عرض مشاركة واحدة
  #65  
قديم 02-02-2015, 08:45PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم

ج / 2 ص -475- باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}1 الآية.

ـ
قوله: "ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم": الذمة: العهد، وسمي بذلك; لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته.
والله له عهد على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد عهد على الله، هو: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}2 فهذا عهد الله عليهم، ثم قال: {لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}3 [المائدة: 12] وهذا عهدهم على الله.


وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}4 [البقرة: 40] وللنبي صلى الله عليه وسلم عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئا. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما هو خير5. والمراد بالعهد هنا: ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة في صلح الحديبية.



1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة المائدة آية: 12.
3 سورة المائدة آية: 12.
4 سورة البقرة آية: 40.
5 أخرجه: مسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -476-


قوله تعالى: "وأوفوا": أمر من الرباعي من أوفى يوفي، والإيفاء إعطاء الشيء تاما، ومنه إيفاء المكيال والميزان.
قوله: "بعهد الله": يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله; أي: بعهدكم الله، أو بعهد الله إياكم; لأن الفعل إذا كان على وزن فاعل اقتضى المشاركة من الجانبين غالبا، مثل: قاتل ودافع.
قوله: {إِذَا عَاهَدْتُمْ} فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء; أي: إذا صدر منكم العهد; فإنه لا يليق بكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}1 نقض الشيء هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين.


قوله: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} توكيد الشيء بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكد، يقال: وكد الأمر وأكده تأكيدا وتوكيدا، والواو أفصح من الهمزة.
قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}2 الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ على نقض العهد واليمين. ووجه جعل الله كفيلا: أن الإنسان إذا عاهد غيره قال: أعاهدك بالله، أي أنه جعل الله عليه كفيلا.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}3 ختم الله الآية بالعلم تهديدا عن نقض العهد; لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعل; فإنه لا ينقض العهد.
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جدا; لأن الله قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}4 وقال: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}5.


والعهد: الذمة.


1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة النحل آية: 91.
3 سورة النحل آية: 91.
4 سورة النحل آية: 91.
5 سورة النحل آية: 91.


ج / 2 ص -477- وعن بريدة; قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية; أوصاه بتقوى الله،.......


ومناسبة الباب للتوحيد
أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد.
قوله: "إذا أمر": أي: جعله أميرا، والأمير في صدر الإسلام يتولى التنفيذ والحكم والفتوى والإمامة.
قوله: "أو سرية": هذه ليست للشك، بل للتنويع; فإن الجيش ما زاد على أربعمائة رجل والسرية ما دون ذلك.


والسرايا ثلاثة أقسام:
أ- قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، ويقسم ما غنمه، كقسمة ما غنم الجيش.
ب- قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم.
ج- قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش.
وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة; فلسرية الابتداء الربع بعد الخمس; لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس; لأن الجيش قد ذهب عنها; فالخطر عليها أشد. وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام: إن شاء أعطى وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة.


قوله: "أوصاه": الوصية: العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به.
قوله: "بتقوى الله": التقوى: هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه


ج / 2 ص -478- وبمن معه من المسلمين خيرا1، فقال:
"اغزوا باسم الله.....


على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وقال بعضهم: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى عنه الله على نور من الله تخشى عقاب الله.


وقال بعضهم:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وهذه التعريفات كلها تؤدي معنى واحدا. وكانت الوصية بالتقوى لأمير الجيش; لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفع يخشى منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته.


قوله: "وبمن معه من المسلمين خيرا": أي: أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرا في أمور الدنيا والآخرة; فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، ويمنع عنهم الظلم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على من تولى أمرا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الأخير، بخلاف عمل الإنسان بنفسه; فإنه لا يلزم إلا بالواجب.
قوله: "اغزوا باسم الله": يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائما



1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439).


ج / 2 ص -479- في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.


مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتتح الغزو باسم الله. والأول أظهر، والثاني أيضا محتمل، لأن بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله; فهو أبتر.
قوله: "في سبيل الله": متعلق ب "اغزوا"، وهو تنبيه من الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن النية والقصد; لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدى الحسنيين ما كان خالصا لله، وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليرى مكانه أو لطلب دنيا. فإن قاتل لأجل الوطن: فمن قاتل لأنه وطن إسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه; فهذه نية إسلامية صحيحة، وإن كان للقومية أو الوطنية فقط; فهو حمية وليس في سبيل الله.


وقوله: "في سبيل الله": تشمل النية والعمل; فالنية سبقت. والعمل: أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع.
قوله: "قاتلوا من كفر بالله": "قاتلوا": فعل أمر وهو للوجوب، أي: يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}1 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}2 فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها.
و"من": اسم موصول، وصلته "كفر"، واسم الموصول وصلته يفيد العلية; أي: لكفره، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار. والكفر مداره على أمرين الجحود، والاستكبار.




1 سورة التحريم آية: 9.
2 سورة التوبة آية: 123.


ج / 2 ص -480- اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا،.......

أي: الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديقه.
قوله: "اغزوا": تأكيد، وأتى بها ثانوية كأنه يقول: لا تحقروا الغزو واغزوا بجد.
قوله: "ولا تغلوا": الغلول: أن يكتم شيئا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1 أي: معذبا به; فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم: يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه روح; لأنه لا يجوز تعذيبه بالنار.
قوله: "ولا تغدروا": الغدر: الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا; فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد; فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن "علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه، فلما أقبل الرجل على علي صاح به علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله علي رضي الله عنه".


وليعلم أن لنا مع المشركين ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن لا يكون بيننا وبينهم عهد; فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك.
الحال الثانية: أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه; فهنا يجب الوفاء لهم بعهدهم; لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}2 وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}3.



1 سورة آل عمران آية: 161.
2 سورة التوبة آية: 7.
3 سورة التوبة آية: 4.


ج / 2 ص -481- ولا تمثلوا،......


الحال الثالثة: أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه; فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينهم; لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}1.
قوله: "ولا تمثلوا": التمثيل: التشويه بقطع بعض الأعضاء كالأنف واللسان وغيرهما، وذلك عند أسرهم; لأنه لا حاجة إليه; لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء فيما لو كانوا يفعلون بنا ذلك.


فقيل: لا يمثل بهم للعموم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن شيئا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم; فقد يكون لا يرضى بما فعل قومه; فكيف نمثل به؟!
وقيل: نمثل بهم كما مثلوا بنا; لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}2.
وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا; فقد يفسر هذا بأنه ضعف، وإذا مثلنا بهم في هذه الحال; عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية.
والظاهر القول الثاني.


فإن قيل: قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضى بالتمثيل؟ فيقال: إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله عز وجل يخاطب اليهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور جرت في عهد موسى، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}3 وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}4 وما أشبه ذلك.



1 سورة الأنفال آية: 58.
2 سورة البقرة آية: 194.
3 سورة البقرة آية: 72.
4 سورة البقرة آية: 93.


ج / 2 ص -482- ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك......


قوله: "ولا تقتلوا وليدا": أي: لا تقتلوا صغيرا; لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم وورد في أحاديث أخرى: أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فإن ولا امرأة1 إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا على القتال، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه2.


واستدل بهذا الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيخ الإسلام هذا القول، وله رسالة في ذلك اسمها "قتال الكفار".
قوله: "وإذا لقيت عدوك": أي: قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجا لقتالهم; لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك; فإن ذلك يدعوك



1 حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة; فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان". أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب قتل الصبيان, 2/362), ومسلم في (الجهاد, باب تحريم قتل النساء, 3/1364). وحديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انطلقوا باسم الله, وبالله, وعلى ملة رسول الله, ولا تقتلوا شيخا فانيا, ولا طفلا, ولا صغيرا, ولا امرأة...". أخرجه: أبو داود في (الجهاد, باب في دعاء المشركين, 3/86). وقال الشوكاني في "النيل" (7/246): "وحديث أنس في إسناده خالد الفِزْر, وليس بذلك". وحديث ابن عباس رضي الله عنهما, وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغدروا, ولا تغلوا, ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع أخرجه: أحمد (1/300), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/225). وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/103): "وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة, وهو ضعيف".


2 أخرجه: البخاري في (المغازي, باب غزوة أوطاس, 3/156).


ج / 2 ص -483- من المشركين; فادعهم إلى ثلاث خصال (أو: خلال)، فأيتهن ما أجابوك; فاقبل منهم، وكف عنهم:
ثم ادعهم إلى الإسلام،......


إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}1 وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}2 لكن خص في هذه الآية باليهود والنصارى; لأن المقام يقتضيه. والعدو ضد الولي، والولي من يتولى أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك ويعتدي عليك ما أمكنه.
قوله: "من المشركين": يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصارى.
قوله: "خصال أو خلال": بمعنى واحد، وعليه; ف "أو" للشك في اللفظ، والمعنى لا يتغير.


قوله: "فأيتهن ما أجابوك": "أيتهن": اسم شرط مبتدأ، "ما": زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدا للعموم، كقوله تعالى: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}3 والكاف مفعول به، والعائد إلى اسمها الشرط محذوف، والتقدير: فأيتهن ما أجابوك إليه; فاقبل منهم وكف عنهم فلا تقاتلهم.


قوله: "ثم ادعهم": "ثم": زائدة; كما في رواية أبي داود، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال: إنها ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بل من كلام الراوي على تقدير ثم قال ادعهم.
وقوله: "إلى الإسلام": أي: المتضمن للإيمان; لأنه إذا أفرد شمل



1 سورة الممتحنة آية: 1.
2 سورة المائدة آية: 51.
3 سورة الإسراء آية: 110.


ج / 2 ص -484- فإن أجابوك، فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين،.......


الإيمان، وإذا اجتمعا; افترقا، كما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في حديث جبريل.
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال قال صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"1 فإن أجابوا للإسلام; فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "فأقبل منهم".


قوله: "ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين": هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية، فإذا أسلموا; طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله; لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم; كما قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}2 وهذا أصل في توطين البوادي.


وقوله: "إلى دار المهاجرين": يحتمل أن المراد بها العين; أي: المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس; أي: الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت المدينة أو غيرها. ويقوي الاحتمال الثاني -وهو أن المراد بها الجنس-: أنه لو كان المراد المدينة; لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر عنها باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوي



1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب أمور الإيمان, 1/20)- ولفظه: "الإيمان بضع وستون شعبة, الحياء شعبة من الإيمان"-, ومسلم في (الإيمان, باب بيان عدد شعب الإيمان, 1/63); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة التوبة آية: 97.



ج / 2 ص -485- وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك; فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها; فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين"1.


الاحتمال الأول: أن دار المهاجرين الأولى هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني.
قوله: "فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين": وهذا تمام العدل، ولا يقال: إن الحق لصاحب البلد الأصلي; فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة.
قوله: "ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين": يعني: إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين; فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء. والغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به. والفيء: ما يصرف لبيت المال; كخمس خمس الغنيمة، والجزية، والخراج، وغيرها.


وقوله: "إلا أن يجاهدوا مع المسلمين": يفيد أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم. وأما الفيء; فاختلف أهل العلم في ذلك: فعند الإمام أحمد: لهم حق في الفيء مطلقا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا. وقيل: لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة; إذ ليس من في البلد مستعدا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله.


فإذا أسلموا; فلهم ثلاث مراتب:
1- التحول إلى دار المهاجرين، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين

1 مسلم: الجهاد والسير (1731), والترمذي: السير (1617), وأبو داود: الجهاد (2612), وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358).


ج / 2 ص -486- "فإن هم أبوا; فاسألهم الجزية،........
2- البقاء في أماكنهم مع الجهاد; فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة، وفي الفيء الخلاف.
3- البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد; فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء.
قوله: "فإن هم أبوا": "هم" عند البصريين: توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، والتقدير: فإن أبوا هم، وعند الكوفيين: مبتدأ خبره الجملة بعده. والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة: أن نتبع الأسهل، والأسهل هنا إعراب الكوفيين.


قوله: "فاسألهم الجزية": سؤال عطاء لا سؤال استفهام، والفرق بين سؤال الاستفهام وسؤال العطاء: أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني ب "عن"، قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}1 وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية; كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}2 وأما سؤال الإعطاء; فيتعدى إليه بنفسه; كقولك: سألت زيدا كتابا.


قوله: "الجزية" فعلة من جزى يجزي، وظاهر فيها أنها مكافأة على شيء، وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضا عن حمايته وإقامته بدارنا. والذمي معصوم ماله ودمه وذريته مقابل الجزية، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}3 أي: يسلموها بأيديهم، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو ابنه، بل لا بد أن يأتي بها هو.


وقيل: "عن يد": عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة للمعنيين. وقيل: "عن يد": أن يعطيك إياها فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه.


1 سورة الأعراف آية: 187.
2 سورة المائدة آية: 4.
3 سورة التوبة آية: 29.


ج / 2 ص -487- فإن هم أجابوك; فاقبل منهم وكف عنهم.
فإن هم أبوا; فاستعن بالله، وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك; فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون......


قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}1 أي: يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند إعطائها، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عند تسلمها منهم.
قوله: "فاستعن بالله وقاتلهم": بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بطلب العون من الله; لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه; فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط.


قوله: "وإدا حاصرت أهل حصن، فأرادوك": الحصر: التضييق; أي: طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يخرجون من حصنهم ولا يدخل عليهم أحد. والحصن: كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها.
قوله: "أرادوك": أي: طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا; فإن الأصل أن تتعدى ب "من"; فيقال: أرادوا منك.


قوله: "فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه": الذمة: العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون: نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله; فإنه لا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون...".


1 سورة التوبة آية: 29.


ج / 2 ص -488- من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله; فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك،


قوله: "أن تخفروا": بضم التاء وكسر الفاء: من أخفر الرباعي; أي: غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أجار والمتعين الأول.
وقوله: "أن تخفروا": "أن"; بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع "أهون" على أنها خبر، وأن وما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم "إن"، والتقدير: فإن إفخاركم ذممكم، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق.


قوله: "أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه": لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم، وقوله: "أهون" من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعنى; لأن قوله: "أهون" يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهون، والأمر ليس كذلك; لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين; كله ليس بهين، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته.


فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء، بل يعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك.
قوله: "وإذا حاصرت": أي: ضربت حصارا يمنعهم من الخروج من مكانهم. "أهل الحصن": أهل بلد أو مكان يتحصنون به. "فأرادوك": طلبوا منك. "حكم الله"; أي: شرع الله.


قوله: "ولكن أنزلهم على حكمك": فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله; فإنهم لا يجابون; فإنا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا؟


ج / 2 ص -489- فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" رواه مسلم1.


ولهذا قال: "أنزلهم على حكمك"، ولم يقل: وحكم أصحابك كما قال في الذمة; لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد; فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد
وقوله: "لا تدري": أي: لا تعلم "أتصيب فيهم حكم الله أم لا"، وذلك لأن الإنسان قد يخطئ حكم الله تعالى.


وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فقيل: إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله لأن قائد الجيش وإن اجتهد; فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: بل ينزلون على حكم الله، والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقط; لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم; إذ من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يغير الله هذا الحكم، وإذا كان كذلك; فلا تنزلهم على حكم الله; لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه؟
أما بعد انقطاع الوحي; فينزلون على حكم الله، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابا إذا لم يتبين خطؤه; لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}2 وهذا أصح; لأنه يحكم للمجتهد بإصابته الحكم ظاهرا شرعا وإن كان قد يخطئ، وإن حصل الاحتراز بأن يقول: ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله; فهو أولى; لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه.



1 أخرجه: مسلم في (الجهاد, باب تأمير الإمام الأمراء, 3/1356).
2 سورة التغابن آية: 16.


ج / 2 ص -490-


واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم; فيقول الكفار: إن أحكام المسلمين متناقضة.


ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:
1- تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد وقد سبق الكلام عليه.
2- يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا
3- لا يجوز القتال قبل الدعوة لأنه جعل القتال آخر مرحلة. وأما ما ورد في "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون1 فقد أجيب: أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع فيها للمصلحة.
4- جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس لأن أهل الكتاب نص القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ما عدا هؤلاء;

فاختلف أهل العلم:
فقيل: لا تأخذ من غير هؤلاء، وقيل: لا تؤخذ من مشركي العرب; لأن فيها إذلالا. والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "من كفر بالله"، ولم يقل: اليهود والنصارى.
5- الإشارة إلى أن القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في



1 أخرجه: البخاري في (العتق, باب من ملك من العرب رقيقا, 2/218), ومسلم في (الجهاد, باب جواز الإغارة على الكفار, 3/1356); من حديث ابن عمر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -491-


الإسلام، ولو كان كذلك ما شرعت الجزية; لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس..."1 الحديث; فهو عام مخصوص بأدلة الجزية.
6- عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدا لله ورسوله.
7- جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش.
8- أنه لا يجوز أن ينزلهم على حكم الله; إما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مطلقا حسب الخلاف السابق.
9- أن المجتهد قد يصيب وقد يخطئ لقوله صلى الله عليه وسلم "فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب; فله أجران، وإن أخطأ; فله أجر واحد"2 وعليه;

فهل نقول: إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب. وقيل: ليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول; حذرا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث



1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة, 1/24), ومسلم في (الإيمان, باب من قاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, 1/95); من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2 أخرجه: البخاري في (الاعتصام, باب أجر الحاكم إذا اجتهد, 4/372), ومسلم في (الأقضية, باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد, 3/1342); عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.


ج / 2 ص -492-


موافقته للحق; فإنه يخطئ ويصيب، ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم "فاجتهد فأصاب، واجتهد فأخطأ"; فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين، لأنه لا يمكن أن يكون مصيبا والسلف غير مصيبين، سواء في علم الأصول أو الفروع.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام، ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع; لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة; فكل الدين أصول; لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة; فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها. والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف; فليس بمقبول مطلقا.


10- أن باب الاجتهاد باق لقوله: "لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟"، وبهذا يتبين ضعف قول من قال، إن باب الاجتهاد قد أنسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذه منهما، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثا في هذا الحكم حتى


ج / 2 ص -493-


يتثبت لأن هذا الحكم قد يكون منسوخا أو مقيدا أو عاما وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول: لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلا للاجتهاد; فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم; لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم; فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة; فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون: كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادره قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها؟!
11- فيه إثبات الحكم لله عز وجل

وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
أ- حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخالفه، ومنه قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي}1.
ب- حكم شرعي، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}2.



1 سورة يوسف آية: 80.
2 سورة الممتحنة آية: 10.


ج / 2 ص -494- فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.


فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين لو قال: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين; لكان أوضح; لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها، وليس كذلك; فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين. والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين محرمة، وجعل ذمة المحاصرين -بكسر الصاد- ذمة جائزة.


الثانية:
الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا: لقوله: "ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك..." إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر هو: ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما وقد دل عليها الشرع، قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}1 ; فسب آلهة المشركين مطلوب، لكن إذا تضمن سب الله عز وجل صار منهيا عنه; لأن مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في هذا السكوت شيء من المفسدة، ولكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضا العقل دل عليها.


وفيه قاعدة مقابلة، وهي: ترك أدنى المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لا بد من ترك إحداهما فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعا; فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما; فخذ بأدناهما.



1 سورة الأنعام آية: 108.


ج / 2 ص -495- الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.


الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله": يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه.
الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله": يستفاد منها وجوب قتال الكفار، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال; فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا ترك أهل بلد صلاة العيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك. وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله; قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر.
الخامسة: قوله: "استعن بالله وقاتلهم": يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته.
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء وفيه فرقان:
1- أن حكم الله مصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب.
2- تنزيل أهل الحصن على حكم الله ممنوع إما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط أو مطلقا، وأما على حكم العلماء ونحوه; فهو جائز.


فائدة:
لا ينبغي أن يقال لمفت: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا; فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام، ولا يقول


ج / 2 ص -496- السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟
ـ

مفت: حكم الإسلام كذا; لأنه قد يخطئ، ولكن يقيد; فيقول: حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح; فلا بأس.
مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟ وهذا ليس خاصا بالصحابة، بل حتى من بعدهم; فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





رد مع اقتباس