عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 29-01-2015, 02:18PM
ام عادل السلفية ام عادل السلفية غير متواجد حالياً
عضو مشارك - وفقه الله -
 
تاريخ التسجيل: Sep 2014
المشاركات: 2,159
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله

ج / 1 ص -419- باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله


هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله. أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها. والغلو: مجاوزة الحد مدحا أو ذما، والمراد هنا مدحا.


والقبور لها حق علينا من وجهين:
1. أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام; فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2. أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
وفي "صحيح مسلم" قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "1 وفي رواية: "ولا صورة إلا طمستها".
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور; فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن; إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: "الصالحين": يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.




1 في (كتاب الجنائز, باب الأمر بتسوية القبر, 2/666).

ج / 1 ص -420- روى مالك في " الموطإ"; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم


قوله: "أوثانا": جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل; فيكون الوثن أعم. ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثنا، وإن لم يكن على تمثال نصب; لان القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
قوله: "تعبد من دون الله" أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله; لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإذا قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه "1.


قوله: "في الموطأ": كتاب مشهور، من أصح الكتب; لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضا كلام وبحث للإمام مالك نفسه.


وقد شرحه كثير من أهل العلم2 ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: "التمهيد" لابن عبد البر، وهذا- أعني: "التمهيد" - فيه علم كثير.
قوله: "اللهم ": أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة



1 من حديث أبي هريرة, رواه: مسلم (كتاب الزهد, باب من أشرك في عمله غير الله, 4/ 2289).
2 ومنها: "المنتقى" لأبي الوليد الباجي, و "شرح موطأ مالك" للزرقاني, و "أوجز المسالك إلى موطأ مالك" للكاندهلوي, و "تنوير الحوالك" للسيوطي.

ج / 1 ص -421- لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم.......


باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع; فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
قوله: " لا تجعل قبري وثنا يعبد "1 لا: للدعاء; لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: "قبري"، والثاني: "وثنا".
وقوله: "يعبد": صفة لوثن، وهي صفة كاشفة; لأن الوثن هو الذي يعبد من دون الله.


وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد; لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: "اشتد ": أي: عظم.


قوله: "غضب الله": صفة حقيقية ثابتة لله عزوجل لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه; لأنه لو أتى بذلك لكان ملبسا، وحاشاه أن يكون كذلك; فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام; فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.



1 مالك : النداء للصلاة (416).

ج / 1 ص -422-

وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق،
منها:

1. غضب المخلوق حقيقته: غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق; فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.
2. أن غضب الآدمي يؤثر آثارا غير محمودة; فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله; فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم; فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله. فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك; فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان; لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه; فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.


ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى:{ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} 2 فإن معنى "آسفونا": أغضبونا; فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثرا مترتبا عليه; فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.


واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله; فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة; فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل.



1 سورة الشورى آية : 11.
2 سورة الزخرف آية : 55.

ج / 1 ص -424- ولابن جرير بسنده..........


قوله: "ولابن جرير": هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير توفي سنة 310 هـ. وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر، ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر. فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض. وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم; علم ذلك.


وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائما يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية; فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع; فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه; لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.


والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره; لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم ب "تفسير الكشاف" للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون; لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.

ج / 1 ص -425- عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} 1.


قوله: "عن سفيان": إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم، والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني "تيسير العزيز الحميد" - يقول: الظاهر أنه الثوري.
قوله: "عن مجاهد": هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: " عرضت المصحف على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته; فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها ".


قوله: "أفرأيتم": الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى... إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها:{ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} 2 قال:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} 3 أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.


قوله: "اللات"، "كان يلت لهم... " إلخ: على قراءة التشديد: من لت يلت; فهو لاتٌ. أما على قراءة التخفيف; فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام; أي: حذف منها التضعيف تخفيفا. وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله. وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات; عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلها، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة; فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذه على قراءة التخفيف أظهر من التشديد; فالتخفيف يرجح أنه



1 سورة النجم آية : 19.
2 سورة النجم آية : 18.
3 سورة النجم آية : 19.

ج / 1 ص -426- قال: " كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره ".
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس: " كان يلت السويق للحاج "1.


من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق. وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه; فصار الغلو في القبور يصيرها أوثانا تعبد من دون الله.
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفا من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر إذا بعث بعثا: بأن لا يدعوا قبرا مشرفا إلا سووه2 لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور; فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: "السويق": هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.


وقوله: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره" يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلها مع الله.
قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: " كان يلت السويق للحاج " والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وكان العباس أيضا يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذا يحليه زبيبا أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس



1 رواه: البخاري (كتاب التفسير, باب أفرأيتم اللات والعزى , 3/399).
2 أخرجه: مسلم في (اللباس, 3/1664).

ج / 1 ص -427- وعن ابن عباس رضي الله عنهما; قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد...........


بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال - والعياذ بالله -; حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالا بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم; لأن الله تعالى يقول:{ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} 1 ; فكيف بمن يفعل الإلحاد؟!
قوله: "لعن": اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله:"زائرات القبور": زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر وهي أنواع: منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.


ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك، وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور "2 بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد": هذا الشاهد من الحديث; أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد له صورتان:



1 سورة الحج آية : 25.
2 رواه: الإمام أحمد (2/337, 356), والترمذي (الجنائز, باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء, 4/12)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في الكتاب والباب السابقين (رقم 1576), وابن حبان (رقم 789), والبيهقي (4/78).

ج / 1 ص -428- والسرج " رواه أهل السنن1.


1. أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
2. بناء المساجد عليها.
قوله: "والسرج": جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب; لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
المناسبة للبابإن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها; فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.


مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: "زائرات القبور"، والجملة الثانية "المتخذين عليها المساجد والسرج"؟ الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر; فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.



1 رواه: الطيالسي برقم (2733), وأحمد (1/229, 287, 324, 337), وابن أبي شيبة (3/344), وأبو داود (كتاب الجنائز, باب في زيارة النساء القبور, 3/558), والنسائي (كتاب الجنائز, باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور, 4/95), والترمذي (الصلاة, باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجدا, رقم 320)- وقال: "حديث حسن"-, وابن ماجه مختصرا (كتاب الجنائز, باب النهي عن زيارة القبور, رقم 1575), وابن حبان (رقم 788), والطبراني في "الكبير" (12725), والحاكم (1/374), والبيهقي (4/278).

ج / 1 ص -429-


وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما لو وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها ؟
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه; فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله; فقد يقال بجوازه; لأنها لا تسرج إلا بالليل; فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.


ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية:
1. أنه ليس هناك ضرورة.
2. أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك; فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.
3. أنه إذا فتح هذا الباب; فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت; فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟ الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج; فالذي نرى أنه يمنع نهائيا. أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه; فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد; فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذي هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة; فالمسألة ليست هينة.

ج / 1 ص -430-


وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور وأنها من كبائر الذنوب،

والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب; لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه; لحديث أم عطية: " نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا "1.
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور; لحديث المرأة التي مر النبي صلى الله عليه وسلم بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: " اتقي الله واصبري فقالت له: إليك عني; فإنك لم تصب بمثل مصيبتي فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت إليه تعتذر; فلم يقبل عذرها، وقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى "2 فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر. ولما ثبت في "صحيح مسلم3 " من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج صلى الله عليه وسلم مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر; فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: " قولي: السلام



1 رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب اتباع النساء للجنائز, 1/394), ومسلم (كتاب الجنائز, باب نهي النساء عن اتباع الجنائز, 2/646).
2 من حديث أنس, رواه: البخاري (كتاب الجنائز, باب زيارة القبور, 1/395), ومسلم (كتاب الجنائز, باب في الصبر على المصيبة عند الصدمة الأولى, 2/637).
3 في (كتاب الجنائز, باب ما يقال عند دخول القبور, 2/669).

ج / 1 ص -431-


عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين... " إلخ. قالوا: فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز. ورأيت قولا رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال; لقوله صلى الله عليه وسلم " كنت نهيتكم عن زيارة القبور; فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة "1 وهذا عام للرجال والنساء. ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك2. وهذا دليل على أنه منسوخ.


والصحيح القول الأول، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح; فمن ذلك:
أولا: دعوى النسخ غير صحيحة; لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1. تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر; لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور; فزوروها " للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل فيه النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح -; فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول: قد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجل فقط; لأن



1 من حديث بريدة, رواه: مسلم (كتاب الجنائز, باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه, 2/672).
2 رواه: الحاكم (1/376), والبيهقي (4/78). وصححه الذهبي, وقال العراقي في "تخريج الإحياء" (4/418): "رواه ابن أبي الدنيا في القبور والحاكم بإسناد جيد":.

ج / 1 ص -432-


النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج "1 ومن المعلوم أن قوله:"والمتخذين عليها المساجد والسرج" لا أحد يدعي أنه منسوخ; والحديث واحد; فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ.
2. العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: كنت لعنت من زار القبور، بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن.
وأيضا; فإن قوله: "كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذا; فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.


وثانيا: الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة; أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر; لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة; فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحا; فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.


وأما حديث عائشة; فإنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم " ماذا أقول؟ فقال: قولي: السلام عليكم "2 فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا



1 سبق (ص 428).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3326) , ومسلم : الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) , وأحمد (2/315).

ج / 1 ص -433-


خرجت زائرة؟ فهو محتمل; فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة; إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحا; فلا يعارض الصريح. وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما; فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا; لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور; لكنا ننظر بماذا ستجيبه. فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم; فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم على أنه روي عنها; أنها قالت: "لو شهدتك ما زرتك1 "، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له; لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة; إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، وإذا فهمت هي; فلا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم


إشكال وجوابه:

في قوله: "زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي على تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة؟



1 رواه: ابن أبي شيبة (3/343), والترمذي (الجنائز, باب زيارة النساء القبور, 4/11). وفيه عنعنة ابن جريج, وهو مدلس; كما في "الجنائز" للألباني (ص 182), وذكر ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/350): "أنه هو المحفوظ".

ج / 1 ص -434- فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.


الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك; فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات".
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل; ف "زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ} 1، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف; إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضا قراءة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ } 2 ; فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر وأنها من كبائر الذنوب.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/343).


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير الأوثان: وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره.
الثانية: تفسير العبادة: وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما; لقوله: " لا تجعل قبري وثنا يعبد "3.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه: وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "4.



1 سورة ص آية : 50.
2 سورة الزمر آية : 73.
3 مالك : النداء للصلاة (416).
4 مالك : النداء للصلاة (416).

ج / 1 ص -435- الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.


الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد: وذلك في قوله: " اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله: تؤخذ من قوله: "اشتد غضب الله". وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها. وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: " إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده "2.
السادسة: وهي من أهمها -: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان: وذلك في قوله: "فمات، فعكفوا على قبره".
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح: تؤخذ من قوله: "كان يلت لهم السويق"; أي: للحجاج; لأنه معطم عندهم; والغالب لا يكون معظما إلا صاحب دين.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية: وهو أنه كان يلت السويق.



1 مالك : النداء للصلاة (416).
2 مر سابفا (ص 332).

ج / 1 ص -436- التاسعة: لعنه زوارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.


التاسعة: لعنه زوارات القبور: أي: النبي صلى الله عليه وسلم وذكر رحمه الله لفظ: "زوارات القبور" مراعاة للفظ الآخر.
العاشرة: لعنه من أسرجها: وذلك في قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج". وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك; فله وجه.


مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه. والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها أن المرأة يجوز لها قصد الزيارة; فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه حيث كان.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979



رد مع اقتباس