عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 19-01-2015, 12:33AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم


إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

كتاب التوحيد

ج / 1 ص -15- مقدمة الشارح

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:

فإن عقيدة التّوحيد هي أساس الدين، وكل الأوامر والنواهي والعبادات والطاعات كلها مؤسسة على عقيدة التّوحيد، التي هي معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، الشهادتان اللتان هما الركن الأول من أركان الإسلام؛ فلا يصح عملٌ، ولا تقبل عبادةٌ ولا ينجو أحد من النار ويدخل الجنة؛ إلاَّ إذا أتى بهذا التّوحيد، وصحّح العقيدة.

ولهذا كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- في هذا الجانب اهتماماً عظيماً؛ لأنه هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما يأتي شرحه- إن شاء الله، ثم بعد ما تصح العقيدة فإنه حينئذٍ يُطلب من الإنسان أن يأتي ببقية الأعمال.
ولهذا سيأتي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له:"إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" أ إلى آخر الحديث.
الشاهد منه: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل".


فدلّ هذا على أن عقيدة التّوحيد هي الأساس الذي يجب العناية به أولاً وقبل

ج / 1 ص -16- كل شيء، ثم بعدما يتحقق فإنه يتوجه إلى بقية أمور الدين، وأمور العبادات.
ولهذا- كما ذكرنا- كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- بهذا الجانب اهتماماً عظيماً، ألَّفوا فيه كتباً كثيرة، مختصرة ومطوّلة، سموها: (كتب التّوحيد)، أو (كتب العقيدة) أو (كتب السنة).
ومن هذه الكتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو:
(كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد)
تأليف شيخ الإسلام المجدد في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية. الشيخ: محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.


وهذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلَّفة في باب التّوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة، بحيث إنه رحمه الله، يورد في كل باب من أبوابه آيات من القرآن وأحاديث من السنة الصحيحة السند أو المعنى، وكلام أهل العلم الأئمة؛ الذين بَيَّنوا معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث، فعل هذا في كل باب من أبواب الكتاب.


فلم يكن هذا الكتاب قولاً لفلان أو فلان، أو أنه كلام من عند المؤلف، وإنما هو كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم.
فتأتي أهمية هذا الكتاب من هذه الناحية؛ انه مبني على الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث، فلا يقال: إن هذا كلام فلان، أو كلام ابن عبد الوهاب، بل يقال: هذا كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة الإسلام.
وهكذا ينبغي أن يكون التأليف.

ج / 1 ص -17- قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم
[الباب الأول:] * كتاب التّوحيد


قال رحمه الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بدأ كتابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يكتب "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول رسائله إلى الناس، وكان يبدأ- عليه الصلاة والسلام- أحاديثه مع أصحابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}".
وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فهو أبتر" أي: ناقص البركة. وفي رواية: "بالحمد لله".
وكما كتبها سليمان عليه السلام فيما ذكر الله عنه لمّا كتب إلى بلقيس ملكة سبأ، وقرأت الكتاب على قومها: {}.


فالبداءة بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في الأمور المهمّة في المؤلَّفات، والخطب، والمحاضرات، والأكل والشرب، وجميع الأمور التي هي من الأمور المهمة؟ تُبدأ بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" تبركاً بهذه الكلمة العظيمة، وافتتاحاً للأمور بها.
ومن هنا نعلم أن هؤلاء الذين لا يكتبون "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول مؤلفاتهم في هذا العصر؛ أنهم قد خالفوا السنة، واقتدوا بالغربيين، وإلاَّ فإن المشروع في حق المسلم أن يبدأ بهذه الكلمة في أموره؛ في مؤلفاته، في خطبه، في محاضراته، في رسائله، إلاَّ أن هذه الكلمة لا تُكتب أمام الشعر الذي فيه هجاء أو فيه ذَم، ولا تُكتب أمام الكلام الذي فيه سِباب أو شتم أو كلام قبيح، تُنزّه هذه الكلمة، لا تُكتب أمام الشعر، وأعني: الشعر غير المحترم، أما الشعر النزيه الطيب فلا بأس، كذلك لا تُكتب أمام الهجاء، وأمام السب والشتم، وإنما تكتب أمام الكلام النزيه، ولهذا جاءت هذه الكلمة العظيمة في مبدأ كل سورة من سور القرآن

ج / 1 ص -18- العظيم، سوى براءة والأنفال فإنها لم تأتِ بينهما؛ وقد أجاب أهل العلم عن ذلك، والله أعلم أنهما سورة واحدة، لأنهما في موضوع القتال، فهما في موضوع واحد وكأنهما سورة واحدة، أما في بقية السور فإنها تأتي في أول ومطلع كل سورة.
ومعناها- كما قرر أهل العلم-: "{بِسْمِ اللَّهِ}" الجار والمجرور متعلق بمحذوف يجب أن يكون مؤخَّراً، تقديره: أستعين، بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، أو أبتدئ بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" كتابي ومؤلَّفي، أو ابتدئ كلامي بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف مؤخر.


و "{اللَّهِ} الله" عَلَمٌ على الذات المقدّسة، وهو لا يُسمّى به غير الرّب سبحانه وتعالى، لا أحد تسمّى بهذا الاسم أبداً، حتى الجبابرة، حتى الطواغيت والكفرة، ما أحد منهم سمّى نفسه "{اللَّهِ}" أبداً، فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ما قال: أنا الله، مع كفره لم يجرؤ أن يسمّي نفسه هذا الاسم"{اللَّهِ}"، وإنما هذا خاص بالله سبحانه وتعالى.
و"الله" معناه: ذو الألوهية، والألوهية معناها: العبادة، يقال: أَلَهَ يألَهُ: بمعنى: عبَد يعبُد، فالألوهية معناها: العبادة، فـ"{اللَّهِ} معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه.
و "{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" اسمان لله عز وجل يتضمنان الرحمة، والرحمة صِفة لله عز وجل، وكل اسم لله فإنه يتضمن صِفة من صفاته سبحانه وتعالى.
و"{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات.


و"{الرَّحِيمِ}": رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال- تعالى-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
فـ "{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات، حتى الكفار والبهائم والدواب إنما تعيش برحمة الله، وسخّر الله بعضها لبعض من رحمته سبحانه وتعالى، فهي رحمة عامة لجميع الخلق، بها يتراحمون، حتى إن البهيمة ترفع رجلها عن ولدها رحمة به.
وأما "{الرَّحِيمِ}" فإنه رحمة خاصة بالمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
والرحمة: صِفة من صفات الله عز وجل تليق بجلاله- سبحانه- ليست كرحمة

ج / 1 ص -19- المخلوق، وإنما هي كسائر صفاته سبحانه وتعالى، نصِفه بها كما وصف بها نفسَه، ولكن لا نشبّه رحمته -سبحانه- برحمة خلقه.
ثم قال بعد ذلك: "كتاب التّوحيد".
قد يسأل سائل فيقول: لماذا لم يبدأ كتابه بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: أنه اكتفى رحمه الله بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ فإنها كافية في الثناء على الله سبحانه وتعالى، وكافية بالابتداء.
هذا جواب.

والجواب الثاني كما ذكر الشارح العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله يقول: "عندي نسخة بخط المؤلِّف فيها أنه بدأ هذا الكتاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد).
فإذاً؛ يكون في هذه النسخة جمع بين الفضيلتين؛ البداءة بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، والبداءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذا أكمل بلا شك، ثم قال: "كتاب التّوحيد".


"كتاب": مصدر كَتَبَ، والكَتْب في اللغة معناه: الجمعُ، سُمّيَ الكتاب كتاباً لأنه جمع الكلمات والنصوص، ففيه معنى الجمع، ولذلك سُمّي كتاباً، ومنه "الكتيبة" من الجيش، لأنها تجمع أفراداً من الجنود، ومنه سُمَي الخرّاز كاتباً؛ لأنه يجمع بين الرقاع.
و"التّوحيد" فصدر وَحَّدَ توحيداً، ومعناه: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ فمن أفرد الله بالعبادة فقد وَحَّده، يعني: أفرده عن غيره، يقال: وَحَّد وَثَنَّى وَثَلّث، وَحَّد معناه: جعل الشيء واحداً، وثَنّى يعني: جعل الشيء اثنين، وثَلّث: جعل الشيء ثلاثة، إلى آخره.
فـ"التّوحيد" معناه لغةً: إفراد الشي عن غيره.
أما معناه شرعاً: فهو إفراد الله- تعالى- بالعبادة. هذا هو التّوحيد شرعاً.
و "التّوحيد" ثلاثة أنواع- على سبيل التفصيل-:


ج / 1 ص -20- النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، وتدبير الخلائق. هذا توحيد الربوبية، أنه لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا ضار، ولا نافع؛ إلا الله سبحانه وتعالى. هذا يُسمّى: توحيد الربوبية، وهو: توحيده بأفعاله سبحانه وتعالى، فلا أحد يخلق مع الله، ولا أحد يرزق مع الله، ولا أحد يحي ويميت مع الله سبحانه وتعالى.
وهذا النوع من أقرّ به وحده لا يكون مسلماً؛ لأنه قد أقرّ به الكفار، كما ذكر الله - جل وعلا- في القرآن في آيات كثيرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}(31)" {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله أن المشركين يقرّون بأن الله هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، ومع هذا لا يكونون مسلمين، لماذا؟ لأنهم لم يأتوا بالنوع الثاني، الذي هو مدار المطلوب.


النوع الثاني: توحيد الألوهية، ومعناه: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، هذا غير إفراده بالخلق والرزق والتدبير، بل إفراد الله بالعبادة؛ بأن لا يُعبَد إلا الله سبحانه وتعالى لا يُصَلّى، ولا يُدعى، ولا يُذبَح، ولا يُنذَر، ولا يُحَج، ولا يُعتَمر، ولا يُتصَدق، ولا... إلى آخره؛ إلا لله سبحانه وتعالى، يبتغى بذلك وجه الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل والأمم.

أما الأول فما وقعت فيه خصومة، لأن الأمم مقِرّة بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر، ولم يُنكِر توحيد الربوبية إلاَّ شُذّاذ من الخلق، أنكروه في الظاهر، ولكنهم مستيقنون به في الباطن، من ذلك: فرعون، وإن كان جحد وجود الرّب سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فهذا في الظاهر، وإلاَّ فهو يقر في قرارة نفسه أنه ليس برب، وأنه لا يخلق، ولا يرزق، وإنما في قرارة نفسه يعترف بأن الله هو الخالق الرازق، كذلك الشيوعية في عصرنا الحاضر جحودها للرّب، هذا في الظاهر، وإلا كل عاقل يعلم أن هذا الكون ما وُجِدَ من دون خالق، ومن دون مدبِّر، ومن دون موجد، أبداً، كل عاقل يعترف بتوحيد الربوبية.


ج / 1 ص -21- أما توحيد الألوهية والعبادة، فهذا قَلّ من الخلق من أقرّ به، ما أقرّ به إلاَّ المؤمنون أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، هم الذين أقرّوا به، أما عموم الكفار فإنهم ينكرون توحيد الألوهية، بمعنى: أنهم لا يفردون الله بالعبادة، حتى وإن أقرّوا بالنوع الأول وهو: توحيد الربوبية وإن عبدوا الله ببعض أنواع العبادة.


ولهذا لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله إلاَّ الله تفلحوا" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ(7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)} ، فهم أبوا أن يقولوا {لا إله إلاَّ الله} مع أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية، لكن أبوا أن يعترفوا بتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة، هم يقولون: نحن نعبد الله ونعبد معه غيره من الشفعاء والوسطاء، الذين يقربونهم -بزعمهم- إلى الله زُلفى، اتخذوهم وسائط- بزعمهم، وأبوا أن يفردوا ا لله- جل وعلا- بالعبادة {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} هذا في قوم نوح، والوتيرة واحدة من أول الكفار إلى آخرهم {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.


وكذلك عُبَّاد القبور اليوم، يقولون: لا تذرُن الحسن والحسين، والبدوي وغيرهم هؤلاء لهم فضل، ولهم مكانة؛ اذبحوا لهم، وانذروا لهم، وطوفوا بقبورهم، وتبرَّكوا بهم، لا تذروهم، لا تطيعوا هؤلاء الجفاة الذين يدعون إلى ترك عبادة القبور، ولا يعرفون حق الأولياء. الوتيرة واحدة مثل قوم نوح: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.


الحاصل: أن النوع الثاني هو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، وترك عبادة من سواه، وهذا هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به لكتب، كما تقرأون في هذه الآيات التي سمعتم وكما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ما قال: إلاَّ ليقروا بأني أنا الرّب، لأن هذا موجود {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ما قال: أن أقروا، بأن الله هو الخالق الرازق؛ لأن هذا موجود، وهو وحده لا يكفي.


ج / 1 ص -22- وهذا النوع- توحيد الألوهية- جحده المشركون، وهم أكثر أهل الأرض في قديم الزمان وحديثه، أبوا أن يتركوا آلهتهم، وأن يفردوا العبادة لله عز وجل، ويخلصوا الدين لله عز وجل؛ زاعمين أن هذه الوسائط وهؤلاء الشفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنهم يقرِّبونهم إلى الله، وأنهم... وأنهم.. إلى آخره {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.


النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، بمعنى: أننا نثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله- تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.


فنثبت لله الأسماء كما قال- تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وكذلك الصفات، نصِف الله عز وجل بما وصف به نفسه؛ أنه عليم، وأنه رحيم، وأنه سميع بصير، يسمع ويُبصر سبحانه وتعالى، ويعلم، ويرحم، ويغضب، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع. وهذه صفات الأفعال.


وصفات الذات كذلك؛ أن له وجهاً- سبحانه، وأن له يدين، وأن له سبحانه وتعالى الصفات الكاملة، نثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله من صفات الذات ومن صفات الأفعال، ولا نتدخل بعقولنا وآرائنا وأفكارنا، ونقول: هذه الصفات أو هذه الأسماء موجودة في البشر، فإذا أثبتناها شبهنا- كما يقوله المعطِّلة، بل نقول: إن لله سبحانه وتعالى أسماءً وصفات تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وللمخلوقين أسماء وصفات تليق بهم، والاشتراك في الاسم، أو الاشتراك في المعنى؛ لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة. خذ- مثلاً-: الجنة، فيها أعناب وفيها نخيل- كما ذكر الله، وفيها رمان، وفيها أسماء موجودة عندنا في الدنيا، لكن ليس ما في الجنة مثل ما في الدنيا، أبداً، ليس النخيل التي في الجنة مثل النخيل التي في الدنيا، الرمان ليس مثل الرمان الذي في الدنيا، وإن اشترك في الاسم والمعنى، كذلك أسماء الله وصفاته وإن اشتركت مع أسماء المخلوقين وصفاتهم باللفظ والمعنى، فالحقيقة والكيفية مختلفة، لا يعلمها

ج / 1 ص -23- إلا الله سبحانه وتعالى، فلا تشابه إذاً في الخارج والواقع أبداً، لأن الخالق - سبحانه- لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ولا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه- كما يقول المعطِّلة والمؤوِّلة، وإنما هذا من قصور أفهامهم، أو ضلالهم، ورغبتهم عن الحق، وإلاَّ كلٍّ يعلم الفرق بين المخلوق والخالق- سبحانه وتعالى، كما أن المخلوقات نفسها فيها فوارق، فليس- مثلاً- الفيل مثل الهرة والبعوضة أبداً، وان اشتركت في بعض الصفات، البعوضة لها سمع- مثلاً، والفرس له سمع، البعوضة لها بصر، والفيل والفرس لهما بصر، هل يقتضي هذا أن تكون البعوضة مثل الفيل أو مثل الفرس؟ لا، وإن اشتركت في الأسماء فلا تشترك في الحقائق والمعاني.


إذا كان هذا الفارق بين المخلوقات، فكيف بين الخالق سبحانه وتعالى والمخلوقين؟
نحن نُقِرُ لله سبحانه وتعالى بما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، الله- تعالى- قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} نفى المثلية وأثبت السمع والبصر؛ فدل على أن إثبات السمع والبصر وغيرهما من الصفات لا يقتضي المثلية {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}.
الله سبحانه وتعالى لا يشبهه أحد من خلقه.


هذه أنواع التّوحيد الثلاثة:
توحيد الربوبية: وهذا في الغالب لم ينكره أحد من الخلق.
توحيد الألوهية: وهذا أنكره أكثر الخلق، ولم يثبته إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كما قال- تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116)} وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}.
ما أثبت توحيد الألوهية إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وهم المؤمنون من كل أمة، هم الذين أثبتوا توحيد الألوهية، وأبى عن الإقرار به المشركون في كل زمان ومكان.

ج / 1 ص -24- وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الآية.

والثالث: أثبته أهل السنة والجماعة، فأثبتوا لله الأسماء والصفات، وحرّفها وأوَّلها الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، ومشتقاتهم من سائر الطوائف التي سارت في ركابهم؛ فهؤلاء منهم من نفاها كلها، منهم من نفى بعضها وأثبت بعضها، المهم أن نعرف مذهب أهل السنة والجماعة في هذا.
وتقسيم التّوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة مأخوذ من الكتاب والسنة وليس تقسيماً مبتدعاً كما يقوله الجهال والضلال اليوم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)} وليس مصدر هذا التقسيم علم الكلام وقواعد المتكلمين التي هي مصدر عقائد هؤلاء المخذولين الذين يتكلمون بما لا يعرفون، بل هذا التقسيم مأخوذ بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالآيات التي تتحدث عن أفعال الله وأسمائه وصفاته فهي في توحيد الربوبية. والآيات التي تتحدث عن عبادة الله، وترك ما سواه؛ فهي في توحيد الألوهية.
قوله: "وقول الله" بالكسر معطوف على "التّوحيد"، وهو مجرور بالإضافة، (وقول الله- تعالى-) معطوف على المجرور، ويجوز الرفع (وقولُ الله- تعالى-) يكون على الابتداء.


"{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" لاحظوا دِقّة الشيخ رحمه الله، قال: "كتاب التّوحيد. وقول الله- تعالى- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" ليُبَيّن لكم ما هو معنى التّوحيد؟، بأن التّوحيد معناه: إفراد الله بالعبادة، وليس معناه: ا لإقرار بالربوبية، بل معناه: إفراد الله بالعبادة، بدليل هذه الآية وغيرها.
يقول الله- جل وعلا-: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" يُبَيِّن الله سبحانه وتعالى الحِكمة من خلقه للجن وخلقه للإنس.


أما {الْجِنَّ} فهم عالم من عالم الغيب، نؤمن بهم، ولكننا لا نراهم، ولذلك سُمُّوا بـ {الْجِنَّ} من الاجتنان وهو الاستتار، ويقال: جَنَّه الليل إذا سَتَرَه، ويقال: الجنين في البطن، لماذا سُمِّي جنيناً؟، لأنه مستتر، فـ {الْجِنَّ}، سُمُّوا جناً لأنهم مستترون عن أبصارنا لا نراهم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهم من عالم

ج / 1 ص -25- الغيب، والإيمان بهم واجب، ومن جحد وجود الجن فهو كافر؛ لأنه مُكَذِّبٌ لله ورسوله وإجماع الأمة على وجود الجن، وهؤلاء الذين أنكروا وجودهم على أي شيء يعتمدون؟، ما يعتمدون على شيء إلاَّ لأنهم لا يرونهم، وهل كل موجود لابد أن تراه؟ هناك أشياء كثيرة ما تراها وهي موجودة، مثلاً: الروح التي فيك، هل تراها؟، هل الروح التي تحركك؛ تمشي بها وتقعد هل تراها، والعقل موجود ومع هذا لا تراه.


الحاصل؛ أنه ما كل شيء موجود لابد أننا نراه، هناك أشياء كثيرة وكثيرة وكثيرة لا نراها، وربما تكون تعيش معنا، ولله الحِكمة سبحانه وتعالى، ومن ذلك {الْجِنَّ} وهم عالم عظيم، إلاَّ أننا لا نراهم، وهم مكلّفون مثل الإنس.
وأما {وَالأِنْسَ} معناها: بنو آدم، من الاستئناس لأنهم يأنس بعضهم ببعض، ويألف بعضهم بعضاً.


الله سبحانه وتعالى بَيّن لنا الحِكمة من خلقه الثقلين: الجن والإنس، وهي: أنه إنما خلقهم لشيء واحد، وهو: العبادة، ولهذا جاء بالحصر "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" حَصَر الحِكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو: أنهم يعبدونه، فالحِكمة من خلق المخلوقات هي: عبادة الله سبحانه وتعالى، خلق الله الجن والإنس للعبادة، وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سَخَّرها لهم ليستعينوا بها على عبادته سبحانه وتعالى.
ومعنى {لِيَعْبُدُونِ} أي: يفردوني بالعبادة، أو تقول بعبارة أخرى: {لِيَعْبُدُونِ} ليوحِّدون، لأن التّوحيد والعبادة شيء واحد.


ومع كونه سبحانه وتعالى خلقهم لعبادته؛ فمنهم من قام بالعبادة وعبد الله، ومنهم من لم يعبد الله، إذ لا يلزم من كونه خلقهم لعبادته أن يعبدوه كلهم، بل يعبده من شاء الله - سبحانه وتعالى- له الهداية، ويكفر به من شاء الله له الضلالة، ومعنى: "{إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" أي: إلاَّ لآمرهم بعبادتي، أو لآمرهم وأنهاهم، كما قال- تعالى-:{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36)} أي: لا يؤمر ولا يُنَهى.


وما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين لعبادته فهذا يدل على أن العبادة هي الأصل، وأن التّوحيد هو الأصل والأساس.

ج / 1 ص -26- وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.


ثم قال- جل وعلا-:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)} هذا فيه بيان أن الله- جل وعلا- ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إلى عبادة الله { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)}، فالله خلق الثقلين لعبادته، ولكنه- جل وعلا- ليس محتاجاً إلى عبادتهم، إذاً من هو المحتاج إلى العبادة؟. هم العباد أنفسهم.


ولهذا قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}، فالله لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما الطاعة تنفع صاحبها، والمعصية تضر صاحبها، قال- تعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وفي الحديث القدسي، أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وفي ختام الحديث العظيم، قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه".


والله يقول: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)}، لا ليتكثَر بهم من قِلّة، ولا ليتعزّز بهم من ذِلَّة سبحانه وتعالى، وإنما خلقهم لعبادته، ومصلحة العبادة راجعة إليهم هم.
فهذه الآية فيها بيان معنى (التّوحيد) وأنه: العبادة، وليس "التّوحيد" المطلوب معناه: الإقرار بالربوبية - كما يقول الضلال، وإنما معناه العبادة، أي إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.


قال: "وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يُخبرِ سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمة، و (الأمة) معناها: الجماعة والجيل والطائفة من الناس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، و (الرسول) هو: من أوحي إليه بشرع

ج / 1 ص -27- وأُمِرَ بتبليغه، والرسل كثيرون، منهم من سَمّى الله- جل وعلا- لنا في القرآن، ومنهم من لم يُسَمِّ لنا {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، فنحن نؤمن بجميع الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمى الله لنا ومن لم يسم، والإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة.
"{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" هذا مثل: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}"، فكما أن الله خلق الخلق لعبادته كذلك أرسل الرسل- أيضاً- لعبادته سبحانه وتعالى، ما أرسل الرسل يعلمون الناس الفلاحة والزراعة والصناعة، ولا ليعلموهم ا لأكل والشرب، ولا ليعلموهم أن يقروا بوجود الرب والربوبية، إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي هو ربهم، والذي يعترفون أنه ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.


{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} هذا أمر، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر بمعنى النهي. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحَدّ في كل شيء، والطاغوت يُطلق ويُراد به الشيطان، وهو رأس الطواغيت- لعنه الله- ويُطلق ويُراد به الساحر والكاهن، والحاكم بغير ما أنزل الله، والذي يأمر الناس باتباعه في غير طاعة الله، فالطاغوت- كما يقول ابن القيم-: "كل ما تجاوز به العبد حَدّه من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله فهو طاغوت".


فالله أمرنا بعبادته سبحانه وتعالى واجتناب الطاغوت، والمراد بالطاغوت هنا: كل ما عُبِد من دون الله من الأصنام والأوثان، والقبور والأضرحة وغير ذلك، كلها تسمى طواغيت، لكن من عُبد من دون الله ولم يرضَ بذلك فهذا لا يُسمى طاغوتاً، مثل: عيسى عليه السلام؛ كذلك: عباد الله الصالحين كالحسن والحسين، والأولياء الذين لم يرضوا أن يُعبَدوا من دون الله؛ هؤلاء لا يسمون طواغيت، ولكن عبادتهم عبادة للطاغوت الذي هو الشيطان، فهؤلاء الذين يعبدون الحسين وأمثاله، هؤلاء يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمرهم بهذا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.

ج / 1 ص -28- فـ " {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يعني: كل ما يُعبد من دون الله عز وجل.
وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله"، لأن "لا إله إلاَّ الله" معناها: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، مثل قوله: "{اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" نفيٌ وإثبات.
ولاحظوا قوله:"{وَاجْتَنِبُوا}" ، ما قال: اتركوا عبادة الطاغوت؛ لأن "اجتنبوا" أبلغ؛ يعني: اتركوا كل الوسائل التي توصِّل إلى الشرك 4 والاجتناب أبلغ من الترك، فالاجتناب معناه: أننا نترك الشيء ونترك الوسائل والطرق التي توصِّل إليه، فهذه الآية فيها: أن الرسل بُعثوا بالتّوحيد، الذي هو عبادة الله وترك عبادة الطاغوت، من أولهم إلى آخرهم.


إذاً جميع الرسل جاءوا بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك، هذه مِلَّة الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، وهي مِلَّة واحدة، وإن اختلفت شرائعهم، إلاَّ إن أصل دينهم وعقيدتهم هو: التّوحيد، وعبادة الله في كل وقت بما شرع، فمثلاً: الصلاة إلى بيت المقدس في أوّل الإسلام؛ عبادة لله، لأن الله أمر بها، لكن بعدما نُسِخَت وحُوِّلَت القِبلة إلى الكعبة صارت العبادة هي الصلاة إلى الكعبة، والصلاة إلى بيت المقدس أصبحت منتهية، فمن صلى إلى بيت المقدس بعد النسخ يُعتَبر كافراً، فعبادة الله في كل وقت بما شرعه في ذلك الوقت، وإذا نُسِخ فإنه يُنتَقَل إلى الناسخ ويتُرك الدين المنسوخ، فدين الرسل واحد وإن اختلفت شرائعهم، وقد شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالإخوة لعلات، وهم الإخوة من الأب، أبوهم واحد ولكن أمهاتهم مختلفات، كذلك الرسل دينهم واحد وشرائعهم مختلفة، حسب حِكمة الله سبحانه وتعالى، لأن الله يشرع لكل وقت ما يناسبه، ولكل أمة ما يصلحها وهو أعلم سبحانه وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فما دام الدين لم ينسخ فهو عبادة لله، وإذا نُسِخ فالعبادة لله هي الانتقال إلى الناسِخ وترك المنسوخ.


{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يعني: منهم من أجاب الرسل، ومنهم من أبى، و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} القدر السابق المقدّر باللوح المحفوظ بسبب كفره وعناده.

ج / 1 ص -29- وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية.

قوله: "وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" القضاء له عِدة معان، منها: القضاء والقدر، ومنها: الحُكم والشرع، ومنها: الإخبار {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} يعني: أخبرناهم، ومنها: الفراغ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} {)فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} يعني: فرغتم منها. فالقضاء له عدة إطلاقات، المراد منها هنا: الأمر والشرع، و"{وَقَضَى}" معناه: شرع "{أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}"، والله لم يشرع عبادة غيره أبداً، لم يشرع عبادة الأصنام، ولم يشرع عبادة الأولياء والصالحين، ولم يشرع عبادة الأضرحة والقبور، ولم يشرع عبادة الأشجار والأحجار، أبداً، هذا شرعه الشيطان، أما شرع الله فهو عبادة الله -سبحانه- وحده لا شريك له.


وهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله " "{أَلاَّ تَعْبُدُوا}" هذا نفي، "{إِلاَّ إِيَّاهُ}" هذا إثبات، فهو معنى "لا إله إلاَّ الله" تماماً.
ولما أمر بحقه- سبحانه- أمر بحق الوالدين: "{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" فيأتي حق الوالدين بعد حق الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ لأن الوالدين هما أعظم محسِن عليك بعد الله- سبحانه- ومعنى "{إِحْسَاناً}" يعني: أحسن إليهما كما أحسنا إليك.
والشاهد من الآية: "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" لأنها تفسِّر التّوحيد، وهو: عبادة الله وترك عبادة ما سواه، هذا هو التّوحيد، أما عبادة الله بدون ترك عبادة ما سواه فهذا لا يسمى توحيداً، فالمشركون يعبدون الله ولكنهم يعبدون معه غيره فصاروا مشركين، فليس المهم أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد أن يعبد الله ويترك عبادة ما سواه، وإلاَّ لا يكون عابداً لله، ولا موحِّداً، فالذي يصلي ويصوم وبحج ولكنه لا يترك عبادة غير الله ليس بمسلم، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجّه؛ لأنه لم يتمثل قوله- تعالى-: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" يعني: لا تعبدوا معه غيره، وفي الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى أنه يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وفي رواية: "فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء".

ج / 1 ص -30- وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية.

والآية الرابعة: "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، الآيات على نَسَق واحد، ومنهجها واحد فـ "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" مثل: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" تماماً؛ لأنها تخرج من مِشكاة واحدة "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ}" هذا أمر من الله سبحانه وتعالى بعبادته "{وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهي عن الشرك، وهذا هو معنى {لا إله إلاَّ الله}، لأن {لا إله إلاَّ الله} معناها: نفي الشرك وإثبات العبادة لله عز وجل، ومعنى "{َاعْبُدُوا اللَّهَ}" أي: أخلصوا له العبادة، والعبادة لابد من معرفة معناها، هي: الذل والخضوع، هذا أصلها، في اللغة، يقال: طريق معبَّد يعنى: طريق ذلّلته الأقدام بوطئها.


وأما العبادة في الشرع فهي كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فالعبادة هي: فعل ما شرعه الله سبحانه وتعالى. فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وصلة الأرحام عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والإحسان إلى اليتيم عبادة، إلى آخره، كل ما شرعه الله فهو عبادة، ليست العبادة: أن الإنسان يتقرب إلى الله بشيء من عند نفسه فهذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذاً العبادة: ما شرعه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لأن العبادة منها ما هو على الجوارح والأعضاء الظاهرة، مثل: الصلاة، والجهاد في سبيل الله، هذا ظاهر على الجوارح، تتحرك، تعمل، ومنها ما هو على اللسان مثل: الذكر "سبحان الله والحمد لله" هذه عبادة باللسان، ومنها ما هو بالقلب مثل: الخوف، والخشية، والرغبة، والرهبة، والرجاء، هذه أعمال قلوب؛ فالعبادة تكون على القلوب، وتكون على الألسنة، وتكون على الجوارح.


"{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" لمََّا أمر بعبادته- سبحانه- نهى عن الشرك، لأن الشرك يفسد العبادة، كما أن الحدث يفسد الصلاة والطواف، كذلك الشرك يفسد العبادة، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عنه.

ج / 1 ص -31- وقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية.


ثم يواصل الشيخ رحمه الله سياق الآيات والأحاديث في هذا الباب فيقول: "وقول الله - تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى آخر الآيات الثلاث في آخر سورة الأنعام، التي آخرها: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.


قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآيات الثلاث: "من أراد أن ينظر إلى وصّية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث".
"{أَتْلُ}" أي: أقرأ، "{مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}" دلّ على أن التحليل حقٌّ للربوبية؛ فالرب هو الذي يحلِّل ويحرِّم؛ لا ما حرّمتموه، أو حرّمه أولياؤكم من الشياطين من الإنس والجن، كالأنعام التي يحرِّمونها للأصنام.
بدأ بأعظم المحرَّمات فقال: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، فأعظم المحرمات هو:- الشرك بالله- سبحانه-؛ فإذا قيل لك: ما هو أعظم المحرّمات؟، تقول: الشرك بالله عز وجل، وإذا قيل لك: ما أعظم ما نهى الله عنه؟، تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما أعظم المنكرات؟ تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما هو أكبر الكبائر؟، تقول: الشرك بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر: الشرك بالله".


فالشرك- والعياذ بالله- هو أخطر الذنوب، وأعظم ذنب عُصي الله به، وهو: عبادة غيره معه سبحانه وتعالى بصرف أيِّ نوع من أنواع العبادة لغير الله.
فقوله: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن الشرك به؛ وهو أعظم ما حرم ربكم عليكم؛ فأنتم تستحلُّون أعظم المحرّمات- وهو الشرك-.
وكلمة "{شَيْئاً}" يقول العلماء: نكرة في سياق النهي تعمُّ كلّ ما عُبد من

ج / 1 ص -32- دون الله عز وجل، سواءً كان مَلَكاً أو نبياً أو وليًّا أو صالحاً من الصالحين أو شجراً أو حجراً أو قبْراً أو غير ذلك؛ كله يعمُّه كلمة: "{شَيْئاً}" فهي كلمة عامة؛ يعني: أي شيء من الأشياء لا يجوز أن يُصرف له شيء من عبادة الله سبحانه وتعالى.


وأيضاً "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" يشمل كل أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فليس هناك شيء من الشرك يُتَسامَح فيه لا أكبر ولا أصغر، لأن قوله- تعالى-: "{شَيْئاً}" كلمة عامّة تنفي جميع الشرك كبيره وصغيره، كما أنها تمنع أن يُشرك مع الله أحد كائناً من كان، لا الملائكة المقرّبون، ولا الأنبياء والصالحون، ولا الجمادات، ولا الأشجار، ولا الأحجار، ولا القبور، ولا أيّ شيء؛ لا يجوز أن يُصرف شيءٌ من العبادة لغير الله، لا النذور، ولا الذبائح، ولا الطواف، ولا الدعاء، ولا الخوف، ولا الرجاء، ولا الرغبة، ولا الرهبة؛ لا يجوز ذلك سواءً كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، سواء كان شركاً جَلياً ظاهراً أو شركاً خفياً في القلوب.


"{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" أي: وصّاكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً؛ فكلمة: "{إِحْسَاناً}" منصوبٌ على فعل محذوف، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً؛ وهذا - كما ذكرنا في القاعدة المتقرِّرة-: أن الله- سبحانه- يبدأ بحقه أوّلاً ثم يثنِّي بحق الوالدين دائماً وأبداً، إذا أمر بتوحيده أمر أيضاً ببرِّ الوالدين، هذا في كثير من الآيات.
فهذا فيه الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالبر، والصِّلة، والإكرام، والتوقير أحياءاً وأمواتاً: أما برُّهم في الحياة فبالإحسان إليهما بالكلام اللِّين، والتواضُع، والنفقة، والقيام بخدمتهما، والتماس رضاهما في غير معصية الله سبحانه وتعالى كما قال- تعالى-: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)}؛ ففي حال حياتهما يَبَرُّ بهما بأنواع البر، ولا يسيء إليهما أيَّ إساءة، لأن الإحسان إليهما بر، والإساءة إليهما عقوق، والعقوق من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ ففي الأمر بالإحسان إليهما نهيٌ عن الإساءة إليهما.


وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"،

ج / 1 ص -33- ثم قال لأصحابه: "إنَّ جبريل عليه السلام عَرَض له فقال له: يا محمد مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فمات فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: يا محمد من أدْرك أبويه أو أحدهما ولم يُدخلاه الجنة فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد مَن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين"؛ الشاهد من هذا: أن من أدرك أبويه- أو أحدهما- فلم يَبَرَّهما فمات دخل النار بسبب العقوق دعا عليه جبريل بدخوله النار وأَمَّن على ذلك محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
هذا الإحسان إليهما في حال الحياة.


أما الإحسان إليهما بعد الموت فقد سُئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سأله رجلٌ فقال: يا رسول الله ما بقي من بر والديِّ بعد موتهما؟، قال: "أن تصلِّيَ عليهما مع صلاتك" يعني: تدعو لهم إذا دعوت لنفسك، "وإنفاذ عهدهما"؛ يعني: الوصية التي أوصيا بها، و"صلة الرحم التي لا توصَل إلاَّ بهما، وإكرام صديقهما"، إذا كان لوالدك صديق أو لأمك صديقة فأكرم هذا الصديق، لأن إكرام صديق والدك أو صديقة والدتك إكرامٌ لوالديك؛ هذا ما يبقى من البر بعد وفاة الوالدين: الدعاء، وتنفيذ وصاياهما، وصلة الرحم المرتبطة بهما من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات؟، وسائر القرابة، والأخوة والأخوات، وأبناء الأخوة وأبناء الأخوات... إلى آخره؛ كلُّ من تربطك به قرابةٌ من جهة أبيك أو من جهة أمك فهو من ذوي الأرحام، وإذا وصلته فقد بَرَرْت بوالديك.


ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} هذه الوصية الثالثة، وهي: تحريم قتل الأولاد من إملاق، يعني بسبب الفقر، كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر، يسيئون الظن بالله- تعالى- كأن الرزق من عندهم، ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً (31)} وهنا قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} إذا كنتم أنتم لا ترزقون أنفسكم فكيف ترزقون غيركم.
ومن الناس اليوم من ورِث هذه الخصْلة الذميمة فصاروا يسعون لتحديد النسل
ج / 1 ص -34- خشية الفقر، يقولون: يحصُل في الأرض انفجار سُكّاني من كثرة النسل، والموارد قليلة فيحصل مجاعات؛ فيطلبون تحديد النسل؛ فالآن قضية المطالبة بتحديد النسل قائمة على قدم وساق، والدافع لهذا هو خشيتهم الفقر، وهذا لأنهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون أنّ الأرزاق من الله سبحانه وتعالى.


وانْخدع بهذه الدعاية بعض المسلمين، فصاروا يكرهون كثرة الأولاد، وبعضهم يحاول تنظيم النسل، وبعضهم يحاول تحديد النسل، وهناك كلام فارغٌ يردّد، وكلُّ هذا باطل.
وطلب الذرية، وكثرة الذرية، وكثرة الإنجاب أمرٌ مطلوبٌ في الإسلام، لأن هذا فيه تقوية للمسلمين، وتكثير لعدد المسلمين، وأما الرزق فهو على الله سبحانه وتعالى:{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.
قال- تعالى-: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هذه الوصية الرابعة؛ الفواحش جمع فاحشة، والمراد بها: المعصية، سُمِّيت المعصية فاحشة لقبْحها وشناعتها، يعني: لا تقربوا المعاصي.
ولاحظوا قوله: {وَلا تَقْرَبُوا} ما قال: ولا تفعلوا الفواحش، بل قال: {وَلا تَقْرَبُوا}؛ ليشمل ذلك المنع من الوسائل التي تؤدِّي إلى المعاصي. حرّم المعاصي وحرّم الوسائل المؤدِّية إليها، فمثلاً: تبرُّج النساء من قُرْبان الفواحش، لأن تبرُّج النساء وسيلة إلى الزنا، فالزينة والسُّفور من التطرُّق إلى الزنا؛ ونهى الله عن قُربان الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، ما قال: ولا تفعلوا الزنا، قال: {وَلا تَقْرَبُوا} لأن النهي عن القُربان أبلغ من النهي عن نفس الفعل ليمنع الوسيلة إليه؛ وحرّم النظر إلى ما حرّم الله لأن النظر إلى ما حرّم الله- كالنظر إلى المرأة- وسيلة إلى الزنا، وحرّم السماع- سماع الكلام الماجن، والأغاني، والمزامير- لأنها وسائل إلى المحرّمات.
فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} يعني: لا تتعاطوا الأسباب التي تؤدِّي إلى المعاصي، بل تجنّبوها من نظر وسماعٍ وسُفور وتبرُّج وغير ذلك من الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى الفواحش.



ج / 1 ص -35- فإنا كانت الأسباب محرّمة فكيف بنفس الفواحش؟، تكون أشدَّ تحريماً {مَا ظَهَرَ} يعني: ما رآه الناس في الأسواق وفي الدكاكين وفي المجمّعات. {وَمَا بَطَنَ} المعاصي الخفية في البيوت، وفي المحلاَّت المستورة؛ فالمؤمن يتقي الله عز وجل ظاهراً وباطناً، يتقي الله في الشارع ويتقي الله في البيت، يتقي أينما كان، يتقي الله في النهار ويتقيه في الليل، يتقيه في الضياء ويتقيه في الظلمة، لأنه دائماً معه- سبحانه-، لا يخفى عليه.


فليس المقصود أن الإنسان يتجنب المعاصي الظاهرة فقط، وأما إذا خلا فإنه مسموحٌ له، لا، الحرام حرام على أي حال، والرب هو الرب- سبحانه- مطّلع في سائر الأحوال ظاهراً وباطناً لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، مهما حاولتم التستُّر فإنكم لا تخفون على الله سبحانه وتعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}، بل إنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)}، إذا كان كذلك فيجب عليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى على كل حال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت"، يقول- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني: في حال غيبتهم عن الناس، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.


ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} النفس التي حرم الله هي: النفس المؤمنة، وكذلك النفس المعاهَدة، ولو كانت كافرة؛ فالله حرّم قتل المؤمنين، وكذلك حرّم قتل المعاهدين من الكفّار الذين لهم عهدٌ عند المسلمين بالذمة أو بالأمان: فالذمة وهم الذين يدفعون الجزية، أو بالأمان وهم الذين دخلوا بلادنا بالأمان، لا يجوز قتلهم والتعدِّي عليهم، لأنهم في ذمّة المسلمين، وفي أمان المسلمين، لا يجوز خيانة ذمة المسلمين، ولهذا جاء في الحديث: "من قتل معاهَداً لَمْ يَرَحْ رائحة الجنة".


{إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: إلاَّ بإحدى هذه الثلاث: قصاص أو زنا أر ردة؛ هذا قتل بالحق شرعه الله سبحانه وتعالى، ما عدا ذلك فلا يجوز قتل المسلم، قال- تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)} وقتل النفس من أعظم الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى.



ج / 1 ص -36- {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ} هنا تعليلية، أي: لأجل أن تعقلوا؛ والعقل معناه: الكَفُّ عمّا لا يجوز؛ سُمي العقل عقلاً لأنه يكفُّ الإنسان عن الأشياء التي لا تليق، كما أن العقال للبعير يمنعه عن الضياع كذلك العقل، وهو خلقٌ جعله الله في الإنسان يمنع من تعاطي ما لا يجوز.
ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من الكبائر المحرّمات: أكل أموال اليتامى بغير حق.
واليتيم هو: الصغير الذي مات أبوه؛ هذا هو اليتيم؛ أما إذا بلغ فإنه يخرُج عن حدِّ اليُتْم، وكذلك لو ماتتْ أمه، وأبوه حيٌّ لا يسمى يتيماً، لأن أباه يقوم عليه ويُنفق عليه ويربيه، ويتعاهده، ويحميه؛ فاليتم هو: فُقدان الآباء في وقت الصغر.


فاليتيم بحاجة إلى من يعينه، وإلى من يحميه، وإلى من يربيه، وإلى من يدافع عنه؛ فهو ضعيف؛ ومن ذلك: المحافظة على ماله، فلا ينتهز فرصة صغره ويُتْمه فيعتدى على ماله، لأنه لا يدافع، ولهذا يقول: سبحانه وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} إلى قوله- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(1)}.
فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} ما قال: لا تأكلوا مال اليتيم، بل قال: {لا تَقْرَبُوا} يعني: لا تعملوا الوسائل التي تُفضي إلى تَلَف مال اليتيم؛ فكيف بإتْلاف مال اليتيم؟، هذا من باب أولى.


{إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلاَّ بشيء فيه مصلحة لليتيم: كأن تتاجر فيه؛ من أجل أن يربح وينمو.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} هذا من الوصايا الربّانية؛ للإنسان الذي يبيع على الناس السِّلع بالوزن أو بالكيل، أو بالأكياس، أو بالصناديق يجب عليه أن لا يبخسها، بل يوفيها بالمكيال والميزان.
المكيال للحبوب- مثلاً- والأشياء التي تُكال؛ والميزان للأشياء المائعة التي توزن؛ فالمعيار الشرعي هو المكيال أو الميزان.



ج / 1 ص -37- وقد يكون المكيال- أيضاً- بالكيس، كأن يباع بالكيس، أو بالصندوق-مثلاً-، أو بالعلبة، هذا كله يدخل في الكيل والميزان؛ فلا يجوز للإنسان أنه ينقص هذه الأشياء ويبيعها على أنها وافية وقد بخسها وأخذ منها، كما يفعل بعض الخونة الذين يبيعون على الناس الأشياء على أنها تامة وهي مبخوسة، أو يبيع الأشياء والخضار على الناس على أنه سليم، ويجعل عُلُوّ الشيء الطيب، ولكن أسفله معيب أو تالف؛ هذا من البخس أيضاً {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وأهلك الله أمة من الأمم بسبب البخس- وهو قوم شعيب-، والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بالسوق ووجد بائع طعام فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه في الطعام فوجد في أسفله بَلَلاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء يا رسول الله- يعني: أصابه المطر-، قال: "ألا جعلته ظاهراً حتى يراه الناس؛ من غشّنا فليس منّا". فلا يجوز للإنسان أن يخفي الأشياء المعيبة في أسفل الشيء؛ في أسفل الصندوق، في أسفل الإناء، في أسفل السطل، يعني: يجعل الأشياء النَّضِرة في أعلاه، ويقول للناس كله من هذا النوع. هذا حرام. ويجعل أحسنه أعلاه وأسوأه أسفله هذا لا يجوز، هذا من بخس الناس أشياءهم، ومن النقص في الكيل والميزان: { )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}، يعني: يحسبون أن المسألة انتهت لو أفلت من الخلق، ومن رقابة (البلدية)، ومن رقابة السلطان؛ ء فإنه لا يفلت من رقابة الله سبحانه وتعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}.
لم فقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يعني: بالعدل؛ فالقسط معناه: العدل، بأن تزِنْ بالميزان العادل، وتكيل بالمكيال العادل الذي لا يظلم البائع ولا يظلم المشتري.


{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني: لو حصل أن الإنسان اجتهد في أن يوفي الحق وأن يوفي الكيل، ولكن حصل نقص يسير لم يتعمّده، فهذا لا يؤاخذه الله عليه {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أنت أعدل بقدر ما تستطيع فإذا حصل شيءٌ لا تستطيعه ولا تعلم عنه فإنك لا تؤاخذ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، إنما الكلام في

ج / 1 ص -38- الإنسان الذي يتعمّد الخديعة، ويتعمّد البخس، ويتعمّد النقص، لأن العدل تماماً لا أحد يستطيعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، الإنسان يعجز، ولكن الله عز وجل يعفو عمّا لا يستطيعه الإنسان {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.


{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لمّا أمر بالوفاء بالكيل والوزن أمر بالوفاء بالكلام أيضاً؛ إذا تكلّمت في شخص فعليك بالعدل لا تمدحه بشيء ما هو فيه. ولا تذمُّه بشيء ما هو فيه، بل الزم العدل، قل ما تعلم فيه من الصفات، لا تمدحه مدحاً لا يستحقَّه، ولا تذمُّه ذمّاً لا يستحقُّه؛ وإذا كنت لا تعرفه فقل: لا أدري، لا أعرفه، لا تدخل نفسك في شيء لا تعرفه.


كذلك من ناحية الشهادة: إذا أردت أن تشهد على أحد فلا تشهد إلاَّ بالحق؛ لا تحابي مع أحد وتشهد له لأنه قريبك، أو لأنه صديق لك، تشهد له بالباطل؛ أو تكتم الشهادة عن أحد لأنه عدوٌٌّ لك، قل الحق ولو على نفسك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)}، وقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا} {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} يعني: لا يحملكم بغض قوم على أن لا تعدلوا فيهم، وأن تتكلموا فيهم بغير حق، حتى ولو كانوا كفّاراً، ولو كانوا أعداءاً قولوا فيهم الحق.


فالعدل مطلوب، قامتْ به السموات والأرض. العدل مطلوب مع العدو، ومع الصديق، ومع القريب، ومع البعيد، ومع كلِّ أحد؛ لا يجوز للإنسان أن يتبع الهوى وشهوات النفس ويتكلّم على حسب رغبته، أو يكتم الشهادة على حسب رغبته.


{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} قلتم بالتزكية، قلتم في الشهادة، قلتم في التجريح- تجريح الرواة أو تعديلهم-، {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: ولو كان المتكلّم فيه قريبٌ لك، لا يحملك قرابته والشفقة عليه أن تحيد في حقه، بل قل فيه الحق، واشهد عليه بالحق؛ واشهد بالحق ولو كان لعدوك وخصمك، هذا هو العدل الصحيح.



ج / 1 ص -39- {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وهذا من الوصايا العظمية: الوفاء بعهد الله عز وجل؛ والوفاء بعهد الله المراد به: الوفاء بالمواثيق التي تكون بين العبد وبين ربه، والتي تكون بين الناس بعضهم مع بعض؛ العهد الذي بينك وبين الله أن تعبده ولا تشرك به شيئاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)} هذا عهدٌ بينك وبين الله تعاهده أن لا تعبد إلاَّ إياه، ولا تستعين إلاَّ به؛ فالعهد الذي بين العبد وبين ربه هو: أن يقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى.


والعهد الذي بينك وبين الناس: إذا عاهدت سلطاناً، أو أميرًا، أو عاهدت أحداً من الناس فلا تغدر العهد الذي بينك وبين الله، ولا بالعهد الذي بينك وبين الناس؛ إذا عاهدت وجب عليك الوفاء بالعهد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر"، فالغدر بالعهود من صفات المنافقين.


بل إذا كان بيننا وبين الكفار عهد فلا يجوز لنا أن نغدر به، بل يجب الوفاء مع الكفار المعاهَدين.
وإذا أراد ولي الأمر أن ينهي المعاهدة مع الكفار فلا يلغيها فجأة، بل يعطيهم؛ مُهلة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}.


ومبايعة السلطان عهد يجب على الرعية أن يفوا به، وأن لا يغدروا به، وأن لا يعصوا ولّي الأمر، إلاَّ إذا أَمر بمعصية فإنه لا يُطاع في المعصية، لكن يُطاع في الأمور الأخرى التي ليستْ بمعصية، هذا من العهد الذي بينك وبين وليّ الأمر.
كذلك العهد الذي بينك وبين الناس؛ العهد الذي بين دولتك ودولة أخرى، كلّ هذا من العهد الذي أمر الله بالوفاء به، ولا يُستهان به أبداً؛ فالعهود أمرها عظيم، ولذلك أضافها الله إليه قال- تعالى-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال - تعالى-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وهنا يقول: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أضاف العهد إليه ليدل على عظمته.


{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {لَعَلَّ} هنا للتعليل أيضاً، أي: لأجل أن تتذكّروا ما عليكم من الحقوق والواجبات فتقوموا بها خير قيام.



ج / 1 ص -40- ثم ختم هذه الوصايا بالوصية العاشرة العظيمة فقال- جل وعلا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}: الصراط في اللغة معناه: الطريق؛ والمراد بالصراط هنا: كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما طريقٌ إلى الجنة، أي: ما أوحيته إليكم بواسطة رسولي من الأوامر والنواهي في هذا القرآن العظيم وفي السنة النبوية هذا هو الصراط. فالذي يسأل عن الطريق إلى الله، نقول هو كتاب الله، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها، تابعة للقرآن، ومفسِّرة للقرآن؛ فالسنة داخلة في كتاب الله عز وجل.


{مُسْتَقِيماً} نُصب على الحال؛ والمستقيم هو: المعتدل، فطريق الله عز وجل معتدل، ليس فيه ميلان، وليس فيه منعطفَات، وليس فيه غموض، طريق واضح يوصلك إلى الجنة، تمشي فيه على نور، وعلى برهان، وعلى طريق واضح.
وأضاف {الصِّرَاطَ} إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتكريم؛ ثم وصفه بأنه مستقيم، يعني: معتدلٌ بخلاف الطرق الأخرى فإنها معوجَّة ومتعرِّجة، تضلِّل صاحبها؛ لأن هناك طرقاً كثيرة للشياطين؛ شياطين الإنس والجن، ومذاهب، وهناك جماعات متعدّدة، هناك.. وهناك..، لكن طريق الله واحدة، ما فيها تعدُّد، ولا فيها انقسام، ولهذا وحّد صراطه وعدّد السبل قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} لأن الطرق والسبل التي غير القرآن وغير الشريعة طرقٌ كثيرة ليس لها حصر، كل صاحب مذهب له طريقة، وكل صاحب نِحْلة له طريق، وكل جماعة من الضُّلاَّل لهم طريق، وكل، مَن اخْتلف عن الحق صار له طريق غير طريق الآخر؛ وهذه علامة أهل الضَّلاَّل أنهم لا يجتمعون على شيء، ولا يتوافقون أبداً، بخلاف أهل الحق فإنهم يتوافقون، لماذا؟ لأنهم يسيرون على طريق الله سبحانه وتعالى.


فميزه أهل الحق أنهم لا يختلفون، وإن حصل اختلاف فإنه يُحْسَم بالرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ فالصحابة رضي الله عنهم قد يقع بينهم اختلافات لكن سرعان ما تذهب، لماذا؟، لأنهم يرجعون إلى كتاب الله؛ فقد اختلفوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم من الخليفة بعده؟، ثم سَرْعان ما انْحَسَم النزاع وعاهدوا أبا بكر الصدِّيق- رضي الله تعالى عنه- لما

ج / 1 ص -41- رجعوا إلى السنة، واختلفوا في حروب الردة، وسرعان ما اتّفقوا على قتال المرتدِّين، لأنهم رجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
فأهل الحق حتى لو حصل بينهم خلاف ناتج عن اجتهاد، فإنهم يرجعون إلى كتاب الله، بخلاف أهل الضلال فإن كل واحد يركب رأسه، ولا يُصْغي للآخر، كل واحد يريد أن يكون هو الشيخ والمعظَّم، لأنه يريد تعظيم نفسه، ولا يريد الحق؛ فلذلك تجدون أهل الضلال دائماً في اختلاف، ودائماً في صراع، وتجدون أهل الضلال تتشعّب مناهجهم، وتتنوّع، وكل حين يخرج مذهب جديد، هذه صفة أهل الضلال- والعياذ بالله- وهذا مذكور في هذه الآية: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وضّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بتوضيحٍ محسوسٌ: ذلكم أنه خط صلى الله عليه وسلم على الأرض خطّاً معتدلاً، ثم خطّ على جَنَبَتَيْه خطوطاً، فقال صلى الله عليه وسلم للخط المعتدِل: "هذا صراط الله"، وقال لهذه الطرق: "وهذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليه"، هذا مثال واضح من الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان الآية الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.


وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "ومن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ؛ وإياكم ومحدَثات الأمور، فإن كلّ محدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة"، فقالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: "مَنْ كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" هذا صراط الله عز وجل في الآيات وفي الأحاديث.


ولا نستغرب إذ حصل اختلافات، ونشأتْ مذاهب ضالّة، وحصل صراعات بين الناس، لا نستغرب هذا، لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى لابتلاء العباد وامتحانهم، ومن هو الذي يثبت على الطريق ومن هو الذي لا يثبت؟
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما حضرته الوفاة أراد أن يكتُب كتاباً لأصحابه، يَعْهَد إليهم فيه، ولكنه عدل عن ذلك، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ولم يَعْهَد إليهم، فتأسّف بعضهم، فابن مسعود يقول: لستم بحاجة إلى كتاب يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن عندكم القرآن.


المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf




التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 19-01-2015 الساعة 01:30AM
رد مع اقتباس