عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 29-01-2015, 09:17AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب الشفاعة.

ج / 1 ص -329- باب الشفاعة.

ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد; لأن المشركين الذين يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفعاء لهم عند الله، وهم يشركون بالله - سبحانه وتعالى - فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك. وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له; لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة; فلا يحتاج إلى شفعاء. ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربونا إلى الله، وهم ضالون في ذلك; فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك; فإنه لا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء; إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم; فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم; فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله عزوجل كامل العلم والقدرة والسلطان، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.


ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله - سبحانه - في شيء مما شفع فيه; فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله1 ولكن يقصد بها أمران، هما:


1 يأتي (ص 340).

ج / 1 ص -330- وقول الله عزوجل:{ وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } 1.


1. إكرام الشافع.
2. نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال تعالى:{ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ } 2. واصطلاحا: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.


مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بدخولها3.
مثال دفع المضرة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن استحق النار أن لا يدخلها.
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى: قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ بِهِ } 4 الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر; فليست بإنذار، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
والضمير في "به" يعود للقرآن; كما قال تعالى:{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا }
5، وقال تعالى:{ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } 6.


وقوله:{ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا }
7 أي: يخافون مما يقع لهم من سوء


1 سورة الأنعام آية : 51.
2 سورة الفجر آية : 3.
3 يأتي, (ص 333).
4 سورة الأنعام آية : 51.
5 سورة الشورى آية : 7.
6 سورة الأعراف آية : 2.
7 سورة الأنعام آية : 51.

ج / 1 ص -331- وقوله:{ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } 1.


العذاب في ذلك الحشر. والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء; فمعنى يحشرون; أي: يجمعون حتى ينتهوا إلى الله.
قوله:{ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } 2 "ولي"; أي: ناصر ينصرهم. :{ وَلا شَفِيعٌ } أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد. ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود; الشفاعة من دونه مستحيلة، وبإذنه جائزة وممكنة. أما عند الملوك; فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريبا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن. ويفيد قوله: {مِن دُونِهِ} أن لهم بإذنه وليا وشفيعا; كما قال تعالى:{ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } 3.


· الآية الثانية: قوله تعالى: {لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ } 4 مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته; فأفادت الآية في قوله: "جميعا" أن هناك أنواعا للشفاعة.
وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله; فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله


1 سورة الزمر آية : 44.
2 سورة الأنعام آية : 51.
3 سورة المائدة آية : 55.
4 سورة الزمر آية : 44.

ج / 1 ص -332-

بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر؛ لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه; فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
1، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر. ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بأنه أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} 2.


ثم يذهبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من صفاته، ثم يعتذر بأنه كذب ثلاث كذبات لكنها حق حسب مراده. ثم يذهبون إلى موسى صلى الله عليه وسلم فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع، لكنه يعتذر بقتل نفس لم يؤمر بقتلها، وهي نفس القبطي حين استغاثة الإسرائيلي فوكز موسى القبطي فقتله فقضى عليه. ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع; فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاما، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر عذرا يحول بينه وبين الشفاعة3 فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف.


1 سورة آية : 121-122.
2 سورة هود آية : 45.
3 حديث الشفاعة من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب "ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبذا شكورا" , 3/250), ومسلم (كتاب الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة, 1/184).

ج / 1 ص -333-


الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها1 لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع لهم، فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا }
2 ; فقال: "وفتحت"; فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار; فقال فيها: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } 3 الآية.


الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب4 وهذه مستثناة من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}
5، وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 6 وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار - والعياذ بالله - في ضحضاح من نار، وعليه نعلان منها يغلي منهما دماغه، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يشفع في كافر أبدا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين

وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد

1 ورد التصريح بهذه الشفاعة في حديث الصور, رواه: الطبراني في "المطولات" (25/66/ رقم 36), وابن جرير في "الجامع" (2/330). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" (5/339), ونسبه إلى أبي يعلى وابن المنذر وغيرهم وضعفه ابن كثير في "تفسيره" (2/146) وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس: "أنا أول شفيع في الجنة" (رقم 196).
2 سورة الزمر آية : 73.
3 سورة الزمر آية : 71.


4 من حديث العباس بن عبد المطلب, رواه: البخاري (كتاب الفضائل, باب قصة أبي طالب, 3/62), ومسلم (كتاب الإيمان, باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب, 1/194).
5 سورة المدثر آية : 48.
6 سورة طه آية : 109.

ج / 1 ص -334-


يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا; إلا شفعهم الله فيه "1 فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.


النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمعت عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج; فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقا لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود; فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم و غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخلوها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.


النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة: " اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه
"2 والدعاء شفاعة; كما قال صلى الله عليه وسلم " ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا; إلا شفعهم الله فيه ".


إشكال وجوابه:
فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه; فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟


1 من حديث ابن عباس, رواه مسلم (كتاب الجنائز, باب من صلى عليه أربعون, 2/ 655).
2 من حديث أم سلمة, رواه مسلم (كتاب الجنائز, باب في إغماض الميت, 2/634).

ج / 1 ص -335- وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 1.


والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبوديهم; فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.


إذا قوله: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } 2 تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق3.
الآية الثالثة: قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي } 4 "من": اسم استفهام بمعنى النفي; أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه "ذا": هل تجعل ذا اسما موصولا كما قال ابن مالك في "الألفية" أو لا تصح أن تكون اسما موصولا هنا لوجود الاسم الموصول "الذي" الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون "الذي" توكيدا لها.


والصحيح أن "ذا" هنا إما مركبة مع "من"، أو زائدة للتوكيد، وأيا كان الإعراب; فالمعنى: إنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله.
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام; فإنه يكون مضمنا معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: "عنده": ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو; فلا يشفع


1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة الزمر آية : 44.
3 سبق (ص 331).
4 سورة البقرة آية : 245.

ج / 1 ص -336- وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } 1.


أحد عنده ولو كان مقربا; كالملائكة المقربين; إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا.
وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك; فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلا على أنه ليس كبيرا في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنما على رءوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام; فإنهم يتكلمون.
الآية الرابعة: قوله تعالى: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ }كم: خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذن الله ورضاه.
قوله: { إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }


2 فللشفاعة شرطان، هما:
1. الإذن من الله; لقوله:
{ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ }.
2. رضاه عن الشافع والمشفوع له; لقوله: "ويرضى"، وكما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } 3 ; فلا بد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك4.
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى


1 سورة النجم آية : 26.
2 سورة النجم آية : 26.
3 سورة الأنبياء آية : 28.
4 (ص 333).

ج / 1 ص -337- وقوله: { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ }الآيتين1.


بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه: { لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى } 2 أي: العلامات الدالة عليه عزوجل فكيف به سبحانه؟ ! فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى }
3، وهذا استفهام للتحقير; فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ } 4 الآية.
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه; فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟ ! ولهذا قال: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ } مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله - سبحانه -; فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.


الآية الخامسة: قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا }الأمر في قوله: "ادعو" للتحدي والتعجيز، وقوله: "ادعوا" يحتمل معنيين، هما:


1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة النجم آية : 18.
3 سورة النّجم آية : 19-20.
4 سورة النّجم آية : 21-26.

ج / 1 ص -338-


1. أحضروهم.
2. ادعوهم دعاء مسألة. فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم; كما قال تعالى: { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } 1.
يكفرون: يتبرءون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.


قوله: { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } 2 واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بها المثل في القلة.
قوله: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أو كثرة; فلا مفهوم له; فالمراد الحكم العام; فمثلا قوله تعالى: { إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } 3 ; أي: مهما بالغت في الاستغفار.


ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكا للإنسان; لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله.
قوله: { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ } 4 أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.
"فيهما" أي: في السماوات والأرض.
: { مِنْ شِرْكٍ } أي: مشاركة، أي لا يملكونه انفرادا ولا مشاركة.


1 سورة فاطر آية : 14.
2 سورة سبأ آية : 22.
3 سورة التوبة آية : 80.
4 سورة الأحقاف سبأ آية : 22.

ج / 1 ص -339-


وقوله: { مِنْ شِرْكٍ }: مبتدأ مؤخر دخلت عليه "من" الزائدة لفظا، لكنها للتوكيد معنى وكل زيادة لفظية في القرآن; فهي زيادة في المعنى وأتت "من" للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }
1 الضمير في: { وَمَا لَهُ }يعود إلى الله تعالى، وفي "منهم" يعود إلى الأصنام; أي: ما لله تعالى من هذه الأصنام ظهير و "من": حرف جر زائد، و "ظهير": مبتدأ مؤخر بمعنى معين; كما قال تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } 2 ; أي: معينا، وقال تعالى: { وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } 3; أي: معين أي: ليس لله معين يعينه في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون; فهي لا تملك شيئا على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة، لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منة عليك; فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.


فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة; لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }
4 ; فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء; لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام; لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالا ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة; فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } 5، حتى ولو كان المدعو عاقلا; لقوله: "من"، ولم يقل: "ما"، ثم قال تعالى: { وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } 6، وكل



1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة الإسراء آية : 88.
3 سورة التحريم آية : 4.
4 سورة سبأ آية : 23.
5 سورة الأحقاف آية : 5.
6 سورة آية : 5-6.

ج / 1 ص -340- قال أبو العباس: " نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله،.....


هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفا ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيما; حتى يكون عبدا لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله; لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } 1، أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح; لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.


وقوله: { إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ } أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم; فهو حسبان باطل.
قوله: "قال أبو العباس ": هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج; لأنه كان مشغولا بالعلم والجهاد، وليس زاهدا في السنة، مات سنة 728 هـ، وله 67 سنة و 10 أشهر.


قوله: "لغيره ملك": أي: لغير الله في قوله: { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ }.
قوله: "أو قسط منه": في قوله: "وما لهم فيهما من شرك".
قوله: "أو يكون عونا لله" في قوله تعالى: { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}
2 بدون استثناء.


1 سورة المؤمنون آية : 115.
2 سورة سبأ آية : 22.

ج / 1 ص -341- ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; كما قال: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى } 1.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة;


قوله: "ولم يبق إلا الشفاعة": فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب; كما قال تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى }
2 وَقَالَ: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } 3، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة وحينئذ فتكون شفاعتها منتفية.


واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن، فهو في طاعة المخلوق في المعصية فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله، إذن; فكيف تتعلقون بهم؟ ! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله، وليست استقلالا، أما عبادتهم كعبادة الله; فهذه جاهلية وكفر.


فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن; فالله - سبحانه وتعالى - نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }
4، حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها; فكيف تكون شافعة؟ ! بل هي في النار وعابدوها.


1 سورة الأنبياء آية : 28.
2 سورة الأنبياء آية : 28.
3 سورة البقرة آية : 255.
4 سورة آية : 98-99.

ج / 1 ص -342- كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولا - ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع "1.
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم " من أسعد الناس بشفاعتك؟


قوله: "وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه": أي: وكما أخبر; فالواو عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس جاها عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده; فكيف بهذه الأصنام; هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: "ارفع رأسك": أي: من السجود.


قوله: "وقل يسمع" السامع هو الله، و "يسمع": جواب الأمر مجزوم.
قوله: "وسل تعط": أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جوابا لسل.
قوله: "واشفع تشفع": وحينئذ يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق أن يقضى بينهم.


قوله: "وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم من أسعد الناس بشفاعتك؟":
هذا السؤال من أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم
"2 وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.


1 سبق ص 332.
2 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).

ج / 1 ص -343- قال: " من قال: لا إله إلا الله; خالصا من قلبه "1.


قوله: " من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه " وعليه; فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ }
2، وقال تعالى حكاية عنهم: { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } 3 والحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } 4، وقال تعالى: { وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } 5..
وقوله: "خالصا من قلبه" خرج بذلك من قالها نفاقا; فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمدا رسول الله، لكن الله عزوجل قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } 6 ; أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله، فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله; لأنهم لو شهدوا بذلك حقا ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: "خالصا": أي: سالما من كل شوب; فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.


قوله: "من قلبه": لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضغة في صدور الناس، قال الله تعالى: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }
7 وقال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } 8، وقال صلى الله عليه وسلم " ألا وإن في



1 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب العلم, باب الحرص على الحديث, 1/52).
2 سورة آية : 35-36.
3 سورة ص آية : 5.
4 سورة الصافات آية : 12.
5 سورة الرعد آية : 5.
6 سورة المنافقون آية : 1.
7 سورة الحج آية : 46.
8 سورة الحج آية : 46.

ج / 1 ص -344- فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع;


الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله "1. وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيرا في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: "العقل في القلب، وله اتصال في الدماغ" ومن قال كلمة الإخلاص خالصا من قلبه; فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه; فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.


قوله: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص": لأن من أشرك بالله قال الله فيه: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } 2.
قوله: "وحقيقته أن الله - سبحانه - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع": وحقيقته; أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله عزوجل أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.


والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: "ليكرمه وينال المقام المحمود"، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته; فهو عنده بمنزلة عالية;


فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.


1 من حديث النعمان بن بشير, رواه: البخاري (كتاب الإيمان, باب فضل من استبرأ لدينه, 1/34), ومسلم (كتاب المساقاة, باب أخذ الحلال وترك الشبهات, 3/1219).
2 سورة المدثر آية : 48.

ج / 1 ص -345- ليكرمه، وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد" انتهى كلامه.


قوله: "المقام المحمود": أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن الله وعده أن يبعثه مقاما محمودا، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة; فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته.
قوله: "فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك": هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "ما": اسم موصول; أي: التي كان فيها شرك.
قوله: "وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع ": ومن ذلك قوله تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ }
1، وقوله: { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } 2، وقوله: { وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى } 3.


قوله: "وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد": أما أهل الشرك; فإن الشفاعة لا تكون لهم; لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد: أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.


1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 سورة النجم آية : 26.


ج / 1 ص -346- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة : صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة : ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود.
الخامسة : صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له; شفع.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات: وهي خمس، وسبق تفسيرها في محالها.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية: وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك; فإنها منفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة: وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود: وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وقول الشيخ: "وهي المقام المحمود"; أي: منه1.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له; شفع: كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم


1انظر: (ص 344).

ج / 1 ص -347- السادسة : من أسعد الناس بها.
السابعة : أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة : بيان حقيقتها.


السادسة: من أسعد الناس بها: هم أهل التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه ولا إله إلا الله معناه: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله; لأنه لو كان كذلك; لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله ولا إله إلا الله تتضمن نفيا وإثباتا، هذا هو التوحيد; لان الإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، والنفي المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت; لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } 1، لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.


السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله: لقوله تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ }
2، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله صلى الله عليه وسلم " خالصا من قلبه "3.

الثامنة: بيان حقيقتها: وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص; فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.


1 سورة البقرة آية : 163.
2 سورة المدثر آية : 48.
3 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).



المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





رد مع اقتباس