عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 21-09-2007, 05:10PM
أبو عبد الرحمن السلفي1
عضو غير مشارك
 
المشاركات: n/a
بيان بعض أسباب ذهاب الأمن وأسباب حصوله ووجوده - 3

بيان بعض أسباب ذهاب الأمن وأسباب حصوله ووجوده - 3

السبب الخامس: شغل الناس بالسياسة وزجهم فيها:

إن مما يؤدي إلى زعزعة الأمن ولو على المدى البعيد شغل الناس بالسياسة الخاصة بالحكومات، وزجهم فيها عن جهل وعدم دارية، إن السياسة علم من العلوم، بل هي علم صعب جداً، أحياناً لا يعرف لها رأس من ذيل، فكيف تُعرض على عامة الناس، ويناقش فيها الكل؟! وقبل بيان هذا الأمر الخطير، وتوضيحه لابد من تعريف السياسة.

السياسة في الإصطلاح:

اعلم أن السياسة المعروفة اليوم هي ما كانت تعرف عند العلماء وإلى اليوم «بالسياسة الشرعية» و «الأحكام السلطانية» و «السياسة المدنية»(1).

والسياسة الشرعية: «رعاية شؤون الأمة في الداخل والخارج بما لا يخالف الشريعة الإسلامية»(2).

وعرفها الأستاذ عبد الوهاب خلاف -رحمه الله- فقال: «هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية،بما يكفل المصالح، ودفع المضار، مما يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين» أهـ (3).

ومعنى قوله: «... وإن لم يتفق وأقوال الأئمة المجتهدين» المراد به: «أن السياسة الشرعية ليست حكراً على الأئمة المتقدمين، بل لا بأس من أن يجتهد العالم المتبحر من أولي الأمر فيما يجد للأمة، من نوازل..، ولذلك قال: «فالسياسة الشرعية على هذا هي العمل بالمصالح المرسلة؛ لأن المصلحة المرسلة هي التي لم يقم من الشارع دليل على اعتبارها أو إلغائها» أهـ (4).

قلت: إذن يدور أمر السياسة على الإصلاح، والتدبير، والرعاية، والإجتهاد والعمل، وإدارة الأمور العظيمة،وأماكن الدولة الثقيلة كالوزارات والجيوش، والمعاهدات الدولية، والدول المجاورة، فهل يتكلم في هذا من هب ودب، ويعترض من لا يدري شيئاً؟!

إن سياسة الأمور من شؤون الساسة، فهي أمور تحتاج إلى علم ومعرفة، ومستجداتها من النوازل التي تحتاج إلى علماء يبصرون الأمور جيداً، فالعلماء والساسة وولاة الأمر هم أدرى بها.

قال أبو الحسن الماوردي الشافعي: «ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق، وكان امتزاجها بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير، أفردت لها كتاباً امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته، ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه، وما عليه منها فيوفيه، توخياً للعدل في تنفيذه وقضائه...» أهـ (5).

قلت: تأمل قوله: «لما كانت الأحكام السلطانية» أي السياسة «بولاة الأمور أحق» فإن الرجل أعطى العلم حقه ولولا انشغال ولاة الأمر عن الإطلاع والقراءة حول هذا الشأن لما كتب وألف.

ومما يدل على ما أقول حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء، فيكثرون» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «فوا بيعة الأول فالأول، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم»(6).

ومعنى قوله: «تسوسهم الأنبياء» قال ابن حجر: «أي: أنهم كانوا إذا ظهر فيهم فساد، بعث الله لهم نبياً يقيم لهم أمرهم، ويزيل ما غيروا من أحكام التوراة وفيه إشارة إلى أنه لابد للرعية من قائم بأمورهم يحملها على الطريق الحسنة، وينصف المظلوم من الظالم» أهـ (7).

قلت: فتأمل من الذي يسوس القوم، أي يدبر أمرهم، إنهم الأنبياء خير البشر علماً، وحكمة، وخلقاً، والعلماء ورثة الأنبياء، لذا يسيرون على هديهم وسنتهم، فليس الأمر لكل أحد ولا تطرح السياسة، وشؤون الدولة، وأسرارها على مسامع كل أحد، فإن الناس لا يفهم كلهم، ولايدري كثير منهم المصلحة من المفسدة.

لذا لم يكن كبار الصحابة وقادتهم كأبي بكر وعمر يخبرون الناس بكل شيء، بل يكون ذلك بين الخاصة منهم.

عن ابن عباس قال: «كنت أُقرئ رجالاً من المهاجرين منهم عبدالرحمن بن عوف، فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، إذ رجع إلي عبدالرحمن فقال: لو رأيت رجلاً أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتةً فتمَّت، فغضب عمر، ثم قال: إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.

قال عبدالرحمن: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير، وأن لا يعوها، وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشرف الناس، فتقول ما قلت متمكناً، فيعي أهل العلم مقالتك، ويضعونها على مواضعها، فقال عمر: أما والله- إن شاء الله- لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة..» (8).

قلت: فالحاصل أن رجلاً أراد أن يبايع على خلاف ما كان عليه الأمر في زمنهم وأراد أن يزرع الفتنة في المسلمين، فأراد عمر -رضي الله عنه- أن ينهاه علناً وأن يبين سياسة الدولة الإسلامية في اختيار الخليفة وكيف تمت بيعة أبي بكر لكن عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- منعه لأن الحج فيه الجاهل والعالم والبليد واللبيب، فخشي ألا يفهموا مراده، ويحمل كلامه على غير محمله، فتحصل الفتنة، لكن إن أتى المدينة حدث من يفقه ذلك بلا اشكال.

ومعنى قوله: «رعاع الناس وغوغاءهم» أي: «الجهلة الرذلاء وقيل: الشباب منهم، والغوغاء: أصله صغار الجراد حين يبدأ في الطيران ويطلق على السفلة المسرعين إلى الشر»(9).

فبهذا تعلم أن الشؤون الخاصة، والأمور الحساسة لا تطرح علناً، بل يتصدى لها اهل الحل والعقد، والقادة، والعلماء، والساسة الفقهاء؛ لذلك كل من تكلم في السياسة سابقاً فهم من العلماء وإليك شيئاً من هذه المؤلفات:

1- كتاب «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»، لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي الشافعي، الفقيه العلامة.

2- كتاب: «درر السلوك في سياسة الملوك» لأبي الحسن الماوردي.

3- كتاب «السياسة الشرعية» لزين الدين بن إبراهيم الحنفي المشهور بابن نجيم فقيه الحنيفة في زمانه.

4- كتاب: «تحرير الأحكام في تدبير في تدبير أهل الإسلام» للعلامة محمد بن إبراهيم بن جماعة، قاضي مصر والشام المشهور ببدر الدين بن جماعة.

5- كتاب: «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية» للإمام العلامة شيخ أحمد بن تيمة الدمشقي، وهو الكتاب الأحسن والأجود.

فانظر -رعاك الله- من الذي يتحدث في السياسة، ولمن تكتب وتقال لتعلم أنه علم صعب قد خاض بحاره، وسبر أغواره، واستخرج كنوزه العلماء والفقهاء، لا عامة الناس والغوغاء منهم.

خطر طرح السياسة على عامة الناس:

نظراً لخفاء هذا العلم، وصعوبته فإنه لا يذكر أمام عامة الناس؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفتن والمحن، فإن انتقاد سياسة ولاة الأمر والدولة أمام الناس، وعبر وسائل الإعلام وعلى المنابر مخالف لمذهب السلف الصالح وللشرع وللحكمة وللعقل، فما أسرع هيجان الناس وما أسلهه فإن بعض الناس يظن أن الكلام في هذا الشأن شجاعته، بل هو غباوة؛ لأنه يحتاج إلى علم وفقه وإلمام.

فإن ولي الأمر تحيط به من الظروف، والسياسات، والمشاكل ما لا يعلمها عامة الناس، فيظهر أمامهم بغير ما يريدون، فيأتي النقد والطعن والتهييج تحت عنوان: حرية الرأي، أو الدميوقراطية، حينها يكرهه الكل أو معظم الناس، وليس بعد ذلك إلا زعزعة الأمن والإستقرار.

جناية وسائل الإعلام:

بعض وسائل الإعلام سلكت طرقاً خاطئة لكسب الناس، وجلبهم تجاهها فجعلت للناس البرامج التي يعبرون بها، فيتصل بهم كل من هب ودب وربما من لا يعرف أن يكتب اسمه وكلهم يتكلمون في سياسة الدولة، وينتقدون حكامهم وولاة أمرهم القاضي على المتهم قبل أن يسمع حجته ودفاعه لذلك لا يحكم القاضي على المتهم الحاضر، حتى يحضر جلسة الحكم فإن هؤلاء الذين يتكلمون في ولاة الأمر مخطئون، ومن يفسح لهم المجال فهو ظالم، لأنه لو سمع الطرف الآخر لوجد عنده حجته ودليله، لكنه غائب فكيف يحكم على سياستهم بالخطأ ويصدر الحكم فيهم قبل سماع حججهم ودفاعهم؟!

ثانياً: إن ذلك لا ينفع الأمة الإسلامية في شيء، بل يزيد الطين بلة، حيث تزداد الشعوب حقداً على حكامها، فيزداد العداء بين الحاكم والمحكوم، وهذا يعني زيادة الفرقة والنزاع في الدول الإسلامية ولصالح من حينئذ؟ إن الإسلام لا يزيد الشق على الراقع؛ لذا حث الإسلام على العلاقة القوية بين الحاكم والمحكوم، وأدب الناس غاية الأدب مع مع حكامهم، وبين لهم كيف يتم تصحيح الخطأ، ومتى، ومن الذي يتولى ذلك، كل هذا حرصاً على وحدة الصف، فانظر من أين أين يؤكل الكتف.

الكلام في السياسة يحتاج إلى علم:

لقد نسي أو غفل الناس أن السياسة الشرعية علم، وأن السياسة فن وعلم يدرس، فهم لا يشاركون في البرامج الطبية، ولا الهندسية ولا الفضائية، إنما يستعمون ويستفسرون فقط، لكن في السياسة كلهم ساسة، وعلماء وفقهاء! وصدق العلماء لما قالوا: «لو سكت الجاهل عن الجدل لقل الخلاف».

كيف يخوض الإنسان في شيء لا يعرفه، ولا يتقنه، ولم يدرسه، إن هذا لشيء عجاب! فلا يغرنكم خطيب ينعق بأعلى صوته في السياسة منتقداً ولاة أمره، فلو كان عاقلاً لما خاطب عامة الناس بمثل هذا، لو علمهم ما ينفعهم لكان خيراً لهم، فمنهم من لا يصلي إلا في الأسبوع مرة، ومنهم الظالم لزوجته، ومنهم الظالم لعماله، ومنهم آكل الربا، ومنهم الغاصب ومنهم السارق، ومنهم المرتشي، ومنهم الكاذب، والنمام، والمغتاب، ومنهم الواقع في الشرك والبدع... وهلم جراً.

فإن هذه المصائب هي التي يحاسب عليها الإنسان، ليته توجه لنصحهم وإصلاحهم قبل أن يدفع الناس إلى معركة قد هزموا فيها قبل أن يهزموا.

ولا يغرنكم تصرف بعض وسائل الإعلام، فكم أشعلت الفتن، وخالفت الشرع، وأساءت للإسلام، وهيجت الناس على حكامها، وزرعت في قلوب الشعوب الحقد والكراهية لولاة المسلمين، كل ذلك لصالح من؟! إنني أخاف على شباب الإسلام والبلاد من مثل هذا الخطأ الخطير؛ لذا نبهتهم.

ولا يغرنكم من يدعي أنه شيخ، يدعي العلم والمعرفة وفقه الواقع، جمع سياسته من قصاصات الجرائد والصحف، ووسائل الإعلام، فلو كان حكيماً عاقلاً عالماً لما طرح السياسة وفقه الواقع على الشاب المتحمس، والرجل البائس، لو كان شيخاً لشغلهم بالعلم، والفقه، فقه دينهم الذي عنه يسألون، ومن ربهم يقتربون، وعلى هدي نبيهم به يسيرون، فهذا والله الفوز والفلاح.

لم نر علماءنا ومشايخنا في هذا الزمان يشغلون عامة الناس وطلبة العلم بالسياسة، ونظام الدولة، وعلماؤنا يحيطون بفقه الواقع جيداً، لكنهم يعلمون، متى يقال الكلام المعين، ومتى يقال، ومتى يطرح ومتى يمسك عنه، والسياسة اليوم كمثل جبل مظلم كبير له غاز تدخل منه الجبل، ثم إن الجبل هذا له عدة انفاق مظلمة، لا يعلم الإنسان أي طريق يسلك، وكيف يخرج وينجو، فيخبط خبط عشواءٍ في تحليله وتفكيره.



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــ

(23) الموسوعة الكويتية (25/295).

(24) فقه السياسة الشرعية (ص 10) د: خالد العنبري.

(25) السياسة الشرعية (ص 176-178) لعبد الوهاب خلاف نقلاً من كتاب: مدارك النظر (ص 142) عبد المالك رمضاني.

(26) مدارك النظر في السياسة (ص 145) عبد المالك رمضاني.

(27) الأحكام السلطانية (ص 1).

(28) أخرجه البخاري في صحيحه (برقم/3455).

(29) الفتح (6/607).

(30) أخرجه البخاري (برقم/6830).

(31) الفتح (12/181).
رد مع اقتباس