عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 13-10-2007, 08:33PM
أبو عبد الرحمن السلفي1
عضو غير مشارك
 
المشاركات: n/a
شرح كتاب ثلاثة الأصول


شرح
كتاب ثلاثة الأصول
لشيخ الإسلام الإمام المجدد
محمد بن عبد الوهاب المشرفي التميمي
1115هـ - 1206هـ
-رحمه الله تعالى-
شرحها الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
[(6.) أشرطة مفرّغة]

ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.[صالح آل الشيخ]






نسأل الله جل وعلا أن يبصرنا بالحق وأن يمن علينا بالالتزام به، وبالثبات عليه، حتى يتوفانا وهو راضٍ عنّا.
هذه الدروس متنوعة، منها درس في ثلاثة الأصول وهي رسالة لإمام هذه الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، وبعدها درس في الورقات للجويني في أصول الفقه, وهذا بعد العصر, وبعد المغرب إن شاء الله تعالى, يكون ثَم درسان؛ الأول في التفسير؛ وسنفسر إن شاء الله تعالى سورة تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ المسماة سورة الملك، وبعدها درس في الحديث؛ نشرح فيه إن شاء الله تعالى، ما نتمكن من شرحه من الأربعين النووية، على وجه الاختصار والإيضاح إن شاء الله تعالى.
سبب الاختيار، أن هذه الدروس مدتها وجيزة أولا من حيث الزمن؛ لأنها مُقْتَطَعة من هذه العطلة، وبالتالي هي غير متصلة، فلهذا يناسب أن يشرح فيها أشياء تُنبه طلاب العلم إلى ما يجب أن يسلكوه في طلب العلم؛ لأن الكثير من الشباب يحب العلم، ويروم طلبه, لكنه لا يوفق إلى الطريق الصحيح لطلب العلم، فمنهم من مضى عليه سِنُون عددا يقرأ وربما يبحث، لكن لو فتّش في نفسه لوجد أنه لم يحصل من العلم، ما به يكون على أرض يمكنه المشي عليها في طريق العلم اللاّحد الطويل، وسبب ذلك أنه فقد التأصيل العلمي الذي كان يعتني به العلماء منذ قرون كثيرة.
رسالة ثلاثة الأصول, رسالة مهمّة لكل مسلم، وكان العلماءُ -أعني علمائنا- يعتنون بها شرحا، في أول ما يشرحون من كتب أهل العلم، ذلك؛ لأن فيها الجواب عن أسئلة القبر الثلاث؛ ألا وهي سؤال الملكين العبد عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه، وهي ثلاثة الأصول يعني معرفة العبد ربه؛ وهو معبوده، ومعرفة العبدِ دينه؛ دين الإسلام بالأدلة، ومعرفة العبد نبيه عليه الصلاة والسلام، فمن هاهنا جاءت أهمية هذه الرسالة؛ لأن فيها من أصول التوحيد والدين الشيء الكثير.
وأصول الفقه مهمة أيضا والعناية بها ضعيفة فيما أحسب وأسمع، وتأتي أهميتها لأنه كثر المجتهدون دون معرفةٍ لأصول الاستنباط، والاستنباط له أصوله؛ أصول الاستنباط هي أصول الفقه, فكم سمعنا من متكلم في مسائل شرعية, لم يحسن الكلام عليها تأصيلا و لا استنباطا, ويظن أنه محسن مصيب في استدلاله, لما؟ من أين أتاه الغلط؟ أتاه من ضعفه بأصول الفقه, نعم, إن هذه الورقات مقدمة في أصول الفقه, لم تشتمل من أصول الفقه إلا على أشياء يسيرة, فلا تهيئ تلك الرسالة طالب العلم إلى أن يفهم الأصول كما ينبغي, ولكنها تعطيه مفاتيح يدخل بها بيت أصول الفقه.
وأما التفسير, تأملتُ فترة فيما أختاره في التفسير, هل أختار تفسير سورة الفاتحة؟ أم أختار تفسير جزء عم؟ باعتبار أنه كثيرا ما يقرأ في المساجد في الصلوات الجهرية, وربما قرأه كثيرا من المسلمين, بله طلاب العلم, في صلاتهم، وربما لم يدركوا، أو لم يعلموا كثيرا من معاني التي يتلونها كثيرا ويسمعونها كثيرا, لكن لقصر الوقت نظرت في أن سورة تبارك اشتملت على أصول عظيمة, ويمكن ببيان وتفسير آياتها ما يُنبه طلاب العلم على ضرورة الاعتناء بالتفسير, خاصة تفسير الآيات التي تحفظُها, والتي تقرأُها في صلاتك والتي تسمعها، فكم يُعاب المرء أن يَسمع كلاما يردد عليه وهو يجهل معناه، تُردد عليه قصار السور وربما جهل بعض تلك المعاني ليس الجهل عيبا, لكن الإصرار على الجهل هو العيب, وما أحسن قول أبي الطيب المتنبي حيث قال:
كنقص القادرين على التمام ولم أر في عيوب الناس عيبا
وأنتم أيها الشّبَبَة قادرون بلا شك على التعلم، قادرون على الفهم, قادرون على الفقه, لكن العيب يأتي من إضاعة الوقت في غير ما ينفع, التفسير مهم ومعرفة معاني الآيات وسيلة, لاشك من وسائل الثبات على الإيمان, وتحصيل العلم النافع.
بعد التفسير الأربعون النووية, وهذه الأربعون النووية جمعت أحاديث، شهد العلماء بعد محي الدين يحيى بن زكريا النووي -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- على حسن اختياره لها, وعلى أنها جمعت الأحاديث التي عليها مدار الإسلام, لهذا اعتنى العلماءُ بشرحها هذه الأربعون, ينبغي لنا أن نحفَظَها, وينبغي أن نفهم معانِيَها, وأن نقرأَ ما قاله العلماء في شرحها.
هذه مقدمات لهذه الدروس, هذه المقدمات التي قدمتُ بها, أردتُّ منها أن أرشدك إلى أن العلم لا يُنال مرة واحدة, وإنما يُنال العلم على مر الأيام والليالي, كما قال ابن شهاب الزهري رحمه الله تعالى، فيما رواه ابن عبد البر في كتاب الجامع قال: "من رام العلمَ جملة ذهب عنه جملة، إنما يُطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي" وهذا حق, العلم يبدأ بتحصيل صغاره قبل كباره، إذا حصلت صغار المسائل قبل الكبار فأنت على طريق العلم، وأما إذا ابتدأت بالكبار دون معرفة الصغار؛ صغار المسائل؛ واضحات المسائل, وابتدأت بالكبار التي فيها خلاف، تحتاج إلى بحث، تحتاج إلى ترتيب, تنازع العلماء فيها, كما هو ديدن بعض طلبة العلم، أو بعض المبتدئين في العلم، فإنه يذهب عنك العلم، لهذا أأكد على ضرورة تأصيل العلم والسير فيه خطوة فخطوة, وإنما يطلب العلم على مر الأيام والليالي:
من نُخب العلم التي تُلتقط اليوم علم وغدا مثلُـه
وإنما السيل اجتماع النقط يُحصِّل المرء بها حكمة
وهذا واقع وقد ذكر الخطيب البغدادي بإسناده في كتاب الجامع ببيان أدب السامع، ذكر حكاية عن أحد رواة الأحاديث، بأنه طلب العلم، وحرص على لقاء الشيوخ، وأخذ عنهم، لكنه لم يحفظ، مرت عليه الأيام ولم يحفظ، لم يفهم، ومضى الوقت وهو على هذا فظن أنه لا يصلح للعلم فترك العلم، فبينما هو يسير مرة إذا بماء يتقاطر على صخرة، وهذا الماء قد أثَّر في الصخرة، فحفر فيها حفرة، فنظر متأملا فقال: هذا الماء على لطافته أثر في هذا الصخر على كثافته، فليس العلم بألطفَ من الماء، يعني بأخف من الماء، وليس قلبي وعقلي بأكثف من الصخر، ورجع يطلب العلم من جديد، وحصَّل وأصبح من رواة الحديث الذين لهم شهرة، إذن فالعلم يحتاج إلى مواصلة ما نيأس نواصل, نواصل, نحفظ، ندارس, لكن ينبغي بل يجب أن يكون على أصوله خطوة فخطوة، ومن بدأ من الأهم ثم أعقبه بالمهم، فإنه يحصل إن شاء الله تعالى.
نبدأ بثلاثة الأصول نفعني الله جل وعلا وإياكم بها:
[هذا سؤال لطيف يقول ما إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها ولماذا لم يقل المصنف: الأصول الثلاثة وأدلتها وما هي العبارة الأصح؟
الشيخ رحمه الله تعالى له رسالة أخرى بعنوان الأصول الثلاثة رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصبيان والصغار تلك يقال لها الأصول الثلاثة, وأما ثلاثة الأصول فهي هذه التي نقرأها، ويكثر الخلط بين التسميتين، ربما قيل لهذه ثلاثة الأصول، أو الأصول الثلاثة، لكن تسميتها المعروفة أنها ثلاثة الأصول وأدلتها.
إعراب ثلاثة الأصول وأدلتها:
ثلاثة: خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذه (هذه ثلاثة) خبر مرفوع بالابتداء وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
الأصول: مضاف إليه مجرور بالتبعية وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
الواو: عاطفة.
أدلةُ: معطوف على ثلاثة مرفوع بالتبعية؛ تبعية العطف، وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره وهو مضاف.
ها: ضمير متصل مبني على السكون في محل جر بالاضافة.]( )

بسم الله الرحمن الرحيم.
اعلمْ -رحمكَ اللهُ- أَنَّهُ يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ؛ الأُولى: العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ، ومعرفةُ نبيِّهِ، ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلةِ. الثانيةُ: العملُ بهِ. الثالثةُ: الدعوةُ إليهِ. الرابعةُ: الصبرُ علَى الأَذى فيهِ.
والدليلُ قولُه تعالَى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾[العصر]، قالَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هذِه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.
وقال البخاريُّ رحمَهُ اللهُ تعالى: بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ والدليلُ قولُه تعالَى ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾[محمد:19]، فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ.
الحمد لله رب العالمين، قال الشيخ رحمه الله تعالى في أول هذه الرسالة (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-), أو (اعلم رحمني الله وإياك) وهذا فيه التلطف، وفيه تنبيه إلى أن مبنى هذا العلم على التلطف، وعلى الرحمة بالمتعلمين, لأنه دعا له بالرحمة, وكان العلماء يَروُون ويُروُّون لمن بعدهم فيمن طلب الإجازة في الحديث, رواية حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان»، وهذا الحديث هو المعروف عند أهل العلم بالحديث بالمسلسل بالأولية لما؟ لأن كل راو يقول لمن بعده "وهو أول حديث سمعته منه"فعلماء الحديث يروون هذا الحديث لتلامذتهم ويكون أول حديث فيما يروون ألا وهو حديث «الراحمون يرحمهم الرحمان» ففي الإجازات ترى أن كل شيخ يقول عن شيخه حدثني فلان وهو أول حديث سمعته منه، قال حدثني شيخي فلان وهو أول حديث سمعته منه، إلى أن يصل إلى منتهاه قال الرسول صلى الله عليه وسلم «الراحمون يرحمهم الرحمان، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»، قال العلماء سبب ذلك أن مبنى هذا العلم الرحمة، ونتيجته الرحمة في الدنيا، وغايته الرحمة في الآخرة، لهذا الشيخ رحمه الله نبه على ذلك تنبيها لطيفا دقيقا حيث قال (اعلمْ -رحمكَ اللهُ-)؛ دعاء للمتعلم بالرحمة, ذلك لأن مبنى التعلم بين المعلم والمتعلم هو التراحم كلٌّ بما يناسبه.
(يجبُ علينَا تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ) الوجوب ها هنا المقصود به ما يشمل الوجوب العيني والوجوب الكفائي؛ أما بالنسبة للأول ألا وهو العلم، فما ذكره واجب علينا أن نتعلمه وجوبا عينيا، ألا وهو معرفة ثلاثة الأصول؛ معرفة العبد ربه، ومعرفة العبد دينه، ومعرفة العبد نبيه، هذا واجب فمثل هذا العلم لا ينفع فيه التقليد، واجب فيه أن يحصله العبدُ بدليله، والعبارة المشهورة عند أهل العلم: أن التقليد لا ينفع في العقائد, بل لابد من معرفة المسائل التي يجب اعتقادها بدليلها, هذا الدليل أعم من أن يكون نصا من القرآن, أو من سنة, أو من قول صاحب, أو من إجماع, أو قياس, وسيأتي تفصيل الدليل إن شاء الله تعالى في موضعه.
التقليد هذا لا يجوز في العقائد عند أهل السنة والجماعة, وكذلك لا يجوز عند المبتدعة من الأشاعرة والماتريدية والمتكلمة، لكن ننتبه إلى أن الوجوب عند أهل السنة يختلف عن الوجوب عند أولئك في هذه المسألة، والتقليد عند أهل السنة يختلف عن التقليد عند أولئك, فأولئك يرون أن أول واجب هو النظر, فلا يصح الإيمان إلا إذا نظر، ويقصدون بالنظر؛ النظر في الآيات المرئية؛ في الآيات الكونية، ينظر إلى السماء، يستدل على وجود الله جل وعلا بنظره، أما أهل السنة فيقولون يجب أن يأخذ الحق بالدليل, وهذا الدليل يكون بالآيات المتلوّة, أولئك يحيلون على الآيات الكونية المرئية بنظرهم, بنظر البالغ، وأما أهل السنة فيقولون لابد من النظر في الدليل، لا لأجل الاستنباط، ولكن لأجل معرفة أن هذا قد جاء عليه دليل، في أي المسائل؟ في المسائل التي لا يصح إسلام المرء إلا به؛ مثل معرفة المسلم أن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة دون ما سواه، هذا لابد أن يكون عنده برهان عليه، يعلمه في حياته, ولو مرة، يكون قد دخل في هذا الدين بعد معرفةٍ الدليل, ولهذا كان علماؤنا يعلمون العامة في المساجد، ويحفظونهم هذه الرسالة ثلاثة الأصول لأجل عظم شأن الأمر.
أول المسائل الأربع التي يجب علينا تعلُّمها العلم: والعلم أجمله هاهنا بما سيأتي تفصيله في الرسالة، رسالة ثلاثة الأصول شرح لهذا الواجب الأول.
الثاني العمل: العمل بالعلم, والعمل بالعلم منه ما تركه كفر، ومنه ما تركه معصية، ومنه ما تركه مكروه، ومنه ما تركه مباح، كيف يكون ذلك؟ العلم ينقسم، فالعلم بالتوحيد؛ بأن الله جل وعلا هو المستحق للعبادة وحده، إذا علمه العبد ولم يعمل بهذا العلم بأن أشرك بالله جل وعلا لم ينفعه علمه، فكان ترك العمل في حقه كفرا، وقد يكون معصية بأن علم مثلا أن الخمر حرام شُرْبها، حرام بيعها، حرام شراؤها، حرام سقيها، حرام استسقاؤها, ونحو ذلك, وخالف العلم الذي عنده، عَلِمَ أنه حرام فخالف، فتكون مخالفته معصية، يعني ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب في هذه المسألة، منه ما هو مكروه؛ إذا علم أن النبي عليه الصلاة والسلام، كان يصلي على هيئة, وصِفة معينة، فخالفه في سنة من السنن بعد عِلمه بها، ترك العمل بالعلم الذي عنده هذا مكروه؛ لأنه ترك العمل بسنة ليس بواجب، فيكون تركه مكروه، ويكون العمل بذلك مستحبا، وقد يكون العمل بالعلم مباحا، وتركه مباح أيضا، بمثل المباحات، والعادات ونحو ذلك، كأن بلغنا من العلم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان من هيئته في لباسه كذا وكذا، كانت مشيته على نحو ما، هذه الأمور الجبلية الطبيعية، فيما نتعلمه، مما لم نخاطب فيها بالإقتداء، إذا ترك العمل بها, كان تركه مباحا له لأنه لم يخاطب المسلم أن يقتدي بمثل هذه الأمور بنحو سير النبي عليه الصلاة والسلام, بصوته, بالأمور الجبلية التي كان عليها عليه الصلاة والسلام, فيكون العمل بذلك مباح، وقد يُؤجر عليه إذا نوى الإقتداء, بنية الإقتداء, فيكون ترك العمل أيضا مباحا. العمل هذا أخذه من قوله جل وعلا﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾( ) [العصر:3]كما سيأتي.
الثالث الدعوة إليه: إذا علم وعمل فإنه يدعو إلى ذلك والدعوة قد تكون بالمقال، وقد تكون بالفعال؛ لأن الامتثال بالفعل دعوة, فإذا امتثل المسلم لما أُمر به, فإن هذا يجعله يرشد غيره إرشادا صامتا, بالفعل إلى أن هذا مطلوب, والثاني الدعوة بالقول؛ باللسان، والدعوة باللسان قد تكون واجبة، وقد تكون مستحبة، فيتفرع عن الدعوة باللسان أنواع من الدعوة منها الدعوة بالكتابة بالقلم؛ في تأليف، أو في رسائل أو نحو ذلك، منها النصائح المختلفة، والمواعظ، ونحو ذلك.
بعد الدعوة الواجب الرابع أن يتعلم الداعية، الذي علم، ثم عمل ثم دعا، أنه يجب عليه أن يصبر: لأن سنة الله جل وعلا في خلقه لم يجعل القبول حاصلا للنبيين والمرسلين الذين هم أفضل الخلق وأعلاهم درجة، لم يجعل القبول لهم، وإنما عورضوا، و أوذوا، وحصل لهم ما حصل، فالداعية يحتاج إلى أن يصبر كما صبر المرسلون, بل إن النبي عليه الصلاة والسلام, أُمر بأن يحتذي حذو الصابرين بقول الله جل وعلا ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ﴾[الأحقاف:35]، فالصبر, الصبر في غاية المهمات لمن علِم، فعمل، فدعا، يحتاج إلى أن يصبر، فإن لم يصبر، كان من الذين يستخفهم الذين لا يوقنون، قال جل وعلا﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾[الروم:60]؛ قد حذر النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من العجلة قال: «ولكنكم قوم تستعجلون».
هذه المسائل الأربع واجب تعلمها، والعمل بها؛ العلم، والعمل، والدعوة، والصبر، ودليل ذلك قول الله جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3) ﴾[العصر]، قال جل وعلا (وَالْعَصْرِ), العصر هو الزمان, أقسم الله جل وعلا به لشرفه؛ الزمان المطلق، والعصر يعني والزمن, والعمر, والوقت؛ لأنه أشرف شيء أُعطيه الإنسان, أنْ أعطي عمرا فيه يعبد الله جل وعلا, ويطيعه, فبسبب العمر عبَدَ الله، وبسبب العمر شرُف، إن كتب الله جل وعلا له الجنة أن يكون من أهل الجنة، فهو شريف القدر، عظيم القدر، (وَالْعَصْرِ) جواب القسم، يعني ما معنى جواب القسم؟ يعني لأي شيء جاء القسم؟ لما أقسم الله جل وعلا بالعصر؟ قال جل وعلا ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر:2], فجواب القسم هو (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)، وأكد ذلك، بـ(إنَّ) وباللام في قوله (لَفِي خُسْرٍ)، ومن المتقرر في علم المعاني من علوم البلاغة, أن(إنّ واللام من أنواع المؤكدات), اجتمع هاهنا أنواع من المؤكدات, أولا القسم، الثاني مجيء إنّ، الثالث مجيء اللام التي تسمى المزحلقة, أو المزحلفة, مجيء اللام في خبر إنّ، قال جل وعلا ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر:2]، وأهل العلم يقولون يعني أهل العلم بالمعاني يقولون "إن مجيء المؤكدات يصلح إذا كان المخاطَبُ منكِرا لما اشتمل عليه الكلام". فمثلا تقول لمن لم يكن عنده الخبر، فلان قادم، لا يصلح أن تقول "إنّ فلانا لقادم" وذاك لم ينكر الكلام، ويريد أن يستقبل الخبر، تقول "فلان قادم"، فأخبرته بقدوم فلان، لكن إن كان منكرا له، أو منزل منزلة المنكر له، فإنه تؤكد الكلام له، لكي يزيد انتباهه، ويعظم إقراره لما اشتمل عليه.
المشركون لأجل ما هم فيه من شرك، وما عاندوا فيه الرسالة، حالهم بل ومقالهم أنهم هم أصحاب النجاة ﴿وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى﴾[فصلت:50]، فهم ينكرون أنهم سيكونون في خسارة، و ينكرون -طائفة أخرى منهم- أن يكون الإنسان سيرجع إلى خسارة، وأنه لن ينجوا إلا أهل الإيمان، فأكد الله جل وعلا ذلك لأجل إنكارهم بالمقال والفعل وبالحال، بقوله ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾[العصر:2]، يعني إن جنس الإنسان، الألف واللام هذه للجنس (الـ) الجنسية، (الْإِنسَانَ) يعني جنس الإنسان (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ), جنس الإنسان في خسر، يعني في خسارة عظيمة، إلا ما اُستثني، وهذا نوع آخر من شد الذهن لقبول الكلام، (إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ)؛ كل الناس، كل الإنسان في هلاك وخسارة، ثم استثنى فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)، هؤلاء الذين استثناهم الله جل وعلا هم أصحاب هذه المسائل الأربعة التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا)،؛ والإيمان علم وعمل، أليس كذلك؟ الإيمان قول وعمل واعتقاد؛ هذا الاعتقاد هو العلم، لأن العلم مورده القلب والعقل، هذا العلم، فأهل العلم ناجون من الخسارة ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ [العصر:3]، ألم نقل: إن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وهنا قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فعطف بالواو العمل على الإيمان، وأهل اللغة -النحاة- يقولون إن الواو تأتي كثيرا للمغايرة، فهل معنى ذلك أن العمل غير الإيمان؟ وأن مسمى الإيمان لا يدخل فيه العمل؟ الجواب لا, ذلك لأن المغايرة تكون بين حقائق الأشياء, وحقيقة الإيمان أكبر من حقيقة العمل؛ لأن العمل جزء من الإيمان؛ العمل بعض الإيمان، وعطف الخاصّ بعد العام يأتي كثيرا، وكذلك عطف العام بعد الخاص يأتي كثيرا بالواو, من مثل قول الله جل وعلا ﴿مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾[البقرة:98]، هنا (وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) أليسا من الملائكة؟ لما عطفهم على الملائكة؟ عطفٌ للخاص بعد العام، إذن لماذا يعطف الخاص على العام مع دخول الخاص في العام؟ لابد يكون له قصد، لابد يكون ثَم فائدة، الفائدة التنبيه على أنه في الحكم مثل الأول، ولهذا قال جل وعلا هنا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، والشيخ رحمه الله تعالى فهم ذلك؛ فقال (يجب علينا تعلم أربع هذه المسائل)، فذكر العلم ثم العمل؛ لأنه قال وعملوا الصالحات، فلما عطف الخاص على العام دل على شرفه، وعلى أنه يهتم به، وعلى مزيد مكانته، ثم لأنه في الحكم مثل الأول، قال جل وعلا بعد ذلك، (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) يعني دعا بعضهم بعضا إلى الحق، ودعا بعضهم بعضا إلى الصبر، وهذه هي المسائل الأربعة.
الصبر (وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)؛ الصبر أقسام ثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله المؤلم بل صبر على أقدار الله التي تسرّ والتي تؤلم، هذه أنواع الصبر الثلاثة؛ صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على قدر الله، وكلها يحتاج إليها العالمون، العاملون، الدعاة.
قال الشافعي رحمه الله بما ذكر الشيخ هاهنا (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم) يعني لو ما أنزل الله جل وعلا من القرآن، لو ما أنزل الله حجة على الخلق، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذه السورة، لكفى بها حجة، لما ؟ لأنها اشتملت على أن كل الناس آيلون إلى خسارة ووبال وهلاك، إلا أهل هذه الأوصاف؛ وهم المؤمنون. معنى ذلك إذا خوطبنا بهذه السورة، لو خوطبنا بها وحدها، مؤمنون بمن؟ لابد هناك شيء يؤمن به، ثم يعملون, يعملون على أي شيء؟ وبأي شيء؟ لابد أن هناك سبيلا؛ وهو سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك تواصي بالحق، دعوة إلى ذلك، وتواصي بالصبر؛ صبر على هذا، فترى أن هذه السورة اشتملت على كل ما يدل الخلق على ربهم جل وعلا، ويقودهم إلى إتباع رسالة النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم ذكر قول البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، كما نقل الشيخ رحمه الله، (باب العلم قبل القول والعمل) وساق قول الله جل وعلا ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾[محمد:19]، فبدأ بالعلم قبل العمل والقول؛ الذي هو الاستغفار، لما ذكر الشيخ هذا؟ لأي شيء؟ لأجل أن هذه الرسالة؛ رسالة علم، كلها شرح وبيان للمسألة الأولى، للواجب الأول، ألا وهو العلم، فينبه طالب العلم أن العلم مهم, مهم للغاية، حتى إنه قبل القول والعمل، فقبل أن يستغفر العبد، لابد أن يعلم العلم الواجب عليه، وهذا العلم هو الذي ينجيه بنفسه، هو الذي ينجي به نفسَه -بفضل الله جل وعلا- إذا سئل عن هذه المسائل الثلاثة. الشيخ رحمه الله تعالى يريد أن يبين لك، ثلاثة الأصول هذه، والمسائل المتعلقة بها، فأكد لك أهمية العلم بقوله، فيما ساق عن البخاري (باب العلم قبل القول والعمل)، العلم قبل ولاشك؛ ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى، وما أحسن ما قال، يقول:والجهلُ داءٌ قاتل. صدق؛ الجهل داء قاتل، قال:
أمران في التركيب متفقـانِ والجهلُ داء قاتلٌ وشفـــاؤه
وطبيب ذاك العالم الربانـي [نص من القرآن أو من سنـة
من رابع والحق ذو تبيــانِ والعلم أقسام ثلاث]( ) مالــها
وكذلك الأسماء للديــــانِ علم بأوصاف الإلـه وفعلــه
وجزاؤه يوم المعاد الثانــي والأمر والنهي الذي هو دينـه
جاءت عن المبعوث بالفرقان والكلُّ في القرآن والسنن التـي
بسواهما إلا من الهذيــان والله ما قال امرؤ متحذلــق
بين أن الجهل داء قاتل، بما يُزال الجهل؟ قال (بنص من القرآن أو من السنة), من طبيب ذاك الذي يرشدك ويبين لك؟ قال(وطبيب ذاك العالم الرباني), ليس كل منتسب للعلم ولكن هو العالم الرباني، الذين وصفهم الله جل وعلا في سورة آل عمران، بقوله ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾[آل عمران:79], ثم بين العلم هذا ما هو -الذي تسعى إليه-؟، فقال (علم بأوصاف الإلـه وفعلـه وكذلك الأسماء للديـان)، هذه شملت التوحيد؛ توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ثم قال العلم الثاني ما هو؟ قال(والأمر والنهي الذي هو دينه) يعني الفقه؛ الأمر والنهي، الأحكام؛ الحلال والحرام، هذا مأمور به، وهذا منهي عنه، هذا افعله، وذاك لا تفعله، هذا النوع الثاني من العلم النافع. والثالث (وجزاءه يوم المعاد الثاني)الذي هو العلم بما يكون يوم القيامة، ووسائل ذلك.
الشيخ رحمه الله تعالى يقول (العلم قبل القول والعمل)، نعم، وصدق رحمه الله، فالعلم إذا كان قبل القول والعمل بورك لصاحبه في القليل، وإن كان العملُ و القول قبل العلم ربما كانت الأعمال و الأقوال جبالا، ولكنها ليست على سبيل نجاة، ولهذا روى الإمام أحمد في الزهد وأبو نعيم وجماعة عن أبي الدّرداء أنه قال: «يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم، كيف يغبِطُنا سهر الحمقى وصومهم، ولمثقال ذرة مع بِرٍّ ويقين أعظم عند الله من أمثال الجبال عبادةً من المغترين» يقول يا حبذا، يعني يتمنى نوم الأكياس, الأكياس من؟ (إن لله عبادا فطنا) هؤلاء هم الأكياس الذين حيوا؛ قلوبهم صحيحة، عقولهم صحيحة، يقول يا حبذا نوم الأكياس؛ أهل العلم، وإفطارهم، ناموا، والحمقى على كلام أبي الدرداء سهروا ليلهم في صلاة، لكن هؤلاء لا يستوون عند أبي الدرداء مع أولئك؛ لأن أولئك عبدوا الله جل وعلا على جهل، وهؤلاء عبدوا الله بعبادات قليلة، ولكنها مع علم وبصيرة فكانوا أعظم أجرا، بحيث قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «ولمثقال ذرة مع بر ويقين أعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين»، لهذا نقول العلم في غاية الأهمية, العلم في غاية الأهمية، ويُبدأ به قبل أي شيء, خاصة العلم الذي يصحح العبادة، يصحح العقيدة، يصحح القلب، ويجعل المرء في حياته يسير على بيِّنة وفق سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ليس على جهالة.


اعلمْ رحِِمكَ اللهُ: أنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلم ومسلمة تَعَلُّمُ هذه الثلاث مسائل والعملُ بهنَّ:
الأولى: أنَّ اللهَ خَلَقنا ورَزَقَنا ولم يتركْنا هملاًبل أرسلَ إلينا رسولاً فمنْ أطاعَهُ دخلَ الجنَّةَ ومنْ عصاهُ دخلَ النّارَ. والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا(15)فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا﴾[المزمل:15-16].
الثانية: أنَّ اللهَ لا يرضى أن يُشْرك معهُ أحدٌ في عبادتِه لا مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبيٌّ مُرْسَل والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18].
الثالثة: أنَّ مَنْ أطاعَ الرسولَ ووحَّدَ اللهَ لا يجوزُ لهُ مُوالاةُ مَنْ حادَّ اللهَ ورسولَهُ ولو كان أقْرَبَ قريبٍ. والدليلُ قوله تعالى﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾[المجادلة:22].
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذه المسائل الثلاث التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى صلة لما قبلها، وتمهيد لما بعدها، فأعاد وكرر بقوله (اعلم رحمك الله)، وفي هذا ما فيه من التلطف بالمتعلمين، اعلم أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلم ثلاث هذه المسائل مع المسائل الأربع التي سبقت، وهذه المسائل يجب أن يتعلمها كل مسلم وكل مسلمة؛ لأن فيها بيان أصل الدين وقاعدة الدين:
• الأولى من تلكم المسائل: أن الله جل جلاله خلق الخلق لغاية، لم يخلقهم لغير غاية، لم يخلقهم سدا ولا عبثا سبحانه وتعالى عما يصفون، بل إنما خلق الخلق لغاية، قال جل وعلا ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾[الملك:2]، وقال جل وعلا﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا﴾[المؤمنون:115]، يعني لغير غاية ولغير حكمة ﴿وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾[المؤمنون:115]، وأنه لن يكون بعث بعد خلقكم، وأنه لن يكون إرجاع لكم إلى من خلقكم، هذا فيه قدح، هذا الظن فيه قدح في حكمة الله جل وعلا، لذلك قال جل وعلا بعدها ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ﴾( ) تعالى عما يصفه به المبطلون، تعالى عما يظنه عليه الجاهلون القادحون في حكمته، فإذن الخلق مخلوقون لغاية، ما هذه الغاية؟ هي ما بينها في قوله جل وعلا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات:56-58]، الله جل وعلا ما خلق الجن والإنس إلا لغاية واحدة وهي الابتلاء؛ ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾( ) الاختبار اختبار في أي شيء ؟ في عبادته هل يعبد وحده لا شريك له أم يتخذ المخلوق هذا آلهةً أخرى مع الله جل وعلا؟ وهذه مسألة ولا شك عظيمة.
الإنسان خُلق لهذه الغاية، لكن يحتاج إلى من يُبَصِّره بهذه الغاية، ويعلّمه القصد من خلقه، ويعلمه كيف يصل إلى عبادة ربه على الوجه الذي يرضى به اللهُ جل وعلا عنه، فبعث الله جل وعلا رسلا مبشرين ومنذرين يدلون الخلق إلى وعلى خالقهم، يعرفونهم بمن يستحق العبادة وحده، ويعرفونهم بالطريق التي أذن من خلقهم أن يعبدوه بها؛ قال جل وعلا لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾[سبإ:28]، وقال جل وعلا ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا﴾[المزمل:15]، وكل أمة قد خلا فيها نذير، كما قال جل وعلا ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾[فاطر:24]، نذير ينذرهم ويبشرهم؛ يبَشِّر من أطاع وينذر من النار، ويخوف من النار ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، فثبت بهذه النصوص أن الله جل وعلا لم يترك الخلق وشأنهم بعد أن خلقهم، بل بعث لهم رسلا يعلمونهم ويهدونهم ويبصّرونهم الطريق التي يرضى الله جل وعلا بها أن يعبدوه بها دون ما سواها من الطرق الموصلة، وتلكم الطريق طريق واحدة، ليست بطرق متعددة كما قال جل وعلا ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾[الفاتحة:6] فهو صراط واحد، وهناك صُرط أخرى، هي صُرط أهل الضلال والجهل والغِواية، والهوى أما الطريق الموصلة إلى الله جل وعلا فهو طريق المرسلين الذي جاءوا به من عند الله جل وعلا؛ وهو دين الإسلام العام، كما قال جل وعلا ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾[آل عمران:19]، الاستسلام لله جل وعلا بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله, الرسل بينوا للناس هذه الغاية، ودلُّوهم على عبادة الله جل وعلا وحده دون ما سواه، فقامت العداوةُ بين الرسل وبين أقوامهم في هذا الأصل؛ حيث إن الخلق يريدون أن يعبدوا الله جل وعلا بالطريقة التي يحبون لا بالطريقة التي يحبها الله جل وعلا، ولهذا قال بعض أئمة السلف «ليس الشأن أن تُحِب ولكن الشأن أن تُحَب»؛ ليس الشأن أن تحب الله، فإن محبة الله جل وعلا يدعيها المشركون، يدعيها الضالون، كل قوم بُعث فيهم الرسل يدعون أنهم يريدون وجه الله، يريدون ما عند الله يحبونه, ربما يتصدقون ويُصَلُّون ويدعون ويَصِلُون ويتقربون، وما فِعل أهل الجاهلية؛ جاهلية العرب مِنَّا ببعيد، لكن ليس الشأن أن يُحب المحبُّ ربَّه، ولكن الشأن أن يُحب العبدَ ربُّه؛ الشأن أن يحب الله جل وعلا العبد متى يكون ذلك؟ لابد أن يبحث العبد عن سبيل محبة الله جل وعلا له، هذا السبيلُ بيَّنه الله جل وعلا في قوله ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ﴾ زعمًا ﴿ فَاتَّبِعُونِي﴾ طاعةً ﴿يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ﴾[آل عمران:31]. فإذن سبيل محبة الله للعبد هي طاعة الرسل، واتباع الرسل وخاتم المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ببعثته وبرسالته نُسخت جميع الرِّسالات ونسخت جميع الكتب من قبله عليه الصلاة والسلام، فبقي للناس طريق واحد يصلون به إلى ربهم جل وعلا؛ ألا وهو طريق محمد عليه الصلاة والسلام، إذ هو الواسطة العملية للاتباع؛ لاتباعه للوصول إلى الله جل وعلا، فمن اتبع واهتدى بغير هدي النبي عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الخاتم، فهو من الضالين الذين تنكبوا سبيل الحق.
هذا الأصل الأول، وهذه المسألة الأولى عظيمة جدا؛ لأنها إذا استقرت في قلب العبد قادته إلى كل خير، يعلم أنه ما خلق إلا لغاية. ما هذه الغاية؟ هي عبادة الله وحده دون ما سواه. كيف أعرف طرق هذه العبادة؟ باتباع النبي عليه الصلاة والسلام. فتلخص الدين في هذه المسألة العظيمة، وما أحسن قول شمس الدين بن القيم في نونيته بعد أبيات قال:
أعني سبيل الحق والإيمان فلواحد كن واحدا في واحد
(لواحد) لله جل وعلا وحده دون ما سواه, (كن واحدا) في قصدك وإرادتك وتوجهك وطلبك, (في واحد) في طريق واحد، قال بعدها (أعني سبيل الحق والإيمان) الذي هو سبيل النبي عليه الصلاة والسلام.
• المسألة الثانية: أن الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، بل كلٌّ عبيد لله جل وعلا. الله جل وعلا إنما يرضى التوحيد، يرضى أن يعبد وحده دون ما سواه، فمن أشرك مع الله جل وعلا إلها آخر فقد نقض الغاية العملية التي كُلِّف بها من خلقه ومن إيجاده؛ قال جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) دعاء مسألة، ودعاء عبادة مع الله أحدا.
المساجد يفعل فيها شيئان:
 سؤال الله جل وعلا، دعاء الله جل وعلا دعاء المسألة، هذا نوع.
 والثاني عبادة الله جل وعلا بأنواع العبادات من الصلاة؛ الفرض و النفل، ومن التلاوة، ومن الذكر، ومن التعلم والتعليم، ونحو ذلك.
قال جل وعلا ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ (الْمَسَاجِدَ) أقيمت لله جل وعلا؛ لعبادته وحده دون ما سواه، فلا تدعو دعاء مسألة أحدا غير الله، ولا تدعو دعاء عبادة أحدا غير الله، وكما أن المصلي لا يصلي إلا لله، فكذلك في المسجد وفي غيره فلا يسأل ولا يدعو إلا الله جل وعلا.
دعاء المسألة: هو الذي يسميه العامّة أو يسمِّيه الناس الدعاء، وهو المقصود به، إذا قيل دعا فلان يعني سأل به الله جل وعلا قال: اللهم اعطني، اللهم قني، اللهم اغفر لي. ونحو ذلك، هذا يسمى دعاء المسألة.
أمَّا دعاء العبادة: فهو العبادة نفسُها؛ لأن المتعبد لله جل وعلا بصلاة أو بذكر هو سائل لله جل وعلا، لأنه إنما عبد أو صلى، أو صام، أو زكى، أو ذكر، أو تلا، رغبةً في الأجر، كأنه سأل الله جل وعلا الثواب، لهذا يُقال الدعاء قسمان: دعاء مسألة ودعاء عبادة، قال جل وعلا ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]، قال في أول الآية (ادْعُونِي)، وقال في آخرها (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) فدل على أن الدعاء عبادة، أو هو العبادة، ولهذا فسر السلف قوله (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) الاستجابة هنا فُسِّرت بتفسيرين: (أَسْتَجِبْ) بمعنى أُعطكم ما سألتم، أو أُثِبْكُم؛ أدعوني أثبكم، إذا كانت في هذا التقسيم (أدعوني أثبكم) بهذا المعنى فيكون الدعاء هنا الدعاء بمعنى العبادة، لأنها هي التي يتعلق بها الثواب. وإذا كانت الإجابة هنا بمعنى إعطاء السُّول يكون الدعاء هنا دعاء مسألة.
وهذه المسألة مقررة تقريرا واضحا في كتب أهل العلم؛ ألا وهي أن قوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، أنه يشمل نوعي الدعاء؛ دعاء المسألة ودعاء العبادة. وقد جاء في الحديث الصحيح عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء هو العبادة»، وفي معناه ما جاء عن أنس مرفوعا «الدعاء مخ العبادة».
الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، قد يُتَوهَّم أن المخلوق إذا بلغ إلى غاية عظيمة أنه يمكن أن يوصل إلى الله جل وعلا باتخاذه واسطة، باتخاذه وسيلة، وأعلى المخلوقات مقاما عند الخلق الملائكة والرسل والأنبياء، لهذا نفى الشيخ رحمه الله تعالى هذين فقال: (الله جل وعلا لا يرضى أن يشرك معه أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل)، (لا ملك مقرب) حتى ولو كان جبريل الذي هو سيد الملائكة وأشرفهم وأعظمهم. (ولا نبي مرسل) حتى النبي عليه الصلاة والسلام. دليل ذلك ﴿فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، وجه الاستدلال أن (أَحَدًا) نكرة جاءت في سياق النفي، وقد تقرر أن النكرات إذا أتت في سياق النفي، أو النهي، أو الشرط، أو الاستفهام، فإنها تعُم. قال (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يدخل في (أَحَدًا) الملائكة، ويدخل فيه الأنبياء.
هذا الأصل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يعلمه علما يقينيا لاشك فيه ولا شبهة، بدليله وهو قوله ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، فلا يخطر على قلب المسلم أو المسلمة أنه يمكن أن يدعو غير الله، أو أن يستغيث بغير الله، أو أن يتوجه إلى غير الله، بأي نوع من أنواع العبادات، حتى ولو كان المتوجه إليه ملك مقرب، أو نبي مرسل.
ومن المتقرر أن ثمَّ فرقا بين النبي والرسول؛ فليس كل نبي رسولا، بينما كل رسول نبي، وقول الشيخ هنا (ولا نبي مرسل)؛ لأن الرسالة أرفع درجة من النبوة. والفرق بينهما أن:
النبي: هو من أوحي إليه بشرع، وأُمر بتبليغه إلى قوم موافقين له، أو لم يؤمر بالتبليغ.
والرسول: هو من أوحي إليه بشرع، أو كتاب، وأُمر بتبليغه إلى قوم مخالفين.
فإذن النبي مرسل، وقد يكون مرسلا إلى نفسه، لكنه ليس بالرسول بالمعنى الأخص.
وبهذا يتضح المقام بقوله، وذلك لقول الله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾[الحج:52]، فأثبت أن الرسول مُرسل، وأن النبي أيضا يقع عليه الإرسال قال (وما أرسلنا من قبلك من رسول)، (الرسول) يقع عليه الإرسال (ولا نبي) أيضا النبي يقع عليه الإرسال، يعني يؤمر أن يبلغ ذلك لمن؟ لمن يوافقه هذا النبي، مثل أنبياء بني إسرائيل إذا مات فيهم نبي؛ خلفه نبي يبلغ من يوافقه في عقيدته، من يوافقه في إتباعه لشريعة النبي؛ الرسول الذي قبله، إذا بلَّغ موافقا، وكان هذا التبليغ مأمورا به من الله جل وعلا، ومعه شرع، أو بعض شرع، فإن هذا نبي. وقد لا يكون مأمورا بتبليغه إلى قوما موافقين، فقد يُبَلِّغ نفسَه، وعلى هذا يحمل بأحد تفاسير أو شروح العلماء، ما جاء في الحديث «أن النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد» قد يكون لأنه لم يُستجب له، وقد يكون بأنه إنما أُمر أو أوحي إليه لنفسه لا لغيره.
• المسألة الثالثة: أن من وحد الله وأطاع الرسول واتبع دين الإسلام لا يجوز له أن يوالي من حاد اللهَ ورسولَه, ولو كان أقرب قريب، لا يجوز له أن يوالي من حاد الله ورسوله, ولو كان ذلك أباه أو أمه أو أخاه أو أخته أو قريبه, وذلك لقول الله تعالى ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾[المجادلة:22]، إلى آخر الآية, وقال جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾[التوبة:23]، وقال جل وعلا ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51] لمـّا ذكر اليهود والنصارى، فأصل الدين الذي هو من معنى كلمة التوحيد الولاء والبراء؛ الولاء للمؤمنين وللإيمان، والبراءة من المشركين والشرك، ولهذا يُعِّرف علمائنا الإسلام: بأنه الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله.
وها هنا تنبيه أنها في بعض نسخ كتاب الشيخ أنه عرّف الإسلام بهذا وقال في آخره (والخلوص من الشرك وأهله)، والمعروف عنه في النسخ الصحيحة التي قُرِأت على العلماء (البراءة من الشرك وأهله)؛ لأن البراءة تشمَل الخلوص وزيادة، وهي الموافقة لقول الله جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾[الزخرف:26-27].
هنا قال (لا يجوز لمن وحد الله، وأطاع الرسول، واتبع دين الإسلام، أن يوالي أحدا من المشركين). (الموالاة) معناها أن تتخذه وليا، وأصلها من الوَلاية، والوَلاية هي المحبة، قال جل وعلا ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾[الكهف:44]، يعني هنالك المحبة والمودة والنُّصرة لله الحق، فأصل الموالاة المحبة والمودة، ولهذا استدل بقوله ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ﴾[المجادلة:22]، ففسَّر الموالاة بأنها المُوادّة، وهذا معناه أن أصل الموالاة في القلب، وهو محبة الشرك أو محبة أهل الشرك والكفر. فأصل الدين أن من دخل في (لا إله إلا الله) فإنه يحب هذه الكلمة وما دلت عليه من التوحيد، ويحب أهلها، ويُبغض الشرك المناقض لهذه الكلمة، ويبغض أهله. فكلمة الولاء والبراء هي معنى الموالاة والمعاداة، وهي بمعنى الحب والبغض، فإذا قيل الولاء والبراء في الله هو بمعنى الحب والبُغض في الله، وهو بمعنى الموالاة والمعاداة في الله؛ ثلاثة بمعنىً واحد، فأصله القلب؛ محبة القلب، إذا أحبَّ القلبُ الشرك صار مواليا للشرك، إذا أحب القلبُ أهل الشرك صار مواليا لأهل الشرك، كذلك إذا أحب القلبُ الإيمان صار مواليا للإيمان، إذا أحب القلبُ اللهَ صار مواليا لله، إذا أحب القلبُ الرسول صار وليا ومواليا للرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا أحب القلبُ المؤمنين صار مواليا ووليا للمؤمنين؛ قال جل وعلا ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ(55)وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ﴾[المائدة:55-56]، يعني من يحب وينصر اللهَ ورسولَه والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.
الموالاة؛ موالاة المشركين والكفار محرمة وكبيرة من الكبائر، وقد تصل بصاحبها إلى الكفر والشرك، ولهذا ضبطها العلماء بأن قالوا تنقسم المولاة إلى قسمين: الأول التولِّي. والثاني المولاة. الموالاة باسمها العام تنقسم: إلى التولي وإلى موالاة.
 أما التولِّي فهو الذي جاء في قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51]، تولاه توليا؛ التولي معناه محبة الشرك وأهل الشرك، محبة الكفر وأهل الكفر، أو نصرة الكفار على أهل الإيمان، قاصدا ظهور الكفر على الإسلام، بهذا الضابط يتضح معنى التولي. والتولي -كما ذكرتُ لكم- تولِّي الكفار والمشركين كفر أكبر، وإذا كان من مسلم فهي ردة. ما معنى التولِّي؟ معناه محبة الشرك وأهل الشرك (لاحظ الواو)؛ يعني يحب الشرك وأهل الشرك جميعا مجتمعة، أو أن لا يحب الشرك ولكن ينصرُ المشركَ على المسلم، قاصدا ظهور الشرك على الإسلام، هذا الكفر الأكبر الذي إذا فعله مسلم صار رِدَّة في حقه والعياذ بالله.
 القسم الثاني الموالاة: والموالاة المحرّمة من جنس محبة المشركين والكفار، لأجل دنياهم، أو لأجل قراباتهم، أو لنحو ذلك، وضابطه أن تكون محبة أهل الشرك لأجل الدنيا، ولا يكون معها نصرة؛ لأنه إذا كان معها نصرة على مسلم بقصد ظهور الشرك على الإسلام صار توليا، وهو في القسم المُكَفِّر، فإن أحب المشرك والكافر لدنيا، وصار معه نوع موالاة، معه لأجل الدنيا، فهذا محرم ومعصية، وليس كفرا؛ دليل ذلك قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]، قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: أثبت الله جل وعلا في هذه الآية أنه حصل ممن ناداهم باسم الإيمان اتخاذ المشركين والكفار أولياء بإلقاء المودة لهم. وذلك كما جاء في الصحيحين، وفي التفسير في قصة حاطب المعروفة حيث إنه أرسل بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -هذه عظيمة من العظائم- للمشركين لكي يأخذوا حِذْرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كُشِفَ الأمر، قال عمر رضي الله عنه للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله دعني أضرب عنقَ هذا المنافق. قال النبي عليه الصلاة والسلام لعمر: أتركه يا عمر، يا حاطب ما حملك على هذا؟ فدل على اعتبار القصد؛ لأنه إن كان قصد ظهور الشرك على الإسلام، وظهور المشركين على المسلمين، فهذا يكون نفاقا وكفرا، وإن كان له مقصد آخر فله حكمه. قال عليه الصلاة والسلام -مستبينا الأمر- ما حملك يا حاطب على هذا ؟ قال: يا رسول الله والله ما حملني على هذا محبة الشرك وكراهة الإسلام، ولكن ما من أحد من أصحابك إلا وله يد يحمي بها ماله في مكة، وليس لي يدٌ أحمي بها مالي في مكة، فأردتُ أن يكون لي بذلك يد أحمي بها مالي في مكة. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقكم. الله جل وعلا قال في بيان ما فعل حاطب ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾[الممتحنة:1]، يعني حاطبا، ففِعْلُه ضلال. وما منع النبي عليه الصلاة والسلام من إرسال عمر أو ترك عمر إلا أن حاطبا لم يخرج من الإسلام بما فعل، ولهذا جاء في رواية أخرى قال: إن الله اطلع على أهل بدر، فقال: افعلوا ما شئتم لقد غَفَرْتُ لكم. قال العلماء: لعلمه جل وعلا بأنهم يموتون ويبقون على الإسلام. دلت هذه الآية وهي قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾[الممتحنة:1]، مع بيان سبب نزولها من قصة حاطب، أن إلقاء المودة للكافر لا يسلب اسم الإيمان؛ لأن الله ناداهم باسم الإيمان، فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) مع إثباته جل وعلا أنهم ألقَوا المودة.
ولهذا استفاد العلماء من هذه الآية، ومن آية سورة المائدة ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾[المائدة:51]، ومن آية المجادلة التي ساقها الشيخ ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾[المجادلة:22]، إلى أنَّ الموالاة تنقسم إلى تولٍّ وموالاة؛ الموالاة بالاسم العام منه تولٍ وهو المُكَفِّر بالضابط الذي ذكرتُه لك، ومنه موالاة وهو نوع مودة لأجل الدنيا ونحو ذلك.
والواجب أن يكون المؤمن محبا لله جل وعلا ولرسوله وللمؤمنين، وأن لا يكون في قلبه مودة للكفار ولو كان لأمور الدنيا، إذا عَامَلَ المشركين أو عَامَلَ الكفار في أمور الدنيا، إنما تكون معاملة ظاهرة بدون ميل القلب، ولا محبة القلب لما؟ لأن المشرك حمل قلبا في مسبَّة الله جل وعلا, لأن المشرك سابٌّ لله جل وعلا بفعله، إذ اتخذ مع الله جل وعلا إلها آخر، والمؤمن متولٍّ لله جل وعلا ولرسوله وللذين آمنوا، فلا يمكن أن يكون في قلبه مُوادَّة لمشرك حمل الشرك والعياذ بالله.
هذه الثلاث مسائل من المهمَّات العظيمات:
• الأولى: أن يعلم المرء الغاية من خلقه، وإذا علم الغاية، أن يعلم الطريق الموصلة لانفاذ هذه الغاية.
• الثانية: ليعلم أن الطريق واحدة، وأن الله جل وعلا لا يرضى الشرك به، حتى بالمقربين عنده، والذين لهم المقامات العالية عنده جل وعلا، لا يرضى أن يشرك معه أحد.
• الثالثة: أن لا يكون في قلب الموحِّد؛ الذي وحَّد الله، وأطاع الرسول، وخلص من الشرك، أن لا يكون في قلبه محبة للمشركين.
هذه الثلاث هي أصول الإسلام بأَحد الاعتبارات، أسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن تحققوا بها قولا وعملا واعتقادا وانقيادا.

اعلَمْ -أرشدَكَ اللهُ لطاعتِه- أنَّ الحنيفيةَ: مِلَّةَ إبراهيمَ، أنْ تعبدَ اللهَ وحدَهُ مخلصًا له الدِّين، وبذلكأَمَرَ اللهُ جميعَ الناس وخلَقهم لها، كما قال تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾[الذرايات:56]، ومعنى (يَعْبُدُونِ) يوحِّدون وأعظمُ ما أَمرَ اللهُ به التوحيدَ وهو: إفرادُ اللهِ بالعبادة وأعظمُ ما نهى عنه الشركُ؛ وهو دعوةُ غيرهِ معهُ والدليل قوله تعالى ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾[النساء:36].
هذا فيه تلطّف ثالث منه رحمه الله تعالى؛ حيث دعا للمتعلم بقوله (اعلم أرشدك الله)، وهذا الذي ينبغي على المعلمين أن يكونوا متلطفين بالمتعلمين؛ لأن التلطف والتعامل معهم بأحسن ما يجد المعلم هذا يجعل قلبَ المتعلم قابلا للعلم، مُنفتحا له، مُقبلا عليه.
ويقول (إن الحنيفية ملة عليه السلام) هي التي أمر الله جل وعلا نبيه، وأمر الناس أن يكونوا عليها، قال جل وعلا ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾[النحل:123]، وملة إبراهيم هي التوحيد؛ لأنه هو الذي تركه فيمن بعده؛ حيث قال جل وعلا ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾[الزخرف:26-27]، هذه الكلمة (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت على نفي في الشق الأول، وعلى إثبات في الشق الثاني، (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) البراءة نفيٌ، ثم أثبت فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) فتبرأ من المعبودات المختلفة، وأثبت أنه عابد للذي فطره وحده، وهذا هو معنى كلمة التوحيد، ولهذا قال جل وعلا بعدها ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:28]، يعني لعلهم يرجعون إليها، وعقب إبراهيم عليه السلام منهم العرب، أليس كذلك؟ ومنهم أتباع الأنبياء، فهو أبو الأنبياء، ومعنى ذلك، أنه أبٌ لأقوام الأنبياء، (جَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إليها، وهذه الكلمة هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله؛ لأن التوحيد هو ملة إبراهيم، لا إله إلا الله معناها ما قال إبراهيم عليه السلام ﴿ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي﴾[الزخرف:26-27]، فـ (لا إله) مشتملة على البراءة من كل إله عُبد، و(إلا الله) إثبات للعبادة؛ إثبات لعبادة الله وحده دونما سواه، ولهذا يقول العلماء (لا إله إلا الله) معناها لا معبود حقٌّ أو بحق إلا الله. معنى ذلك أن كل المعبودات إنما عُبدت بغير الحق، قال جل وعلا ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾[الحج:62]، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، ولكونه جل وعلا هو الحق كانت عبادته وحده دون ما سواه هي الحق, قال (لا إله)، لا إله بحق, لا معبود بحق، لكن ثَم معبودات بغير الحق، ثَمَّ معبودات بالباطل، ثمَّ معبودات بالبغي، بالظلم والعدوان، لكن المعبود بحق يُنفى عن جميع الآلهة إلا الله جل وعلا، فإنه هو وحده المعبود بحق. هذه الكلمة هي التي ألقاها إبراهيم عليه السلام في عقبه، وهذا مراد الشيخ رحمه الله تعالى بما ذَكر، وبَيَّن أن أعظم الواجبات، أعظم ما أمر به إبراهيم الخليل عليه السلام، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد، وأعظم ما نهى عنه الشرك، ومعنى ذلك أن أعظم دعوة الأنبياء والمرسلين من إبراهيم عليه السلام، بل من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أعظم ما يُدعا إليه بالأمر هو الأمر بتوحيد الله جل وعلا، وأعظم ما ينهى عنه ويؤمر الناس بتركه هو الشرك، فأعظم ما أمر به التوحيد، وأعظم ما نهي عنه الشرك، لما ؟ لأن التوحيد هو حق الله جل وعلا، ومن أجله بُعثت الرسل، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل:36]، فالغاية من بعث الرسل أن تُبيِّن للناس، وأن تقول للناس أعبدوا الله وحده دون ما سواه، هذا الأمر، (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) يعني أتركوا الشرك ومظاهر الشرك.
إذن أعظم مأمور به هو التوحيد، أعظم ما دعا إليه الرسل والأنبياء من نوح عليه السلام إلى نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، أعظم ما دُعي إليه من المأمورات التوحيد، وأعظم ما نُهي عنه من المنهيات هو الشرك، لما؟ لأن الغاية من خلق الإنسان هي عبادة الله وحده، فصار الأمر بالتوحيد هو الأمر لهذا المخلوق بأن يَعلم وأن يُنْفِذَ غاية الله جل وعلا من خلق هذا المخلوق. والنهي عن الشرك معناه النهي عن أن يأخذ هذا المخلوق بطريق أو بفعل يخالف الغاية بفعله، وهذا ولا شك كما ترى يقود إلى فهم التوحيد، وإلى فهم حق الله جل وعلا، وفهم دعوة الحق بأعظم ما يكون الفهم؛ لأنك تنظر إلى أن إنفاذ المرء ما خُلق من أجله هو أعظم ما يُدعا إليه، ونَهيُ المرء عن ما يصده عما خُلق من أجله هذا أعظم ما يُنهى عنه، ولهذا كانت دعوة المصلحين، ودعوات المجددين على مر العصور بهذه الأمة هي في الدعوة إلى التوحيد ولوازمه و النهي عن الشرك وذرائعه.
أسأل الله جل وعلا أن يزيدني وإياكم العلم النافع وأن يمن علينا بالعمل الصالح وبالفهم والسداد وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

فَإِذَا قِيلَ لَكَ مَا الأُصُولُ الثلاثةُ التي يجبُ على الإنسانِ معرفتُها؟ فقُلْ معرِفةُ العبدِ رَبَّهُ، ودينَهُ، ونبيَّهُ محمدًا صلى الله عليه وسلم.
فإذا قيلَ لكَ: مَنْ رَبُّكَ؟ فقلْ ربيَّ اللهُ الذي ربّاني ورَبَّى جميعَ العالمينَ بنعمِهِ، وهو معبودي ليس لي معبودٌ سواهُ، والدليلُ قوله تعالى ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾( ) وكلُّ ما سِوَى اللهِ عالََمٌ وأنا واحدٌ من ذلكَ العالَمِ.
فإذَا قيلَ لكَ بما عرفْتَ ربَّك؟ فقُل بآياتِه ومخلوقاتِه؛ ومِنْ آياتِه الليلُ والنهارُ والشمسُ والقمرُ، ومِنْ مخلوقاتِه السمواتُ السَّبْعُ والأَرْضُونَ السَّبع ومَنْ فيهنَّ وما بينهما، والدليلُ قولُه تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾[فصلت:37]، وقولُهُ تعالى ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف:54].
والرَّبُّ هو المعبودُ، والدليلُ قولُه تعالى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:21-22]، قالَ ابنُ كثيرٍ رحمَهُ اللهُ تعالى: الخالقُ لهذهِ الأشياءِ هو المستحقُّ للعبادةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فهذا ابتداء من المصنف رحمه الله تعالى، لبيان المقصود من تأليف هذه الرسالة، وما قبله من المهمات التي هي موطئات لهذا المقصود؛ من بيان الواجبات الأربع، ثم الواجبات الثلاث، ثم ما يتصل بذلك.
هذه الرسالة صنفت لبيان الأصول الثلاثة؛ ألا وهي مسائل القبر؛ من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ والجواب عليها في هذه الرسالة، بل إن هذه الرسالة من هذا الموضع إلى آخرها جواب على هذه الأسئلة الثلاث، فمن كان عالما بما في هذه الرسالة من بيان تلك الأصول العظام، كان حَرِيًّا أن يُثبت عند السؤال، ذلك لأنها قُرنت بأدلتها، وقد جاء في الحديث الذي في الصحيح أن من المسؤولين في القبر من يقول: ها, ها لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. استدل العلماء بقول هذا المفتون في قبره (سمعت الناس يقولون شيئا فقلته) على أن التقليد لا يصلح في جواب هذه المسائل الثلاث؛ جواب (من ربك؟) يعني من معبودك؟ جواب (ما دينك؟), جواب (من نبيك؟) ولهذا يذكر الشيخ الإمام رحمه الله تعالى بعد كل مسألة مما سيأتي، يذكر الدليل من القرآن، وقد بينا في أول هذا الشرح؛ أن المؤمن يخرج من التقليد، ويكون مستدلا بما يعلمه، ويعتقده من هذه المسائل بالحق، إذا علم الدليل عليها مرة في عمره، ثم اعتقد ما دل عليه الدليل، فإن استقام على ذلك حتى موته، فإنه يكون مؤمنا؛ يعني مات على الإيمان؛ لأن استمرار استحضار الدليل والاستدلال لا يُشترط، لكن الذي هو واجب أن يكون العبد في معرفته للحق في جواب هذه المسائل الثلاث، أن يكون عن دليل واستدلال ولو لِمرّة في عمره، ولهذا يعلم الصغار والأطفال عندنا رسالة الأصول الثلاثة الأخرى التي فيها جواب أيضا مع بعض الاستدلال بأقصر مما هنا، يُعلَّمون جواب هذه المسائل الثلاث، حتى إذا بلغ الغلام أو الجارية، إذا هو قد عرف عن دليل واستدلال.
قال رحمه الله تعالى (فإذا قيل لك ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟ فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم)، (معرفة العبد ربه) يعني معرفة العبد معبوده؛ لأن الربوبية في هذا المقام يُراد بها العبودية، لما؟ لأن الابتلاء للأنبياء والمرسلين لم يقع في معاني الربوبية، ألم ترَ أن الله جل وعلا قال؟ ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ هذه مقتضيات الربوبية ﴿فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ﴾[يونس:31]. المشركون في كل زمان لم يكونوا ينازعون في تَوَحُّدِ الله جل وعلا في ربوبيته، ولهذا فسر العلماء سؤال القبر من ربك؟ بمن معبودك؟ لما؟ لأن الابتلاء لم يقع في الربوبية، وقد سئل الشيخ الإمام رحمه الله تعالى عن الفرق بين الربوبية والألوهية في بعض النصوص -في أحد الأسئلة التي وجهت إليه- فكان من جوابه أن قال: هذه مسألة عظيمة، وذلك أن الربوبية إذا أطلقت، أو إذا أفردت فإنه يدخل فيها الألوهية؛ لأن الربوبية تستلزم الألوهية، وتوحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، والألوهية تتضمن الربوبية. لأن الموحد لله جل وعلا في ألوهيته هو ضمنا مقر بأن الله جل وعلا هو واحد في ربوبيته، ومن أيقن أن الله جل وعلا واحد في ربوبيته استلزم ذلك أن يكون مقرا بأن الله جل وعلا واحد في استحقاق العبادة، ولهذا تجد في القرآن أكثر الآيات فيها إلزام المشركين بما أقروا به ألا وهو توحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، من مثل قول الله جل وعلا في سورة الزمر﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾( ) هذا توحيد الربوبية قال بعدها ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾[الزمر:38]، قال (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ) والفاء هنا رتبت ما بعدها على ما قبلها؛ وما قبلها هو توحيد الربوبية وما بعدها هو توحيد الإلهية، ولهذا في القرآن يكثر أن يحتج على المشركين بإقرارهم بتوحيد الربوبية على ما أنكروه ألا وهو توحيد الإلهية، لهذا قال جل وعلا ﴿وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:80], المعنى بـ(أَرْبَابًا) أي معبودين وكذلك قوله تعالى﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[التوبة:31]، يعني معبودين لأن عدي ابن حاتم لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إنا لم نعبدهم. ففهم معنى الربوبية في الآية معنى العبادة، وهذا هو الذي يفهمه من يعرف اللسان العربي، قال النبي عليه الصلاة والسلام -كما هو معروف-: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه» قال: بلى. فقال: «فتلك عبادتهم».
إذن الربوبية تطلق ويراد منها العبودية في بعض المواضع، تارة بالاستلزام، وتارة بالقصد. وبعض علمائنا قال إن لفظ الألوهية والربوبية يمكن أن يُدخل في الألفاظ التي يقال إنها إذا اجتمعت تفرقت وإذا تفرقت اجتمعت، وهذا وجيه.
قال الشيخ رحمه الله تعالى هنا (فقل معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) والمعرفة ترادف العلم في حق المخلوق في أكثر المواضع، أما في حق الله جل وعلا فإن الله جل وعلا يُوصف بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة، وذلك لأن العلم قد لا يسبقه جهل، بينما المعرفة يسبقها جهل؛ عرف الشيء بعد أن كان جاهلا به، لكن العلم قد لا يسبقه جهل به، ولهذا يوصف الله جل وعلا بالعلم، ولا يوصف بالمعرفة. أيضا يقال إن التعبير بالعلم أوجه في المواضع التي يُحتاج فيها إلى التعبير بالمعرفة وذلك لأن المعرفة أكثر ما جاءت في القرآن مذمومة لأنه يتبع المعرفة الإنكار، أما العلم فأوتي به في القرآن ممدوحا، قال جل وعلا ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾[الأنعام:20]، فهنا وصفهم بالمعرفة ثم بين أن معرفتهم تلك لم تنفعهم، وقال جل وعلا ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾[النحل:83]، لكن العلم أُثني عليه في القرآن، وأما المعرفة فربما بل أكثر المواضع فيها نوع ذم لها، لكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه قد جاء في صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى في بعض طرق حديث ابن عباس الذي فيه إرسال معاذ إلى اليمن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:«فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يعرفوا الله فإن هم عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات»إلى آخره، فصارت المعرفة هنا بمعنى العلم بالتوحيد كما في الروايات الأخر، لكن التعبير بالمعرفة كما استعمله الشيخ رحمه الله تعالى هنا صحيح، وذلك لأنه قد ورد الاستعمال به، وإن كان أكثر ما جاء استعمال لفظ المعرفة في كونه مذموما.
قال هنا (معرفة العبد ربه) يعني معبوده، (معرفة العبد دينه، معرفة العبد نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم) هذه الأصول الثلاثة هي التي سيأتي تفصيلها والجواب عليها.
ثم بدأ يشرح رحمه الله تعالى، ويفصل (معرفة العبد ربه)عن طريق السؤال والجواب، لأن هذا أوقع في النفس، وأقرب إلى التعليم.
(إن قيل لك من ربك ؟ فقل ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته) لفظ الربوبية فيه معنى التربية, رباه تربية ومعنى التربية تدريج المربى في مصاعد الكمال، كل كمال بحسبه، وأعظم أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا الناس أن بعث لهم الرسل يعلمونهم، ويرشدونهم ما يقربهم إلى الله جل وعلا، وهذه هي أعظم نعمة، قال جل وعلا ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾[يونس:58]، فأعظم النعم المسداة إرسال الرسل، ولهذا كان من أنواع التربية التي ربى بها الله جل وعلا العالمين، ربى بها الله جل وعلا الناس، أن بعث لهم رسلا يبشرون و ينذرون، وهناك أنواع كثيرة من التربية؛ تربية الأجسام، تربية الغرائز، تربية الفكر، تربية العقل، كل هذا قد مَنَّ الله جل وعلا على ابن آدم به، وكذلك إذا نظرت إلى أوسع من ذلك من خلق الله جل وعلا الواسع، والعالمون الذين هم كل ما سوى الله جل وعلا، فتجد أن معاني الربوبية والتربية بالنعم والتربية في تدريجها في مدارج الكمال بما يناسبها، والله جل وعلا أعلم بما يَصلح ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾[القصص:68]، وجدت أن معاني الربوبية في هذا المعنى الذي هو التربية ظاهر جدا، أيضا الربوبية لها معنى آخر، وهو الذي سلف من معنى توحيد الربوبية؛ يعني اعتقاد أن الله جل وعلا هو الخالق لهذا الخلق وحده، وهو الرزّاق وحده، وهو الذي يدبر الأمر، وهو القاهر، وهو ذو الملك، إلى آخر معاني الربوبية.
قال جل وعلا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ استدل الشيخ بهذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) معنى (الْحَمْدُ) كل حمدٍ، لأن الألف واللام هنا للاستغراق؛ استغراق أنواع الحمد، وكل حمدٍ موجود، أو وجد، أو يوجد، والحمد معناه الثناء بصفات الكمال، فهذا الحمد وهو الثناء بصفات الكمال لله، واللام هنا للاستحقاق يعني مستحَقًّا لله جل وعلا، الحمد لله كل أنواع الحمد وجميع أنواع المحامد مستحقة لله، لأن اللام هنا لام الاستحقاق.
اللام تارة تكون:
• للملك وهذا إذا كان ما قبلها من الأعيان.
• وتارة تكون للاستحقاق، وهي إذا كان ما قبلها من المعاني.
إذا قلت الدار لفلان، الدار عين، فتكون اللام لفلان يعني ملك. إذا كان ما قبل اللام معنى صارت اللام للاستحقاق، تقول الفخر لفلان يعني الفخر يستحقه فلان. (الْحَمْدُ لِلَّهِ), الحمد معنى لهذا صارت اللام بعده للاستحقاق، فكل حمد مستحق لله، الإله الذي لا يُعبد بحق إلا هو هذا الإله نعته أنه رب العالمين.
(رَبِّ الْعَالَمِينَ) و(الْعَالَمِينَ) جمع عالم، والعالم اسم لأجناس ما يُعلم، وهو كل ما سوى الله جل وعلا، كما قال الشيخ رحمه الله تعالى: (وكل من سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم) عالم الإنسان، عالم الطير، عالم النبات، عالم الملائكة، عالم الجن، عالم السموات، عالم الأراضين، عالم الماء، إلى آخره، (كل ما سوى الله جل وعلا عالم وأنا واحد من ذلك العالم) والعالمون جمع عالم، والعالم كل ما سوى الله جل وعلا من الأجناس المختلفة، إذن ما دام أنك واحد من ذلك العالم فأول من يخاطب بهذه الآية المؤمن، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيستيقن المؤمن بتلاوته لهذه الآية ربوبية الله جل وعلا له واستحقاقه للحمد واستحقاقه جل وعلا لكل ثناء ولكل وصف بالكمالات.
ثم قال رحمه الله (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ ) الربوبية تحتاج إلى معرفة، تحتاج إلى علم، وهذا العلم جاء في القرآن الدِّلالة عليه، قال جل وعلا ﴿قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[يونس:101]، وقال جل وعلا ﴿أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ﴾[الأعراف:185]، فالدعوة إلى النظر في الملكوت في القرآن، بما أستدل على الله جل وعلا على ربوبيته؟ قال الشيخ هنا (فإذا قيل لك بما عرفت ربك؟ فقل بآياته ومخلوقاته، ومن آياته الشمس والقمر والليل والنهار، ومن مخلوقاته السماوات والأرض)، لا شك أن الليل والنهار والشمس والقمر من آيات الله، كما قال جل وعلا﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾[فصلت:37]، وكذلك السماوات والأرض هي آيات لله جل وعلا، كما قال أبو العتاهية في شعره السائر:

تدل على أنه الواحد وفي كل شيء له آية
والشيخ رحمه الله ها هنا فرق بين الآيات والمخلوقات، مع أنه في القرآن ما يثبت أن السماوات والأرض من الآيات. فلما فرَّق؟ الجواب أن تفريق الشيخ رحمه الله تعالى بينهما دقيق جدا، وذلك أن الآيات جمع آية، والآية هي البينة الواضحة الدالة على المراد، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[الشعراء:190] يعني دلالة بينة واضحة على المراد منها، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾[الحجر:75] يعني لدلالات واضحات بينات على المراد منها، وهنا ننظر إلى أنه بالنسبة لمن سئل هذا السؤال، كون الليل والنهار والشمس والقمر آية أظهر منه عند هذا المسؤول أو المجيب من السموات والأرض، لما؟ لأن تلكمُ الأشياء التي وصفت بأنها آيات متغيرة متقلبة، تذهب وتجيء، أما السماء فهو يصبح ويرى السماء، ويصبح ويرى الأرض، فإِلفُه للسماء وللأرض يحجب عنه كون هذه آيات، لكن الأشياء المتغيرة التي تذهب وتجيء، هذه أظهر في كونها آية، ولهذا إبراهيم الخليل عليه السلام طلب الاستدلال بالمتغيرات، قال جل وعلا ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ(75)فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ﴾[الأنعام:75-76]، لما؟ لأنه استدل بهذه الحركة على الحدوث، استدل بهذا التنقل على أنه آية لغيره، فلما رأى القمر بازغا -استدل بالقمر-، فلما رأى الشمس بازغة -استدل بالشمس- لأنها متغيرات، أما السماوات والأرض فهي آيات، لكنها في الواقع عند الناظر ليست مما يدل دلالة ظاهرة واضحة على المراد عند مثل المسؤول هذا السؤال، مع كونها عند ذوي الفهم وذوي الألباب العالية أنها آيات، كما وصفها الله جل وعلا في كتابه، الشمس والقمر والليل والنهار متغيرات تقبل وتذهب، فهي آيات ودلالات على الربوبية، وأن هذه الأشياء لا يمكن أن تأتي بنفسها، لكن السماء ثابتة، الأرض ثابتة ينظر إلى هذه وهذه، وتلك متغيرات والتغير يثير السؤال، لما ذهب؟ ولما جاء؟ لما أتى الليل؟ ولما أتى النهار؟ لما زاد الليل؟ ولما نقص النهار؟ وهكذا فهي في الدلالة أكثر من دلالة المخلوقات مع أن في الجميع دليلا ودلالة، لهذا قال (فإذا قيل لك بما عرفت ربك ؟ قل بآياته ومخلوقاته) فالآيات تدل على معرفة الله والعلم بالله، وكذلك المخلوقات تدل على العلم بالله والمعرفة بالله، لكن ما سمّاه آيات أخص مما سمّاه مخلوقات، وهذا جواب اعتراض قد اعترض به بعضهم على الشيخ رحمه الله تعالى، في تفريقه بين الآيات والمخلوقات. وتفريقه رعاية لحال من يُعَلَّم هذه الأصول، تفريق دقيق مناسب رحمه الله تعالى.
(الدليل قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) يعني مما يدل عليه دلالة واضحة ظاهرة بينة جلية الليل والنهار والشمس والقمر، فإن المتأمل إذا تأمل الليل والنهار، وجد هذا يدخل في هذا، وذاك يدخل في ذاك، وهذا يطول وذاك يقصر، علم أن الليل من حيث كونه ليلا، والنهار من حيث كونه نهارا، أنها أشياء لا يمكن أن تأتي بنفسها، بل هي مفعول بها، ظاهر الليل ما هو؟ ذهاب الضوء. والنهار ما هو؟ مجيء الضوء. الشمس أتت بضيائها فصار نهارا، لما ذهبت الشمس أتى القمر فصار ليل، هذا لا شك يدلّ على أن هذه الأشياء مفعول بها، وإذا كانت مفعولا بها، فمن الذي فعلها؟ هذا السؤال، الجواب عليه سهل ميسور لأكثر الناظرين، بل لكل ناظر، ألا أن هذه تدل على أنها محدثة، ولابد لها من محدث، وأن محدثها هو الذي خلقها وسيرها على هذا النحو الدقيق العجيب، وهو رب العالمين، لهذا قال في الآية الأخرى آية الأعراف ﴿إِنَّ رَبَّكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا﴾[الأعراف:54]، يغشي الليل يجعل الليل غشاء للنهار، يطلبه؛ هذا يذهب وهذا يطلب الآخر، يجيء مرة يأخذ الليل من النهار، ويجذبه جذبا ويطلبه طلبا حاثا، ومرة النهار يأخذ ويطلب من الليل طلبا حاثا، قال يُغشي من المُغشِي والمُغشِّي؟ هو الله جل وعلا؛ ﴿يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[الأعراف:54]، فذكر الربوبية في العالمين بعد ذكر هذه الأصناف من الآيات والمخلوقات.
ثم ذكر أن معنى الربوبية هو العبادة والدليل قوله جل وعلا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهذه الآية بها أمر وهو أول أمر في القرآن, أول أمر في القرآن الأمر بعبادة الله؛ قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) الرب وقعت عليه العبادة لأنه مفعول به؛ أعبدوا ربكم، فالعابد هم الناس، والمعبود هو الرب، أليس كذلك؟ فتلخص أن الرب هو المعبود؛ لأنه قال (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ)؛ فالرب مفعول به ما الذي فعل؟ العبادة فصار معبودا، ولهذا ساق عن ابن كثير رحمه الله تعالى أن من فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً...) إلى آخر الآية، قال ابن كثير: الذي فعل هذه الأشياء هو المستحق للعبادة. لهذا جاء ما بعدها ما بعد الأمر بالعبادة كقوله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) وهو قوله (الَّذِي خَلَقَكُمْ) جاء تعليلا لما سبق، لما كان مستحقا للعبادة؟ قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ), كأن سائلا سأل: لما كان مستحقا للعبادة؟ لما أمرنا أن نعبده؟ قال (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً) إلى آخره فهذه أشياء من معاني ربوبيته، وقد ذكرنا من قبل أن الربوبية تستلزم الألوهية، وبهذا صارت الربوبية هنا في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) هي العبودية، والرب هو المعبود، والفاعل لتلك الأشياء هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، لأنه هو وحده الذي خلق، وهو وحده الذي رزق، وهو وحده الذي جعل الأرض فراشا، وهو وحده الذي جعل السماء بناء، وهو وحده الذي أنزل من السماء ماء، والخلق جميعا لم يعملوا شيئا من ذلك، فالمستحق للعبادة هو الذي فعل وخلق وصنع وبرأ وصور وأبدع تلك الأشياء.
الأسئلـــة
 الأخ يسأل سؤال وجيه وهو أنه جاء في حديث ابن عباس: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة». وهنا يقول الأخ وُصف الله بأنه ذو معرفة، وأنه يَعرف.
وهذا فيه نظر لأنه المتقرر في القواعد في الأسماء والصفات؛ أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وباب الأخبار أوسع من باب الأفعال وباب الصفات وباب الأسماء، فقد يطلق ويضاف إلى جل وعلا فعل ولا يضاف إليه الصفة، كما أنه قد يوصف الله جل وعلا بشيء ولا يشتق له من الصفة اسما، ولهذا يدخل في هذا كثير مما جاء، مثل ما وَصف الله جل وعلا به نفسه في قوله ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾[الأنفال:30], يستهزئون والله يستهزئ بهم، إن الله لا يمل حتى تملوا، ونحو ذلك مما جاء مقيدا بالفعل، ولم يذكر صفة للاسم، فهذا يقال فيه أنه يطلق مقيدا، ويمكن أن يحمل عليه حديث ابن عباس هذا (تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)، نقول إن الله جل وعلا يعرف في الشدة من تعرف إليه في الرخاء، على نحو تلك القاعدة، كما يقال إن الله جل وعلا يمكر بمن مكر به, يستهزئ بمن استهزأ به، يخادع من خدعه, ولا يقال إن الله جل وعلا ذو مكر، وذو استهزاء، وذو مخادعة هكذا مطلقا بالصفة، وإنما كما هي القاعدة أن باب الأفعال أوسع من باب الصفات.
 أخ يسأل ما الفرق بين الحمد والشكر؟
هناك فروق كثيرة بين الحمد والشكر، لكن الذي يضبطها هو:
• أن الحمد هو الثناء باللسان، والثناء على كل جميل.
• وأما الشكر فمورده اللسان والعمل.
فلا يُقال مثلا فلان حمد الله جل وعلا بفعله، بل لابد أن يكون الحمد باللسان، لكن الشكر يمكن أن يكون باللسان ويمكن أن يكون بالعمل، قال جل وعلا﴿أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾[لقمان:114]، وقال جل وعلا﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾[سبإ:13].
فمن حيث المورد الشكر أعم من الحمد، لأنه يشمل حمد الثناء، والمدح باللسان وبالعمل.
والحمد أخص لأنه لا يكون إلا باللسان.
ومن حيث ما يحمد عليه أو ما يثنى عليه، وما يمدح، فإن الحمد أعم فهذا من الأشياء التي يقول فيها العلماء إن بينهما عموم وخصوص؛ يجتمعان في شيء ويفترقان في شيء آخر.

وأنواعُ العبادةِ التي أَمَرَ اللهُ بها: مثلُ الإسلامِ، والإيمانِ، والإحسانِ؛ ومنهُ الدعاءُ، والخوفُ، والرجاءُ، والتوكلُ، والرغبةُ، والرهبةُ، والخشوعُ، والخَشيةُ، والإنابةُ، والاستعانةُ، والاستعاذةُ، والاستغاثةُ، والذَّبْحُ، والنذرُ، وغيرُ ذلك من العبادةِ التي أَمرَ اللهُ بها كلُّها لله تعالى. والدليلُ قوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغير الله فهو مشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60].
لما تقرر أن الرب هو المعبود، كان من المناسب أن تذكر أنواع العبادة التي يعبد الله جل وعلا بها، والتي يجب إفراد الله جل وعلا بها. والعبادة عُرِّفت بعدة تعريفات:
فمنها أنها عرِّفت بأن العبادة: هي كلُّ ما أُمِرَ به مِنْ غير اقتضاءٍ عقليٍّ ولا اطِّرادٍ عرفيٍّ. وهذا هو تعريف الأصوليين في كتبهم، ومعنى ذلك أن الشيء الذي أُمر به من غير أن يقتضي العقل المجرد الأمر به، ومن غير أن يَطَّرِدَ به عرف، هذا يسمى عبادة.
يفسر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى للعبادة في أول رسالته العبودية حيث قال: إن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وهذا التعريف مناسب؛ لأنه أيسر في الفهم أولا, والثاني أنه قريب المأخذ من النصوص، فقال: إن العبادة اسم جامع؛ يجمع أشياء كثيرة, جامع لأي شيء ؟ لكل ما يحبه الله ويرضاه، كيف نصل إلى أن هذا العمل أو القول يحبه الله ويرضاه؟ لابد أن يكون مأمورا به، أو مخبَرا عنه بأن الله جل وعلا يحبه ويرضاه. أنواعها، قال: من الأقوال والأعمال؛ فهناك قول وعمل. فإذن العبادات تنقسم إلى:
• عبادات قولية.
• وعبادات عملية.
ليس ثمَّ قسم ثالث، إما أن تكون قولية، وإما أن تكون عملية. قال: الظاهرة والباطنة؛ قد يكون القول ظاهرا، وقد يكون باطنا، وقد يكون العمل ظاهرا، وقد يكون باطنا.
فتحصل أن أنواع العبادات هي الأقوال والأعمال التي يحبها الله ويرضاها:
والقول: قد يكون باللسان، وقد يكون بالجنان.
قول اللسان أعمال كثيرة مما أمر الله جل وعلا به مثل الذكر والتلاوة، كلمة المعروف ونحو ذلك، هذه كلها من أنواع العبادات اللسانية.
قول القلب هو نيته, قصده، التبست النية على قوم فكانوا يتلفظون بها، نعم النية قول، لكنها قول القلب، إذا قصد القلب وتوجه إلى شيء كان قائلا به، ليس متكلما، لأن الكلام من صفات اللسان؛ كلام ظاهر، أما القول قد يكون ظاهرا وقد يكون باطنا.
العمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
وهذه الأنواع التي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى ممثلا بعضها من الأقوال والأعمال، بعضها ظاهر، وبعضها باطن، بعضها لساني، وبعضها قلبي، وبعضها عملي قلبي، وبعضها من عمل الجوارح.
فمثلا الإخلاص هذا عمل القلب، التوكل عمل القلب، لا يصلح الإخلاص إلا لله جل وعلا؛ إخلاص العبادة، إخلاص الدين إلا لله جل وعلا كما قال تعالى ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:1-3], ﴿قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي﴾[الزمر:14]، التوكل كذلك من أعمال القلب التي ليست إلا لله، الخوف من أعمال القلب التي ليست إلا لله، يعني خوف العبادة، خوف السر سيأتي إيضاحه إن شاء الله في موضعه، الرغبة، الرهبة، الإنابة، الخضوع, الذل؛ ذل العبادة, خضوع العبادة، إلى آخره وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
هذه كلها من أعمال القلب هي داخلة في أنواع العبادة.
الأعمال الظاهرة مثل الاستغاثة؛ الاستغاثة طلب الغوث, طلب الغوث طلب ظاهر, مثل الاستعانة؛ طلب العون، هذه من الأعمال الظاهرة، الذبح واضح أنها عمل الجوارح, النذر واضح أنه قول اللسان وعمل الجوارح، ونحو ذلك، فإذن هذه العبادات التي مَثَّل بها، أراد أن يشمل تمثيله أقسام العبادات القولية، والعملية؛ الظاهرة والباطنة، يجمعها جميعا أنها عبادات.
والعبادة لا تصلح إلا لله جل وعلا، العبادة الظاهرة أو الباطنة، القلبية أو اللسانية، أو التي موردها الجوارح، فهي لا تصلح إلا لله؛ فمن صرف شيئا منها لغير الله فقد توجّه بالعبادة لغير الله منافيا لما قال الله جل وعلا ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾[البقرة:21]، ومنافيا لإقراره بأن معبوده هو الله جل وعلا، إذا أقر العبد بأن قوله من ربك؟ يعني من معبودك؟ وأن الله جل وعلا قال (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ) يعني وحده دون ما سواه، فإنه إذا توجه بشيء من هذه الأنواع لغير الله جل وعلا كان متوجها بالعبادة لغير الله، وذلك هو الشرك.
(الدليل قوله تعالى ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18])، (فَلَا تَدْعُوا) الدعاء هو العبادة، كما جاء في الحديث الذي استدل به الشيخ وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء مخ العبادة» وهو حديث أنس بن مالك، وإسناده فيه ضعف، لكن معناه هو معنى الحديث الصحيح؛ حديث النعمان بن بشير الذي رواه أبو داوود والترمذي وجماعة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام «الدعاء هو العبادة» (هو العبادة) يعني مخ العبادة، لأن الدعاء هو العبادة بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم «الحج عرفة»، قال تعالى﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾[الجن:18]، (فَلَا تَدْعُوا) يعني كما ذكرت لكم من قبل: لا دعاء مسألة، ولا دعاء عبادة. (فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) يعني لا تعبدوا مع الله أحدا، (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا), هذا نهي أن يدعوَا الناسُ أحدا مع الله جل وعلا، يعني أن يعبدوا أحدا مع الله جل وعلا، وإذا كان الدعاء هنا بمعنى دعاء المسألة فيكون معنى الآية وأن المساجد لله فلا تسألوا سؤال عبادة مع الله أحدا، لا تطلبوا طلب عبادة مع الله أحدا. ولفظ (تَدْعُوا) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهذه الآية دليل على وجوب إفراد الله جل وعلا بالعبادة.
فإن قال قائل لك حين الاستدلال بها: إن الدعاء هنا هو دعاء المسألة، وغيره من أنواع العبادة التي تزعمون من الذبح والنذر ومن الاستغاثة والاستعاذة ونحو ذلك أنها لا تدخل في النهي في هذه الآية.
فيكون جوابُك: أن الدعاء في القرآن جاء بمعنيين، جاء ويراد به العبادة، وجاء ويراد به المسألة. فمثلا في قوله تعالى﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي﴾[غافر:60]، ظاهر أن الدعاء المراد به العبادة؛ لأنه قال ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60]، وكذلك في قوله تعالى مخبرا عن قول إبراهيم عليه السلام ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا﴾[مريم:48]، قال جل وعلا بعد ذلك ﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[مريم:49]، وفي الآية الأولى أخبر عن إبراهيم أنه قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) ثم قال جل وعلا (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ) فدل على أن إبراهيم عليه السلام حين قال (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ) أي وما تعبدون؛ لأن الله جل في وعلا قال بعدها (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ)، وهذا من الأدلة الظاهرة من أن الآية هذه تشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وقد أُورد على أئمتنا رحمهم الله تعالى -حين قرروا التوحيد في مقالهم وفي كتبهم- أن هذه الآية إنما هي دليل للمسألة، وأما غيرها مما تَدَّعون أنه عبادة وأن هذه الآية فيها نهي عنه؛ كالذبح والنذر ونحو ذلك أنه لا يدخل في الآية.
فكان الجواب: أن الدعاء نوعان؛ دعاء عبادة ودعاء مسألة، هذا يأتي في القرآن وذاك يأتي في القرآن، والآية تشمل النوعين؛ لأن الدعاء إذا كان في القرآن يأتي تارات لهذا وتارات لهذا، فتحديده في هذه الآية بأحد النوعين ونفي النوع الآخر، هذا نوع تحكم وهو ممتنع.
نقف عند هذا القدر، ونكمل إن شاء الله غدا، أسأل الله جل وعلا أن ينفعني إيّاكم.
الأسئلـــة
 هذا سؤال بالمناسبة قال: هل يصح أن يُقال توكلت على الله ثم عليك؟
والجواب: أن هذا لا يصلح؛ لأن الإمام أحمد وغيره من الأئمة صرحوا بأن التوكل عمل القلب.
ما معنى التوكل؟ هو تفويض الأمر إلى الله جل وعلا بعد بذل السبب؛ إذا بُذل السبب فوض العبد أمره إلى الله، فصار مجموع بذله للسبب وتفويضه أمره لله مجموعها التوكل، ومعلوم أن هذا عمل القلب كما قال الإمام أحمد.
ولهذا سئل الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية السابق رحمه الله تعالى عن هذه العبارة فقال: لا تصح لأن التوكل عمل القلب، لا يَقبل أن يقال فيه (ثُمَّ)؛ توكلت على الله ثم عليك. إنما الذي يقال فيه (ثُمَّ) ما يسوغ أن يُنسب للبشر.
بعض أهل العلم في وقتنا قالوا: إن هذه العبارة لا بأس بها؛ توكلت على الله ثم عليك، ولا يُنظر فيها إلى أصل معناها وما يكون من التوكل في القلب، إنما ينظر فيها إلى أن العامة حينما تستعملها ما تريد التوكل الذي يعلمه العلماء، وإنما تريد ممثل معنى اعتمدت عليك، ومثل وكَّلْتُك ونحو ذلك، فسهلوا فيها باعتبار ما يجول في خاطر العامة من معناها وأنهم لا يعنون التوكل الذي هو لله؛ لا يصلح إلا لله، لكن مع ذلك فالأولى المنع لأن هذا الباب ينبغي أن يُسد، ولو فتح باب أنه يستسهل في الألفاظ لأجل مراد العامة، فإنه يأتي من يقول مثلا ألفاظ شركية ويقول أنا لا أقصد بها كذا، مثل الذين يظهر ويكثر على لسانهم الحلف بغير الله بالنبي أو ببعض الأولياء أو نحو ذلك يقولون لا نقصد حقيقة الحلف، ينبغي وصف ما يتعلق بالتوحيد، وربما ما يكون قد يخدشه أو يضعفه، ينبغي وَصْدُ الباب أمامه حتى تخلص القلوب والألسنة لله وحده لا شريك له.
نكتفي بهذا القدر و ننتقل إلى الأصول.

فمَنْ صَرَفَ منها شيئًا لغيرِ الله فهو مُشرِكٌ كافرٌ، والدليلُ قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117]، وفي الحديثِ «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَة» والدليلُ قوله تعالى ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾[غافر:60].
ودليلُ الخوفِ قوله تعالى ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[آل عمران:185].
ودليلُ الرَّجاءِ قوله تعالى ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[الكهف:110].
ودليلُ التَّوكُّلِ قوله تعالى﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[المائدة:23]، وقوله﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق:3].
ودليلُ الرَّغْبَةِ والرَّهبَةِ والخُشوعِ قولُه تعالى ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾[الأنبياء:90].
ودليلُ الخَشيةِ قوله تعالى ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾[البقرة:150].
ودليل الإنابةِ قوله تعالى ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾[الزمر:54].
ودليل الاستعانةِ قوله تعالى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]، وفي الحديثِ «إذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ باللهِ».
ودليل الاستعاذةِ قوله تعالى ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾[الفلق:1]، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾[الناس:1].
ودليل الاستغاثةِ قوله تعالى ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ﴾[الأنفال:9].
ودليل الذَّبْحِ قوله تعالى ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام:162-163]، ومِنَ السُّنَّةِ «لَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ».
ودليلُ النَّذْرِ قوله تعالى ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾[الإنسان:7].
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, اللهم هب لنا من لدنك رحمة, وهيَّأ لنا من أمرنا رشدا, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علما وعملا, يا أكرم الأكرمين.
أما بعد: فهذه صلة لما سبق الكلام عليه؛ من أن العبادة حق لله جل وعلا, وأن كل معبود سوى الله جل وعلا فإن عبادته بغير الحق وأنها بالباطل والظلم والطغيان والجور والتعدي من الخلق, فالله جل وعلا هو الذي يستحق العبادة وحده دونما سواه من خلقه.
وبعد أن ذكر أنواع العبادات التي موردها اللسان والقلب والجوارح قال رحمه الله (فمن صرف منها شيئا لغير الله فهو مشرك كافر والدليل قوله تعالى ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾[المؤمنون:117])، (من صرف) يعني من توجه بشيء من أنواع تلك العبادات لغير الله فهو مشرك كافر، يريد الشرك الأكبر الذي يخرج من الملة، والشرك حقيقته اتخاذ الند مع الله جل وعلا، وهو المذكور في قوله ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[البقرة:22]، والتنديد يعني أن يُجعل لله مِثْل للاستحقاق؛ استحقاق التوجه, استحقاق العبادة، إذا جُعل لله ند إما بالقول أو بالعمل فذلكم هو الشرك، وكل نوع من هذه الأنواع، وغيرُها من الأنواع التي تدخل في مسمى العبادة، صرْفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر يخرج من الملة، وصاحبه مشرك كافر؛ إما الكفر الظاهر، وإما الكفر الظاهر والباطن معا. وهذا الذي ذكره برهن له بقوله تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) وقوله هنا (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) هذا بيان لحقيقة من دعي مع الله جل وعلا، قال (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) هذا الإله الآخر، وهذا الداعي منعوت بأنه لا برهان له بما فعل، ولا دليل، وإنما فعل ما فعل من دعوة غير الله لخواص وبتعديه. وقوله (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) ليس مفهومه أن ثم دعوة لغير الله تعالى ليس لها برهان وإنما كل دعوة لغير الله، (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) أيَّ إله كان، فإن ذلك الداعي لا برهان له بما فعل، والدليل على أن دعوة غير الله جل وعلا كفر؛ قوله جل وعلا في الآية نفسها (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) فدل على أن دعاء غير الله -كما أنه شرك- إذ دُعي إله آخر مع الله جل وعلا فهو كفر؛ لأنه قال (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ).
والشرك أقسام والعلماء يَقْسِمون الشرك باعتبارات مختلفة.
• فتارة يُقسم الشرك إلى شرك ظاهر وشرك خفي.
• وتارة يُقسم الشرك إلى شرك أكبر وشرك أصغر.
• وتارة يُقسم إلى شرك أكبر وأصغر وخفي.
وهذه تقسيمات معروفة عند العلماء, وكل تقسيم باعتبار، وهي تلتقي في نتيجة كل قسم والتعريف؛ لكنه اختلاف في التقسيم باعتبارات مختلفة.
فمثلا من يقسمون الشرك إلى ظاهر وخفي؛ إلى جلي وخفي:
• فيكون الجلي منه ما هو أصغر ومنه ما هو أكبر، الجلي الظاهر الذي يُحَس مثل الذبح لغير الله, النذر لغير الله هذا جلي، هذا من نوع الشرك الأكبر, هو جلي أكبر، كذلك مثل الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كذلك هذه من نوع الشرك الجلي الأكبر, الحلف بغير الله تعالى شرك جلي ولكنه أصغر، هذا قسم شرك جلي.
• قَسِيمُه الشرك الخفي منه ما هو أكبر كشرك المنافقين، فإن شركهم خفي لم يظهروه وإنما أظهروا الإسلام، فما قام في قلوبهم من التنديد والشرك صار خفيا لأنهم لم يُظهروه، فهو شرك خفي ولكنه أكبر، وهناك شرك خفي أصغر مثل يسير الرياء، فإن كان الرياء كاملا كان ذلك شركا أكبر كشرك المنافقين، وإن كان يسيرا كتصنُّع المرء للعبادة لمخلوق مثله لغير الله فهذا إذا كان يسيرا فإنه شرك أصغر خفي.
رد مع اقتباس