عرض مشاركة واحدة
  #50  
قديم 02-02-2015, 01:22AM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

ج / 2 ص -267- باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول


هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن، أو هزل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معطوفا على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا صلى الله عليه وسلم; ف (أل) للجنس وليست للعهد.
قوله: "من هزل": سخر واستهزأ ورآه لعبا ليس جدا.


ومن هزل بالله، أو بآياته الكونية أو الشرعية، أو برسله، فهو كافر; لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة.
كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟! فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه، وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.
والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة; فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط.
وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء، بل والهلاك وهو لا يشعر; فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل، لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار.


فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج; فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية، بأن قال مثلا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه; فهذا كفر مخرج عن الملة; لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة، وقد لا نستطيع بلوغها، بل لا نستطيع بلوغها.


ج / 2 ص -268-


ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ; لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم، وكبير، لا تنفع فيها التوبة.


وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل؛ إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة; كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: من الآية53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم. وهذا هو الصحيح، إلا أن سابَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله; فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه؛ بأنه يغفر الذنوب جميعا،


أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي؛ لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم، ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل; غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه: "الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول"، أو:


ج / 2 ص -269- وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] الآية.


"الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه; فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقَبِل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته; فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه صلى الله عليه وسلم.


فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجبا للتوقف؟
أجيب: إنه لا يوجب التوقف; لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمَّن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا؛ قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم; لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.


قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [التوبة: من الآية65] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.


ج / 2 ص -270-


قوله: "ليقولن": جواب القسم، قال ابن مالك:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم1
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم، دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله: "ليقولن" ; أي: المسئولون.
قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض; فهو كلام عائم لا زمام له. هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول; فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح.


وقوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] "إنما": أداة حصر; أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب.
قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65] الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلا للسخرية؟
قوله: "أبالله": أي: بذاته وصفاته.


قوله: "وآياته": جمع آية ويشمل: الآيات الشرعية; كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين -والعياذ بالله-، أو يستهزأ بشيء من الشرائع; كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية; كأن يسخر بما قدّره الله تعالى، كيف يأتي هذا في



1 "ألفية ابن مالك" (ص 52).


ج / 2 ص -271-


هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: "ورسوله": المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لا تعتذروا": المراد بالنهي التيئيس; أي: انههم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم.
قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66] أي: بالاستهزاء، وهم لم يكونوا منافقين خالصين، بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف؛ ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: من الآية66] "نعف": ضمير الجمع للتعظيم; أي: الله عز وجل.


وقوله: {عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا، وصار عندهم كراهية لهذا الشيء، لكنهم داهنوا؛ فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم، وهداهم للإيمان، وتابوا.


قوله:" نُعَذِّبْ طَائِفَةً ": هذا جواب الشرط; أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة; فلا بد أن نعذب الآخرين.
قوله:" بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ": الباء للسببية; أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء، وعندهم جرم - والعياذ بالله -; فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يُعفى عنهم.

ويستفاد من الآيتين:


ج / 2 ص -272-

1- بيان علم الله عز وجل بما سيكون; لقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} [التوبة: من الآية65] وهذا مستقبل; فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: من الآية123].
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله إليه حيث أمره أن يقول: "أبالله وآياته".


3- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر; بدليل الاستفهام والتوبيخ.
4- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا; لقوله: "أبالله وآياته..."، وتقديم المتعلق يدل على الحصر، كأنه ما بقي إلا أن تستهزئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلا للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.
5- أن المستهزئ بالله يكفر; لقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66].


6- استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلا للرحمة.
7- قبول توبة المستهزئ بالله ; لقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه، وهُدِيَ للإسلام، وتاب، وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح؛ أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لا بد من دليل بيّن على صدق توبته; لأن كفره من أشد الكفر، أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد.
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ


ج / 2 ص -273- عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة; دخل حديث بعضهم في بعض: "أنه قال رجل في غزوة تبوك:.......


عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية140] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: الآية65، 66]، ولا يزيد على هذا أبدا، مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا.
قوله: "عن ابن عمر": هو عبد الله.


وقوله: "ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة": والثلاثة تابعيون; فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة.
قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض": أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص، كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلونه في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون -مثلا-: دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك.
قوله: "في غزوة تبوك": تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حين طابت الثمار، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل: إنه لا يدرى أي الجيشين أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟



ج / 2 ص -274- ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء; أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء (يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء)..........


مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما من الروم، ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم ؛ إظهارا للقوة، وإيمانا بنصر الله عز وجل.
قوله: "ما رأينا": تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله: "مثل قرائنا": المفعول الأول، والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.


قوله: "أرغب بطونا": المفعول الثاني; أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة; لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله: "ولا أكذب ألسنا": الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية; كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: من الآية4]; أي: بلغتهم.


قوله: "ولا أجبن عند اللقاء": الجبن: هو خَوَر في النفس، يمنع المرء من الإقدام على ما يكره; فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه1؛ لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه; فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث




1 أخرجه: البخاري (في الجهاد, باب ما يتعوذ من الجبن), (2/312); من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.


ج / 2 ص -275- فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق; لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره".........


لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا، ولاسيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
والمنافقون أكذب الناس; كما قال الله فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: من الآية11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق1، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: من الآية4]، فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته; لقالوا: عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا; إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا، ومن أجل أن تحمى دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.


قوله: "كذبت": أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز.
قوله: "ولكنك منافق": لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر; لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته.
فيكون طعنا في الله; لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه.


وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يُستدل على صلاحه أو فساده أو سوء

ـــ

1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب علامة المنافق), (1/27), ومسلم في (الإيمان, باب بيان خصال المنافق), (1/78); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -276- فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه،........


أخلاقه، أو صلاحها بالقرين.
وطعنا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة; فلا يوثق بهذه الشريعة.
قوله: "فوجد القرآن قد سبقه": أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون، وبما يريدون، وبما يبيتون، قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: من الآية108].
قوله: "وقد ارتحل، وركب ناقته": الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير; لأن ركوب الناقة هو الارتحال.


قوله: "كأني أنظر إليه": كأن إذا دخلت على مشتق; فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد; فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به.
قوله: "بنسعة": هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: "والحجارة تنكب رجليه": أي: يمشي والحجارة تضرب رجليه، وكأنه - والله أعلم - يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال; لأنه يريد أن يعتذر.



ج / 2 ص -277- وهو يقول: {إنما كنا نخوض ونلعب}. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65]; ما يلتفت إليه وما يزيده عليه"1.


فيه مسائل:

الأولى: وهي العظيمة; أن من هزل بهذا كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.


قوله: "وما يزيده عليه": أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ؛ امتثالا لأمر الله عز وجل، وكفى بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا.


فيه مسائل:

الأولى - وهي العظيمة -: أن من هزل بهذا كافر: أي من هزل بالله وآياته ورسوله.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان: أي: سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ; فإنه يكفر كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله: النميمة: من



1 أخرجه: ابن جرير (10/ 119), وابن أبي حاتم; كما في "الصحيح المسند" لمقبل بن هادي (ص 77).


ج / 2 ص -278- الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله، وبين الغلظة على أعداء الله.


نَمَّ الحديث; أي: نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام"1 وأخبر عن رجل يعذب في قبره; لأنه كان يمشي بالنميمة2.
وأما النصيحة لله ورسوله; فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله عز وجل، وإقامة حدوده، وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل؛ لأجل أن يقام عليه الحد، أو ما يجب أن يقام عليه، وليس قصده مجرد النميمة.


ومن ذلك: لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره، ويستهزئ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك; فليس هذا من النميمة، بل من النصيحة.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله:
العفو الذي يحبه الله: هو الذي فيه إصلاح; لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: من الآية40]; أي: كان عفوه مشتملا على الإصلاح، وقال بعضهم: أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر، والصواب أن المراد به أصلح في عفوه; أي: كان في عفوه إصلاح. فمن كان عفوه إفسادا لا إصلاحا; فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر; لأن الله قال: {عَفَا وَأَصْلَحَ}، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم.


والنبي صلى الله عليه وسلم غَلَّظ على هذا الرجل لكونه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، ولا


1 أخرجه: البخاري (10/ 476- فتح), ومسلم (1/ 101).
2 أخرجه: البخاري (1/ 317- فتح), ومسلم (1/ 240).


ج / 2 ص -279- الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.


يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرق له، ولكل مقام مقال; فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله عز وجل الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29]، وقال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: من الآية73]، ذكرها الله في سورتين من القرآن؛ مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل: فالأصل في الاعتذار أن يقبل، لاسيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أن الاعتذار باطل; فإنه لا يقبل.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




رد مع اقتباس