عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 25-10-2007, 05:25PM
أبو عبد الرحمن السلفي1
عضو غير مشارك
 
المشاركات: n/a
الصنف الثاني فسقة العبّاد:
والفسق في العبادة يكون بالخروج عن السنة، فكل من تعبد بعبادة بدعية فهو فاسق بها، كأصحاب الطرق الصوفية، وأصحاب الأقوال والأحوال التي لا توافق السنة، فأولئك بأجمعهم أهل فسق إذ كانوا خارجين عن سنة النبي ، فلما كان حالهم كذلك، كان الواجب أن ينكر عليهم وأن لا يقتدى بهم، المشركون اقتدوا بفسقة العبّاد، وهم الذين ابتدعوا بدعا من النصارى وغيرهم، كان في كل مكان ربما اقتدى المقتدي بعابد فاسق، يعني خرج بعبادته عن الشريعة التي أنزلها الله جل وعلا على رسولِ ذلك المتبع فاتبع.
وهذه الخصلة من الجاهلية سرت في هذه الأمة في أنواع من الناس، يجمعهم أصحاب الطرق الصوفية الذين اقتدوا بمن يعلمون فسقه؛ بل إن الأمر زاد على ذلك حتى جعل أولئك أولياء لله جل وعلا، صنف بعض كبار الصوفية يعني غلاة الصوفية، صنفوا مصنفات في طبقات الأولياء مثل الشعراني وغيره، وجعلوا من الأولياء -كما رأيت ذلك بنفسي- جعلوا من الأولياء من يأتي الفواحش وقال في ترجمة أذكرها قال: سيدي فلان الفلاني قدس الله روحه، ونوّر ضريحه كان يتلو آيات ليست في القرآن. وهذا أنا اطلعت عليها بنفسي، وقال: وخطب رضي الله عنه سبع جمع في جمعة واحدة. يعني خطب في سبعة بلاد في جمعة واحدة، يخطب هنا وهنا وهنا في وقت واحد، وهذا لا شك أنه إما أن يكون مجنونا، أو يكون تتلبس به الشياطين عن اختيار منه، أو غير ذلك، المهم أن هذا ليس من الأولياء لأن هذا لا شك أنه من الفسقة بل من الكفرة إذا كان يتلو آيات ليست من القرآن ويقول أنها من القرآن فهذا من الكفرة، يقتدي به ويجعل في التراجم ويغنى عليه، فعمّ ذلك في بلاد المسلمين اليوم وطمّ، حتى لا تكاد تدخل بلد إلا وفيه طريقة وفيه زاوية وفيه من يتبع الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، يذكرون من مناقب كل صاحب طريقة وكل شيخ من أولئك، يذكرون من مناقبه أشياء لا يفعلها الأتقياء إنما يفعلها الفسقة، تارة تكون منسوبة إليه لا تصح وتارة تكون صحيحة، وفي الحملة من كان على فسق في العبادة، كيف يقتدى به؟ فهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، وجدت في المسلمين والواجب أن تصدى، الواجب أن ينكر على أصحابها؛ لأنها من خلال الجاهلية والنبي  أتى لرفض كل خصلة من خصال الجاهلية، تلك الخصال الباطلة التي لم يأذن الله جل وعلا بها.
ساق المؤلف هنا قوله جل وعلا ﴿لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ﴾ هذه آية المائدة ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾[المائدة:77]. فجمع في أوساطهم أنهم ضلوا من قبل، وذلك بأنهم فعلوا بعيسى عليه السلام ما فعلوا فلم يؤمنوا به، قتلوا الأنبياء، حرموا الحلال، وحللوا الحرام، وأكلوا الربا، وجعلوا السبت وقتا للصيد، مع أنه نهوا عنه ونحو ذلك، وأضلوا كثيرا بما أفتوه، جعلوا التوراة؛ جعلوا تفسير التوراة إليهم فأحلوا حراما فيها، وحرموا حلالا فيها، كما وصف الله ذلك عنهم، وقال (وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ) فوصفهم بتلك الصفات التي فيها أمعنوا في الضلال، مع ذلك اقتدى بهم من اقتدى من أهل الجاهلية.
إذن نخلص من هاتين المسألتين إلى أن أهل الجاهلية كان لهم أنواع من الاستدلال، وبقي من أدلتهم مما ذكره المؤلف ثلاثة أدلة ستأتي إن شاء الله تعالى.
هذه الاستدلالات بأنواعها يجمعها أنها استدلالات في نظر العقل الصائب مرفوضة، وسبب استدلال أولئك بها مع أنه قد يكون أعطوا عقولا وأعطوا فهوما وأعطوا معرفة، يكون سبب استدلال أولئك بها أنه غُشِّي على قلوبهم وغُشِّيت أبصارهم ولم يتوصلوا بعقولهم إلى الصواب؛ لأنه كانت عندهم أنواع من الصوارف لما صارت عندهم الصوارف استدلوا على ما هم عليه من أنواع الباطل بأنواع من الأدلة التي يقنعون أنفسهم أنهم على صواب، ويردون بها رسالات المرسلين، منها، من أدلتهم التقليد، ومن أدلتهم الاحتجاج بالأولين، من أدلتهم الاغترار بالكثرة، من أدلتهم الاحتجاج بأهل القوة في الفهم، وأهل العقول، وأهل المال، وأهل القوة في الدنيا، وأهل الرفعة فيها، ويستدلون بأن الحق الذي جاءت به المرسلون ليس بحق؛ لأنه لم يتبعه إلا الضعفاء، كذلك يقتدون بفسقة العلماء، يقتدون بفسقة العباد.
إذا نظرت إلى هذه الأدلة بمجموعها وجدتَ أنها هي عين ما يحتج به المشركون والخرافيون والمخالفون للحق في كل زمان، فإمام الدعوة لما أتى بالدعوة ودعا الناس إليها، وُوجِه بأنواع من الاستدلالات، تمحضت في استدلالات أهل الجاهلية، ووجه بالتقليد، ووجه بأنك وأصحابك قليلون، وسواد الأمة الأعظم ليسوا على ما أنت عليه، ووجه بقول من قال إن أهل نجد هؤلاء الذين ظهر فيهم محمد بن عبد الوهاب -على قولهم- ما عندهم علوم لا بالعربية، ولم يتعلموا علم الكلام ولا المنطق، ويتبين ذلك بسؤال أرسل إلى الشيخ من بعض أهل الأمصار، وجه إليه سؤالا يريد منه أن يعرب سورة والعاديات ضبحا، ويقول بين لي ما فيها من البديع وما فيها من البيان في سؤالات من البلاغة ومن النحو متنوعة، الشيخ رحمه الله تعالى مشغول عن مثل هذا، لا يريد إثبات نفسه في هذه العلوم، فترك الرد عليه، مع أن الجواب عنها معروف في كتب المفسرين، يقولون إن هؤلاء الذين ظهرت فيهم الدعوة هؤلاء، دعوة محمد بن عبد الوهاب ليس عندهم إلا فقه الحنابلة حتى التفسير ليس عندهم مشاركة فيه، حتى الإسناد ليس معهم معرفة به ونحو ذلك، فيستدلون بضعف أفهامهم وعدم مشاركتهم، وعدم عقولهم، ويستدلون بأنهم قليل، وأن من خالفهم كثير، ويستدلون أيضا بأن أهل نجد أهل فقر ومسكنة وليس عندهم شيء، بعضهم أكله حاف، ومساكنهم معروفة أما المدن الكبار التي فيها علماء الأمصار هؤلاء هم أهل الفهم وهم أهل القوة انخدعوا بذلك، واستدلوا بذلك كله، وهذا موجود في المؤلفات التي ترد على دعوة الإمام؛ الدعوة السلفية في آخر هذه الأزمان، كل هذا موجود؛ بل إنه وجد في هذا العصر من صرح بذلك، وهو الذي يقول: إن أهل هذه البلاد وعلماءها طائفة من البدو الجهّال. وهذا لا شك أنها حجة قد احتج من تقدمه من أهل الضلال.
المقصود أنه في كل وقت تظهر هذه الاستدلالات إما أكثرها وإما بعض منها.
فإذا تبينت ذلك، تهتم بالحجة والاحتجاج على من خالف الحق، بأن هذه الحجة أوردها واحتج بها واستدل بها وجعلها دليلا المشركون من قبل، وأبطل الله جل وعلا تلك الحجة.
فإذا أتى بشيء من ذلك تبطل أولا نوع الاستدلال، ثم بعد ذلك تنظر في الدليل وهذا مما ينبغي أن يهتم به طلاب العلم الذين يهتمون بالردود على المخالفين وإبطال أقوال الخرافيين والقبوريين والمبتدعة وأنواع الضالين.
تُبطل نوع الاستدلال قبل أن تنظر في الدليل وما فيه، فإذا كان ذلك تماما كان من أوجه الرد على أولئك أنّ تلك من استدلالات أهل الجاهلية.
أسأل الله الكريم لي ولكم الهدى والسداد والثبات والرشاد، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]:
1/ ذكر النبي  جحر الضب دليلا على الاتباع الأعمى، ما سبب اختيار النبي  لذلك على وجه الخصوص؟
من أوجه ما قيل في ذلك أنه لا أحد يرغب في دخول جحر الضب، فضربه النبي  مثلا لشناعته، ما فيه أحد يختار جحر الضب، فلو دخل المشركون أو دخل اليهود والنصارى جحر ضب، يقول النبي عليه الصلاة والسلام «لدخلتوه»، وهل هذا يعقل؟ هل هذا يكون عند ذي فهم وعند ذي بصر؟ لا، فهو مثل ضُرب لشناعته، ولأجل أنه لا يختاره عاقل معه لبه وعقله.
2/ هل فعل من يفتي بالشريعة في الفتوى، وعند القضاء -يعني إذا قضى- يقضي بالقانون، هل هذا من فعل فسقة العلماء؟ هل فعله هذا يعتبر مما يَكفر به مثله أو يُكَفَّر به مثله؟
ما فيه شك أن هذا أقل أحواله أن يكون فاسقا، يفتي بالشريعة للناس، وإذا قضى بينهم لأجل أن الحكومة تلك تجعل القانون هو الدستور أو هو ما يُقضى به، يقضي بالقانون في مسائل ويفتي بالشريعة أقل أحواله أنه فاسق، وقد يكون كافرا؛ قد يكون كافرا إذا كان يعتقد أن هذا الفعل جائز، إذا كان يعتقد أن فعله هذا جائز ويحسنه للناس، فهذا يكون كافرا بالإجماع.
وحكمه بالقانون يعني التزام القانون في كل ما جاء به وعدم خروجه عنه يعده كثير من أهل العلم كفر ولو كان يعتقد عدم الجواز، فحال هذا المسؤول عنه إذا كان من العلماء فإنها لا شك أنها حال فسق على أقل الأحوال، وقد يكون كافرا بذلك.
3/ هذا سؤال ربما ورد كثيرا يبدو أن الحاجة إلى الجواب عنها ملحة يقول ما معنى فقه الواقع؟ ونرجوا أن تعرج على تعريف بعض العلوم التي يستدل بها أصحابها على أهل الدليل من الكتاب والسنة.
نكتفي بالفقرة الأولى وهي قوله (ما معنى فقه الواقع؟)
أولا التركيبة (فقه الواقع) مركبة من كلمتين (فقه) و(الواقع)، وكل كلمة من هاتين الكلمتين كانت مستعملة عند السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يستعملون كلمة (فقه)، وكانوا يستعملون كلمة (الواقع)، ومع ذلك فهم لم يجعلوا الواقع عندهم هو الواقع المراد عند هذه الإضافة.
والواقع: هو ما يقع من الأحداث والأمور في الناس.
السلف لم يركبوا هذا التركيب مع وجود الكلمتين عندهم، فلم يضيفوا (الفقه) إلى (الواقع)، فلم يقولوا (فقه واقع)، قالوا: فقه الكتاب، فقه السنة، ونحو ذلك، الفقه الكبر؛ يعني العقيدة، أما فقه الواقع فلم يرد عندهم، فكان بهذا مع عدم تسمية معرفة الواقع بفقه الواقع، مع أن العلماء أعرضوا عنه أربعة عشر قرنا، كان هذا دليلا على أن هذه التسمية محدثة «وكل محدثة بدعة»؛ لأنها متصلة بالشريعة، ولا يخفى على كل واحد منكم أن فقه الواقع عند من يسميه بذلك له مساس بالأحكام الشرعية.
فتبين من هذا أن تركيبة الكلمتين لم ترد عند السلف مع وجود كل واحدة من الكلمتين عندهم، ما الذي كان عند السلف والذي كان عند أهل العلم؟ كان عندهم أن المفتي والحاكم لا يفتي ولا يحكم في المسائل الشرعية إلا بعد أن يعرف واقعَ المسألة المسؤول عنها، فإذا سئل عن شيء لا يجوز له أن يفتي أو يحكم بدون أن يتصورها، ولهذا جاء في بعض مسائل كتاب التوحيد أن إمام الدعوة رحمه الله تعالى قال: وفيها فهم الصحابة للواقع. يعني بذلك فهمه لواقع الناس وما يسألون عنه، لا يُسأل عن مسألة وهو لا يعرف ما يريد الناس بها، يستغفل؟ لا، لكن إذا سئل يعرف هذه المسألة تصورا، فإذا كانت المسألة مثلا في الفقه يعرف صورتها الفقهية، هذا معلوم عند أهل العلم، بل قالوا: الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
والواقع قسمان:
واقع له أثر في الأحكام الشرعية.
وواقع لا أثر له في الأحكام الشرعية.
فليس كل ما يقع بين الناس، وما يجعله الله جل وعلا في أرضه، ليس كل ذلك مؤثرا في الأحكام الشرعية، أو تبنى عليه الأحكام الشرعية.
القسم الأول: الواقع الذي تبنى عليه الأحكام الشرعية وفهم المسألة وصورتها وما تتنزل عليه.
الثاني: ما يتصل بالمسألة مما ليس له أثر في الحكم الشرعي، هذا واقع لا أثر له.
مثل القاضي يأتيه خصمان يتخاصمان في مسألة، يقول الأول كلاما في ربع ساعة طويل، ويأتي الثاني يقول كلاما في ربع ساعة أيضا طويل، القاضي كل هذا الذي ذكره الخصمان واقع وقع، لكن القاضي لا يقيد منه في سجلِّه يعني سيبني عليه الحكم إلا ثلاث كلمات أو أربع؛ لأنها هي المأثرة في الحكم الشرعي.
كذلك المستفتي تأتي تستفتي أحد العلماء، وتقص عليه قصة طويلة، ويجيبك بمسألتين، ثلاث، تقول لا شيخ كان كذا وكذا، يقول ولو كان هذا ما له أثر، وهو واقع صحيح عندك أنه واقع ربما يكون مؤثرا لكنه عند العالم ليس مؤثرا في الحكم الشرعي.
فإذن ليس كل ما وقع في الناس، أو ما يقع في الدنيا مؤثرا في الأحكام الشرعية، وعليه فإنما يجب على العلماء أن يعرفوا الواقع الذي تنبني عليه الأحكام الشرعية.
الآن هذه الكلمة (فقه الواقع) يُعنى بها معرفة أحوال الناس والمسلمين والأعداء، وما يعدون له، وما يخططون ونحو ذلك من علوم كثيرة، وهذا لاشك أنه كعلم –مع اعتراض على التسمية- كعلم مطلوب، أن يعرف في الأمة طائفة هذه الأمور، وهذا من أجناس فروض الكفايات كالعلوم المختلفة: علم السياسة، وعلم الفيزياء، والكيمياء، والجبر، والهندسة، ونحو ذلك، هذا من جنس العلوم تلك، فمعرفتها لا بد أن تكون في الأمة، لكن تلك معرفة وليس بفقه، معرفة لأن الفقه هو فهم الأمور، الفقه هو الفهم ﴿مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾[هود:91] يعني ما نفهم كثيرا مما تقول، ولا يدعي من يتابع أحوال العالم من طلبة العلم المعتنين بذلك ونحو ذلك، لا يدعون أنهم يفهمون ما سيجري من الأحداث، ولهذا التسمية بفقه واقعا أيضا ليست بصحيحة؛ لأن حقيقة ما يرومون هو معرفة ما يقال وما يكتب، وهذا أقل من الفقه بكثير.
هنا هذه الأشياء قلنا لابد أن يكون في الأمة من يعرف، فهي من جنس العلوم الكفائية، وقد نبّه على ذلك الشيخ ناصر الدين الألباني حين عرض لهذه المسألة.
إذا تقرر هذا فإنه باتفاق أهل العلم، العلوم الكفائية لا يخاطب بها عامة الناس لأنها ليست مُصلحة لدينهم، بل إنها تشغلهم عما هو أولى له، أرأيت لو أن محاضرا أتى عندنا اليوم ففسحنا له الدرس، وقلنا حدث الإخوة في نظرية أينشتاين النسبية، كونه يوجد في الأمة من يعلم ذلك في تخصص الفيزياء لا باس، لكن هل تحدثون بذلك، هذا لا شك أنه من الكفائيات التي لا تناسبكم، وإذا عرفتموها عرفتم علما، هل يصدق هذا على واقع الناس وعلى مخططات الأعداء أم لا؟ ذكر مخططات الأعداء يفيد الشباب، وذكر أحوال المسلمين يفيد الشباب من جهة، ويضرهم من جهات أخر:
يفيدهم من جهة أنه يحيي في نفوسهم الارتباط بالإسلام، ويحيي في نفوسهم بغض الكفرة والمشركين،ويحيي في نفوسهم أخذ الحذر من الأعداء ونحو ذلك، وهذه مصلحة مطلوبة.
ومن جهات أخر يقود الشباب إلى أن يُربوا على غير التربية السلفية التي نبْعها ومصدرها القرآن والسنة، وبالتجربة وجدنا أنّ من انشغل بتلك الأمور انشغل أشهرا بل ربما سنوات، وإذا سألته اليوم ماذا حصلت؟ يقول لم أحصل شيء، وأحد من أثق به ممن يعتنون بهذا الأمر يقول: تتبعت جميع المجلات، وتتبعت جميع الجرائد لأخرج بفهم لما سيجري في المستقبل من أنواع السياسات والمخططات المستقبلية، قال: فوجدت كل ما قرأت لا يعطي صورة عن المستقبل.
وقد سئل بعض الوزراء البريطانيين عن السياسة ما تعريفها؟ قال: أصح تعاريفِها أن السياسة هي الكذب.
وهذا ينبني عليه فهمنا إلى أن الانشغال بهذه الأمور لن تحصّل من ورائها طائلا، بل إنه يصدك عن ما يجب أن تربي نفسك عليه وما تربي أحبابك عليه.
إذا نظرت وتأملت في هذا الكلام، وجدت أنه يمثل الواقع، الناس يعطون -الشباب والمسلمون بعامة- يعطون ما ينفعهم في هذا الأمر، لكنه مع أصوله الشرعية؛ يعني عِداء اليهود والنصارى لنا تقرأ فيه الآيات آيات الولاء والبراء، وما فعله أولئك في أعظم أمر وهو أنهم أشركوا بالله جل وعلا وسبوا الله جل وعلا أعظم مسبة، وهذا كاف في أن يجعل المؤمن الموحد مبغضا لهم كارها لهم.
معرفة الأحوال وما يجري بين الناس لا ينقص من جهله، لا ينقص من جهله؛ بمعنى الأحوال الدنيوية، ألم ترَ إلى قصة سليمان عليه السلام حيث كان بجواره دولة ومملكة سبأ، وملكتها بلقيس، وكان عندها من الدنيا ما عندها، وبجوارها ولها من القوة ما لها، ومع ذلك لم يعلم شيئا عنها، ولم يُطلَع من الله جل وعلا على شيء من أخبارها، إذْ أن ذلك ليس له اثر في تبليغ رسالات الله، وإنما بلغه الهدهد بأمر يتعلق بالعقيدة، فقال الهدهد ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾[النمل:22] هذا النبأ الذي إعتنى به الهدهد قال ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ(22)إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ﴾[النمل:22-23] هذا كالمقدمة ﴿وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾[النمل:23] ( )
[المتن]
(المسألة العاشرة) الاستدلال على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حفظهم كقوله ﴿بَادِي الرَّأْيِ﴾[هود:27].
(المسألة الحادية عشرة) الاستدلال بالقياس الفاسد كقولهم ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾( ).
(المسألة الثانية عشرة) إنكار القياس الصحيح والجامع لهذا وما قبله عدم فهم الجامع والفارق.
(المسألة الثالثة عشرة) الغلو في العلماء والصالحين كقوله ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾[النساء:171].
(المسألة الرابعة عشرة) أنّ كل ما تقدم مبني على قاعدةٍ وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن، ويُعرضون عما جاءت به الرسل.
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجميعين.
أسأل الله جل وعلا لنا جميعا الهدى والسداد والثبات على الحق حتى الممات، وأسأله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا إتباعه، والباطل باطلا ويمن علينا باجتنابه.
هذه المسألة –المسألة العاشرة والمسألة الحادية عشرة والثانية عشرة- هذه من تتمة مسائل أنواع الاستدلال لدى أهل الجاهلية، فإن الشيخ كما سبق أن عرفتم ذكر مسائل استدلال التي يستدلون بها أنواع الأدلة عندهم متوالية، ومن أدلتهم أنهم يستدلون على بطلان الدين بقلة أفهام أهله وعدم حظهم، كما قال جل وعلا في قصة نوح مخبرا عن قول قوم نوح ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾[هود:27]، وهذا ليس خاصا بجاهلية دون جاهلية من الجاهليات التي سبقت رسالة النبي ، وإنما هو كثير فاشٍ، فأهل الجاهلية الماضون لم يزالوا يستدلون بهذا الدليل؛ يستدلون بضَعْف المتبعين للحق في الجاه، وضعفهم في الدنيا على بلادة أذهانهم، ثم يستدلون بهذه المقدمة الفاسدة على أنهم ليسوا بأحقَّ بالهدى منهم، وإنما ذلك دليل بطلانه؛ لأنه لا يصل إلى معرفة الشيء بأنه حق إلا ذووا العقول وذووا الأفهام، فما دام أن أهل الجاه وأهل العقل عندهم لم يتبعوا الرسل، وذلك لأنهم تأملوا، كما يزعمون وأهل الحق الذين اتبعوا الرسل كانت عندهم عجلة، وقلة فهم ولهذا اتبعوا الرسل، هذا كثير، واستشهد عليه الإمام رحمه الله تعالى، بقصة قوم نوح فإن قوم نوح قالوا لنوح عليه السلام (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) فذكروا شيئين، ذكرهما الشيخ رحمه الله تعالى.
الأول: عدم الفهم لديهم بأنهم لم يتدبروا واستعجلوا.
والثانية: أن ليس لهم فضل مال يعني ليس لديهم حظ.
والعبارة في أكثر النسخ التي بين أيديكم (وعدم حفظهم) والذي يظهر لي بعد تأمل أن صوابها (وعدم حظهم) لأنها هي التي تناسب تمام الآية في قوله تعالى (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) والفضل في أحد وجهي التفسير هو الجاه والمال، في قوله تعالى هنا فيما استشهد به الإمام رحمه الله تعالى (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) في قوله (بَادِي) قراءتان سبعيتان:
قرأها الجمهور (بَادِيَ) بدون همز في آخره من البدوّ وهو الظهور.
وقرّاؤها أبو عمر البصري المعروف أحد القرّاء السبعة المشهورين، قرأها (بَادِئَ) بالهمز.
وعلى قراءة التسهيل (بَادِيَ) فإنه من البدوّ وهو الظهور، واختلف أهل العلم في التفسير، في تفسير هذا الحرف على ثلاثة أقوال:
1. منهم من قال (بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني في ظاهر الرأي لكل أحد، (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِي الرَّأْيِ) وهذه الرّذالة فيهم وأنهم اتبعوك، هذا ظاهر لكل أحد يظهر للرائي ويظهر لذي الرأي بوضوح لا خفاء فيه ولا لبس.
2. الثاني: أن قوله (بَادِيَ الرَّأْيِ) من الظهور أيضا، وهو أنهم أظهروا شيئا وأخفوا غيره، فيكون البدوّ هنا بمعنى الظهور راجع إلى الاتباع لا إلى كونهم أراذل، ما نراك إلا اتبعك إلا الذين هو أراذلنا اتباعا في الظاهر في بادئ الرأي، أما في باطن الأمر وفي حقيقته فإنهم ليسوا متبعين لك ولا مقتنعين بما جئتهم به، وهذا استدلوا له بقوله تعالى ﴿ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ﴾[الشعراء:113] ونحو ذلك بآية هود وغيرها، يعني أن نوحا عليه السلام أحال حسابهم على الله جل وعلا، فدل على أن مرادهم ظهور شيء منهم وإخفاء شيء آخر منهم، إظهار الإيمان وإخفاء الكفر، أو إخفاء التكذيب، فأحالهم عليه السلام إلى حساب الله جل وعلا.
3. القول الثالث هو أنه في قوله (مَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) يعني أنهم ظهر لهم الرأي بدون تأمل، فأول رأي ظهر؛ اتبعوه ولم يتأملوه ولم يتدبروه لقلة فهمهم، وهذا القول الثالث هو الذي يتفق مع ما أورده المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم عند قوم نوح استعجلوا ولم يتدبروا، اتبعوه في بادئ الرأي فيما ظهر لهم من رأيهم، ولو تأملوا واستيقنوا الرأي واستخيروه وتحققوا منه وتدبروه وتأملوا العواقب فيه وتأملوا أسراره لم يتبعوا، وذلك تلك العجلة وذلك الأمر الذي حصل منهم وهو عدم التدبر دليل على قلة أفهامهم، وهذا مظنة عدم الوصول إلى الحق، فأبطلوا الدين وأبطلوا صحة ما جاء به نوح عليه السلام بأنهم جعلوا الذين اتبعوه ما اتبعوه إلا لضعف أفهامهم كما قال الشيخ رحمه الله تعالى.
فإذا كان كذلك، كان هذا الدليل مستقيما موافقا لأحد أوجه التفسير المنقولة عن أهل العلم، والقراءة الأخرى التي قرأها أبو عمر (بَادِئَ الرَّاي)، (بَادِئَ) بهمز، من البدء وهو الأولوية يعني أن اتباعهم له كان من عجلة، وإنما اتبعوه في بادئ ذي بدء، أول ما نظروا برأيهم، برايهم اتبعوه، فهذا من البدء وهو الأولوية، وعلى هذا فيكون المعنى على هذا الوجه من التفسير أنهم استعجلوا أيضا، فيتفق مع ما فهمه الإمام المصنف رحمه الله تعالى، يتفق ما جاءت به القراءتان جميعا؛ قراءة الجمهور (بَادِي الرَّأْيِ) في أنّ معنى البدوّ هو الظهور بالمعنى الثالث؛ وهو أنه ظهر لهم ذلك من غير تدبر ولا تأمل، وكذلك على قراءة أبي عمر (بَادِئَ الرَّاي) وذلك من الأولية وعدم التدبر والاستعجال.
وهذا الذي ذكره رحمه الله تعالى، أردفه بقوله في استدلالهم بأن أولئك الذين اتبعوا نوحا ليسوا بأهل حظ لقلة فهمه وعدم حظهم، وذلك لأنهم قالوا لنوح ومن معه (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ)، ذلك أنهم جعلوا مقياس الفضل هو كثرة الحظ في الدنيا، والفضل هنا فُسِّر بأنه الحظ في الدنيا من جاه أو مال، (وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) يعني لستم بأهل جاه فوق جاهنا فتَفضلون علينا، ولستم بأهل مال فوق مالنا فتفضلون علينا، فكان المقياس عندهم كما سيأتي في المسألة التي بعدها هو مقياس الفضل، هو الجاه والمال يعني الحظوظ الدنيوية، وهذا كثير في كل جاهلية، في كل جاهلية كثير هذا، كل رسول يأتي تكون الحجة عند أولئك متنوعة منها أن الذين اتبعوه هم الضِّعاف، وفي قوله تعالى ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾[يس:20-21] في سورة يس ذلك الرجل المؤمن الذي أتى من أقصى المدينة ليسعى بشرح الإيمان، قال طائفة من أهل العلم بالتفسير إن قوله هنا (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه تنبيه على أنه من فقراء الناس ومن عدم أشرافهم، ليس من الأشراف، وإنما هو من الضعفة، وأما الأشراف فالعادتهم أنهم يسكنون وسط المدينة، إذ هي المجتمع، وأما أقصى المدينة، إنما يسكنه الذين ليسوا بذي جِدَة ولا جاه ولا شرف، وهكذا جاء رجل إلى موسى ﴿وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ﴾[القصص:20]، فهذا الاحتجاج كثير في أن الذين يتبعون الرسل إنما هم الضعفاء، وهذا فهمه هرقل عظيم الروم حينما سأل أبا سفيان الأسئلة المشهورة التي رواها البخاري وغيره، فقال له من تلك الأسئلة: هل يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: وكذلك الأنبياء إنما يتبعهم الضعفاء. وهذا عام في كل رسالة فكل أهل جاهلية يستدلون بهذا الدليل، وقريش أيضا واجهت النبي  بذلك، وكان النبي  ربما رغب أن يكون الذين يؤمنون به من أشراف القوم ومن عليتهم ومن سادتهم فانصرف إليهم عن النفر المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، رغبة في إسلام أولئك، لأنه لو أسلم الكبراء لحصل من الخير الشيء الكثير، فأنزل الله جل وعلا على نبيه قوله ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾[الكهف:28]، وكذلك قوله ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى(1)أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2)وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى(4)أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى(5)فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى﴾[عبس:1-6] الآيات، وهذا الأمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد إطالة.
كذلك في هذه الأمة، دخلت هذه الشعبة من شعب الجاهلية في هذه الأمة:
فممن دخلت إليه هذه الشبهة الذين يعتزّون بعلومهم الخلْفية من أصحاب الكلام ونحوهم، فإنهم لم يعتنوا بفقه النصوص الشرعية لزعمهم أنها إنما هي ظواهر يفهما كل أحد، وأما البواطن والأسرار فإنما خاصة بذوي العقول النيرة، فجحدوا ما أنزله الله جل وعلا من الآيات البينات وحرفوها وأولوا بعضا منها وردوا طائفة أخرى؛ لأجل أفهامهم، واحتقروا أهل السنة والجماعة لأجل أنهم لا يفهمون فهمهم، فهُم لم يعرفوا علم الكلام ولم يعرفوا الأصول القطعية المستقاة من المنطق؛ منطق اليونان، ونحو ذلك مما يعتزون به.
كذلك شغّب على أهل الحديث فيما مضى من الزمان وعلى فقههم في النصوص طائفة من غلاة الفقهاء الذين اتهموا من يتبع ظواهر النصوص ويأخذ بالفقه مستقًا من النصوص ولو لم يكن عنده رسوخ قدم في كل العلوم، رموهم بأوصاف بشعة، حتى إن بعضهم سماهم الحمير، كما قال ابن العربي المالكي في أحد أقواله في وصف الظاهرية، قال: فلما أتى هؤلاء الحمير الذين كذا وكذا. وصفهم بأوصاف يعني بشعة، لأجل أن في الأندلس كان هناك معركة محتدمة بين أتباع ابن حزم الظاهري وبين فقهاء المالكية، والتوسط لو راموا التوسط كان ممكنا، لكنهم ردوا على هؤلاء وتنقصوهم، تنقصوا أفهامهم ووصفوهم ببلادة الفهم وبلادة الذهن ونحو ذلك لأحل هذا الأمر، لأجل اتباعهم للنصوص.
كذلك بعض الذين عاصروا الدعوة من العلماء دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فإنهم رموا أتباع الدعوة بأنهم لا يفهمون بأنهم عوام، وبأنهم ليس عندهم مشاركة في العلوم، ليس عندهم معرفة إلا بعض المسائل في العقيدة وبفقه الحنابلة لا غير، فاتهموهم في بعض ما دعوا إليه من المسائل التي دلائلها كالشمس في رابعة النهار، اتهموهم بأنهم لم يفهموا الحق ولم يعرفوا المراد منه.
كذلك -وهذا سيأتي تفصيلها- الذين ادعوا أن باب الاجتهاد قد قفل وأنه لا يسوغ لأحد اليوم أن يجتهد في النصوص لأجل أن النصوص تحتاج إلى فهم وطابع أهل الزمان عدم الفهم، فهم اتهموا بأنهم يجتهدون في فهم النصوص وهم ليسوا من أهل الفهم؛ بل أفهامهم ضعيفة وأذهانهم كليلة، فلا يمكن أن يجتهدوا فباب الاجتهاد قد انقطع.
كذلك في هذا الزمان بخصوصه زماننا هذا القريب، ترى أن بعض من أدركته هذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية، ربما تسلط عليه الهوى فرمى من هو بين أن يكون مجتهدا وبين أن يكون مصيبا يعني الحق يعني الصواب، أو يكون مجتهدا مخطئا يرميه ببلادة الذهن وعدم الفهم ونحو ذلك من الأوصاف، والواجب على أهل الإيمان أن لا يعرج على هذه المسألة، بل الواجب عليهم أن يبينوا الحق بدليله، ولا يستهزئوا بالخلق لا يستهزئوا بالناس في علومهم، بل إذا أخطأ المخطئ يقال هذا مخطئ والصواب كذا, يبين الحق بدليله, تبين المسألة بحججها وبراهينها التي توضح المراد منها، دون دخول في هذا الأمر لأنه إذا قال فلان هذا فهمه كذا، فإنه يزيد شيئا فشيئا حتى تسلط عليه هذه الشعبة، فيتدرج في الأمر حتى إذا أتى ذلك الضعيف في الفهم عنده، إذا أتى بحق واضح جعله باطلا؛ لأجل أنه ضعيف الفهم، والواجب على المؤمن أن يأخذ الحق ممن جاء به، ولا يستدل على بطلان الشيء لأن من أتى به ليس بأهل أن يأتي بذلك، وهذا كما ترى ظاهر في فئام في هذا الزمان.
المسألة التي تليها هي أنهم يستدلون بالقياس الفاسد كما قالوا (هل أنتم إلا بشر مثلنا) ( ) وفي آية أخرى ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا﴾[إبراهيم:10] ونحو ذلك.
القياس ينقسم إلى قسمين: قياس صحيح وقياس فاسد.
والشيخ رحمه الله ذكر مسألتين الحادية عشرة والثانية عشرة، وكل منهما في القياس: الأولى في القياس الفاسد، والثانية في القياس الصحيح.
والقياس يريدون به في العموم -لا في اصطلاح الفقهاء والأصوليين- يريدون به في العموم إلحاق شيء بشيء لوجه شبه بينهما، فيكون سبب القياس جامع يجمع بين شيئين المقيس والمقيس عليه، فيجمعهما شيء فيقاس أحدهما على الآخر، ولا يخفى عليكم أنه عند الفقهاء إلحاق حكم مسكوت عنه بحكم منصوص عليه بعلة جامعة بينهما، هذا أخص.
فإذن القياس هو كما ذكرناه ما يجمع شيئين بوجه شبه يسمى قياس، فإذا جمعت بين شيئين، يقال لك قِسْتَ الأمر؛ فقست بين هذا وهذا إذا جمعت بينهما لشبه بينهما، فإذا ألحقتَ شيئا بشيء لأجل الشبه صرت قائسا.
هذا الدليل الذي استدلوا به هم استدلوا بقياس يعني أهل الجاهلية استدلوا بقياس استدلوا بأنواع من القياس؛ يعني بأفراد من القياس، بعض تلك الأقيسة فاسد أو أكثرها فاسد، منها انهم أبطلوا النبوة بكون النبي الرسول بشرا ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا﴾[الفرقان:7]، قال جل وعلا في آية سورة الفرقان ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾[الفرقان:20] يعني أن كل رسول جاء بهذا، بل أمر المشركين أن يسألوا من قبلهم، هل من قبلهم أتتهم ملائكة أم أتاهم بشر فقال جل وعلا ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾( ) اسألوهم، أهل الذكر المراد بهم في هذه الآية أهل الكتاب؛ علماء اليهود والنصارى، اسألوهم هل جاءتهم الرسل من البشر أم جاءتهم الرسل من الملائكة؟ فإذا كانت جاءتهم الرسل من البشر فلما تنكرون أن يكون رسولكم بشرا، وإذا كانت أتتهم الرسل من الملائكة فإنكم لكم وجه حجة في ذلك.
وجه القياس أنهم قالوا إن هذا الرسول يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ﴿وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾[المؤمنون:34] فصفاته بشرية؛ ينكح الأزواج، يتكلم كما يتكلمون، ينام كما ينامون، يأكل كما يأكلون، يشرب كما يشربون. بشر، فقالوا ما دام أنه بشر فهو ليس بأهل أن يتنزل عليه الوحي من الله جل وعلا.
وهذا القياس فاسد لأنه صحيح هو قياس؛ لأنهم جمعوا بين الأمرين لوجه شبه؛ لكنه قياس فاسد، لأنهم كما ذكر المصنف رحمه الله أنهم لم يفهموا الفارق بين الأمرين، وهو أن وجه الجمع هذا لا يدل على أنه ليس هناك فارق بين الرسل وبين هؤلاء، فهناك فارق. فإذن سبب هذا القياس الفاسد أنهم ما عرفوا الفارق.
وهذا جاء من كفار قريش وممن قبلهم من الكفار.
كذلك جاء في هذه الأمة كما جاء من قبل، الذي جاء ليس هو إنكار النبوة لأجل أن الرسول  بشر؟ لا، ولكن الاستدلال بقياس فاسد، ما أمثلة هذا القياس الفاسد الذي استدلوا به؟ من لحق الجاهلية في هذه الشعبة؟
من أمثلة ذلك القياس الفاسد أنهم كما هو عند المعتزلة وعند غيرهم قالوا إنّ الولي إذا أثبتت له كرامات الأولياء، إذا أثبت له كرامة صار نبيا. لم؟ لأن النبي هو بشر أُعطي آيات، أُعطي أشياء خارقة للعادة، فلو كان ثَم بشر يمكن أن يُعطي ذلك لصار نبيا؛ يعني لاشتبهت الوَلاية بالنبوة، فهنا أبطلوا هذا الحق وهو الإيمان بكرامات الأولياء لأجل هذا القياس الفاسد.
كذلك طائفة من الصوفية أو غلاة الصوفية، قالوا إنّ النبي  لا يُخصّ بشيء، بل إنما مدار رِفعة شأنه على أنه يتلقى الوحي من الله جل وعلا، فإذا حصل التلقي لبشر صار مثله في المزية؛ لأنّ وجه الشبه بينهما حصل، وهو أن هذا يتلقى وهذا يتلقى، وهذا كان في أوائل القرون يعني في القرن الرابع أو أواخر القرن الثالث، بل زاد حتى زعم غلاتهم كابن عربي ونحوه أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، لم؟ قال:لأنّ خاتم الأولياء يتلقى من الله جل وعلا مباشرة، وأما خاتم الأنبياء فإنما تلقى بواسطة. ولهذا يهتمون بالكشف.
من أوجه هذا القياس الفاسد أنهم جعلوا كل من اتصف بالتقوى من أهل الإيمان متبركا به في ذاته، فكما أن النبي  وهو إمام المتقين، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، لما كان يتبرك بشعره، بعرقه، بثيابه، بغير ذلك من أجزاء ذاته، بسؤره يعني ببقية شرابه، ببقية أكله ونحو ذاك، نقلوا ذلك وعَدَّوه على كل من كان وليا، كل من كان تقيا، قالوا لأنه يقاس على النبي، فاستدلوا بالقياس الفاسد هذا وهذا كثير، بل قد دخل فيه طائفة من العلماء؛ يعني من غير تحقيق أجازوا أن يتبرك بالصالحين بشرابهم يعني بشرب بقية الشراب، أن يتمسح بهم، أن تأخذ بعض فضلاتهم يعني فضلات الأكل ونحو ذلك يتبرك بها، لم؟ قالوا لأنه يجمع بينه وبين النبوة الصلاح، فإذن سبب التعدي هو الصلاح، والصحيح أن سبب التعدي هو النبوة، سبب التبرك هو النبوة لأنّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا لتبركون بأبي بكر ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي، لا بأخذ بقية شرابهم ولا بشعرهم ولا بثيابهم ولا بغيره ذلك، فدل على أن الجامع هنا ليس هو الصلاح والتقوى وإنما الجامع هو إيش؟ إنما الوصف هنا هو النبوة، فليس ثم جامع بين النبي  وبين غيره من أمته. وهكذا في أنواع.
أنكروا القياس الصحيح أيضا، والقياس الصحيح هو ما كان الجامع بين الشيئين أو ما كان الجامع بين الشيئين مقبولا معتبرا ليس بفارق؛ يعني جامع صحيح، وليس ثم فارق بين هذا المقيس والمقيس عليه، أنكروا القياس الصحيح، القياس الصحيح كان ينبغي أن يدل أولئك المشركين على أنّ نبوة النبي  صحيحة، بل نبوة كل نبي صحيحة، لم؟ لأنّ البشرية التي كان عليها الأنبياء تخرج بإتيانهم –البشرية التي تجمع بينهم وبين غيرهم- تخرج إذا كان أُعطي ذلك البشر آيات بينات وبراهين دالات على صدقه ليس في وسع البشر أن يأتوا بمثلها، فالقياس الصحيح يقتضي أن يقال إنّ كل من أتى بآية ومعجزة كما يسميها المتأخرون أو ببرهان مع دعوى النبوة مما لا يستطيعها البشر، وكان ذلك الذي أتى به معروفا بأمانته معروفا بتقواه معروفا بصلاحه في القوم، أن هذا يدل على نبوته، فهذا القياس صحيح، أنهم كانوا يقيسون، أن من أوتي هذه الأمور فإنه لم يؤتها من عند نفسه، وإنما أعطاه الله جل وعلا إياها.
القياس الصحيح يقتضي أن يعلموا أن الذين اتبعوا الرسل زادوا عليهم في المزية من أجل إيمانهم، فهناك جامع بين مستحق الجزاء الحسن وبين الأنبياء ألا وهو الإيمان، ولهذا أتباع كل أمة، أتباع كل نبي من ألأمم يتبعون نبيهم، يعني هناك جامع بينهم، فكان يجب أن يقيسوا صحة ما ذهب إليه أولئك الناس بصحة النبوة، فإذا ثبتت النبوة ثبت أن أولئك اتبعوه على الحق والهدى، وهذا يعني أن لا يستدلوا بالعكس فيستدلوا بأولئك القوم على بطلان النبوة، بل ينبغي أن يثبتوا النبوة يعني يسعوا في معرفتها بدلائلها وبراهينها، فإذا ثبتت فإن أولئك يثنى عليهم لأنهم اتبعوا النبوة، وذلك مقتضى لقياس الصحيح.
مقتضى القياس الصحيح أيضا في هذه الأمة أن من اتبع العلم الذي ورَّثه النبي  للأمة فهو أحق أن يكرم وأحق أن يتبع، كما قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء»، فالجامع بين العالم والنبي هو اتباع ما جاء من عند الله جل وعلا، فكل نبي اتبع ما عند الله جل وعلا، وما جاء به الرسول فهو وريث له، وهو قياس صحيح، يعني ألحق أولئك في الإكرام والتبجيل بالأنبياء، ليس في درجة الإكرام والتعظيم وإنما في جنسه؛ في جنس الإكرام والتعظيم لأجل الجامع بينهما وهو اتباع وِراثة النبوة.
أيضا في هذه الأزمان المتأخرة -وهذا هو مقصد الشيخ من إيراد المسألة- هو أنهم أنكروا على أهل العلم من أتباع أهل السنة والجماعة، ومن الذين شهروا بالدعوة أنكروا عليهم ما جاءوا به، مستدلين بأنهم ليسوا بكفء لهذه المسائل التي أتوا بها، فجعلوا هناك وجه شبه بين العلماء في ذلك الوقت وبين الذين ضلوا بعدم الفهم وعدم معرفة الأدلة، فأغلقوا باب التدبر وباب الاجتهاد، فكان هذا منهم -يعني قياس علماء الدعوة بأرباب أهل الفرق الذين استدلوا بالمتشابه والذين راموا الناس على غير الهدى- كان من منهم هذا قياسا فاسدا، وتركوا القياس الصحيح وهو أن من أتى بالحق مع أدلته أنه يُلحق بأئمة الهدى ولو كان متأخرا، فليس بالتأخر يهضم من أتى بالحق، بل قد يأتي بالحق المتأخر، ويكون ذلك رفعة لشأنه ومزية له.
الأقيسة الصحيحة هذه تركوها، الأقيسة الصحيحة أبرزها أن من كان من أهل العلم جاء بما كان عليه الأوائل فإن القياس يقتضي أن يلحق بالأئمة، وهم ألحقوه بأهل الشبه وأهل الفتن، وألحقوه بأهل الضلال وبأهل البدع، لم؟ لأنه عندهم لا يمكن في هذه الأزمان المتأخرة أن يستقل أحد بالفهم.( )
يعني مقصود الشيخ من ذكر القياسين أن ينتبه إلى أن القياس ينبغي مع جامع واضح وفارق واضح، فإذا قاس أحد شيئا على شيء أو أمرا على أمر ينبغي أن يكون بل يجب أم يكون الجامع بينهما والفارق منتفيا، فإذا كان موجود والجامع غير موجود، فإنه يدل على أن القياس فاسد، وإذا كان الجامع موجودا والفارق غير موجود أو ضعيف فإنه يدل على أن القياس صحيح.
ثم انتهى من مسائل الاستدلال وذكر المسألة العظيمة وهي أنه من خصال أهل الجاهلية هي الغلو في الصالحين والعلماء، والغلو في العلماء والصالحين أخبر الله جل وعلا عنه في غير ما موضع من كتابه، منه في قوله تعالى﴿قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا﴾[المائدة:77] ومنها في قوله ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ﴾[التوبة:31] فأهل الجاهلية من قبل كان عندهم غلوّان غلو في العلماء وغلو في الصالحين:
رد مع اقتباس