال تعالى: {قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}، [النمل: من الآية39]، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ; فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفودهم. وقال تعالى: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً}، [الجن:9]. والرجم: الرمي.


الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}، [النحل:15-16]، فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدى بها:
الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة; كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها.
والثاني: أفقية في قوله تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}.
والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين; لأن لكل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات،


1 علقه بصيغة الجزم البخاري في (بدء الخلق, باب في النجوم/2/420).


ج / 2 ص -10- وكَرِه قتادة تعلم منازل القمر.
ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما.
ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.


سواء جهات القبلة أو المكان، برا أو بحرا.
وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم; لأنك في الليل لا تشاهد جبالا ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}، [الجاثية: من الآية13].
قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر": أي: كراهة تحريم؛ بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا.


وقوله: "تعلم منازل القمر"
يحتمل أمرين:
الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، فالليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة; لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيا وعشرين، وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب.
الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم; أي: يخرج النجم الفلاني في اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول; لأنها [28] نجما، منها [ 14] يمانية و [14] شمالية; فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية.


قوله: "ولم يرخص فيه ابن عيينة": هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة.
قوله: "ذكره حرب": من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة.
قوله: "إسحاق": هو إسحاق بن راهويه.



ج / 2 ص -11- وعن أبي موسى; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر،...


والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر; لأنه لا شرك فيها; إلا إن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصوله البرد، وأنها هي الجالبة لذلك; فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء; فهذا لا بأس به.
قوله في حديث أبي موسى: "الجنة": هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك; لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره.
قوله: "مدمن خمر": هو الذي يشرب الخمر كثيرا، والخمر حده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "كل مسكر خمر"1، ومعنى "أسكر"; أي: غطى العقل، وليس كل ما غطى العقل فهو خمر; فالبنج مثلا ليس بخمر، وإذا شرب دهنا فأغمي عليه; فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة والطرب; فتجد الشارب يحس أنه في منزلة عظيمة، وسعادة، وما أشبه ذلك،

قال الشاعر:

وأسدا ما يهنئها اللقاء ونشربها فتتركنا ملوكا
وقال حمزة بن عبد المطلب- وكان قد سكر قبل تحريم الخمر- للنبي صلى الله عليه وسلم: "وهل أنتم إلا عبيد أبي"2 فالذي يغطي العقل على سبيل


1 أخرجه مسلم في (الأشربة, باب بيان أن كل مسكر خمر/3/1587) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2 أخرجه البخاري في (فرض الخمس, باب فرض الخمس/2/385), ومسلم في (الأشربة, باب تحريم الخمر/3/1568); من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.



ج / 2 ص -12- وقاطع الرحم،....


اللذة محرم بالكتاب والسنة، ومن استحله; فهو كافر، إلا إن كان ناشئا ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك; فإنه يعرف ولا يكفر بمجرد إنكاره تحريمه.
قوله: "قاطع الرحم": الرحم: هم القرابة، قال تعالى: {وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}، [لأنفال: من الآية75]، وليس كما يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين; لأن هذه تسمية غير شرعية، والشرعية في أقارب الزوجين: أن يسموا أصهارا.
ومعنى قاطع الرحم أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}، [الرعد: من الآية21]، ومنه الأرحام وما جاء مطلقا غير مقيد; فإنه يتبع فيه العرف كما قيل:

وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد1
فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسوة والطعام دائما، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك.


وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد; فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد. ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقا لا بد من القيام به، ويريد أن تصله دائما، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها; فهذا له حكم، وذلك له حكم.
والقطيعة يرجع فيها إلى العرف; إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقا، بأن كنا في أمة تشتتت



1 انظر: "منظومة الشارح" حفظه الله (ص 3).


ج / 2 ص -13- ومصدق بالسحر". رواه أحمد وابن حبان في " صحيحه "1.


وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية; فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لا بد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة; فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله.
والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك; لأن هذا مكافأة، وليست صلة; لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل; كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم "من إذا قطعت رحمه وصلها"2 هذا هو الذي يريد وجه الله والدار الآخرة.


وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟
الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها.
قوله: "ومصدق بالسحر": هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به; فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: "أن من اقتبس شعبة من النجوم; فقد اقتبس شعبة من السحر"3، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به، فإنه لا يدخل الجنة; لأنه صدق بعلم



1 أخرجه أحمد (4/339), وابن حبان (1380, 1381), وأبو يعلى, والطبراني; كما في "المجمع" (5/74). قال الهيثمي: "رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني, ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات". وأخرجه الحاكم أيضا (4/146), وقال: "صحيح الإسناد, ولم يخرجاه", ووافقه الذهبي.
2 أخرجه: البخاري في (الآداب, باب ليس الواصل بالمكافئ/4/90) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
3 سبق (1/521).


ج / 2 ص -14-


الغيب لغير الله، قال تعالى: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، [النمل: من الآية65].
فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاما ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟
أجيب: أن المصدق بما يخبره به السحرة من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرا; فلا يلحقه هذا الوعيد; إذ لا شك أن للسحر تأثيرا، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصا فيجعله يحب فلانا ويبغض فلانا; فهو مؤثر، قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه}، [البقرة: من الآية102]، فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع.


أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبا أو نحو ذلك; فلا شك في دخوله في الوعيد; لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله عز وجل.
وقوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة" هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟
الجواب: لا; لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء; فهذا الحديث لا يدل على الحصر.
وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟ اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال:


ج / 2 ص -15-


القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فإنه لا بد أن يدخل الجنة.
القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل; فلا بد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب; لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلا; فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر.
القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت.


فمثلا: قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}، [النساء:93]، هذه الآية من نصوص الوعيد; فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول: هكذا قال الله، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف; كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر.
القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد; فيقال: لا يدخلون الجنة دخولا مطلقا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يُصدّق بعضها بعضا، ويلائم بعضها



ج / 2 ص -16- فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.


بعضا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة; فتقيد النصوص بعضها ببعض.
وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حري أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرا، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال; لأن من مات على الكفر; فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما"1 فيكون هذا قولا خامسا.


فيه مسائل:

الأولى: الحكمة في خلق النجوم: وهي ثلاث:
- أنها زينة للسماء.
- ورجوم للشياطين.
- وعلامات يهتدى بها.
وربما يكون هناك حكم أخرى لا نعلمها.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك؛ لقول قتادة: "من تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".



1 أخرجه البخاري في (الديات/6862).


ج / 2 ص -17- الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.


ومراد قتادة في قوله: "غير ذلك" ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة; فلا ضلال لمن تأوله.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل: سبق ذلك1.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل: من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه; فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل; لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته.



1 انظر: (ص 10).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس