عرض مشاركة واحدة
  #17  
قديم 29-01-2015, 08:01AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قول الله تعالي:{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً }الآية.

ج / 1 ص -283- باب قول الله تعالي:{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً }الآية.


مناسبة الباب لما قبله.لما ذكر رحمه الله الاستعاذة والاستغاثة بغير الله- عز وجل-، ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل، وذكر رحمه الله ثلاث آيات:
الآية الأولى والثانية: قوله: (أيشركون): الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: يشركونه مع الله.


قوله: " ما لا يخلق ": هنا عبر ب (ما)، دون "من"، وفي قوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ } 1 عبر ب (من).
والمناسبة ظاهرة، لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا، فالمدعو جماد، لأن الذي لا يخلق شيئا ولا يصنعه جماد لا يفيد. قوله: (شيئا): نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: (وهم يخلقون): وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص. والرب



1 سورة الأحقاف آية : 5.

ج / 1 ص -284-

المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقا، بل هو الخالق، فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء. والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم، لأن ما جاز انعدامه أولا، جاز عقلا انعدامه آخرا.

فكيف يعبد هؤلاء من دون الله، إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!
إشكال وجوابه: قوله: " ما لا يخلق " الضمير بالإفراد، وقوله: " وهم يخلقون " الضمير بالجمع، فما الجواب؟ أجيب: بأن قوله: " ما لا يخلق " عاد الضمير على (ما) باعتبار اللفظ، لأن (ما) اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع، فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع، كقوله: " من لا يستجيب له ".


وقوله: " وهم يخلقون " عاد الضمير على (ما) باعتبار المعنى، كقوله:{ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 1 قوله:{ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } 2 أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو، لأن هؤلاء المعبودين قاصرون.
والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه. قوله: {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 3 بنصب أنفسهم على الله مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال، لأن العامل لم يشتغل بضمير السابق.


أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم، فكيف ينصرون غيرهم؟! فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:



1 سورة الأحقاف آية : 5.
2 سورة الأعراف آية : 192.
3 سورة الأعراف آية : 192.

ج / 1 ص -285- وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 1 الآية.


1. أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2. أنهم مخلوقون من العدم، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداء ودواما.
3. أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: " ولا يستطيعون " أبلغ من قوله: " لا ينصرونهم " لأنه لو قال: " لا ينصرونهم " فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون، لكن لما قال: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } 2 كان أبلغ لظهور عجزهم.
4. أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.


الآية الثالثة: قوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } 3 يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، و " من دونه " أي: سوى الله.
قوله: { مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 4 (ما): نافية، (من): حرف جر زائد لفظا، وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر، لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة " ما يملكون " خبر المبتدأ الذي هو (الذين).
وقوله: (من قطمير): القطمير: سلب نواة التمرة.


وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء:
القطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.



1 سورة فاطر آية : 13.
2 سورة الأعراف آية : 192.
3 سورة الأعراف آية : 197.
4 سورة فاطر آية : 13.

ج / 1 ص -286-


الفتيل: وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير: وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير، فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملا؟ أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقيا; فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلا إحراقه للنهي عن إضاعة المال. قوله: " إن تدعوهم ": جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم. قوله: {لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ } 1 جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.


قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } 2 أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت، لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} 3 فإذا كانت كذلك، فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله؟! بل هذا سفه، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ }(4.


قوله: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } 5 وهو كقوله تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 6 فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون، فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيرا والمسيح. وإن كانوا أحجارا وأشجارا ونحوها، فيحتمل أن يشملها



1 سورة فاطر آية : 14.
2 سورة فاطر آية : 14.
3 سورة مريم آية : 42.
4 سورة البقرة آية : 130.
5 سورة فاطر آية : 14.
6 سورة الأحقاف آية : 6.

ج / 1 ص -287-

ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها، فتكفر بشرك من يشرك بها، ويؤيده قوله تعالى: { ِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} 1 وما ثبت في "الصحيحين" عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله "2 فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار، فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت. قوله: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} 3 هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكا عند من خاطبه به، فيقول: ولا ينبئك مثل خبير.


ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله، لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبره خبر صدق، لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} 4 والخبير: العالم ببواطن الأمور.
مسألة: هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟


اختلف في ذلك على قولين:

القول الأول: أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم حين زيارة القبور: "والسلام عليكم" دعاء لا يقصد به المخاطبة، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء في الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره



1 سورة الأنبياء آية : 98.
2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب الأذان, باب فضل السجود, 1/260), ومسلم (كتاب الإيمان, باب معرفة طربق الرؤية, 1/167).
3 سورة فاطر آية : 14.
4 سورة النساء آية : 122.

ج / 1 ص -288-

ابن القيم: بأن الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام1 وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه، فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام، فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعوهم، فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعوهم، لأن هذا كفر بالقرآن، فتبين بهذا أنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم " السلام عليكم دار قوم مؤمنين "2 وبين هذه الآية.


وأما قول: " ولو سمعوا " فمعناه: لو سمعوا فرضا ما استجابوا لكم، لأنهم لا يستطيعون.
القول الثاني: أن الأموات يسمعون. واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة. وبما ثبت في "الصحيح" من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم3.


والجواب عن هذين الدليلين: أما الأول، فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في التشهد4 وهو لا يسمعهم قطعا.



1 "الاستذكار" لابن عبد البر (الجزء الأول, باب جامع الوضوء).
2 من حديث عائثة, رواه: مسلم (كتاب الجنائز, باب ما يقال عند دخول القبور, 2/ 669).
3 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب الميت يسمع خفق النعال, 1/ 410).


4 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب الاستئذان, باب السلام اسم من أسماء الله تعالى, 4/136), ومسلم (كتاب الصلاة, باب التشهد في الصلاة, 1/301).

ج / 1 ص -289- وفي الصحيح عن أنس، قال: " شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكسرت رباعيته.


أما الثاني، فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف، المشيعين بعد الدفن. وعلى كل، فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
قوله: "وفي الصحيح": سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.


قوله: "أحد": جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة، لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفا عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدينة النبوية لحاجة تمييزها; فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم كما أشار الله إلى ذلك بقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } 1 وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.


وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصر ما دمنا على هذه الحال، إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعا.
قوله: "شج": الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.


قوله: "وكسرت رباعيته": السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين.



1 سورة آل عمران آية : 152.

ج / 1 ص -290- فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 1 "2.


قوله: " فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "3 الاستفهام يراد به الاستبعاد، أي: بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قوله: "يفلح" من الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
قوله: " فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 4 أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم و (شيء): نكرة في سياق النفي، فتعم.


قوله: (الأمر) أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له فيهم شيء. ففي الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله- سبحانه- في كلمة واحدة: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ "5 فإذا كان الأمر كذلك؟ فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء" كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء، فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه، لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فكيف يملك لغيره؟ ! ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه. فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي صلى الله عليه وسلم فلاحهم، قيل له: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 6.





1 سورة آل عمران آية : 128.
2 رواه: البخاري معلقا بصيغة الجزم (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء , 3/108), ومسلم موصولا (كتاب الجهاد, باب غزوة أحد, 3/1417).
3 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
4 سورة آل عمران آية : 128.


5 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
6 سورة آل عمران آية : 128.

ج / 1 ص -291- وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:....


والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: " والله، لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك "1 فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوما كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟! وما دام الإنسان لم يمت، فكل شيء ممكن، كما أن المسلم- نسأل الله الحماية- قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.


فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصيا.
قوله: "فنزلت": الفاء للسببية، وعليه، فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: " كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟ "2.
قوله: "وفيه": أي: الصحيح. قوله: " إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر "3 قيد مكان الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.



1 من حديث جندب, رواه: مسلم (كتاب البر والصلة, باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله, 4/2023).
2 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3002) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/253).
3 البخاري : المغازي (4070) , وأحمد (2/147).



ج / 1 ص -292- اللهم العن فلانا وفلانا، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }"1.
وفي رواية: " يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ }"2.


قوله: "يقول: اللهم العن فلانا وفلانا": اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.
و "فلانا وفلانا": بينه في الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد": أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.


قوله: "فأنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } هنا قال: "فأنزل"، وفي الحديث السابق قال: "فنزلت"، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، وقوله: " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ " ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.


وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم، فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية; لأن القلوب بيد الله- سبحانه وتعالى-، ولو أن الأمر كان على ظن النبي صلى الله عليه وسلم لبقي هؤلاء على الكفر حتى



1 رواه: البخاري (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء, 3/108).
2 رواها: البخاري (كتاب المغازي, باب ليس لك من الأمر شيء, 3/108) - وهي مرسلة عن سالم بن عبد الله, وقد وصلها أحمد; كما في "المسند" (2/93)-, والترمذي (رقم 3004), وابن جرير في "تفسيره" (4/58); من طريق عمر بن حمزة, عن سالم, عن ابن عمر. وعمر ضعيف; كما في "التقريب" (2/53).



ج / 1 ص -293- وفيه عن أبي هريرةرضي الله عنهقال: " قام

الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة، لم يبق إلا العذاب.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، والله- سبحانه- يمن على من يشاء من عباده.


وليس بعيدا من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل1 الأنصاري، حيث كان معروفا بالعداوة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيدا، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم، فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فأخبروا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: " هو من أهل الجنة " فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة، فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمة، ويضل من يشاء لحكمة، فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله- عز وجل- من أي إنسان.
قوله: "قام": أي: خطيبا.



1 رواه: ابن هشام (2/90), وأحمد في "المسند" (5/428, 429). وفي "حاشية زاد المعاد" (3/201): "وسنده قوي".

ج / 1 ص -294- رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } 1 فقال : يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم،.

قوله: "أنزل عليه": أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: (وأنذر عشيرتك. قوله: (وأنذر): أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف. قوله: (عشيرتك): العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.


قوله: (الأقربين): أي: الأقرب فالأقرب، فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا. ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين
وقوله: "حين أنزل عليه" يفيد أنه لم يتأخر صلى الله عليه وسلم بل قام، فقال: "يا معشر قريش!" أي: يا جماعة قريش. وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم
قوله: "أو كلمة نحوها": أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه ف "أو": للشك والتردد.


قوله: "اشتروا أنفسكم": أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.



1 سورة الشعراء آية : 214.

ج / 1 ص -295- لا أغني عنكم من الله شيئا.
يا عباس بن عبد المطلب!.....


وفي قوله: "اشتروا أنفسكم" من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر، لأن المشتري يكون راغبا. قوله: لا أغني عنكم من الله شيئا: هذا هو الشاهد، أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم، لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك، فقال: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً } 1 قوله: "شيئا": نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء.


قوله: "يا عباس بن عبد المطلب": هو عم النبي صلى الله عليه وسلم وعبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وعباس، بالضم، لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافا ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.


فإن قيل: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله- عز وجل-؟ فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي صلى الله عليه وسلم لكن اشتهر بعبد المطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب 2،3


1 سورة آية : 21-22.
2 البخاري : الجهاد والسير (2864) , ومسلم : الجهاد والسير (1776) , والترمذي : الجهاد (1688) , وأحمد (4/280 ,4/281 ,4/289 ,4/304).
3 من حديث البراء بن عازب, رواه: البخاري (كتاب الجهاد, باب من صف أصحابه عند الهزيمة, 2/340), ومسلم (كتاب الجهاد, باب غزوة حنين, 3/1400).

ج / 1 ص -296- لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا. ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "1.


فلو فرض أن لك أبا يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى; فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقرارا، ولكنه خبر عن أمر واقع; كما لو قلت: كفر فلان، ونافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجودا غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: لا أغني عنك من الله شيئا: أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك; فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أحد شيئا حتى عن أبيه وأمه.


قوله: يا صفية عمة رسول الله!: يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب. قوله: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت: أي: اطلبيني من مالي ما شئت; فلن أمنعك لأنه صلى الله عليه وسلم مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: لا أغني عنك من الله شيئا.


فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته; فما بالك بمن هم أبعد؟! فعدم إغنائه عنهم شيئا من باب أولى; فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق، لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق، إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان به واتباعه.



1 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب وأنذر عشيرتك الأقربين , 3/272), ومسلم (كتاب الإيمان, باب وأنذر عشيرتك الأقربين , 1/192).
ج / 1 ص -297- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.


أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه، فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن النجاة من عذاب الله.
ففي الحديث امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه في قوله تعالى: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } 1 فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، فدعا وعم وخصص، وبين أنه لا ينجي أحدا من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.


وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئا، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير الآيتين: وهما آيتا الأعراف، وسبق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
الثانية: قصة أحد: يعني: حيث شج النبي صلى الله عليه وسلم.. الحديث.



1 سورة الشعراء آية : 214.

ج / 1 ص -298- الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.


الثالثة: قنوت سيد المرسلين... إلخ: أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وأصحابه سادات الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم، فكيف ينقذون غيرهم؟! وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات؟ فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجؤون إلى الله- سبحانه- في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله، فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟! فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.


الرابعة: أن المدعو عليهم كفار: تؤخذ من قوله تعالى: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ }، فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفارا.
وهذه المسألة- أي أن المدعو عليهم كفار- ترمي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق، فقد قطع الله- سبحانه وتعالى- أن يكون له من الأمر شيء لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفارا، أليس يملك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم؟


نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئا، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم، لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذتي كان فيها هؤلاء كفارا لم يملك النبي شيئا بالنسبة إليهم.



ج / 1 ص -299- الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } السابعة: قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ }، فتاب عليهم فآمنوا.


الخامسة:
أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار...: أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } وإلا، فهم شجوا النبي صلى الله عليه وسلم ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضا حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.


السادسة: أنزل الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 1 أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ } 2 فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قطع عنه هذا الشيء، فغيره من باب أولى.


السابعة: قوله: { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } 3 فتاب عليهم، فآمنوا: وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته، فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا، لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمررضي الله عنهقبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئا من أمر الله.



1 سورة آل عمران آية : 128.
2 سورة آل عمران آية : 128.
3 سورة آل عمران آية : 128.

ج / 1 ص -300- الثامنة: القنوت في النوازل


الثامنة: القنوت في النوازل: وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، فإنه ينبغي أن يُدعى لهم حتى تنكشف. وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره1؛ إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر 2رضي الله عنه ولم يقنت، ولأنه شهادة، فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.


وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله؛ فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف؛ فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا. وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك؛ فإنه يقنت اتباعا للسنة في هذا الأمر.


ثم من الذي يقنت: الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة. وقيل: يقنت كل إمام مسجد. وقيل: يقنت كل مصل،



(1) رواه: أحمد في "المسند" (1/ 301)، وأبو داود (كتاب الصلاة، باب القنوت في الصلاة، رقم 1443)- وسكت عنه-، والحاكم (1/ 255). وصححه ووافقه الذهبي.
(2( رواه: البخاري (كتاب الطب، باب ما يذكر في الطاعون، 4/ 41)، ومسلم (كتاب السلام، باب الطاعون والطيرة، رقم 2218).

ج / 1 ص -301- التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.


وهو الصحيح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" 1، وهذا يتناول قنوته صلى الله عليه وسلم عند النوازل.
·التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم: وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام; فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟.


الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة; كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز; لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس "2.
مسألة: هل الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموما; فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة3 عموما، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.



(1) من حديث مالك بن الحويرث، رواه: البخاري (كتاب الأذان، باب الأذان للمسافرين، 1/212).
2 من حديث معاوية بن الحكم السلمي, رواه: مسلم (كتاب المساجد, باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته, 1/381, 382).
3 ولفظ ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه; أنه قال: "لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم, فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده; فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار". أخرجه: البخاري في (الأذان, باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد, 797), ومسلم في (المساجد, باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة, 676),.

ج / 1 ص -302-


أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار; فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بالهلاك، بل قال: " اللهم ! عليك بهم، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "1 وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله عن ظلمه.


فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه. وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: "اللهم أحصهم عددا، ولا تبق منهم أحدا"2 على جواز ذلك; لأنه وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن الأمر وقع كما دعا; فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.


فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة; فقد يكون لها أسباب خاصة، لا تتأتى في كل شيء. ثم إن خبيبا دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.


وفيه أيضا إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: "اللهم! سلط عليه كلبا من كلابك"3 فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.



1 من حديث ابن مسعود, رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب سورة الدخان, 3/289), ومسلم (كتاب صفات المنافقين, باب الدخان, 4/2155).
2 من حديث أبي هريرة, رواه: البخاري (كتاب المغازي, 3/89).
3 رواه; ابن عساكر في ترجمة عتبة بن أبي لهب. وفيه عنعنة ابن إسحاق. ورواه: الحاكم في "المستدرك" من طريق أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه (كتاب التفسير, تفسير سورة أبي لهب, 2/539), وقال: "صحيح الإسناد,. ولم يخرجاه", ووافقه الذهبي, وحسنه ابن حجر في "فتح الباري" (4/39).

ج / 1 ص -303- العاشرة: لعن المعين في القنوت.


الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } 1.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر; بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.


العاشرة: لعن المعين في القنوت هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه; فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبدا; فهذا فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.


الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشا; فعم، ثم خص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون: أي: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمدا جن، كيف يجمعنا وينادينا هذا النداء؟ !


وقوله: "وكذلك لو يفعله مسلم الآن": أي: لو أن إنسانا جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لقالوا: مجنون. إلا إذا كان معتادا عند الناس، قال تعالى: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } 2، وقال تعالى: { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ } 3 فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم إنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.



1 سورة الشعراء آية : 214.
2 سورة آل عمران آية : 140.
3 سورة النور آية : 44.

ج / 1 ص -304- الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: " لا أغني عنك من الله شيئا " حتى قال: " يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئا "1 فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق. ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم; تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.


الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئا"...: صدق رحمه الله فيما قال; فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئا; تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد; لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلا للتقليد، يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا على المنكر بأنه لا يعرف حق الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه عند الله، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له; لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد،{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ }2 ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما


1 البخاري : الوصايا (2753) , ومسلم : الإيمان (204 ,206) , والنسائي : الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/448) , والدارمي : الرقاق (2732).
2 سورة البقرة آية : 145.

ج / 1 ص -305-


دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله - سبحانه - على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق; فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.





المصدر :


كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس