عرض مشاركة واحدة
  #20  
قديم 19-01-2015, 11:11PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم



إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

بابُ قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

ج / 1 ص -221- [الباب السادس عشر:] *بابُ قول الله تعالى {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.

في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء؛..............


مُراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب: أن يبيّن تفسير هذه الآية، كما جاءت بذلك السنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الآية فسّرتها السنّة بالأحاديث التي ذكرها الشيخ في هذا الباب، والغرض من ذلك إتمام ما سبق في الأبواب السابقة من بيان أدلة بُطلان الشرك.
ففي الأبواب السابقة بيّن الشيخ رحمه الله بيان بُطلان عبادة الأنبياء والصالحين من بني آدم، بالأدلة التي سبقت من الكتاب والسنّة.
وفي هذا الباب يبيّن بُطلان عبادة الملائكة، لأن الملائكة عُبدوا من دون الله، فهذا الباب مكمِّلٌ للأبواب السابقة التي قبله في بيان بُطلان عبادة كل من عُبد من دون الله من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، والملائكة، لأنهم إذا بطلت عبادة هؤلاء، فبُطلان عبادة من دونهم من باب أولى، وإذا بطل ذلك في حق الملائكة وهم أقوى الخلق خِلقة، ومن أقربهم إلى الله سبحانه وتعالى منزلة فلأن تبطل عبادة من سواهم من الآدميين والجن والإنس من باب أولى، هذا فقه هذه الترجمة.


قوله: "إذا قضى الله الأمر" معناه: إذا تكلّم الله بالوحي، كما في حديث النواس بن سَمْعان الذي في آخر الباب بهذا اللفظ: "إذا تكلم الله بالوحي" وهذا معنى قوله: "قضى الله الأمر في السماء"، ففي ذلك إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وأنه كلام يُسمع، تسمعه الملائكة، وإذا سمعوه صَعِقوا وخَرُّوا- كما يأتي-، خَرُّوا لله سُجّداً، تعظيماً لله عزّ وجلّ.
وفي قوله: "في السماء" هذا فيه إثبات علوّ الله سبحانه وتعالى، فهو كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ

ج / 1 ص -222- ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان،


يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}، والذي في السماء هو الله سبحانه وتعالى، أي: العلو، هو العلي الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، والعرش هو أعلى المخلوقات، وسقف المخلوقات وأعظمها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء، قال لسيّدها: "أعتقها، فإنها مؤمنة" والأدّلة على ذلك كثيرة، وقد صنّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً سمّاه: "العلو للعليّ الغفّار" ساق فيه الأدلة على علو الله على عرشه، وهي كثيرة.


قال العلماء: إن أدلة علو الله على عرشه تبلغ ألف دليل أو أكثر من الوحي، ومن الفطرة، ومن الأدلة العقلية، وهذا ثابت لا شك فيه، ولا ينكره إلاّ الملاحدة من الجهميّة وغيرهم.
وقوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها" الملائكة من أعظم المخلوقات، لا يعلم عِظَمِ خِلْقة الملائكة إلاّ الله سبحانه وتعالى، وإذا كانوا على هذه الحالة من العِظَم، ومع هذا لا تصلح عبادتهم من دون الله، فهم مع قوّتهم وعِظَم خِلْقَتهم يخافون من الله سبحانه وتعالى، إذا سمعوا كلامه ضربوا بأجنحتهم. وهذا فيه إثبات الأجنحة للملائكة، وهي ثابتة بالقرآن كما في قوله تعالى: {رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}.


"خضَعاناً" هذا مفعول لأجله، يعني: لماذا ضربوا بأجنحتهم؟، لأجل الخضوع لله. وتعظيماً له، وخوفاً منه عزّ وجلّ.
فإن كانت هذه حالتهم فلا يجوز أن يُعبدوا مع الله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، قال تعالى في حقهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} يعني: الملائكة {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.


"لقوله" أي: لقول الله سبحانه وتعالى، فيه إثبات القول لله، وإثبات الكلام لله جلّ وعلا، وأنه يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كلاماً يُسمع، تسمعه الملائكة، ويسمعه جبريل، وإذا سمعه الملائكة أصابهم هذا الرُّعب والخوف من الله.
قوله: "كأنه" أي: كأن قوله تعالى ويكَلُّمه سبحانه بالوحي.
"سلسلة على صفوان " تشبيه لصوت الوحي الذي يأتي إلى المَلَك، أو صوت
ج / 1 ص -223- ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.فيسمعها مُسْتَرِق السمع، ومُسْتَرِق السمع هكذا بعضه فوق بعض" وصفه سفيان بكفه، فحرّفها وبدّد بين أصابعه.


المَلَك نفسه بصوت السلسلة إذا جُرّت على حجر أمْلَس.
"ينفذهم ذلك" أي: أن كلام الله يبلغ إلى قلوبهم فيخافون.
"{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}" يعني: أُزيل عنها الفزع، تساءلوا بينهم: ماذا قال ربكم؟.
"{قَالُوا الْحَقَّ}" أي قال بعضهم لبعض: قال الله الحق، لأن كلامه حق سبحانه وتعالى.


قال صلى الله عليه وسلم: "فيسمعها مسترق السمع" المسترق هو: الذي يأخذ الشيء بسرعة وخُفية، ومنه سمّي السارق الذي يأخذ المال على وجه الخُفية والسرعة حيث لا يراه أحد، ومسترق السمع، هو الشيطان الذي يخطف الكلمة من الوحي الذي تتكلم به الملائكة في السماء، قال تعالى: {إِلَّامَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}.


"ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض" معناه: أن الشياطين يَعْلُو بعضها بعضاً حتى تصل إلى عنان السماء، كل واحد يركب على الآخر، من أجل استراق السمع.


"وصفه سفيان" يعني: راوي الحديث، وهو سفيان بن عيينة، أحد كبار المحدِّثين المشهورين الثقات الأثبات رحمه الله.
يعني: وصف تراكمهم ووصف ركوب بعضهم فوق بعض في الجو.
"بكفه، فحرّفها" يعني: أمالها، وفرّق أصابعها، والأصابع يكون بعضها فوق بعض، هذا معناه: أن سفيان أراد أن يوضّح لتلاميذه والرواة عنه بالمثال المحسوس المشاهد عملية الشياطين في الهواء، فهذا فيه من وسائل التعليم: ضرب الأمثلة للطلاّب حتى يفهموا، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يفسّر قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوضّح هذه الآية بمثال محسوس: خطّ خطّاً مستقيماً على الأرض، وخطّ عن يمينه وشماله خطوطاً، وقال للمستقيم: "هذا صراط الله" وقال للأخرى: " هذه سُبُل، علىج / 1 ص -224- "فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته، ثم يُلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحر أو الكاهن،


كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليها" هذا توضيح للمعاني بالمحسوسات، وهي طريقة شرعية، وطريقة ناجحة في الإفهام، وهذا ما أراده سفيان رضي الله عنه من وصفه عمليّة الشياطين في الهوى بكفه وجعْل أصابعه بعضها فوق بعض مفرِّجة من أجل أن يوضّح لهم.
وقوله: "فيسمع الكلمة" أي: يسمع مسترق السَّمع الكلمة مما تكلّمت به الملائكة، فيُلقيها إلى من تحته من الشياطين، والذي تحته يُلقيها إلى الآخر، واحداً بعد واحد، حتى يُلقيها الأخير على لسان الساحر أو الكاهن من بني آدم.


فهذا فيه دليل على أن السّحرة والكهان يتلقون عن الشياطين، ففيه إبطال لعمل السّحرة والكهان، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}، هذا خبر من الله سبحانه وتعالى أنّ الكهان والسحرة يتلّقون عن الشياطين، فهذا فيه بُطلان السحر والكهانة، وأن مصدرهما واحد؛ عن الشياطين الذين هم أكفر الخلق، وأَغَشُّ الخلق للخلق.


والسحر معروف، وهو: عملية يعلمها الساحر إما بالعُقَد والنَّفْث {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)}، وإما بكلام الكفر والشرك، فهو عزائم ورُقى شيطانية، وإما بمواد خبيثة تركّب بعضها مع بعض ثم يتكوّن منها السحر، فالسحر عمل شيطاني، والسحر كفر، والساحر كافر، بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، فدلّ على أن الذي يتعلم السحر يكفر، لأن السحر كفر.


وأما الكِهانة فمعناها: الإخبار عن المغيبات بسبب ما يتلقاه الكاهن عن الشيطان، لأن الشيطان يخبر الكاهن بأمور غائبة عن بني آدم، لأن الشيطان عنده قدرة أكبر من قدرة بني آدم، فهو يطير في الهواء، ويصل إلى السحاب، ويسترق السمع، ويطير بسرعة من الأمكنة البعيدة، فعنده مقدرة ليست عند الإنسي، فالإنسي يخضع للشيطان، ويتقرب إلى الشيطان بما يحب من الكفر بالله والشرك بالله حتى

ج / 1 ص -225- فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيُقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟، فيُصرَّف بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء".


يخدمه الشيطان بما يريد من الأمور الغائبة عن بني آدم، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}، هذا فيه أن الله سبحانه وتعالى إذا حشر الشياطين يوم القيامة وحشر الكهان وعملاء الشياطين يوبخهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني : أهلكتم كثيراً من الإنس، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني: الكهان والسحرة وكل من يتعامل مع الشياطين {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} هم خدمونا ونحن خدمناهم في الدنيا {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} الآن وقفنا بين يديك يا ربنا، فيقول: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، هذا مآل السحرة والكهان مع أوليائهم من الشياطين.


وقال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)} يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي: خوفاً. أما لو أنهم عاذوا بالله لأعاذهم وقوّاهم، وأذهب ما بهم من الفزع، ولا يضرهم أحد إذا توكلوا على الله وعاذوا بالله، لكن عاذوا بمخلوق فأذلهم الله سبحانه وتعالى.


وقوله: "حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن" دلّ على أنهما من فصيلة واحدة، وأنهم يتلقون عن الشياطين.
قال سبحانه مبيّناً سند الكهان والسحرة والمشعوذين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}.
قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" هذا المقصود من استراق السمع؟، من أجل أن يخدعوا الإنس، ومن أجل أن يخلطوا الحق بالباطل، ويلبسوا الحق بالباطل، لأنهم لو جاءوا بالباطل الخالص المحض ما صدقهم أحد، لكن إذا خلطوه بشيء من الحق صدقهم الناس، فيكون هذا فيه فتنة لضعفاء الإيمان وضعفاء العقول، يأخذون الباطل الكثير بسبب حق يسير خالطه.



ج / 1 ص -226- وهذا واقع في النّاس الآن فكثير من النّاس يتبع أئمة الضلال، ويتبع الفرق الضالة والجماعات المنحرفة بسبب أن عندهم شيئاً من الحسنات أو شيئاً من الحق، ولا ينظر إلى كثرة الباطل الذي هم عليه، وهذا بلاء وفتنة للناس، ليس هذا خاصًّا بالكهان والسحرة، بل هذا عام في كل من تقبل الباطل بسبب التباسه بشيء من الحق.
قوله: "فيقال: أليس قد قال يوم كذا وكذا: كذ وكذا؟. فيُصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء" هذه الفتنة العظيمة: لبس الحق بالباطل، لأن الباطل لو كان مكشوفاً واضحاً خالصاً ما قبله أحد، وإنما يُقبل الباطل إذا لُبِّس معه شيء من الحق، وهذه فتنة عظيمة يجب أن نتنبه لها.


فالحاصل: أن هذا حديث عظيم، فيه فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه أن السنّة النبوية تفسر القرآن، فهذا الحديث فسر هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}، ففيه رد على الطائفة الخبيثة التي تريد رفض السنّة والاقتصار على القرآن، وإذا اقتصر على القرآن من أين نفسر القرآن؟، القرآن يفسر بأحد أربعة أمور:
أولاً: يفسّر القرآن بالقرآن.

ثانياً: إذا لم يكن فيه تفسير من القرآن يفسر بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: إذا لم يكن فيه تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بأقوال الصحابة، لأنهم تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنه تعلموا وتلقوا العلم فهم أدرى النّاس بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

رابعاً: إذا لم يكن هناك تفسير من الصحابة يفسر بمقتضى لغة العرب التي نزل بها، ينظر إلى معنى الكلمة في لغة العرب ويفسر بلغة العرب التي نزل بها.
أما أن يفسر القرآن بغير هذه الطرق فهذا باطل، إما بالقرآن، وإما بالسنّة، وإما بقول الصحابي، وإما بلغة العرب التي نزل بها، ولا يفسر القرآن بغير هذه الوجوه.


نعم، اختلفوا في قول التابعي: هل يفسر به القرآن؟، منهم من يرى ذلك، فيكون وجهاً خامساً، لأن التابعي له خاصية، لأنه تتلمذ على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله ميزة على غيره ممن تتلمذ على غير الصحابة.

ج / 1 ص -227- أما تفسير القرآن بغير هذه الوجوه فلا يجوز، لأنه قول على الله بلا علم، فالذين يفسرون القرآن بالنظريّات الحديثة -أو ما يسمونه بالعلم الحديث- فهذا خطأ، وهذا قول على الله بلا علم، فالنظريّات هذه عمل بشر، تصدق وتكذب، وكثير منها يكذب، ويأتي نظرية أخرى تبطل هذه النظرية السابقة، مثل: ما عند الأطباء، ومثل: ما عند الفلاسفة، لأنه عمل بشر، فالنظريّات الحديثة لا يفسر بها كلام رب العالمين، ولا يقال: هذا من الإعجاز العلمي- كما يسمونه-، هذا ليس بإعجاز علمي أبداً، كلام الله يُصان عن نظريّات البشر، وعن أقوال البشر، لأن هذه النظريّات تضطرب ويكذب بعضها بعضاً، فهل يفسّر كلام ربنا بنظريّات مضطّربة؟، هذا باطل ولا يجوز، ويجب رفض هذا التفسير، والاقتصار على الوجوه الأربعة- أو الخمسة- التي نصّ عليها أهل العلم، كما ذكرها ابن كثير رحمه الله، في أول التفسير.


الفائدة الثانية: إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، فقد أثبت في هذا الحديث علو الله على خلقه، وأنه في السماء سبحانه وتعالى، وأثبت أن الله يتكلم بكلام يُسمع، تسمعه الملائكة وترتعد عند سماعه.

الفائدة الثالثة: وهي التي عقد المصنف رحمه الله بهذا الباب من أجلها: بطلان التعلق على الملائكة، عكس ما كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الملائكة، واعتقاد أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً.
ففي هذا بطلان الشرك، لأنه إذا بطلت عبادة الملائكة وهم من هم في القوة والمكانة عند الله والقرب من الله، إذا بطل عبادتهم والتعلق عليهم وطلب الحوائج منهم فلأن يبطل ذلك في حق غيرهم من باب أولى، فالذين يتعلقون على القبور وعلى الأضرحة وعلى الأشجار والأحجار، ويتبركون بها، كل هذا باطل، لأن هذه مخلوقات ليس لها من الأمر شيء، مسخرة ليس لها من الأمر شيء، إنما التعلق يكون بالله عزّ وجلّ، والتوكل على الله، لأن الملائكة مفتقرون إلى الله، وكل المخلوقات مفتقرة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد، هو غني عن غيره، وأما غيره فهم فقراء إليه سبحانه وتعالى.



ج / 1 ص -228- الفائدة الرابعة: في الحديث إثبات استراق السمع، وأن الشياطين قد يسترقون السمع، وهذا كان في الجاهلية كثيراً، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء بالشُّهب، وقلّ استراق السمع، قال بعضهم لبعض: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} يعني: هذا في الجاهلية، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} يعني: بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم { يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)}.


الفائدة الخامسة: فيه بُطلان السحر والكِهانة، وأن مصدرهما واحد، التلقي عن الشياطين، فلا يُقبل السحر، ولا خبر الساحر، ولا تُقبل الكِهانة ولا خبر الكاهن لأن مصدرها باطل، وقد جاء في الحديث: "من أتى كاهناً أو عرّافًا لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهناً أو عرّافاُ فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم" فهذا فيه بطلان السحر والكِهانة، وأنه لا يجوز تصديق السحرة، ولا تصديق الكُهَّان، ولا الذهاب إليهم، لكن في وقتنا الحاضر السحرة والكهان خرجوا على الناس باسم أطباء ومعالجين، وفتحوا محلات، يعالجون فيها المرضى بالسحر والكهانة، لكن لا يقولون: هذا سحر، ولا يقولون: هذا كهانة، بل يُظهرون أنهم يعالجون النّاس بأمور مباحة، ويذكرون الله عند الناس، وقد يقرءون شيئاً من القرآن من أجل التلبيس، ولكن في الخفاء يقول للمريض اذبح شاة على صفة كذا وكذا، ولا تأكل منها، خذ من دمها واعمل كذا وكذا، أو اذبح ديكاً أو دجاجة، يصفه بأوصاف، ويقول له: ولا تذكر اسم الله عليه، أو يسأله عن اسم أمه واسم أبيه، أو يأخذ ثوبه وطاقيته من أجل أن يسأل عملاءه من الشياطين لأن الشياطين يخبر بعضهم بعضاً. ثمّ يقول الساحر أو الكاهن-: فلان هو الذي سحرك، وهو كله تدجيل، والواجب على المسلمين أن يتنبهوا لهذا، وأن يحذروا هؤلاء المشعوذين والدجالين الذين يفسدون عقائد الناس، ويأكلون أموالهم بالباطل.


الفائدة السادسة: ذكرها الشَّيخ رحمه الله في قوله: "قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟" بحيث تُقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، فالنفوس تقبل الباطل، حيث إنها تقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، وهذا فيه: التحذير من لبس الحق بالباطل، وأن لا نغتر بمن يلبس علينا،

ج / 1 ص -229- وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر؛ تكلّم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة "أو قال: رعدة شديدة: خوفاً من الله عزّ وجلّ،


يأتي لنا بأشياء من الحق، ويدخل تحتها كثيراً من الباطل والخداع، والواجب على المؤمن أن يكون كَيِّساً فطناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن كَيِّسٌ فطن" ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فالمؤمن لا يتسرع بقبول الأقوال أو المذاهب أو المناهج حتى يفحصها تماماً، وكيف يفحصها؟، يعرضها على الكتاب والسنّة إن كان يعرف، وإن كان لا يعرف يسأل عنها أهل العلم وأهل البصيرة، حتى يميزوا له الصحيح من السقيم، هذا واجب علينا جميعاً أننا لا ننخدع بالدعايات المُزَوَّقَة والمستورة والمغلّفة بشيء من المحسّنات حتى نَسْبُرَ غَوْرَها، وَنَخْبُرَ ما بداخلها إن كنا نستطيع ذلك فالحمد لله، وإلاَّ فإننا نسأل أهل العلم وأهل البصيرة الذين يميّزون بين الحق والباطل.


قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" فهذا فيه: إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى، وهي صفة من صفاته، دلّت عليها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فالله جل وعلا له إرادة، وإرادته على نوعين:
إرادة كونية، بها يخلق ويرزق، ويهدي ويضل، ويحيي ويميت.
وإرادة شرعية دينية بها يأمر عباده بما يصلحهم وينهاهم عما يضرهم، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، هذه إرادة دينية، كما فصّل ذلك أهل العلم.


"أن يوحي" الوحي هو: الإعلام بسرعة وخفاء، وهو على نوعين: وحي إلهام ووحي إرسال.
وحي الإلهام: يكون بإلهام الله بعض المخلوقات ببعض الأمور مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي: ألهمها، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} ألهم الله أم موسى أن تعمل هذا العمل

ج / 1 ص -230- فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجّداً.


بولدها لما ولدته، وكان فرعون يقتِّل الذكور، فالله ألهمها أن تعمل هذا العمل من أجل نجاة موسى من هذا الجبار.
وأما وحي الإرسال فهو الذي ينزل به جبريل عليه السلام إلى الرسل.
"بالأمر" أي: بالشأن من شؤون الكون والمخلوقات، أو بالأمر من الوحي المنزل على الرسل، فهو عام.
فالأمر على نوعين: كوني وشرعي.


"تكلم بالوحي" تكلماً يليق بجلاله، وهذا فيه: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى.
"أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة)" هذا شك من الراوي، أي: إذا سمعت كلام الله يصيبها خوف وهيبة لكلام الله، وهذا فيه: أن الجمادات تدرك عظمة ربها، وتسبّحه، وتعظمه كما قال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، وكما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)}، في هذا: أن السماوات والأرض تتكلم، وأنها تسبح كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.


"فإذا سمع ذلك أهل السماوات" يعني: سمع الملائكة كلام الله أيضاً.
"صعِقُوا" بمعنى: أنهم يغشى عليهم من الخوف من الله عزّ وجلّ والهيبة والجلال.
" وخروا لله" يعني: ينحطّون لله"سُجّداً"على وجوههم تعظيماً لله وتعبدًّا لله.
قد يكون السجود قبل الصعق، وقد يكون بعد الصعق، لأن الواو لا تقتضي الترتيب.


وفي هذا دليل على أن الملائكة عباد لله، يخافونه ويهابونه.
وفي هذا ردٌّ على المشركين الذين يعبدون الملائكة، ويزعمون أن الملائكة تقرّبهم إلى الله، كما يقرب خاصة الملوك إلى الملوك من يريد قضاء حاجته منهم، قاسوا الخالق على المخلوقين، تعالى الله عما يقولون، فهذا فيه ردّ عليهم، وهو أن الملائكة عباد، كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}، عباد من عباد الله، يخافون

ج / 1 ص -231- فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد،


من الله، ويسجدون له، والعبد لا يجوز أن يُعبد، ولا أن يُدعى، ويُستغاث به، وإنما يُعبد الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي ساق المصنّف رحمه الله هذا الحديث من أجله، وهو: الرد على المشركين الذين يتعلقون على المخلوقين في قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلاّ الله، وتفريج الكربات، وهو أنه إذا كانت الملائكة مع عظمتهم وقوتهم ومكانتهم -بما فيهم جبريل عليه الصلاة والسلام-، كانوا بهذه المثابة إذا سمعوا كلام الله، دلَّ على أنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يجوز أن يُدعوا، ويُستغاث بهم، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى، فلا يجوز دعاء الصالحين، أو الاستغاثة بهم، أو التقرب إليهم بالعبادة، أو الذبح، أو النذر، أو غير ذلك، كل هذا باطل، وشرك أكبر.


وفيه دليل على أن السماوات متعددة وأنها سبع طِباق كما تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً(15)}، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، ولكل سماء سكان من الملائكة.
"فيكون أول من يرفع رأسه" يعني: من السجود.


"جبريل" وهو: أعظم الملائكة، وهو موكّل بالوحي كما أن ميكائيل موكّل بالقطر والنّبات، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور، وكل نوع من الملائكة له عمل، منهم ملائكة الموت، ورئيسهم مَلَك الموت: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}.


وهناك ملائكة موكّلون بالأَجِنَّة في الأرحام، كما جاء في الحديث: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثمّ يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثمّ يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثمّ يُرسل إليه المَلَكَ في الطَّوْر الرابع "ويؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيُّ أو سعيد" فهؤلاء موكّلون بالأَجنَّة في الأرحام.
وهناك ملائكة موكّلون بحفظ أعمال بني آدم، بكتابة الحسنات والسيّئات يلازمون بني آدم، إلاّ في الأحوال الخاصة، دائماً معهم في الليل والنهار يكتبون ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال طيّبة أو رديئة، وهؤلاء يسمون بالحَفَظَة.


ج / 1 ص -232- ثمّ يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل.


وهناك ملائكة موكّلون بحفظ الإنسان نفسه، يحفظون الإنسان من المخاطر، ورفع المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
وهناك أنواع من الملائكة لا يعلمهم إلاّ الله.
" ثم يمر جبريل على الملائكة" هذا فيه: فضل جبريل عليه السلام، وأن الله اختصه بائتمانه على الوحي، وأن أهل السماوات يسألونه وهذا دليل على فضله كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}، يعني: ذا مكانة عند الله سبحانه وتعالى، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة {أَمِينٍ} أمين على الوحي، لا يزيد فيه ولا ينقص- عليه الصلاة والسلام-.


"كلما مر بسماء" هذا كما سبق فيه دليل على تعدّد السموات.
"سأله ملائكتها" هذا فيه دليل على أن لكل سماء ملائكة خاصّون بها.
"ماذا قال ربنا يا جبريل؟، فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" تعظيماً لله سبحانه وتعالى.
وهذا فيه دليل على أن كلام الله حق لا ريب فيه، وأن الملائكة لا تعلم الغيب ولذلك تسأل جبريل.


"وهو العلى" هذا فيه إثبات العلو لله عزّ وجلّ، والعلو ثلاثة أقسام: علو الذات. وعلو القدر. وعلو القهر. وكلها ثابتة لله سبحانه وتعالى.
فهو عليٌّ بذاته فوق مخلوقاته، وهو عليُّ القدر سبحانه وتعالى، وهو عليُّ القهر، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بجميع أنواع العلو.
وأهل السنّة والجماعة يثبتون العلو بأنواعه الثلاثة.
أما المبتدعة فلا يُثبتون إلاّ علو القدر والقهر فقط، وأما علوّ الذات فينفونه، ولا يثبتون العلو لله عزّ وجلّ، تعالى الله عما يقولون علوًّ كبيراً.


{الكبير} الذي لا أكبر منه سبحانه وتعالى، كل المخلوقات صغيرة بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى،

ج / 1 ص -233- ليست بشيء: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، هذا من عظمته سبحانه وتعالى.


فدلّ هذا الحديث على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وهذا بإجماع أهل السنّة والجماعة، لم يخالف فيه إلاّ المبتدعة.
المسألة الثانية: إثبات الإدراك للسماوات والخوف من الله، وأنها تُدرك عظمة الله، وتخافه، وهي جمادات، كما دلّت على ذلك الأدلة الأخرى فإذا كانت السماوات تخافه، فكيف لا يخافه ابن آدم هذا الضعيف المسكين؟، كيف لا يخاف من الله سبحانه وتعالى؟.
المسألة الثالثة: وهي المسألة التي ساق المصنف هذا الحديث من أجلها، فيه: أن الملائكة يخافون من الله، ويسجدون له، فدلّ على أنهم عباد محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى فقراء إلى الله، فهذا يدل على بُطلان دعائهم من دون الله، واتخاذهم وسائط، وشفعاء عند الله عزّ وجلّ، الملائكة يشفعون، لكن لا يشفعون إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، فلا تحصل الشفاعة عند الله إلاّ بشرطين: الإذن بالشفاعة، ورضاه عن المشفوع فيه، بأن يكون المشفوع فيه من أهل الإيمان، أما الكافر، فقال الله تعالى فيه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وليس الله مثل ملوك الدنيا يشفع الشفعاء عندهم ولو لم يأذنوا، ويضَطَّرُّ الملوك إلى قبول الشفاعة من أجل تأليف الكلمة، ومن أجل حاجتهم للوزراء، أما الله جل وعلا فإنه4 غني عن عباده، ولا أحد يتقدّم بالشفاعة عنده إلاّ بإذنه، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، في يوم القيامة في المحشر إذا تقدّمت الخلائق إلى محمَّد تطلب منه الشفاعة لفصل القضاء، لا يشفع إلاّ بعد أن يسجد لله عزّ وجلّ، ويحمد الله بمحامد عظيمة، ويدعوه بدعاء، ثمّ يقال له: يا محمَّد، ارفع رأسك، وسَلْ تُعط، واشفع تشفّع، فالشفاعة ملك لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}، وتُطلب الشفاعة من الله، تقول: اللهم شفِّع فيّ نبيّك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم شفِّع فيّ عبادك الصالحين، تطلبها من الله، أما أن تقول بعد موت

ج / 1 ص -234- الرسول: يا محمّد اشفع لي، أو يا فلان اشفع لي، تطلبها من الميّت فهذا لا يجوز.


فطلب الشفاعة من القبور شرك أكبر، أما الحي فتُطلب منه الشفاعة بأن يطلب منه أن يدعو الله عزّ وجلّ لمن احتاج إلى ذلك، أما الميّت فلا يقدر على دعاء، ولا يطلب منه شيء.

هذا هو المقصود من إيراد هذا الحديث، وهو بيان حالة الملائكة مع الله سبحانه وتعالى، وأنهم يخافونه، ويَصْعَقُون من هيبته سبحانه وتعالى، ومن سماع كلامه، ويخرُّون لله سجّداً، فدلّ على أنهم عباد فقراء إلى الله، ليس بيدهم شيء إلاّ ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، فلا تجوز دعوتهم من دون الله عزّ وجلّ، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى وأحرى.

المسألة الرابعة:
فيه دليل على تعظيم كلام الله، وتعظيم القرآن الكريم، لأنه كلام الله، ووحي من الله، فيجب تعظيمه، والخشوع عند سماعه، والخوف مما فيه من الوعيد، والتهديد، والرجاء بما فيه من الوعد الكريم، فكلام الله سبحانه وتعالى يكرّم، ويُهاب، ويعظّم، ليس مثل كلام المخلوقين، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجلّ ويعظم، لأنه وحي من الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}، فهو وحي من الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .

المسألة الخامسة: فيه فضل جبريل- عليه الصلاة والسلام-، وأنّه موكّل بالوحي، وأن الملائكة كلهم يسألونه: ماذا قال ربنا؟، هذا دليل على فضله ومكانته عند الله عزّ وجلّ.
المسألة السادسة: فيه دليل على ما ذكرنا أن السماوات طِباق متعدِّدة إلى سبع سماوات، وفي كل سماء سكّان من الملائكة، يعمرونها بعبادة الله عزّ وجلّ من التسبيح والتهليل، وتعظيم الله عزّ وجلّ.
المسألة السابعة: في الحديث دليل- أيضاً- على أن الملائكة كلٌّ له عمل موكّل به، إذا كان جبريل موكلاً بالوحي، فكذلك ميكائيل موكل بالقطر والنبات كما جاء في الحديث، وكذلك إسرافيل موكل بالنفخ في الصُّور، وكذلك بقية الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه إذا قام يتهجّد من الليل: "اللهم رب جبرائيل

ج / 1 ص -235- وميكائيل وإسرافيل" لماذا خص هؤلاء، مع أن الله رب لكل شيء؟، لمكانة هؤلاء، لأن جبرائيل موكّل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكّل بالفطر والنبات الذي فيه حياة الأرض بعد موتها، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور الذي فيه حياة الأجسام بعد موتها، فكلّهم موكلون بالحياة، هذا بحياة القلوب بالوحي، وهذا بحياة الأرض بالماء والقطر، وهذا بحياة الأجساد يوم القيامة ونفخ الأرواح فيها.
المسألة الثامنة: أن الملائكة لا يعلمون الغيب، ويسألون غيرهم عما خفي عليهم.




المصدر :

كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد

رابط تحميل الكتاب

http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf




رد مع اقتباس