عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 13-10-2007, 07:38PM
أبو عبد الرحمن السلفي1
عضو غير مشارك
 
المشاركات: n/a
2- الثاني أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في استحقاقه الإلهية والعبادة وحده دونما سواه, فإن العبادة صُرفت لغير الله، وهو جل وعلا أكبر وأعظم وأجل من كلِّ هذه الآلهة التي صرفت لها أنواع من العبادة، فالتكبير يرجع إلى الربوبية وهو الأول, وهذا التكبير يرجع إلى استحقاقه إلى الإلهية.
3- وتكبير وهو الثالث اعتقاد -كما قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)- أنَّ ربك أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته، فإنه في أسمائه أكبر من كل ذوي الأسماء، الأشياء لها أسماء، لكن أسماء الله جل وعلا أكبر من ذلك، أكبر يرجع الكبر هنا لأي شيء؟ لما فيها من الحسن، والبهاء، والعظمة، والجلال، والجمال ونحو ذلك، وكذلك في الصفات، فصفاته عُلا، كما قال جل وعلا ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[الروم:27]، وقال جل وعلا ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾[النحل:60] يعني له الاسم الأعلى، وله النعت الأعلى، وقال جل وعلا ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾[الإخلاص:4]، وقال جل وعلا ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم:65]، ونحو ذلك، فهو جل وعلا أكبر من كل شيء في أسمائه وصفاته.
4- كذلك قوله (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني في قضائه وقدره الكوني، فالله جل وعلا في قضائه وقدره الكوني أكبر؛ يعني أن قضاءه وقدره له فيه الحكمة البالغة، وأما ما يقضيه ويقدّره العباد لأنفسهم، يقدر الأمر بنفسه، ويفعل الأمر لنفسه، فإن هذا يناسب نقص العبد، والله جل وعلا في قضائه وقدره بما يحدثه في كونه فهو أكبر.
5- الأخير تكبير الله جل وعلا في شرعه وأمره.
قال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) تدخل فيها هذه الخمسة، الأخير يعني اعتقاد الله جل وعلا أكبر فيما أمر به ونهى، وفيما أنزله من هذا القرآن العظيم، أكبر وأعظم من كل ما يشرعه العباد، أو يحكم به العباد، أو يأمر العباد به و ينهون عنه، ولهذا صارت هذه الكلمة (الله أكبر) من شعارات المسلمين العظيمة، يدخلون في الصلاة بها، ويرددونها في الصلاة، وهي من الأوامر الأولى التي جاءت للنبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى له (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ).
إذا لحظت هذه المعاني الخمسة، وكل واحدة منها لها أدلة كثيرة من القرآن، تدبّر وأنتَ تقرأ القرآنَ، الآيات التي فيها ذكر تكبير الله تجد أن بعضها فيه ذكر الربوبية، وبعض الآيات فيه ذكر الألوهية، وبعضها فيه ذكر الأسماء والصفات، وبعضها فيه ذكر قضاء الله الكوني؛ أفعال الله جل وعلا، وبعضها فيه شرع الله جل وعلا، إذا اجتمعت هذه الخمس رأيت أن هذا التفسير من أحسن وأعظم ما يكون.
قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) إذا اجتمعت هذه الخمس في الفهم، قال ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظِّمْه بالتوحيد) لأن معاني التكبير هي معاني التعظيم، وتلك المتعلقات هي التوحيد بأنواعه، فصار تفسير الشيخ هنا بقوله ((وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عظِّمه بالتوحيد) وهو من التفاسير المنقولة عن السلف، أنه صار ها هنا اختيارا مناسبا ملائما واضح الدلالة.
قال بعدها ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، فسّر الثياب بالعمل، الثوب أصله في اللغة ما يثوب إلى صاحبه، يعني ما يرجع إلى صاحبه، سمي اللباس -سواء كان قميصا أو إزارا أو كان سراويل، أو نحو ذلك، أو كانت عمامة-، يسمى ثوبا، لأنه يرجع إلى صاحبه في التباسه به حال لبسه، هذا أصل الثوب، ولهذا يقال للعمل أيضا ثوب، وتجمع على ثياب، باعتبار أنه يرجع إلى صاحبه، لهذا فسر قوله تعالى هنا ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك) فسر الثياب بالأعمال، لأنها راجعة إلى صاحبها باعتبار أصلها اللغوي، أو يقال إن العمل مشبه بالثوب لملازمته لصاحبه، فالثوب يلازم لابسه، والعمل كذلك يلازم عامله، كما قال جل وعلا ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾[الإسراء:13]، الطائر هو ما يطير منه من العمل من خير أو شر، أُلزم به، صار ملازما له كملازمة ثوبه له، هنا اختار الشيخ أحد التفسيرين المنقولين عن السلف، وهو أن معنى ((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر أعمالك عن الشرك)، وفُسِّرت بِـ:طهّر ثيابك من النجاسات، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) هذا التفسير الأعم أنسب ها هنا، لأنه يناسب ما قبله وما بعده، فإن ما قبله فيه الإنذار وتعظيم الله بالتوحيد، وما بعده فيه تركٌ للرُّجْزِ وهجر للأصنام والبراءة منها، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) فاتساق الكلام وكونه جميعا جاء بمعنى مترابط يقضي بأن يختار تفسير الثياب بالأعمال، لأن ما قبله (قُمْ فَأَنذِرْ) لينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يعني وعظمه بالتوحيد، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)، ثم قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) التي هي الأصنام والأوثان، أتركها وتبرأ منها، الجميعُ في البراءة من الشرك، والبعد عن الشرك، والنهي عنه، والدعوة والالتزام بالتوحيد، بقي قوله (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) لها تفسيران؛ تفسير للثياب بالثياب المعروفة؛ ثياب تطهرها من النجاسة، وثيابك التي هي الأعمال، طهرها من الشرك، فصار الأنسب للثياب أن يفسر (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) بطهر أعمالك من الشرك، وهذا مما يعتني به المحققون من المفسرين، أنهم يختارون في التفسيرِ التفسيرَ الذي يناسب السياق، يناسب ما بعده وما قبله، واللغة لها محامل كثيرة، ولهذا اختلف السلف في تفسيراتهم.
قال ((وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرجز الأصنام وهجرها تركها وأهلها والبراءة منها وأهلِها) يعني ترك الأصنام، وترك أهلها، والبراءة من الأصنام، والبراءة من أهلها، قال (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرّجز: اسم عام لما يعبد من دون الله، قد يكون صنما، وقد يكون وثنا، قال ها هنا (الرجز الأصنام) يعني قوله (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي الأصنام أُتْرك، ويلزم من ذلك أن يترك أهلها ويتبرأ منها ومن أهلها، (الرجز الأصنام) الأصنام: جمع صنم، والصنم اسم لما عُبِد من دون الله، مما كان على هيئة صورة، عند كثير من العلماء، يعني الصنم يكون مصور على هيئة صورة؛ صورة كوكب، أو صورة جني، أو صورة شجرة، أو صورة آدمي، أو صورة نبي، أو صورة صالح، أو طالح، أو صورة حيوان، أن يكون على هيئة صورة، فإذا كان هناك شيء مصنوع على هيئة صورة -إما صورة كوكب, أو صورة مما هو على الأرض مما يعبد من دون الله- صار صنما، فإن كان ما يعبد من دون الله ليس على هيئة صورة صار اسمه الوثن لهذا قال عليه الصلاة والسلام «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد» لا يصلح صنما يعبد, لأن القبر لا يكون على هيئة مصورة، قال (وثنا يعبد) لأن الوثن اسم لما يعبد من دون الله على هيئة صورة، أو على غير هيئة صورة، الوثن: اسم لما يعبد من دون الله إذا لم يكن مصورا على هيئة صورة. قال بعض أهل العلم الوثن قد يكون أيضا على هيئة صورة، فيكون الصنم ما له صورة، والوثن: يشمل ما كان له صورة وما لم يكن له صورة. وهذا هو القول الثاني، فيكون كل صنم وثنا، وليس كل وثن صنما، وأخذوا هذا من قوله تعالى في سورة العنكبوت، قال جل وعلا مخبرا عن قول إبراهيم لقومه ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا﴾[العنكبوت:17]، فحصر فقال (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا) قد بين الله جل وعلا في آيات أخر أن إبراهيم سألهم عن عبادتهم قال ﴿مَا تَعْبُدُونَ﴾[الشعراء:70]، قالوا ﴿قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ﴾[الشعراء:71]، صار الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، فهذا القول أدق وهو الذي أختاره أن الوثن يشمل الصنم وغير الصنم، يعني ما له صورة مما عبد من دون الله وما ليس له صورة، وأما الصنم فهو في الغالب ما كان على هيئة صورة، قال (والرجز الأصنام) ومعلوم أنه إذا نهاهم عن عبادة الأصنام، فإنه بذلك ينهاهم عن عبادة الأوثان، لأن العلة فيهما واحدة، وهي عبادة غير الله جل وعلا، وهجرها تركها وأهلها، والبراءة منها وأهلها.
قال (أخذ على هذا عشر سنين يدعو إلى التوحيد ) يعني بذلك أنه مكث عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو قومه، ويدعو عشيرته الأقربين وجوبا لقوله تعالى ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء:214]، يدعو إلى التوحيد قبل أن تنزل الفرائض، لم تنزل فريضة الصلاة على هذا النحو، ولا فريضة الزكاة على هذا النحو، ولا سائر التشريعات على هذا النحو، لم تحرم الخمر، ولم يحرم الزنا، ولم يحرم الربا في تلك المدة، وهذا معنى قوله (أخذ على هذا) يعني على الدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، (أخذ على هذا) على الإنذار عن الشرك، والدعوة إلى التوحيد، أخذ عشر سنين يدعو إلى التوحيد، ما كان يدعو فيها إلى الأعمال، لا إلى صلاة ولا إلى زكاة مع أنه كان له صلاة في ذلك، قال كثير من أهل العلم كانت الصلاة المفروضة في العشر سنين تلك صلاتين في اليوم والليلة، أحدها في إقبال النهار، والأخرى في إقبال الليل، يعني أحدها الفجر، والثاني المغرب، وحملوا عليه قوله تعالى في سورة طه ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾[طه:130]، كذلك قوله في سورة ق ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ﴾[ق:39]، ونحو ذلك من الآيات، أما الصلوات الخمس فلم تُفرض إلا بعد ذلك.
قال (وبعد العشر عُرج به إلى السماء)كانت الصلاة ركعتين، أول النهار وآخره، على قول كثير من العلماء، قال (وبعد العشر عرج به إلى السماء) المعراج معناه الصعود، (عُرج به إلى السماء) يعني صُعد به إلى السماء، ومن أسماء السّلم والمِرقاة التي يُرتقى عليها المعراج، فمعنى المعراج السلم الذي يُصعد عليه، (عُرج به) أي صُعد به، ليلة المعراج يعني الليلة التي صُعد بالنبي صلى الله عليه وسلم فيها على المعراج يعني على السلم، تسمية الليلة بوسيلة الصعود وهو المعراج، عليه الصلاة والسلام أسري به تلك الليلة من مكة إلى بيت المقدس، وبعد ذلك (عُرج به)، الدابة رُبطت عند بيت المقدس، ثم أخذه جبريل وعرج به بالمعراج -يعني بالسلم الخاص الذي يصعد عليه- إلى السماء، (إلى السماء) المقصود به جنس السماء، يعني السماوات- حتى ارتفع في مستوى يسمع فيه [صريف الأقلام]( ) عليه الصلاة والسلام، حتى إنه قرُب من ربه جل وعلا، وكلمه ربه جل وعلا بدون واسطة، رأى عليه الصلاة والسلام تلك الليلة نور الله جل وعلا، ورأى الحجاب الذي احتجب الله جل وعلا به عن خلقه فلا يرونه، كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل هل رأيت ربك؟ -يعني ليلة المعراج- فقال: «رأيت نورا». وفي رواية أخرى قال: «نور أنّا أراه». يعني ثَم نور فكيف أراه؟ وهذا من الفضل العظيم له عليه الصلاة والسلام؛ أنه ارتفع من الأرض إلى ما بعد السماء السابعة، ورأى الجنة، ورأى النار، في ليلة، ورجع، والسماء الواحدة لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وما بين السماء والسماء لا يقطعها القاطع إلا بمسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تصل إلى السماء السابعة، ثم بعد ذلك الماء، وبعد ذلك الكرسي إلى آخره( )، وهو عليه الصلاة والسلام لا شك أن المعراج له عليه الصلاة والسلام مما يدل على عظم قدره عند ربه جل وعلا، لهذا قال تعالى في الإسراء وهو من العجب بما كان
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا﴾[الإسراء:1]، يعني في بعض الليل من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم رجع، هذا من مكة إلى بيت المقدس محل عجب عند العرب ولا شك أنه محل عجب، حيث ما كان عندهم من المركوبات، فكيف من بيت المقدس إلى ما بعد السماء السابعة، ثم يرجع إلى بيت المقدس، ثم يرجع من بيت المقدس إلى مكة، وفراشه لم يبرد بعد، هذا لاشك أنه مما أكرم الله جل وعلا به نبيه عليه الصلاة والسلام.
قال (فرضت عليه الصلوات الخمس) يعني على هذا النحو، بعد أن فرضت عليه خمس صلوات وأصبح صباحه في مكة، نزل عليه جبريل يعلمه أوقات الصلوات وأنواعها.
قال (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة)يعني صلى السنة العاشرة، الحادية عشر، الثانية عشر، من البعثة، ثم بعد ذلك أمر بالهجرة إلى المدينة.
وعلى هذا نقف أسأل الله أن ينفعني وإياكم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

والهجرةُ: الانتقالُ مِنْ بلدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، والهجرةُ فَرِيضةٌ على هذه الأمّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإسلامِ، وهي باقيةٌ إلى أنْ تقومَ الساعةُ، والدليلُ قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾[النساء:97-99]، وقوله تعالى ﴿يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[العنكبوت:56]، قالَ البَغَوِيُّ رحمهُ اللهُ: سببُ نزولِ هذه الآيةِ في المسلمين الذين بمكَّةَ لم يهاجِرُوا؛ ناداهُم اللهُ باسمِ الإيمانِ.
والدليلُ على الهجرةِ من السُّنَّةِ قولُهُ صلى الله عليه وسلم «لا تَنْقَطِعُ الهجرَةُ حتَّى تَنْقَطعَ التَّوبةُ ولا تنقطعُ التّوبةُ حتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا».
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم إنا نسألك علما نافعا وعملا صالحا، ودعاء مسموعا، وقلبا خاشعا، أما بعد:
قال الإمام رحمه الله تعالى (فصلى في مكة ثلاث سنين وبعدها أمر بالهجرة إلى المدينة) صلى في مكة عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين، يعني بعد أن فرضت عليه الصلاة، صلى الصلوات الخمس على هذا النحو الذي نصليه، قد حُدّت صفاتها، أركانها، واجباتها، وحُدَّت أوقات الصلوات كليا، جاء إلى النبي جبريل وبين له أوقات الصلوات، بعد ثلاث سنين من فرض الصلاة هاجر النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، بعد أن أُمر بذلك وبعد هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ابتدأ التاريخ الهجري كما هو معروف, لما أتى إلى هذا الموضع، فسّر الهجرة فقال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) هذا تعريفها الاصطلاحي, والهجرة في اللغة الترك, وفي الشرع ترك ما لا يحبه الله ويرضاه إلى ما يحبه ويرضاه, ويدخل في هذا المعنى الشرعي هجر الشرك, يدخل فيه ترك محبة غير الله ورسوله, يدخل فيه ترك بلد الكفر, لأنّ المُقام فيها لا يرضاه الله جل وعلا ولا يحبه, أما في الاصطلاح قال (الهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام)؛ الانتقال يعني ترك بلد الشرك والذهاب إلى بلد الإسلام, وسبب الهجرة يعني سبب إيجاب الهجرة, أو سبب مشروعية الهجرة أن المؤمن يجب عليه أن يُظهر دينَه، معتزا بذلك, مبينا للناس، مخبرا أنه يشهد شهادة الحق؛ لأن الشهادة لله بالتوحيد ولنبيه بالرسالة فيها إخبار الغير, وهذا الإخبار يكون بالقول والعمل, وإظهار الدين به يكون إخبار الغير عن مضمون الشهادة ومعنى الشهادة, فلهذا كانت الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام واجبة إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه, لأن إظهار الدين واجب في الأرض, وواجب على المسلم أن يظهر دينه, وأن لا يستخفي بدينه, فإذا كان إظهاره لدينه غير ممكن في دار وجب عليه أن يتركها, يعني وجب عليه أن يهاجر, قال (الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) بلد الشرك هي كل بلد يظهر فيها الشرك ويكون غالبا؛ إذا ظهر الشرك في بلد وصار غالبا كثيرا أكثر من غيره, صارت تسمى بلد شرك, سواء كان هذا الشرك في الربوبية, أو كان في الإلهية, أو كان في مقتضيات الإلهية من الطاعة والتحكيم ونحوها. بلد الشرك هي البلد التي يظهر فيه الشرك ويكون غالبا.
هذا معنى ما قرره الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله حينما سئل عن دار الكفر ما هي؟ قال: دار الكفر هي الدار التي يظهر فيها الكفر ويكون غالبا.
إذن إذا ظهر الشرك في بلدة وصار ظهوره غالبا, معنى ذلك أن يكون منتشرا ظاهرا بينا غالبا الخير, فإن هذه الدار تسمى بلد شرك, هذا باعتبار ما وقع وهو الشرك, أما باعتبار أهل الدار فهذه مسألة فيها خلاف بين أهل العلم أن يُنظر في تسمية الدار بدار إسلام ودار شرك إلى أهلها.
وقد سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن بلد تظهر فيها أحكام الكفر, وتظهر فيها أحكام الإسلام, فقال هذه الدار لا يحكم عليها دار كفر, ولا أنها دار إسلام, بل يعامل المسلم فيها بحسبه، ويعامل فيها الكافر بحسبه.
وقال بعض العلماء الدار إذا ظهر فيها الأذان وسُمع وقت من أوقات الصلوات فإنها دار إسلام, لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يغزو قوما أن يصبحهم, قال لمن معه: «انتظروا» فإن سمع أذانا كفّ، وإن لم يسمع أذانا قاتل، وهذا فيه نظر, لأن الحديث على أصله، وهو أن العرب حينما يُعلون الأذان، معنى ذلك أنهم يقرون ويشهدون شهادة الحق لأنهم يعلمون معنى ذلك، وهم يؤدون حقوق التوحيد الذي اشتمل عليه الأذان، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ورفعوا الأذان بالصلاة، معنى ذلك أنهم انسلخوا من الشرك وتبرؤوا منه، وأقاموا الصلاة، وقد قال جل وعلا ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾[التوبة:11]، (فَإِنْ تَابُوا) من الشرك، (وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)، ذلك لأن العرب كانوا يعلمون معنى التوحيد، فإذا دخلوا في الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، دل ذلك أنهم يعملون بمقتضى ذلك، أما في هذه الأزمنة المتأخرة فإن كثيرين من المسلمين، يقولون لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا يعلمون معناها، ولا يعملون بمقتضاها، بل تجد الشرك فاشيا فيهم، ولهذا نقول إن هذا القيد أو هذا التعريف وهو أن دار الإسلام هي الدار التي يظهر فيها الأذان بالصلوات، أنه في هذه الأزمنة المتأخرة أنه لا يصح أن يكون قيدا، والدليل على أصله وهو أن العرب كانوا ينسلخون من الشرك، ويتبرؤون منه ومن أهله، ويقبلون على التوحيد، ويعملون بمقتضى الشهادتين، بخلاف أهل هذه الأزمان المتأخرة.
والأظهر هو الأول في تسمية الدار، ولا يلزم من كون دارٍ ما دار شرك أو دار إسلام، أن يكون هذا حكم على الأفراد الذين في داخل الدار، بل قلنا إن الحكم عليها بأنها دار كفر، أو دار شرك هذا في الأغلب بظهور الشرك والكفر، ومن فيها يعامل كل بحسبه، خاصة في هذا الزمن، لأن ظهور الكفر، وظهور الشرك بكثير من الديار، ليس من واقع اختيار أهل تلك الديار، بل هو ربما كان عن طريق تسلط، إما الطرق الصوفية مثلا، أو عن تسلط الحكومات، أو نحو ذلك، كما هو مشاهد معروف، لهذا نقول إن اسم الدار على نحو ما بينت وأما أهلها يختلف الحال. قال (والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) الهجرة من حيثُ مكانُها تنقسم إلى هجرة عامة وإلى هجرة خاصة.
الهجرة العامة: هي التي عرّفها الشيخ هنا ترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام، الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، بلد الشرك أيَّ بلد إلى أن تطلع الشمس من مغربها، أيَّ بلد ظهر فيها الشرك، وظهر فيها أحكام الشرك، وكان ذلك غالبا، فإن الهجرة منها تسمى هجرة، وهذه الهجرة عامة، من حيث المكان يمكن أن تكون متعلقة بأي بلد.
أما الهجرة الخاصة: فهي الهجرة من مكة إلى المدينة، ومكة لما تركها النبي عليه الصلاة والسلام تركها وهي دار شرك، وذهب إلى المدينة، لأنه فشى فيها الإسلام فصار كل بيت من بيوت المدينة دخل فيه الإسلام، فصارت دار إسلام، فانتقل من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، هاجر هجرة خاصة، وهذه الهجرة الخاصة هي التي جاء فيها قوله عليه الصلاة والسلام «لا هجرة بعد الفتح بل جهاد ونية» كما ثبت في الصحيح, فقوله (لا هجرة بعد الفتح) يعني لا هجرة من مكة، الهجرة الخاصة هذه من مكة إلى المدينة.
أما الهجرة العامة -الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام- فهي باقية إلى طلوع الشمس من مغربها؛ إلى قيام الساعة، إذا وجد بلد شرك، ووجد بلد إسلام، توجب الهجرة، هذا من حيث المكان.
ومن حيث الحكم، فإن الهجرة تارة تكون واجبة، وتارة تكون مستحبة؛ تكون الهجرة واجبة، يعني من بلد الشرك إلى بلد الإسلام: تكون واجبة: إذا لم يمكن للمسلم المقيم بدار الشرك أن يظهر دينه، إذا ما استطاع أن يظهر التوحيد، ويظهر مقتضيات دينه، والصلاة وإتباع السنة، كل بلد بحسبه؛ بحسب ما فيه من الشرك، يظهر ما يخالف فيه هذا البلد، ويكون متميزا فيهم، إذا لم يستطع ذلك، فإن الهجرة تكون واجبة عليه، وعليه حمل قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾[النساء:97]، يعني لم نستطع إظهار الدين، الاستضعاف هنا بمعنى عدم استطاعة إظهار الدين ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:97]، فدل هذا على أنها واجبة، لأنه توعدها عليهم بجهنم، فمعنى هذا أن ترك الهجرة إذ لم يستطع إظهار الدين أنه محرم، وأن الهجرة واجبة.
القسم الثاني المستحب: وتكون الهجرة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مستحبة، إذا كان المؤمن في دار الشرك يستطيع أن يظهر دينه، تكون مستحبة، وذلك لأن الأصل الأول من الهجرة أن يتمثل المؤمن من إظهار دينه، وأن يعبد الله جل وعلا على عزة، قد قال جل وعلا ﴿يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[العنكبوت:56]، نزلت في من ترك الهجرة، وناداهم باسم الإيمان. هذه الأحكام متعلقة بالهجرة من دار الكفر والشرك إلى دار الإسلام، وهناك هجرة أخرى من دار يكثر فيها المعاصي والبدع إلى دار ليس فيها معاصي وبدع أو تقل فيها المعاصي والبدع، وهذه ذكر الفقهاء -فقهاء الحنابلة رحمهم الله- ذكروا أنها مستحبة، وأن البلد إذا كثر فيها الكبائر والمعاصي، فإنه يستحب له أن يتركها إلى دار يقل فيها ذلك أوليس فيها شيء من ذلك، لأن بقاءه على تلك الحال مع أولئك، يكون مع المتوعدين بنوع من العذاب الذي يحيط بأهل القرى الذين ظلموا.
وقد هاجر جمع من أهل العلم من بغداد لما علا فيها صوت المعتزلة وصوت أهل البدع، وكثرت فيها المعاصي والزنا وشرب الخمر، تركوها إلى بلد أخرى، وبعض أهل العلم بقي لكي يكون قائما بحق الله؛ بالدعوة وببيان العلم وبالإنكار وبنحو ذلك، أيضا كثير من العلماء تركوا مصر لما تولت عليها الدولة العبيدية، وخرجوا إلى غيرها، وهذا قد يحمل على أنها من الهجرة المستحبة، أو من الهجرة الواجبة، بحسب الحال في ذلك الزمن.
قال هنا رحمه الله (والهجرة فريضة على هذه الأمة من بلد الشرك إلى بلد الإسلام) فرض بقيد أن لا يستطيع إظهار دينه، فإن كان يستطيع كما ذكرت لك فإن الهجرة في حقه مستحبة. قال (وهي باقية إلى أن تقوم الساعة)يريد إلى قرب قيام الساعة وهو طلوع الشمس من مغربها، كما جاء في الحديث «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».
قال رحمه الله مستدلا (والدليل قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) ظلم النفس بترك الهجرة، لأنهم عصوا الله جل وعلا في ترك الهجرة، ومكة لم يعد في إمكان المؤمنين أن يظهروا دينهم فيها، فقد تسلط الكفار على أهلها، فلم يستطيعوا أعني المؤمنين أن يظهروا دينهم، وهذا هو قائم من أول الدعوة، تسلطوا فترة وكان إظهار الدين في أول الدعوة ليس واجبا، ثم أمروا بذلك بقوله تعالى ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ(94)إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾[الحجر:94-95]، فابتلي من ابتلي من المؤمنين فلم يستطيعوا إظهار دينهم، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة، فأذن بالهجرة إلى الحبشة؛ الهجرة الأولى ثم الثانية وقيل ثَم هجرة ثالثة، ثم لما لم يعد في الإمكان أن يظهر الدين في مكة، وقد قامت بلد الإسلام في المدينة صارت الهجرة متعينة وفرضا من مكة إلى المدينة، لهذا قال جل وعلا هنا (ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا) يعني الملائكة مخاطبين هؤلاء الذين توفتهم الملائكة وقد تركوا الهجرة (فِيمَ كُنتُمْ) يعني على أي حال كنتم (قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) فأجابت الملائكة (قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وهذا إنكار عليهم - أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا - لأن الاستفهام هنا في (أَلَمْ) استفهام للإنكار وضابطه أن يكون ما بعده باطلا، إذا أزلت الهمزة وقرأت ما بعده فإذا كان ما بعده غير صحيح صارت الهمزة إذن للإنكار، إذا تركت الهمزة صار الكلام لم تكن أرض الله واسعة هل هذا صحيح؟ ليس بصحيح، فأرض الله جل وعلا واسعة، ولما أتى الاستفهام في الهمزة بعدها كلام يكون بدون الهمزة باطلا، يصير الهمزة للإنكار، كما هو مقرر في موضعه في كتب شروح المعاني في اللغة قال (فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) فدل على أنهم تركوا الهجرة، فهذه الآية على أن من ترك الهجرة مع القدرة على ذلك أنه مشرك وكافر من دين من أقام معهم، وهذا ليس بصحيح، بل إن هذه الآية في المؤمنين لأنه قال في أولها (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) فهؤلاء ظلموا أنفسهم, ليس الظلم الأكبر, ولكن الظلم الأصغر بترك الهجرة, قال جل وعلا بعدها (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا) رجال مستضعفون, لا يمكنهم أن يعرفوا الطريق، لا يهتدون سبيلا إلى البلد الآخر ولا يستطيعون حيلة, ليس عندهم ما يركبون, وليس عندهم مال ينقلهم, فهم مستضعفين يريدون الهجرة, ولكنهم مستضعفون من جهة عدم القدرة على الهجرة من المال, والمركب, والدليل ونحو ذلك, فقال جل وعلا في هؤلاء (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ويلحق بهؤلاء من لم يستطع الهجرة في هذا الزمن بالمعوّقات القائمة من أنواع التأشيرات وأشباهها, لأن هذا لا يستطيع حيلة, هو يرغب أن يترك بلد الشرك إلى بلد الإسلام, لكن لا يمكنه ذلك لوجود المعوّقات لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا, أو طريقا إلى بلد الإسلام فهؤلاء قال جل وعلا في حقهم (فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) ثم ساق دليلا آخر وهو قوله تعالى (﴿يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[العنكبوت:56]، قال البغوي رحمه الله سبب نزول هذه الآية في المسلمين الذين بمكة لم يهاجروا ناداهم الله باسم الإيمان) تركوا الهجرة فناداهم الله باسم الإيمان, فدل على أن ترك الهجرة لا يسلب الإيمان, فمعنى ذلك أن ترك الهجرة ليس شركا أكبرا, وليس كفرا أكبرا, وإنما هو معصية من المعاصي, لأنه نادى من ترك الهجرة باسم الإيمان, (يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)، قال البغوي نزلت هذه الآية في الذين لم يهاجروا من مكة ناداهم الله باسم الإيمان، دل أن من ترك الهجرة من مكة ليس كفرا ولا شركا, وأن قوله في الآية التي قبلها (مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أن هذا لأجل أنهم تركوا واجبا من الوجبات, وارتكبوا كبيرة من الكبائر, لكن لا يسلب منهم الإيمان بترك الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال (والدليل على الهجرة من السنة قوله صلى الله عليه وسلم «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها») من الواضح أن التوبة لا تنقطع إلا إذا طلعت الشمس من مغربها, وطلوع الشمس من مغربها هو المراد بقوله تعالى في آخر سورة الأنعام ﴿أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾[الأنعام:158]، قال المفسرون إن معنى (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أنه طلوع الشمس من مغربها, فإذا طلعت (لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا), فلا تنفع التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها, كما قال هنا (ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)، فالهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة, والتوبة لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها, وذلك لأن تارك الهجرة حتى طلعت الشمس من مغربها قد ترك فرضا عليه, إذا طلعت الشمس من مغربها ليس ثم عمل ينفع العبد قال ﴿لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا﴾[الأنعام:158]، والعمل بعض الإيمان.

فلمَّا استقرَّ بالمدينةِ أُمِرَ ببقيَّةِ شرائعِ الإسلامِ مثلُ الزكاةِ، والصّومِ، والحجِّ، والأذانِ، والجهادِ، والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ وغيرِ ذلكَ مِنْ شرائعِ الإسلامِ. أخذَ على هذا عَشَرَ سنينَ وبعدَها تُوُفِّيَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ ودينُهُ باقٍ. وهذا دينُه، لا خيرَ إلاَّ دَلَّ الأمَّةَ عليهِ، ولا شَرَّ إلاَّ حَذَّرَهَا منْه، والخيُر الذي دلَّهَا عليْه: التَّوحيدُ، وجميعُ ما يُحِبُّهُ اللهُ ويرضاهُ. والشَّرُّ الذي حَذَّرَهَا منه: الشِّركُ وجميعُ ما يكرَهُهُ اللهُ ويأباهُ. بعثَهُ اللهُ إلى الناسِ كافَّة، وافترضَ طاعَتَه على جميعِ الثّقلينِ: الجنِّ والإنسِ، والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف:158]، وكمَّلَ اللهُ به الدينَ والدليلُ قوله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة:03]. والدليلُ على موتِهِ صلى الله عليه وسلم قولُهُ تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾[الزمر:30-31]. والناسُ إذَا ماتُوا يُبْعَثُونَ، والدليلُ قولُهُ تعالى﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾[طه:55]، وقولُهُ تعالى ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾[نوح:17-18]، وبعدَ البَعْثِ محاسبُونَ ومَجزيُّونَ بأعْمالِهمْ والدليلُ قولُهُ تعالى﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾[النجم:31]، ومَنْ كَذَّبَ بالبعثِ كَفَرَ، والدليلُ قولُهُ تعالى﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[التغابن:07].
قال (فلما استقر بالمدينة أُمر ببقية شرائع الإسلام مثل الزكاة) الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة، أريد بالزكاة التي فرضت في السنة الثانية من الهجرة هذه الزكاة على هذا النحو المقدر؛ زكاة بشروطها، وبأنصبائها، وقدر المخرَج، وأوعية الزكاة ونحو ذلك, هذا فُرض في السنة الثانية من الهجرة, أما جنس الزكاة فقد فرض في مكة، جنس الزكاة غير مقدر مثل الصلاة التي كانت في مكة, وهذا جاء في آخر سورة المزمل, قال جل وعلا في آخرها وهي مكية ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[المزمل:20]، فأمر بإيتاء الزكاة قال (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) والصواب من أقوال أهل العلم أن الزكاة أوجبت في مكة, ومنها بذل الماعون الذي جاء النهي عنه, في قوله ﴿وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾[الماعون:7]، ومنها الصدقة, منها إعطاء الفقير, ونحو ذلك، وهذه الزكاة غير محدودة, لا بقدر, ولا بصفة, وإنما يصدق عليها اسم الزكاة, أما الزكاة على هذا النحو المقدر الذي استقر فهذا فرض في السنة الثانية من الهجرة. قال (والصوم) الصوم كذلك، هاجر النبي صلى الله عليه وسلم فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم «لما تصومون هذا اليوم؟» قالوا: يوم نجى الله فيه موسى، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه كما صام موسى. فقال عليه الصلاة والسلام: «نحن أحق بموسى منكم» فصامه عليه الصلاة والسلام، وأَمَر بصيامه، يعني كان صوم يوم عاشوراء فرضا، ثم لما فرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وهي السنة التي كان فيها وقعة بدر، صار صوم عاشوراء على الصحيح مستحبا، والفرض هو صيام شهر رمضان، كما قال جل وعلا في سورة البقرة ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾[البقرة:185] وبها كان صيام رمضان واجبا. قال(والحج) من أهل العلم من يقول أنه فرض في السنة السادسة، وهي السنة التي نزل فيها قول الله تعالى ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾[البقرة:196]، ومنهم من قال أنه لم يفرض إلا في السنة التاسعة، وهذا هو الصحيح، فإن الحج فرض متأخرا، وذلك بعد فتح مكة، فأُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحج في سورة آل عمران، وهي إنما نزلت في سنة الوفود أو في عام الوفود، وهي السنة التاسعة، والنبي عليه الصلاة والسلام ترك الحج تلك السنة، وأمر أبا بكر أن يحج بالناس، وبعث معه عليا رضي الله عنهم أجمعين، ثم حج عليه الصلاة والسلام بعد ذلك في السنة العاشرة حجة يتيمة لم يحج بعدها.
قال(والأذان) كذلك فُرض الأذان في أول العهد المدني.
(والجهاد) كان هناك تدرج في فرضه.
(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من شرائع الإسلام)، يعني أن شرائع الإسلام الظاهرة إنما فرضت في المدينة، وأما في مكة فمكث عليه الصلاة والسلام، يدعو إلى التوحيد، وينهى عن الشرك عشر سنين، ثم فرضت الصلاة في السنة العاشرة، وأما بقية الشعائر؛ شعائر الإسلام الظاهرة، فإنما كانت في المدينة، حتى تحريم المحرمات من الزنا والخمر والربا ونحو ذلك، فإنما كان في المدينة، وهذا يدلك على عظم شأن التوحيد في هذا الدين، وأن هذه الرسالة رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، حيث بلغها للناس، مكث يدعو إلى التوحيد في عشر سنين، والتوحيد من حيث هو، أمر واحد، دعوة إلى التوحيد ونهي عن الشرك، أمر واحد، وتلك الأوامر التي فرضت فيما بعد، والمناهي التي نهي عنها فيما بعد، كثيرة جدا، عددها كثير مئات الأشياء من أمور الإسلام الظاهرة، وأمور المعاملات، والصلاة الاجتماعية، والنكاح، وتلك الأحوال، تلك بالمئات، فكان العهد المدني وهو عشر سنين متسعا لتلك الأمور جميعا، وأما التوحيد فمع أنه أمر واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله والنهي والنذارة عن الشرك، فقد مكث فيه عليه الصلاة والسلام عشر سنين، وهذا من أعظم الأدلة على أن شأن التوحيد في هذا الدين هو أعظم شيء، وأن غيره من أمور الإسلام الظاهرة، أنه يليه بكثير في الاهتمام به في هذا الشرع، فالدعوة إنما تكون في توحيد الله؛ لأن القلب إذا وحد الله جل وعلا أحب الله وأحب رسوله، أطاع الله بعد ذلك وأطاع رسوله فرضا، ترك الشرك، أبغض الشرك، ويُبغض كل ما لا يحبه الله جل وعلا ولا يرضاه، وهذا من مقتضيات التوحيد.
قال (أخذ على هذا عشر سنين) يعني مكث في المدينة عليه الصلاة والسلام عشر سنين يدعو إلى التوحيد وإلى أمور الإسلام الظاهرة.
(وتوفي صلاة الله وسلامه عليه ودينه باق وهذا دينه)، (صلاة الله) الصلاة من الله جل وعلا على نبيه، أو على المؤمنين هي ثناؤه عليهم في الملأ الأعلى، هذا هو الصحيح أن الصلاة من الله جل وعلا هي الثناء؛ لأن حقيقة الصلاة في اللغة الدعاء والثناء، وأما من قال أن الصلاة بمعنى الرحمة هذا ليس بصحيح، قال جل وعلا ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾[الأحزاب:56]، الملائكة لا يمكنهم أن يرحموه، لكن يمكن أن يثنوا عليه، أو أن يدعوا له، والله جل وعلا في حقه الثناء، فمعنى صلاة الله جل وعلا على نبيه هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، لهذا جاء في الحديث الصحيح «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا» يعني من أثنى عليّ، من قال: اللهم صلي على محمد. سأل الله جل وعلا أن يثني على نبيه في الملأ الأعلى، فإن الله جل وعلا يجزيه من جنس دعائه، وهو أنه يثني عليه بذلك عشر مرات في ملئه الأعلى، أسأل الله الكريم من فضله، وصلى الله على نبينا محمد، اللهم صلي وسلم على نبينا محمد. قال (ودينه باق)، عليه الصلاة والسلام توفي ودفن في حجرة عائشة، ودينه باق إلى قيام الساعة، لا يقبل الله جل وعلا من أحد دينا إلا هذا الدين، (وهذا دينه) الضمير يرجع إلى أي شيء؟ إلى ما سبق إيضاحه في هذه الرسالة، هذا الذي وصف لك فيما قبل هو دينه؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه صلى الله عليه وسلم. (وهذا دينه) عليه الصلاة والسلام، (لا خير) -هذا من صفاته عليه الصلاة والسلام- أنه (لا خير إلا دل الأمة عليه ولا شر إلا حذرها منه والخير الذي دلها عليه التوحيد وجميع ما يحبه الله ويرضاه والشر الذي حذرها منه الشرك وجميع ما يكره الله ويأباه) وعليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رؤوف رحيم، ومن رأفته بالمؤمنين ورحمته بهم أنه اجتهد أن يؤدي الأمانة كاملة، لا خير يقرب إلى الله، ويكون محبوبا إلى الله إلا بينه عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة، وأعلى ذلك التوحيد، ويتبع ذلك جميع الأمور من الفرائض والواجبات والمستحبات، ومن المناهي التي اجتنابها فرض ونحو ذلك، المسنونات، حتى قال رجل لسلمان: لقد علَّمكم رسولُكم كل شيء حتى الخراءة، قال: نعم. يعني حتى هيئة الجلوس أثناء قضاء الحاجة، فإنه علمنا عليه الصلاة والسلام كيف يكون ذلك؛ إقبال واستدبار، وما ينبغي أن يكون إذا ذهب المرء أين يذهب، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره، كان عليه الصلاة والسلام إذا ذهب المذهب أبعد، يعني لقضاء حاجته ونحو ذلك، علمنا عليه الصلاة والسلام كل شيء، من أعلى أمر وهو التوحيد؛ بيّنه بيانا شافيا مفصلا، إلى أقل الأمور، كلها بينها عليه الصلاة والسلام، فالحجة قائمة على أمته، وأنه عليه الصلاة والسلام سيكون شهيدا على هذه الأمة، وأنه بلَّغهم الرسالة، ودلهم على كل خير، يحبه الله ويرضاه، كذلك لا شر إلا حذرها منه، لا شر كان أو لا شر سيكون في هذه الأمة إلا حذرها منه، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الشرور التي كانت في وقته؛ من الشرك بالله بأنواعه، ومن أنواع المعاصي وأنواع الآثام، وأنواع المعاملات الباطلة، وكذلك ما سيحدث في المستقبل، فإن الله جل وعلا أطلع نبيه على ما سيكون، فحذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من ذلك، مثلا كما جاء في الحديث «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» قالوا: يا رسول الله فارس والروم؟ قال: «فمن الناس إلا أولئك» أو كما جاء في غير هذه الرواية، لها ألفاظ كثيرة، فحذرها من تقليد فارس والروم، حذر النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الفتن التي ستظهر بأنواعها، ومنها فتنة الخوارج الذين خرجوا على الصحابة وخرجوا على ولاة أمر المسلمين، حذّر من البدع بأنواعها، كما جاء في تفسير قول الله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾[الأنعام:159]، وكما قال عليه الصلاة والسلام «وإن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» ونحو ذلك من أنواع ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام أمته محذرا، فهو عليه الصلاة والسلام لهذه الأمة رحيم رؤوف، لا خير إلا دلها عليه وأرشد، ولا شر إلا حذر منه ونهى، سواء في ذلك ما حدث في وقته، أو ما سيحدث بعد موته عليه الصلاة والسلام بقليل، أو ما سيكون إلى قيام الساعة، حتى إنه حذر أمته وشدد، حذرها وشدد التحذير في أمر المسيح الدجال، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام «إن خرج فيكم وأنا حي فأنا حجيجه دونكم وإن خرج عليكم بعدي» -يعني بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- «فامرؤ حجيج نفسه» وهذا يدل على عظم ما دل النبي عليه الصلاة والسلام هذه الأمة عليه.
قال رحمه الله بعد ذلك (وافترض طاعته على جميع الثقلين الجن والإنس والدليل قوله تعالى ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف:158]) طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على الجن والإنس، لأن النبي عليه الصلاة والسلام بعث إلى الناس جميعا، قال جل وعلا (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) وقال جل وعلا ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾[الأحقاف:29]، لأنهم اتبعوا هذا الرسول، بعد أن سمعوا هذا القرآن، (وكمّل الله به الدين)، الدين كمل، والدين هو ما يدين به المرء، يعني ما يكون عادة له في عبادته، عادة له في عبادته يألفه ويعتاده، لأن أصل الدين هو العادة، كما قال الشاعر:
تقول وقد برأتُ لها وظيني هذا دينه أبدا وديني( )
هذه عادته، وسمي الدين دينا لأنه يلتزمه الإنسان، وما كان من الاعتقادات، وما كان من العبادات يفعله بتكرر، حتى يصبح له عادة، نعم الدين ليس عادة، لكن أصل تسمية الدين سمي به لأنه له شبه بالعادة، حيث لزومها وكثرة فعلها وترداد صاحبها لها.
(كمل الله به الدين) إذن فليس في الدين نقصان، ليس فيه مجال للزيادة، فمن أراد التقرب إلى الله جل وعلا، فإنما يكون ذلك بالتقرب عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني أن يكون متبعا لسنته عليه الصلاة والسلام، لأن الدين كمل فلا سبيل إلا هذا السبيل، كما قال ابن القيم:
فلواحد كن واحدا في واحد أعني سبيل الحق والإيمان
والهجرة من الهجرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته، واتباع سنته، وامتثال أمره، والانتهاء عن نهيه، والاهتداء بهديه، وألا يعبد الله إلا بما شرع، ينسلخ القلب ويترك كل ما سوى الله جل وعلا، وسوى رسوله من الذين يطاعون، ويتجه بطاعته إلى الله جل وعلا ورسوله، قال (والدليل قوله تعالى ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾[المائدة:03]، والدليل على موته صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾[الزمر:30-31]) مات عليه الصلاة والسلام، الذين يدّعون أنه عليه الصلاة والسلام حي لم يمت، وأنه يحضر، روحه تحضر، وهو يحضر، وينتقل، ونحو ذلك، هؤلاء مكذبون للقرآن، كفرة بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا قال لنبيه (إِنَّكَ مَيِّتٌ) يعني ستموت (وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) إنهم سيموتون، (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) إنكم جميعا أنت وهم (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) وقال جل وعلا في الآية الأخرى ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ﴾[آل عمران:144]، ومن المعلوم ما حصل من قيام أبي بكر في الناس، بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم خطيبا، قائلا فيما يروى: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ). قال عمر: كأني لم أسمع الآية إلا حين تلاها أبو بكر رضي الله عنه. لكن هو بعد موته؛ في حياة برزخية، هي أكمل أنواع الحياة البرزخية، فهو حي، حياته أكمل من حياة الشهداء، وهو قد مات، توفاه الله جل وعلا، انقطع عن هذه الدنيا، حياته أكمل من حياة الشهداء، فهو عليه الصلاة والسلام قد توفي وانقضى أجله، وهو بالرفيق الأعلى بالجنة، وعند الله جل وعلا بأعلى المقامات عليه الصلاة والسلام.
قال لما ذكر موته عليه الصلاة والسلام (والناس إذا ماتوا يبعثون) خص هنا البعث بذكر، مع أن مناسبته هي في ذكر اليوم الآخر؛ المرتبة الثانية من الأصل الثاني، اليوم الآخر معناه أنه يبعث الناس بعد الموت، هنا قال (والناس إذا ماتوا يبعثون) وذلك لسبب وهو أنه في وقت الشيخ رحمه الله تعالى كان يكثر في البادية إنكار البعث بعد الموت، قد جاء في رسائل للشيخ من العلماء, رسائل كثيرة فيها بيان أن البعث بعد الموت حق, وأن من كفر بالبعث وأنكر البعث فهو كافر بالله العظيم, ليس بمؤمن ولا مسلم, وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, نص هنا على هذا لأجل الاهتمام بالمسألة ووضعها في هذا الموضع المناسب, لأنه ذكر وفاة النبي عليه الصلاة والسلام, وذكر قوله (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) فناسب أن يقرر البعث بعد الموت لجميع الناس, قال (والناس إذا ماتوا يبعثون والدليل قوله تعالى﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾[طه:55]، وقوله تعالى
﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتًا(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا﴾[نوح:17-18]، وبعد البعث محاسبون ومجزيون بأعمالهم والدليل قوله تعالى﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾[النجم:31]) قال (ومن كذب بالبعث كفر) مثل أولئك الأعراب في البادية, الذين كانوا في وقت الشيخ رحمه الله, ويكثر إلى الآن في بوادي بعض البلاد العربية أنهم يكذبون بالبعث, يعتقدون أن التزام الدين, أنه إنما يحصل له الإنسان السعادة في دنياه, وأن روحه تكون في نعيم أو في جحيم, لكن بعث بعد الموت, يكذبون بذلك قال هنا (ومن كذب بالبعث كفر والدليل قوله تعالى﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[التغابن:07]) وجه الاستدلال أنه قال (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فوصف الذين يزعمون أنهم لن يبعثوا بأنهم من الذين كفروا.

وأرسلَ اللهُ جميعَ الرُّسلِ مبشِّرينَ ومُنذرينَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، وأولُهُمْ نوحٌ عليهِ السلامُ، وآخِرُهُم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو خاتِمُ النَّبيينَ والدليلُ على أنَّ أوَّلُهُم نوح قوله تعالى ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾[النساء:163]، وكلُّ أمَّةٍ بعثَ اللهُ إليها رسولاً مِنْ نوحٍ إلى محمدٍ، يأمُرُهُمْ بعبادةِ اللهِ وحدَهُ، ويَنْهَاهُمْ عنْ عبادَةِ الطاغوتِ، والدّليلُ قولُهُ تعالى ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، وافترضَ اللهُ على جميعِ العبادِ الكفرَ بالطاغوتِ والإيمانَ باللهِ، قال ابنُ القيِّمِ رحمهُ اللهُ تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوزَ بِهِ العبدُ حدَّهُ مِنْ معبودٍ، أو متبوعٍ، أو مطاع.
والطواغيتُ كثيرونَ ورؤوسُهُمْ خمَسةٌ: إبليسُ لعنَهُ اللهُ، ومَنْ عُبِدَ وهو راضٍ، ومَنْ دعا الناسَ إلى عبادَةِ نفسِهِ، ومَنِ ادَّعى شيئًا مِنْ عِلمِ الغيْبِ، ومَنْ حكمَ بغيِر مَا أنزلَ اللهُ، والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:256]، وهذا هو معنى لا إله إلا الله، وفي الحديثِ «رأسُ الأمْرِ الإسلامُ وعمودُهُ الصَّلاةُ وذروةُ سنَامِهِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ» واللهُ أعلمُ. تمت هذه الرسالة.
قال(وأرسل الله جميع الرسل مبشرين ومنذرين والدليل قوله تعالى ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، وأولهم نوح عليه السلام وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم) من كذب برسول من الرسل فقد كذب بالرسل أجمعين, ومحمد عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين وخاتم المرسلين, كل دعوة لنبوة أو دعوة للرسالة بعده فهي ضلال, وهي كفر بالله جل وعلا, فمن ادعى في وقت الصحابة وبعدهم إلى يومنا هذا لم يزل يظهر من يدعي النبوة, والنبي عليه الصلاة والسلام خاتم المرسلين وخاتم النبيين وخاتمهم؛ خاتَمهم و خاتِمهم (والدليل على أن أولهم نوح قوله تعالى ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾[النساء:163]) هذا وحي خاص وحي رسالة, والمراد بالنبيين هنا المرسلين.
قال(وكل أمة بعث الله إليها رسولا من نوح إلى محمد يأمرهم بعبادة الله وحده وينهاهم عن عبادة الطاغوت والدليل قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36])، (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ) ما يأتي بعدها هو مضمون البعث، بعثهم لأي شيء؟ لما يأتي بعد (أَنْ) وهو (اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) عبادة الله سبق تفسيرها مفصلا في الأصل الأول وهو معرفة العبد ربه, هنا لمّا ذكر الطاغوت كان مناسبا لأهميته, أن يذكر معنى الطاغوت قال هنا (وافترض الله على جميع العباد -بهذا الدليل- الكفر بالطاغوت والإيمان بالله) ما معنى الطاغوت إذن؟ (قال ابن القيم رحمه الله تعالى: معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع) الطاغوت صيغة مبنية للكثرة والسَّعة, لأنها من طغى يطغى طغيانا, ومعنى ذلك التجاوز تجاوز الحد، يقال طغى الماء إذا تجاوز الحد, طغى الرجل إذا تجاوز حدّه, والطاغوت مبني من الطغيان, لكنه للكثرة مثل ملكوت, رحموت ونحو ذلك. ما هو الطاغوت؟ الطاغوت اسم لكل ما تجاوز به العبد حدّه, كل ما تجاوز به العبد حدّه؛ أي الحد الشرعي له, معلوم أن الشرع حدّ للأشياء حدودا, وبين علاقة المسلم بها, فإذا تجاوز العبد بشيء ما حده, فذلك الشيء طاغوت, قال (ما تجاوز به العبد حده من معبود) إذا عبد أحد غير الله جل وعلا فذلك الغير طاغوت هذا العابد, متى يكون طاغوتا؟ إذا كان راضيا بهذه العبادة, أما إذا كان يكرهها فإنه لا يسمى طاغوتا, لأنه يتبرأ منه والمتبرأ من الشيء ليس من أهله, كما قال جل وعلا ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا﴾[الأنبياء:98-99], فلما نزلت هذه الآية فرح المشركون, قالوا سنكون وعيسى وعزير- وعدّوا آلهة- سنكون جميعا في جهنم فنعم الصحبة, أنزل الله جل وعلا بعده ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102)لَا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾[الأنبياء:101-103], فدل على أن الذي لا يرضى بعبادته فإنه ليس بمذموم, لهذا عُبدت الأنبياء والرسل, وعُبد الصالحون, وكلهم يتبرؤون, عيسى عليه السلام أُله بعد رفعه, وقال له ربه جل وعلا ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي﴾[المائدة:116-117]، (تَوَفَّيْتَنِي) يعني قبضتني؛ قبضت بدني ورفعتني عنهم, واستوفيت مدتي على الأرض؛ المدة الأولى, كنت أنت الرقيب عليهم, ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117)إِنْ تُعَذِّبْهُمْ... ﴾[المائدة:117-118] إلى آخر الآيات، (معنى الطاغوت ما تجاوز العبد حده من معبود أو متبوع) من يُتبع، يُقلَّد، يهتدى بهديه (أو مطاع) إذا كان اتبع أحد فجاوز العبد بهذا المتبع حده الذي أذن به شرعا, فقد صار ذلك طاغوتا له إذا كان راضيا بذلك, وإن كان لا يرضى فهذا هو الذي إتخذه طاغوتا, وذاك ليس بطاغوت أو مطاع.
بين ذلك بقوله (والطواغيت كثيرون ورؤوسهم خمسة إبليس لعنه الله ومن عبد وهو راض ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه) إبليس لعنه الله هو رأس الطواغيت لما؟ لأنه عُبد, ولأنه متبوع، ولأنه مطاع وهو راض بذلك, أطيع أو لم يطع؟ أطيع في معصية الله وهذه مأذون بها, أو غير مأذون بها؟ ويعتبر عند من أطاعه أنه مقدم, وأن طاعته هَنِيَّة, ولهذا قال جل وعلا في سورة إبراهيم ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي﴾[إبراهيم:22]، الاستجابة هنا في المتابعة والطاعة, وقال جل وعلا في آية سورة يس ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾[يس:60]، (أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) يعني بالطاعة كما هو تفسيرها (ومن عُبد وهو راض) هذا القيد مهم, من عبد من دون الله, ورضي بهذه العبادة فهو من الطواغيت, من رؤوس الطواغيت. (من دعا الناس إلى عبادة نفسه) هذا أعظم، الأول يُعبد وهو ساكت لم يدعُ إلى عبادة نفسه, يُطاع وتكون طاعته دينا، في غير طاعة الله جل وعلا وطاعة رسوله, ويرضى بذلك, هذا طاغوت, الأعظم منه أن يدعو، ذاك ساكت-الأول-يكون فُعل به ذاك وهو راض, الأعظم أن يدعو إلى نفسه, مثل ما يفعل مشايخ الطرق الصوفية, يعني بعض من مشايخ الطرق الصوفية, ورؤوس الضلال.ورؤوس الرافضة, ورؤوس الإسماعيلية, ونحو ذلك. كل هؤلاء يعظمهم أتباعهم فوق الحد الشرعي, فيتخذونهم مطاعين, فيتخذونهم متابَعين من دون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال (ومن ادعى شيئا من علم الغيب ومن حكم بغير ما أنزل الله) من ادعى شيئا من علم الغيب فهو من جنس الشياطين, فهو كاهن من الكهنة, أو ساحر من السحرة, أو مدعي لعلم الغيب, هذا من الطواغيت.
قال(ومن حكم بغير ما أنزل الله) الحاكم بغير ما أنزل الله فيه تفصيل:
• إذا حكم بغير ما أنزل الله معتقدا أن حكمه جائز, وأن له أن يحكم, وحكمه قرين لحكم الله أو مساوٍ لحكم الله, أو أفضل من حكم الله أو نحو ذلك. فإن هذا يعد طاغوتا.
• أما إن حكم بغير ما أنزل الله وهو يعلم أنه عاص في حكمه, وأن حكم الله جل وعلا أفضل, وأن حكم الله جل وعلا هو المتعين, ولكن غلبته نفسه وشهوته بأن حكم بغير ما أنزل الله ببعض المسائل، كما يحصل لبعض المفتونين من القضاة, أنهم يحكمون في مسائل بشهوتهم, كما كان يحدث في نجد من قرون قبل الدعوة, أنه كان يُرشى القاضي -يرشى بمال- فيحكم لأحد الخصمين بغير حكم الله جل وعلا, ويحكم بغير حكم الله, وهذا هو الذي جاء فيه الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره بإسناد قوي, أنه عليه الصلاة والسلام قال«القضاة ثلاثة قاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، رجل قضى بغير الحق وهو يعلم الحق فذاك في النار» والعياذ بالله، هذا النوع يحكم لأجل مال, يحكم لأجل رِشوة بغير ما أنزل الله, هذه معصية من المعاصي, ولا شك أن معصية سمّاها الله جل وعلا كفرا, أعظم من معصية لم يسمها الله جل وعلا كفرا, كما يقول الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى في رسالته تحكيم القوانين فإذن هذا الصنف من الناس فعلهم معصية.
• هناك نوع آخر حدث في هذا الزمن، وهو تحكيم القوانين؛ أن يستبدل الشرع بقوانين وضعية، يستبدل الشرع استبدالا بقوانين، يأتي بها الحكام من عند غير الله ورسوله، يترك الدين، ويؤتى بتلك القوانين، فهذه كما يقول الشيخ رحمه الله تعالى محمد ابن إبراهيم في أول رسالته تحكيم القوانين يقول ما نصه: إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين، منزلة ما نزل به الوحي الأمين، على قلب سيد المرسلين، للحكم به بين العالمين، وللرد إليه عند تنازع المتخاصمين، معاندة ومكابرة، لقول الله جل وعلا﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾[النساء:59]. ورسالته هذه بسَط فيها القول، وهي رسالة دقيقة مهمّة في هذا الباب، إذن فصار تحكيم القوانين كفرا أكبر بالله، لأنه استبدال شريعة مكان شريعة، بدل شريعة الإسلام يأتون بشريعة فرنسا، أو شريعة أوروبا، أو شريعة إنجلترا، شريعة أمريكا، هذا استبدال، فإذا كان الحكم به غالبا صار تحكيما، يعني صار الحكم في أكثر أمور الشريعة بهذه الأحكام القانونية صار استبدالا، فمتى يكون كفرا؟ إذا كان استبدالا، ومتى يكون استبدالا؟ إذا كان تحكيم القوانين غالبا، كما ذكر الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه -الشيخ محمد بن إبراهيم- أيضا مقيِّدا: متى يكون الحكم بالقانون كفرا؟ قال إذا كان غالبا فاشيا. لما؟ لأنه استبدل شريعة مكان شريعة، فإذا غلب ذلك صار استبدال، وهذا قيد مهم، وهذه المسألة يكثر فيها الكلام في هذا العصر، بين كلام متعلمين وعلى سبيل تعلم، وبين كلام جهال، وقلّ من يحرر الكلام فيها على نحو ما بينه العلماء بدقة وتفصيل.
قال هنا (والدليل قوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[البقرة:256]) قال بعد ذلك (وهذا هو معنى لا إله إلا الله) ما معنى لا إله إلا الله؟ هو قوله (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) لأن الكفر بالطاغوت هو معنى النفي بـ(لا إله) والإثبات وهو قوله (وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ) هو المستفاد من قوله (إلا الله).
قال بعد ذلك (وفي الحديث«رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله»والله أعلم تمت هذه الرسالة) وأسأل الله جل وعلا أن ينفعني وإياكم لما سمعنا، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا، وأن يجعلنا من المتعلمين حق التعلم، العاملين بما نعلم.
نسأله اللهم أن يجعلنا من أهل التوحيد؛ الذين يُعلون رايته، وينافحون عنه، ويُدافعون عنه وعن أهله، وأسأله لي ولكم العفو والغفران من جميع الزلل والسيئات، وأستغفر الله لذنبي ولذنوب جميع المسلمين، وأسأله أن يعفو عني ما حصل مني، في هذا الشرح الموجز من غلط لسان، أو سهو جنان، أو انتقال للذهن، وقد اختصرنا في الآخر, وكان حقها أن تبسط أكثر من ذلك بكثير، لكن لأجل انتهاء هذه الدروس.
وهذا هو يوم الأربعاء الثامن من ربيع الأول لعام أربعة عشر وأربعمائة وألف [08/03/1414هـ].
اللهم اجعل بقية أعمالنا خيرًا مما سلف منها، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
قام بتفريغ الأشرطة: سالم الجزائري
رد مع اقتباس