الغلو في العلماء كان على أنحاء:
الأول أنهم كانوا يتبعونهم في التحليل والتحريم، فيحللون ما حلله العلماء ولو كان ذلك حراما ويحرمون ما حرمه العلماء ولو كان في كتاب الله حلال،ا فجعلوا العلماء في منزلة فوق منزلة النبوة فجعلوهم أربابا، جعلوهم معبودين كما قال تعالى (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) قال عدي بن حاتم للنبي ما عبدناهم قال: «ألم يحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟» قال: بلى. قال: «ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه؟» قال: بلى. قال: «فتلك عبادتهم».
فهذا نوع من أنواع الغلو وهو أن يُعتقد في العلم أنه يستقل بالإتيان بالإحكام، يستقل بالإتيان بالشرع، وهذا نوع شرك، كما قال جل وعلا ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾[الشورى:21].
كانوا يعتقدون في العلماء أنه يمكن يحذفوا ويلغوا بعض الكتب المنزلة ويثبتوا بعضا آخر كما حصل من علماء اليهود والنصارى أنهم غيروا في التوراة والإنجيل إما بزادة أو بنقص أو بتغيير للمعاني بتفسيرها تفسيرات باطلة، ومع ذلك اتبعوا.
كذلك الغلو في الصالحين يكون على أنحاء:
من أشهرها وأظهرها أن يعتقد أن كل ما فعلوه من أنواع الصلاح والعبادة أنه صواب، فيقتدى بهم مطلقا، لاعتقاد أنهم مصيبون في كل ما يفعلون، فلا ينظرون في وجه حجة فعل ما فعله الصالح، وإنما ينظرون إلى فعله، فيستدلون بالفعل المجرد عن الحجة، وهذا هو الغلو في الصالحين، الغلو في الصالحين في حياتهم أن يُنظر إلى أفعالهم ويقتدى بهم، مع ظهور أن تلك الأفعال مخالفة للحجة أو مع عدم وضوح الحجة من أفعالهم.
من أوجه الغلو في الصالحين أنهم أعتقد فيهم أن لهم منزلة عند الله جل وعلا في حياتهم وبعد مماتهم، كمنزلة الوزراء عند الملوك أو المقربون، كمنزلة المقربين عند الملوك منهم، فكما أن المقربين من الملوك يرفعون حاجاتهم إليهم ويأتون بما يريده الناس إلى الملوك فيكونون شفعاء ووسطاء؛ لأجل شفاعتهم ووساطتهم، يجيب الملك طلبتهم ورغبتهم، جعلوا أولئك الصالحين عند الله جل وعلا كذلك، لهم من المنزلة ولهم من الزلفى ما يمتنع معه أن يرد الله جل وعلا طلبهم، هذا الغلو بهم في الحياة وبعد الممات، جعلهم يستغيثون بهم، جعلهم يصرفون لهم أنواع العبادات، فهذا اللاتّ الذي كان يلتّ السويق كان شركهم به من أجل ذلك؛ لأنه كان رجلا صالحا -كما جاء في الأثر عن ابن عباس وغيره-، يلتّ لهم السويق وغير ذلك، بل إن الأنبياء إنما وقع الشرك بهم لأجل الصلاح الذي فيهم، بعد موت الصالح يظن أنه له عند الله جل وعلا من الزلفى ما يمكن له أن يُتوسل به وأن يستشفع به وأن يطلب رضا ذلك الصالح بعد مماته بالتوجه إليه بأنواع العبادات كما هو مشهور.
من أنواع الغلو في الصالحين التبرك بهم، وهذا كان في اليهود وكان في النصارى، فكانوا يتبركون بصالحيهم، وكانوا يتمسحون بهم ونحو ذلك، وهذا لم يكن إلا للأنبياء، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك كلِّه محذرا من هذه الشعبة من شعب الجاهلية، فقال عليه الصلاة والسلام « لَعْنَة الله على الْيَهُودَ وَالنّصَارىَ. اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ» وقوله هنا (صالحيهم) يدخل فيه العلماء ويدخل فيه من كان صلاحه من غير علم، (اتّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وصَالحيهم مَسَاجِدَ)، وهذا نوع من الغلو، بل إنّ النبي نهى عن الغلو مطلقا، كما جاء، يعني مبينا لما جاء في القرآن حيث نهى الله جل وعلا عن الغلو مطلقا فقال (يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ)، فقال عليه الصلاة والسلام «إنما أهلك من كان قبلكم الغلو»، وفي حديث عمر رضي الله عنه حينما قطع الشجرة قال لهم ناهيا عن الغلو: إنما هلك من كان قبلكم من مثل هذا، يتتبعون آثار أنبيائهم، فما أدركتم من هذه المواضع فصلوا، وما لا فلا تتعمدوا. أو كما قال عمر رضي الله عنه.
المقصود من هذا أنّ النهي عن الغلو كثير في الكتاب وفي السنة، والدلائل عليه من أعمال الصحابة كثيرة، هذا الغلو الذي نهي عنه دخل في الأمة في أنواع شتى كما هو ظاهر لديكم، كان الغلو في العلماء أو ما ينتسب إلى العلم بقبول أقوالهم من دون حجة، سواء في ذلك الذين ينتسبون إلى الكلام، فقُبلت أقوالهم بتحريف الشرع من دون حجة، وأيضا الذين ينتسبون إلى الفقه قبلت أقوال بعضهم من غير حجة، حتى صار قول الفقيه مثلا أو قول العالم الفلاني الذي هو مأجور فيه لأنه مجتهد فيه صار علما على الحق عند من يتعصب لهم، فصار الدليل عندهم قول العالم وهو نوع غلو لأن العالم إنما يستعان به على فهم الأصول، وفهم الأدلة من الكتاب والسنة و لا يتبع استقلالا، إنما فيما كان فيه اجتهاد وخفي على المرء وجه الصواب في ذلك، فإنه يعني على أهل العلم وعلى طلبة العلم، فإنه يتبع في ذلك لأجل اجتهاده، وهذا سبق أن أوضحناه لكم مفصلا في باب أو في مسألة التقليد.
آل الأمر بهذا أن جعل أقوال المتأخرين حجة، وهذا أعظم ما ووجه به أتباع دعوة الإمام رحمه الله تعالى الدعوة السلفية، واليوم يواجه به كل داع إلى السلفية في أي مكان من أعظم ما يواجه به أقوال أهل العلم، وهذا نوع من أنواع الغلو فإذا كان بعض أهل العلم زل في مسألة أو غلط وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده؛ لكنه غلط فيها، فإنه لا يجوز أن يجعل قوله حجة في المسائل المختلف فيها أو التي يراد بحثها، فإذا كان ثم دليل واضح من الكتاب والسنة، فلم يؤخذ بأقوال بعض أهل العلم في المسائل التي أخطؤوا فيها.
فمثلا في مسألة الشفاعة؛ الاستشفاع بالنبي طائفة أجازته على اعتبار أنّ طائفة من أهل العلم ذكروه في كتبهم في المناسك، هذا صحيح، طائفة من أهل العلم ذكروا ذلك في مناسكهم، ففي آخر الحج يقولون يذهب إلى الرسول ويفعل عنده كيت وكيت، ومن ضمن تلك الأفعال أنه يستشفع به، هذا غلط ممن ذكره من أهل العلم، لاشك فيه، فلا يجوز لأحد أن يغلو في ذلك العالم الذي قال بتلك المقالة ويجعل قوله حجة، مع أننا نعلم أن المسألة قطعا لم تكن معلومة في زمن النبي ولا في زمن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، فإذن هي مسألة مبتدعة على أقل أحوالها كيف والصواب أنها شرك بالله جل وعلا.
اليوم يؤلف من يؤلف مؤلفات ضد الدعوة ويجعلون الحجج فيها قول فلان، وفلان، وفلان، قول مثلا العالم الفلاني، وقول العالم الفلاني، بجواز التوسل، بفعل كذا وكذا كما فعل بعض المتأخرين في مكة وهو الدكتور محمد علوي المالكي في كتابه الأخير، حيث جعل عمدة كتابه على أنه ساق أقوال العلماء في كتبهم على جواز التوسل وبعض الأفعال التي نحكم على بعضها بأنه بدعة، وعلى بعضها بأنه شرك أصغر، وعلى بعضها بأنه شرك أكبر، استدل بأقوال ساقها في جميع المذاهب، ومن بينها أقوال بعض الحنابلة، هذا صحيح، يعني تلك الأقوال كثير منها صحيح إلى قائليها، لكن هذا نوع من أنواع الغلو، إذ أنّ الاستدلال بأقوال العلماء وجعل تلك الأقوال حجة والإعراض عن نصوص الكتاب والسنة الظاهرة، هذا هو الغلو الظاهر، فيأتي بقول العالم يعارض بع قول النبي لا شك أنّ هذا من نوع الغلو الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل إن ابن القيم رحمه الله تعالى بسط القول في هذا النوع من الغلو في كتابه إعلام الموقعين، وقال: إنّ بعض هذه الأمة –يعني مما أبلغ فيه- يعني من أتباع الفقهاء جعلوا العلماء أربابا، كما فعل اليهود والنصارى، وذكر الأمثلة لهم من بعض المتكلمين وبعض المتعصبة المذاهب ونحو ذلك. ومن أحسن ما قيل في هذا قول الذهبي رحمه الله تعالى:
العلـم قال الله وقـال رسوله قال الصحابة ليس خُلْفٌ فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
أراء الفقهاء العلماء تحترم تقدر وتجل ولا يستهان بأمرهم ولا بشأنهم؛ لكن إذا ظهر الدليل فلا يغلوا الناس فيهم.
أما الغلو في الصالحين فحدث ولا حرج، ظاهر لديكم في إقامة المشاهد لهم والاستغاثة بهم والذبح لهم، وصرف جميع أو أكثر أنواع العبادات لهم، بما لا وجه لبيان كل أفعال من تأثر بتلك الشعبة من شعب الجاهلية.
المقصود من هذا أن هذه المسألة وهي الغلو من خصال أهل الجاهلية، والغلو يكون أيضا في الأشخاص الذين يشار إليهم بالبنان من علماء وصالحين ومن غيرهم ممن لم يذكرهم الشيخ؛ يعني ممن ليسوا بعلماء وقد لا يعرف صلاحهم بيقين، كمثل الغلو في رؤساء الدعاة مثلا، والذين يشار إليهم بالبنان في الدعوة في بلد أو في بلاد ونحو ذلك، كيف يغلوا الناس فيهم؟ بأن يجعلوا أقوالهم أو طريقتهم في الدعوة أو منهجهم يجعلونه أصل وتُصرف نصوص العلماء، وتُصرف أدلة الكتاب والسنة إلى ما يوافق هذه الطريقة، فبعض مثلا من يعظم طائفة من أولئك تجد أنه ألف كتبا مدارها على الغلو فيهم بأنهم لا يخطئون، وبأنهم لا يحصل منهم زلل، وأن كل ما فعلوه هو الصواب وأن طريقة الدعوة إنما هي طريقتهم، وأن السبيل إنما هو سبيلهم ونحو ذلك، هذا نوع من الغلو؛ لأن حقيقته أن يقال في ذلك الداعية المشهور أو في ذلك القائد أو في ذلك الرئيس أو في ذلك المعظم ونحو ذلك أن يقال إن كلّ ما جاء به صواب في الدعوة، وهذا يدعى به لأحد، فضلا أن يدعي به لمن ليس من أهل العلم المتحققين به، لهذا من آثار الغلو في الأشخاص التعصب، فإذا غلا في شخص ما تعصّب له، فصار القول الصواب هو ما يقوله فلان الذي غُلِي فيه، والقول الخطأ القول الذي انصرف عنه، هذا نوع من الغلو، والواجب على المؤمنين –هذا كالتتمة لما ذكره الشيخ رحمه الله- أن لا يغلو في أحد فلينظروا في حال الناس مهما كانوا معلما كان أو داعية أو عالما، أن ينظروا في حاله، ينظروا في قوله هذا عليه من الأدلة ما هو واضح، هل طريقته في أمر ما أو في أموره كلها متابعة للشرع؟ هل عليها حجة بينة أم لا؟ فإذا كان عليها حجة بينة واضحة فالحمد لله، يكون اتباعه اتباعا للحجة، وإذا كان ليس عليها بينة فلا يتبع أحد على خطأ أخطأ فيه أو على ضلال ضلّ فيه.
إذا تبين ذلك، فإن من مصائب هذا العصر الذي أُبتلي بها الناس التعصب، التعصب لمن يعجبون به، فترى الواحد خاصة في الشباب، ترى الواحد منهم إذا أُعجب بشخص ممن قد يكون له أثر كبير في المسلمين، أو قد لا يكون له أثر ونحو ذلك، تراه يتعصب بحيث لا يسمع فيه ولا يقبل فيه لا كذا ولا كذا، وهذا نوع من أنواع الغلو الذي لا يجوز أن يكون في المؤمنين، بل يُنظر في كلامه هو بَشَر ومن أتباع النبي ، فينظر ما كان وافق فيه السنة ووافق فيه الهدى فيقبل، وما لم يكن موافقا فيه فيرد عليه، كيف والإمام مالك رحمه الله تعالى ”ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر“ فمن هو دونه فلا غَرْوَ أن يكون رادّ ومردود عليه؛ يعني فلا يكون هناك تعصب عند طائفة مداره الإعجاب بأن كل ما قاله فلان فهو صواب، وكل ما لم يقله فهو خطأ، كذلك لا يكون عندنا ما يقابل التعصب بالجهة الأخرى وهو أن يكون هناك إهدار لكل صواب أصاب فيه عالم من أهل العلم أو طالب من طلبة العلم، بل الواجب أن يقال للمحسن أحسنت للمصيب أصبت وللمخطئ أخطأت، فهذا هو الذي يجب على المؤمنين، لا أن تنغلق عيونهم، تنغلق قلوبهم بحيث يكونون متابعين لكل شيء أتى به من يعجبهم سواء كان صوابا أو خطأ، وهذا يحتاج إلى نوع من التربية ينبغي أن يعتنى بها؛ ألا وهي التربية على أن يكون المقدم في نفس المؤمن هو المنهج الذي لا يخطئ، الدليل الذي لا يلحقه نقص؛ الكتاب، السنة، الإجماع ما أجمع عليه أو ما ذكره أهل السنة والجماعة في عقائدهم، وما عدا ذلك فكل يقرب منه ويبعد بحسب ما عنده من العلم والهدى.
وهذه مسألة مهمة فينبغي للشباب أن يوسعوا صدورهم، وأن لا يضيق صدرهم بعرض الآراء على الكتاب والسنة، لا، لأنه ما من أحد إلا وهو راد ومردود عليه، ولا يعتقد المراد أنه كامل، ويعتقد الناس في المردود عليه أنه ساقط بمرة، لا، بل كل أحد يجمع بين صواب وبين خطأ، فيتبع المصيب في صوابه ولا يهضم الصواب فيه، بل يشار إليه به ويثنى عليه به، ويرد على المخطئ بخطئه، ويقال إنك أخطأت في هذا ولا يتبع في خطئه، ولا يؤخذ به فيما أخطأ فيه.
هذا هو المنهج الصواب في هذه الأمور عند من أخطأ في المسائل الاجتهادية، فلا نغلوا ولا نجفوا، فالغلو مذموم والجفاء مذموم بين أهل السنة والجماعة فيما بينهم، فينبغي بل يجب أن يكون هذا كاليقين عندنا، ذم الغلو في الناس، الأشخاص، في العلماء، في الصالحين، هذا أصل من الأصول عند أهل السنة والجماعة، والغلو شعبة من شعب أهل الجاهلية؛ لأنه سببه التعصب والنفس تقبل شيئا ما، وتعجب بشخص ما فيكون القول هو ما قاله، والخطأ هو ما صد عنه.
أسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد والهدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
[الأسئلة]
1/ يقول: لفظ أهل السنة والجماعة والسير على منهجهم وجمع الناس حول ذلك هل هذا أمر صحيح، وهل يدخل في هذا اللفظ من قريب أو بعيد الأشاعرة والماتريدية وغيرهم من أهل البدع؟
الجواب: أن الواجب على المؤمنين أن يتبعوا الكتاب والسنة وما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ورثوا المنهاج الذي قال جل وعلا فيه ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾[المائدة:48]، أن المنهاج هذا ورثه عن النبي صحابته، ورثه عن الصحابة التابعون المقربون إليهم، ثم ورثه أئمة أهل السنة والجماعة ودونوه في كتبهم، فنعلم قطعا أن الصواب هو ذلك المنهج؛ لأنه هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى قبل أن تظهر الفتن ويظهر الاختلاف في هذه الأمة.
أهل السنة والجماعة يراد بهم من لزموا طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في جميع الأبواب؛ في باب الاتباع والعقيدة والعمل وغير ذلك، ولهذا تجد أنه في عقائد أهل السنة والجماعة يذكرون مسائل الإيمان الست يعني أركان الإيمان الست ثم يذكرون مسائل تميز بها أهل السنة والجماعة منها الأخلاق، منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائل أخر تميّزوا بها عن غيرهم.
إذن فعقيدتهم يعني منهاجهم هذا يشمل الأمور العقدية ويشمل الأمور العملية، تقديم الكتاب والسنة، الأخذ بالحديث والاحتجاج به ذم الرأي ونحو ذلك هذا من أصولهم.
إذا تبين ذلك فالأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة لأنهم خالفوا أهل السنة والجماعة في مسائل كثيرة، ليست مخالفة أهل السنة والجماعة للأشاعرة والماتريدية لأهل السنة والجماعة في باب الصفات فقط؟ لا، خالفوا في الصفات، خالفوا في القدر، خالفوا في أصل الاتباع؛ إتباع الكتاب والسنة.
فالقاعدة عندهم أن القواطع العقلية مقدمة على الأدلة الظنية، وأهل السنة والجماعة يجعلون النصوص مقدمة على العقل، فالقاعدة التي بنى عليها الأشاعرة والماتريدية مذهبهم تبعا للمتكلمين أن العقل مقدم على النقل، وهذه القاعدة يرد بها أهل السنة والجماعة من أسها.
كذلك يخالفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الأشاعرة والماتريدية وأهل البدع يخالفون في طريقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغايته، فيجعلون غايته الخروج تبعا للمعتزلة، وأهل السنة والجماعة يجعلون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غايته إصلاح الخلق وانتظام شمل الناس على الدين.
وغير ذلك من المسائل، فإذن الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة قد يطلق على الأشاعرة في بعض الكتب أنهم من أهل السنة، والسبب في ذلك أنه مقابلة لأهل التشيع، فيقال شيعة ورافضة وأهل سنة فيدخلون في أهل السنة، فيدخلون أهل السنة والجماعة يعني أهل الحديث وأتباع السلف الصالح ويدخلون الأشاعرة ويدخلون الماتريدية ونحوهم ممن ليس هو من الرافضة.
فإذن الإطلاق أهل السنة والجماعة لا يدخلون فيه لكن أهل السنة دون لفظ الجماعة قد يدخلون فيه إذا كان على وجه المقابلة، يعني احتجت أن تقابل تقول الرافضة وأهل السنة فإنه يعنى بأهل السنة من هم ضد الرافضة، والأشاعرة والماتريدية ونحوهم كان لهم ردود على الرافضة ووقفات ضد الرافضة.
2/ هذا يسأل عن مسألة فقهية وهو: السائل الذي يخرج من فرْج المرأة ما حكمه هل يوجب وضوءا أو غسلا؟
الجواب أن السائل في المحل طاهر فإذا انفصل كان نجسا، ويعني ذلك أنه ينقض الطهارة، فإذا كان في المحل يعني في الفرْج فهو طاهر التي هي رطوبات فرج المرأة، أما إذا انفصل وخرج فالعلماء يقولون إنه نجس بخروجه عن المحل، خروجه من البدن من ذلك الموضع فإذا خرجت النجاسة من ذلك الموضع أوجبت وضوءا حدث أصغر، أما حال الجماع إذا جامعها وخرج فمعلوم أنه سواء أنزلت أو لم تنزل فإنه يجب عليها الغسل، لا لأجل خروج السائل هذا وإنما لأجل الجماع، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت عنه أنه قال «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» يعني للرجل وللمرأة.
3/ محاضرة المنهجية في طلب العلم التي ألقيتها الأسبوع الماضي هل سجلت؟
الجواب لم تسجل.
4/ يسأل عن تفسير زبدة التفسير وهو اختصار فتح القدير مختصره هو الشيخ محمد الأشقر.
الجواب أن التفسير رأيت منه مواضع، قرأت فيه في مواضع فألفيته تفسيرا جيدا، قد نظرت بعض الموضع التي زلت فيها قدم الشوكاني رحمه الله تعالى، فتحاشى ذلك الزلل، وعبر بعبارة جيدة مع أنه نختصر له فلم يبق عبارة الشوكاني وفي بعض المواضع ولا معنى ما يريد الشوكاني بل قرر الحق في بعض المسائل، منها -ويمكن أن ترجعوا وتقارنوا ما ذكره- عند قوله تعالى عند أول سورة الأنبياء ﴿ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ﴾[الأنبياء:2] فإن الشوكاني رحمه الله في هذه المسألة لم يفهم ما كان عليه السلف الصالح في مسألة خلق القرآن، فأتى بقول من جنس أقوال أهل البدع، فتحاشاه المختصر الشيخ الأشقر، وهذا يدل على عناية بالأقوال التي زل فيها قلم الشوكاني.
5/ العبارة هل هي صحيحة ”لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار“؟
الجواب: أن هذه العبارة مشهور، وأهل العلم يصححونها، والصغيرة إذا أصر عليها صاحبُها فإنها تتحول إلى كبيرة، ومعنى الإصرار عليها أي يفعلها مرارا وتكرارا دون أن يحدث استغفارا، فإذا فعلها مرة والثانية والثالثة والرابعة ولم يستغفر، فصار الإصرار عليها كبيرة من كبائر الذنوب، لكن إذا فعل الصغيرة ثم استغفر، ثم فعلها مرة أخرى ثم استغفر والثالثة والرابعة ويستغفر بعد كل مرة، فلا يدخل في هذا القول، على أن هذا القول روي على بعض السلف، لكن ليس عليه دليل واضح من الكتاب أوالسنة.
6/ هل يستطيع المسلم فهم العقيدة وشرحها دون حفظ القرآن الكريم وما هو السبيل إلى ذلك؟
يمكن أن يفهم العقيدة سواءً العقيدة الإجمالية يعني مجمل الاعتقاد أو توحيد العبادة بخصوصه، يمكن أن يفهمه بدون أن يحفظ القرآن، لكن إذا حفظ القرآن استقامت عنده الحجة ووضح له البراهين التي يأتي بها أهل السنة في تلك المسائل.
7/ الصلاة خلف المبتدع في الدين والقبوري وإذا أقيمت الصلاة وهو إمام ما الحل؟ ثم ما وضع حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر»؟
أولا الصلاة خلف المبتدعة وأهل الكبائر بمعنى أهل الكبائر المظهرين لها، الأصل فيها أنها جائزة، الصحابة رضوان الله عليهم صلوا وراء أمراء الجور الذين يظهرون الكبائر وإزهاق النفوس كما صلى ابن عمر خلف الحجاج ابن يوسف، وأنس صلى خلف الحجاج أيضا، كما روى صلاة ابن عمر خلف الحجاج البخاري وغيره، هذا من جهة أهل الكبائر، و أهل البدع كذلك يصلي خلفهم، وأهل السنة والجماعة نصوا على ذلك في عقائدهم، لكن إذا كان صاحب البدعة هذه يمكن أن يستغنى عنه؛ بمعنى أنه ليس بإمام راتب شخص يتقدم وتعرف أنه صاحب بدعة هنا تنهره عن التقدم ويتقدم صاحب السنة، يعني أنه عند الاختيار لا يجوز أن يأمّ صاحب كبيرة ولا صاحب معصية ظاهرة ولا صاحب بدعة، لكن إذا كان ليس عند الاختيار، وإنما أدركت جماعة وفيهم من هو كذلك فإذا كانت بدعته لا تخرجه إلى الكفر فإنه يصلي خلفه، والإمام أحمد ذكر في مسائل أنها بدعة ومع ذلك أمر بالصلاة وراء من فعلها من مثل القنوت في صلاة الفجر فإنه بدعة ومع ذلك سئل عن الصلاة خلف من يقنت في الفجر قال تصلي خلفه، قال هل أرفع يدي معه؟ قال: لا. قال ما أصنع؟ قال: تسكت. أو كما روي عنه.
أما حديث «صلوا وراء كل بر وفاجر» فهو حديث في السنن لكنه ليس بصحيح، رواه أبو داود وغيره.
والآن قد أستدرك أن الذي رواه أبو داود قريب بهذا الفظ يعني معناه هذا الحديث لكن ليس بلفظه.
8/ هذا يسأل سؤال يتكرر كثيرا وهو الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
الجواب: أن أهل السنة والجماعة لا يفرقون بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية؛ بل الفرقة الناجية عندهم هي الطائفة المنصورة والطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وذلك أن الأحاديث التي جاءت فيها أوصاف الطائفة المنصورة من مثل «لاَ تَزَالُ مِنْ أُمّتِي طَائِفَةٌ عَلَى الْحَقّ لاَ يَضُرّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ حَتّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله وهم كذلك» ومن مثل قوله عليه الصلاة والسلام« لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقّ » وفي الرواية الأخرى «يقاتلونهم» ونحو ذلك، هذه كلها أوصاف للطائفة المنصورة، وهذه الطائفة المنصورة عندهم هي الفرقة الناجية، وحُكي الإجماع على ذلك من أهل السنة والجماعة، والفرقة الناجية لم تأتي في حديث بهذا الاسم بخلاف الطائفة المنصورة، فإن الطائفة المنصورة ذكرت هذه اللفظة أو ما يدل عليها أما الفرقة الناجية فإنما فهمت فهما من حديث الافتراق «وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة»، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال «الجماعة». فعلى هذا سموا الفرقة هذه التي هي الأولى يعني التي لم تخرج سموها الفرقة الناجية، وبيان ذلك أن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلٌّ من اللفظين فيه نعت ليس في الأخرى، الطائفة المنصورة يعني أنها منصورة في الدنيا والفرقة الناجية يعني أنها ناجية في الآخرة، فأحد الوصفين ليس معارضا للآخر، فأحد الطائفتين وصف دنيوي وهو أنها منصورة في الدنيا كما قال تعالى ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ﴾[الصافات:171-173] الطائفة المنصورة في الدنيا، والفرقة الناجية فهي التي تنجو من عذاب الله في الآخرة، تنجو من عذاب النار في الآخرة فالفرقة الناجية في الآخرة هي الجماعة الحق وهي الطائفة المنصورة في الدنيا، هكذا نعلم من فهم أئمة أهل السنة والجماعة في ذلك.
9/ عقيدة أهل السنة والجماعة كما تعلمون في الحرب بين علي ومعاوية أن كلا منهما مجتهد، وأن كلا منهما طالب للصواب وأن عليا هو صاحب الحق وهو صاحب الأجرين في اجتهاده؛ لأنه على الصواب ومعاوية رضي الله عنه كانت فئته ولا نقول هو كانت فئته هي الفئة الباغية، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام «ويحك عمار تقتلك الفئة الباغية»، وكان الذين قتلوه هم عسكر معاوية، فمعاوية ومن معه يعني معاوية رضي الله عنه في اجتهاده ومن معه من الصحابة أصحاب أجر واحد؛ لكنهم مخطئون عندنا، إدخال القتال فيما بينهم بالطائفة المنصورة لا يعني أن الطائفة المنصورة التي ذكرت في الأحاديث أنها في كل وقعة تُنصر، إنما يقصد الجنس أنها لا تزال منصورة إما نصرة حجة على من عاداهم، وإما نصرة سنان على من عاداهم، فعلي رضي الله عنه مع حصل له مع معاوية هذه فئة لأنها بين المسلمين فليس فيها طائفة منصورة ولا فرقة ناجية، وإنما الطائفة المنصورة والفرقة الناجية كلاهما لمسمى واحد لا يُعنى به ما حصل من الفتن أو كل حرب دخل فيها رجل فنُصر فيها يكون من الطائفة المنصورة، لا إنما المقصود الجنس؛ أنها لا تزال منصورة كجنس الطائفة، قد يكون من الفرقة الناجية ومن الطائفة المنصورة ولكنه لا ينصر في كل وقعة لا ينصر في كل حرب له مع أعدائه الكفار أو مع المسلمين في الفتن الدائرة، لكن الذي حصل بين علي ومعاوية أن أحدهما صاحب أجرين وهو علي رضي الله عنه، وأن معاوية صاحب أجر واحد رضي الله عنهم أجمعين، وأن الطائفة المنصورة والفرقة المناجية ليس لها دخل في حرب بين علي ومعاوية؛ لأنه نريد بالفرقة الناجية التي تنجو من النار وعلي ومعاوية جميعا ينجون بإذن الله من النار علي رضي الله عنه شهد له بالجنة، ومعاوية رضي الله عنه كذلك هم ناجون من النار، كذلك هم من الطائفة المنصورة كجنس، لما كانوا مع عمر رضي الله عنه، ولما مع عثمان رضي الله عنه كقبل حصول الاختلاف، الجميع من الطائفة المنصورة والجميع من الفرقة الناجية، الحرب التي حصلت فتنة لا يدخل فيها تقسيم طائفة منصورة وفرقة ناجية.
وهذا إيراد فيه شيء من الغرابة يا محمد... ( )
[المتن]
(المسألة الرابعة عشرة) أن كل ما تقدم مبني على قاعدة وهي النفي والإثبات فيتبعون الهوى والظن ويعرضون عمّا جاءت به الرسل.
(المسألة الخامسة عشرة) اعتذارهم عن اتباع ما آتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾( )، ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾[هود:91] فأكذبهم الله وبين أن ذلك بسبب الطبع على قلوبهم وأن الطبع بسبب كفرهم.
(المسألة السادسة عشرة) اعتياضهم عما أتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾[البقرة:101-102].
(المسألة السابعة عشرة) نسبة باطلهم باطلهم إلى الأنبياء ﴿وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ﴾[البقرة:102] وقوله ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا﴾[آل عمران:67].
[الشرح]
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالمسألة الرابعة عشرة من مسائل الجاهلية وهي أن كل ما تقدم من استدلالاتهم الباطلة وردّهم لأدلة الحق مبني على قاعدة النفي والإثبات فيتبعون الظن والهوى ويُعرضون عما يجب اتباعه من الدليل الواضح، هذه القاعدة وهذه المسألة نرجئ الكلام عليها إلى وقت لاحق إن شاء اللهُ تعالى.
المسألة الخامسة عشرة (اعتذارهم عن اتباع ما أتاهم الله بعدم الفهم، كقولهم ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾( )، ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾[هود:91]) ونحو ذلك من الآيات، فبين ذلك جل وعلا بأن ذلك وهو عدم الفقه وعدم الفهم بسبب الطبع على قلوبهم وبسبب جعل الأكنة على القلوب، وأن ذلك أيضا كان عدلا من الله جل وعلا، وذلك لأنه بسبب كفرهم بالله جل وعلا.
وهذه المسألة مسألة عظيمة ألا وهي أن المشركين وأهل الجاهلية على اختلاف ملل الجاهليات ونحلهم يعتذرون عن اتّباع الحق ويكون عذرهم هو أنهم لم يفقهوا ما قيل لهم ولم يعلموه، يريدون بذلك أنهم لم يفقهوا الحجة فقه من يستجيب لها، ولم يعلموا أن تلك الحجج التي جاءت بها الرسل أو جاء بها الأنبياء أنها غالبة وأنها مقدمة على الحجج التي يحتجُّ بها أولئك فعند المشركين حجج وعلم والرسل والأنبياء جاءوا بحجج وعلم فلم يفقه أهل الجاهليات أن حجج الأنبياء والمرسلين أدلَّ على المراد من حجج المشركين.
ولبيان ذلك نقول إن الحجة لا بد من إقامتها فالله جل وعلا ما بعث رسول إلا لأجل إقامة الحجة ﴿[لِئلَّا]( ) يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[النساء:165]، وقال سبحانه ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾[الإسراء:15]، فمن كمال عدل الله تبارك وتعالى ومن كمال حُكمه وحِكمته أنه جل وعلا ما عذّب أحدا حتى يقيم عليه الحجة، ولذلك بعث الله المرسلين وبعث الأنبياء لكي تنقطع حجج الناس بل إنّ الله جل وعلا أخذ على ابن آدم أو على بني آدم العهد لمّا أخرجهم من ظهور آبائهم ألاّ يكذبوا بتوحيد الله جل وعلا كما قال سبحانه ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾[الأعراف:172]، إلى أن قال ﴿وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ(172)أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾[الأعراف:172-173]، فالله جل جلاله أقام الحجج المتنوعة حجج مسموعة وحججا مرئية، وهم اعتذروا عن الاتباع بعدم فهم الحجة، قال سبحانه مخبرا عن قولهم ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾[هود:91]، وقال سبحانه﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ﴾( ) وقال سبحانه مخبرا عن قول اليهود أنهم قالوا ﴿قُلُوبُنَا غُلْفٌ﴾( )، وتقرير هذا أن فهم الحجة له نوعان:
النوع الأول: أن يفهم معناها؛ يعني أن يقيم الحجة من يفهم معنى الحجة، بأن يكون بلسان المخاطب، وأن يفهم المراد من الحجة، وهذا النوع متفق على أنه لابد منه، فإن الله جل جلاله ما بعث رسوله إلا بلسان قومه يبين لهم، كل رسول بعث بلسان قوم ذلك الرسول، يتكلم بلغتهم ويتكلم بلسانهم حتى يبين لهم الحجة، وحتى يفهموا معناها، وهذا متفق على أنه لا بد منه؛ لأنه إذا خوطب أحد بغير اللسان الذي يفهمه لم يكن ثَم إقامة للحجة، فإذن هذا النوع رجع إلى أنه في يعني إقامة الحجة، فإقامة الحجة لا يكون إلا بفهم معناها في هذا النوع.
النوع الثاني: فهم الحجة الفهم الذي يتبعه استجابة للحجة، فإن من فهم الحجة فهما مستقيما كاملا لابد أن ينقاد لها وهذا هو الذي لا يشترط في إقامة الحجة، فلم يكن لأولئك عذر بقولهم (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ)، (مَا نَفْقَهُ) يعني ما نعلم ولا نفهم أن هذا الذي تقول أرجح من قولنا، ولا نفهم أن علمك الذي أوتيت به أرجح من علمنا، وهذا النوع هو الذي حرمه المشركون في أنهم لم يفهموا فهم استجابة، لم يفهموا الحجة من جهة كونها أرجح من حجتهم، ولكن الحجة فهموا معناها.
فإذن فهم الحجة معناها.
النوع الأول لابد منه.
وأما النوع الثاني وهو أن تفهم فهم من يستجيب، فإن هذا لا يشترط في إقامة الحجة، فإن الحجة تقوم ولو زعم الزاعمون أنهم لم يفهموا معناها إذا بينت لهم ألفاظها وكانت بلسانهم وبين لهم معناها من أهل العلم والفهم لبيان المعنى.
لهذا قال جل وعلا مخبرا عن قول المشركين (قُلُوبُنَا غُلْفٌ) وقال (مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ) ولم يمنعهم هذا الاحتجاج بأنهم ما فقهوا ولا فهموا بأن تكون الحجة قد أقيمت عليهم، وإذْ أعرضوا حلّ عليهم سخط الرب جل وعلا، وأيضا أخبر سبحانه أن قريش بل والعرب جُعلت على قلوبهم أكنة قال سبحانه (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) جعل الله جل وعلا على قلوب المشركين أكنة تحجب الفقه وتمنع الفهم، حواجز تمنع ذلك أن يفقهوا يعني أن يفهموا، هذا الفهم إنما فهم موقع الاحتجاج؛ فهم رجحان الحجة على ما عندهم من الحجج، وهذا كل طائفة من طوائف الشرك والجاهلية تحتج بهذا بأنه ما فهمت بأنهم ما يريدون أن ينسبوا إلى أنفسهم أنهم ردوا الحجة عنادا واستكبارا.
ولهذا قال أئمتنا إن إقامة الحجة شرط وأما فهم الحجة فلا يشترط. فليس كفر كل من كفر عن عناد وتكذيب؛ لأن أولئك لم يفهموا وجه الحجة الفهم الذي يجعلهم يقدمونها على حجتهم، ولكنهم فهموا تلك الكلمات وفهموا دلائلها وفهموا معناها.
قال الشيخ رحمه الله تعالى هاهنا (فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك) يعني فيما احتجوا به من أنهم ما فقهوا يعني أكذبهم في أنهم فهموا المعنى، ولكنه جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوه الفقه النافع، وهو سبحانه كثيرا في القرآن ينسب الفعل إلى من ينتفع به، فقول الشيخ رحمه الله (أكذبهم الله) يعني في أنهم ما فقهوا الفقه الذي هو بمعنى فهم المعنى وبين أنهم فهموا المعنى، ولكنه الله جل وعلا بين أنه جعل على قلوبهم أكنة وكثيرا في القرآن ما يأتي نسبة الفعل إلى من ينتفع به، قال سبحانه ﴿إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ﴾[فاطر:18]، فأخبر سبحانه في هذه الآية أن النبي إنما ينذر الذين يخشون ربهم بالغيب مع أنه عليه الصلاة والسلام نذير للعالمين، لكن أضيف إلى أولئك الإنذار لأنهم هم الذين انتفعوا به (إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ) لأنهم هم الذين اتفعوا بذلك.
فهنا في قول الشيخ فأكذبهم الله جل وعلا في ذلك، وبيّن سبحانه أن سبب عدم الفقه هو الطبع على القلوب، يعني عدم الفقه الذي هو في ترجيح الحجة، الفهم الذي يترتب عليه ترجيح حجة المرسلين على ما عندهم من الأوهام والحجج، وبيّن سبحانه أن ذلك الطبع بسبب كفرهم، عدلا منه جل وعلا وحكمة، وهذا في كل أهل جاهلية يأتون بمثل هذا.
وهذه المسألة موسومة في كتب العلماء بمسألة إقامة الحجة وفهم الحجة، وتبيّن لك أن الصواب تقسيم فهم الحجة إلى قسمين؛ لأن من أهل السنة في هذا القرن من اعترض على أئمتنا على عدم اشتراط فهم الحجة لأنه قال لابد من فهم الحجة، كيف تقام الحجة على من لم يفهمها؟ والعلماء بينوا لكن هؤلاء ما انتبهوا إلى أنّ فهم الحجة بالمعنى الأول الذي ذكرناه وهو فهم المعنى، وعهم مدلولات الكلام وفهم الاستدلال ووجه الاستدلال هذا لا بد منه، أما الفهم الذي هو معرفة رجحان هذه الحجة على غيرها وقطع الشبه جميع الشبه فهذا لا يشترط كما بينه الأئمة.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إن هذه الخصلة من خصال الجاهلية نفذت في هذه الأمة في قديم زمانها وفي حديثه:
فأما في قديم زمانها يعني في أوائل الأمر، من جهة أن كثيرا ممن أعرضوا عن الكتاب والسنة وعن لزوم اتباع الكتاب والسنة، والأخذ بما كان عليه سلف هذه الأمة، وأن علومهم كانت أعلم وأسلم وأحكم، وأنهم كانوا اتقى لله جل وعلا من أن يخوضوا فيما غير ما أذن الله جل وعلا أن يخوضوا فيه، إذا بين لهم ذلك، محسنهم يقول ما أفقه هذا الكلام؛ يعني هذه حجة ليست بواضحة، هذا الكلام ليس بواضح الدلالة، فيرد هذا الأصل العظيم مع ما عليه من الدلائل الواضحات لأجل عدم فهمه، وعدم فهمه بموقع الحجة، وأن هذه الحجة أقوى حجته هذا ليس بعذر له، ليس بعذر له ولا يعذر في ذلك.
مثال هؤلاء أهل البدع في الاعتقادات، سواء كانت منها الاعتقادات الكفرية أم ما كان دون ذلك، هؤلاء اعتاضوا وتركوا كتاب الله والسنة وما كان عليه السلف إلى آراء أحدثوها واعتقادات وضعوها، حتى إنهم وضعوا أدلة عارضوا بها الأدلة القرآنية والأدلة النبوية، مثل الدليل الذي وضعه طائفة أو الذي وضعه جهم بن صفوان ومن بعده من المعتزلة؛ الدليل الذي يسمى بدليل الأعراض، والذي من أجله وبسببه أُوِّلت الصفات وحُرفت النصوص، ووقع البلاء العام في المسلمين بسبب ذلك الدليل المحدث المبتدع، الذي هو خطأ في نفسه، وجناية على الشرع، تحصيل هذا الدليل أنّه أراد أن يثبت وجود الله جل وعلا بإثبات حدوث الأجسام، وأن الأجسام لا يثبت حدوثها إلا بإثبات حلول الأعراض فيها، الأعراض هي المعاني التي تطرأ أو تزول، فلما أثبت الوحدانية يعني وجود الله جل وعلا بهذا الدليل، صار معه متعين أن ينفي كل ما يعارض ذلك الدليل، فنفى إثبات الصفات لأن الصفات عنده أعراض تطرأ وتزول، وإذا أثبت الصفات كالرحمة والمغفرة والنزول والاستواء والكلام وغير ذلك من الصفات، إذا أثبتها فإنه يعني في فهمه أنه يثبت أعراضا تطرأ وتزول، وهو ما أثبت حدوث الأجسام إلا بهذه الطريقة التي هي طريقة الأعراض، فكان مستمسكا بدليله، وبدليله هذا ظهرت الفرق المعتزلة والكلابية والماتريدية والأشعرية ومن نحى نحوهم، وهو دليل باطل من أصله، لما خوطب أهل الاعتزال من أهل السنة الذين أخذوا بهذا الدليل وعظموه، الذي هو يستدل على وجود الله بدليل حدوث الأعراض في الأجسام، لما اُحتج عليهم بأن هذا الدليل لم يأت في كتاب ولا في سنة وأنه منقوض من أصله، وأن أدلة القرآن هي المتعينة في إثبات حدوث المخلوقات، وأن الله جل وعلا هو موجدها وحدثها وخالقها وربها، قالوا إنّ نقض ذلك الدليل لا نفهمه، وقلوبنا لم تفهم ذلك، وعقولنا لم تدرك ذلك، ونحو هذا، مع أن هذا الدليل واضح في نفسه، لكن جعل في قلوبهم ما يصدهم عن اتباع الأدلة القرآنية فأحدثوا ذلك الحدث الأكبر في الملة، ألا وهو ذلك الدليل الباطل من أصله الذي بسببه حدثت الفرق المختلفة.
كذلك في العبادات طوائف المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة ونحو ذلك، إذا اُحتج عليهم ببطلان بدعهم وبطلان طرائقهم في السلوك، وأنهم لا يجوز أن يسلك طريق إلا أن يكون موافقا للنص في العبادات وفي العقائد ونحو ذلك، بينوا أنهم لا يفهمون تلك الأدلة، وأن ما عليه ما بينه أشياخهم أن هذا أوضح لهم هؤلاء أقيمت عليهم الحجة وبينت لهم ولكنهم ما فقهوها فقه من يتبع السلف الصالح، فلا يعذر أولئك بالجهل، بل أكذبهم الله جل وعلا بما كذب به الأولين الذين اعتذروا بأنهم لم يفقهوا، هم يسمعون كلام الله ويسمعون سنة النبي ، وكلام أهل العلم في بيانها، وبينت لهم تلك الأمور، وصنفت في ذلك مصنفات ومع ذلك بقوا على طرائقهم المبتدعة، وطرقهم الصوفية المحدثة، يحتجون بأنهم ما يفهمون هذا الفهم يعني فهم كون حجة السلف أرجح من حججهم، طريقة السلف أرجح من طرائقهم، هؤلاء لا يعذرون لأنهم مكذبون بما كذب الله جل وعلا الأولين.
وهكذا كل من أقيمت عليه الحجة من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله من الحجج التي فَهْمُها لا يختلف فيها اثنان، أو من الحجج التي يمكن أن تفهم أكثر من منحى، لكن أهل العلم بينوا معناها وأوضحوا مرادها واستدلوا عليه بالدلائل، من بين له ذلك فقد أقيمت عليه الحجة، فمن خالف بعد ذلك وولو احتج بعدم الفقه والفهم فهو مكذَّب.
قال الشيخ رحمه الله إن الله جل وعلا أكذبهم (فأكذبهم الله) وبين أن سبب ذلك هو الطبع على قلوبهم، وأنّ الطبع بسبب الكفر وهذه السببية مطردة في كل من خالف الكتاب والسنة ونهج سلف هذه الأمة في العلوم والأعمال في الاعتقادات وفي السلوك وفي الفقه، كل من خالف هذا فإنه يعاقب على صنيعه بأنه لا يفهم الحجج، قال جل وعلا ﴿وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا﴾[الكهف:101]، مع أنهم سمعوا كلام الله، وسمعوا كلام رسوله ، يعني أهل الشرك لكنهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) ذلك هو السماع النافع، لا يقدرون عليه، الاستطاعة بمعنى القدرة لأنهم جعلت على قلوبهم الأكنة عقابا لهم على أعراضهم عن الاتباع، فكل من أعرض عن الاتباع يخشى عليه أن يعاقب بعدم فهم الحجج، وهذه هي أعظم العقوبات، أن يعاقب المرء بأن لا يفهم كلام الله جل وعلا ولا كلام رسوله .
وإذا تأملت اليوم أكثر المخالفين فإنهم إذا بُينت لهم الأدلة والنهج الصحيح، يقولون إن هذا غير واضح، هذا لا يُلزم الناس به ونحو ذلك، وهذا من جنس ما كان عليه أهل الجاهلية؛ من أنهم لم يفقهوا، ولم يفهموا، ولم يتبين لهم أن حجة المرسلين أعظم من حجتهم، ولاشك أن من ورث الكتاب وورث السنة فإن حجته أعظم من حجة غيره، ولو كان عنده من العلم وعنده من العقل الشيء الكثير، كما قال شيخ الإسلام في المتكلمين: أوتوا ذكاء ولم يؤتوا ذكاء أو أتوا علوما ولم يؤتوا فهوما. يعني الفهم النافع فإنه حُرِم كثيرون الفهم النافع، فكل من جادل بالباطل، وقال أنه لم يفهم الحجج التي عليها سلف هذه الأمة فإن ذلك بسبب إعراضه، فليكن أول ما يكون من أمره في علاجه أن ينسلخ من كل طريقة ليس فيها اتباع السلف، ثم بعد ذلك سيرى من نفسه وُفِّق للفهم، ووفق للسماع النافع، ووفق للفقه فقه الأدلة، ولهذا ترى عند أئمة الإسلام الذين انشرحت صدروهم للعقيدة الصحيحة، وانشرحت صدورهم لاتباع النبي ، وجاهدوا في ذلك وبينوا، عندهم من فيهم النصوص ما ليس عند غيرهم، فمن اتبع النصوص نطق بالحكمة، مثل ما قال بعض الأئمة: من أمّر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة. وهذا ظاهر بين، فإن المؤمنين في كل زمان لم يزالوا يحتاجون إلى من ينطق بالحكمة، وليس أولئك إلا أئمة أهل العلم الذين تبعوا السلف الصالح وتفقهوا في الكتاب والسنة.
فاليوم كل من أقيمت عليه الحجة وبينت له فإنه لا يجوز أن يُعذر باحتجاجه بعدم الفهم يعني الفهم النافع، إلا في بعض المسائل المشتبهة التي اختلفت فيها أنظار أهل العلم وكان في النصوص ما يعذر معه أولئك، من أنهم يفهمون منها كذا، تفهم من طائفة شيء وتفهم منها الطائفة الأخرى شيئا آخر، فهذا لا بأس به يعني خلاف يعذر به صاحبه؛ لأنه ناتج في أصله عن اتباع أما إذا كان ناتج عن معارضة للنصوص بالأفهام التي لم يتبع فيها أصحابها كلام أهل العلم فأصحابه غير معذورين.
المسألة السادسة عشرة قال الشيخ (اعتياضهم -يعني أهل الجاهليات- عما آتاهم من الله بكتب السحر كما ذكر الله ذلك في قوله ﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾[البقرة:101-102]) وهذا بيان لفعل اليهود، وأن اليهود تركوا ما جاء به أنبياؤهم وما ساستهم به الأنبياء من العلم النافع إلى غير ذلك من كتب السحر.
وفي قوله تعالى هنا (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ):
قال بعض أهل العلم إن معنى (اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) يعني في ملك سليمان فـ(عَلَى) بمعنى (في).
وقال آخرون إن معنى (مَا تَتْلُو) ما تكذب، فتكون (تَتْلُو) مضمنة معنى الكذب، وهو المناسب للتعدية بـ(على)؛ لأن كذب يُعدى بـ(على)؛ كذب على فلان، والتضمين معروف في كلغة العرب مطرد كثيرا.
(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)، (تَتْلُو) هنا كما ذكرتُ لك مضمنة معنى الكذب والملك في هذه الآية معناه العهد، فيكون معنى الآية: واتبعوا ما تكذب الشياطين على عهد سليمان.
وفي تفسير هذه الآية ستة أوجه، كيف كان ذلك الاتباع وكيف كان دخول السحر من جهة الشياطين على عهد سليمان، ستة أقوال ذكرها ابن الجوزي في زاد المسير ورتبها ترتيبا حسنا.
الذي يهمنا منها ما يجمع، ما يجمع تلك الأقوال ويناسب هذه المسألة وهو أن حاصل تلك الأقوال: أن سليمان عليه السلام جعل كتبا من كتبه أو كتبا من كتب الشياطين تحت كرسي له، مخفاة عن الناس، مدفونة لا يعلم بذلك أحد، وكان عهد سليمان لدى الناس يطلعون عليه ويعملون به، فهو نبي من الأنبياء عليه السلام، سليمان عليه السلام منع الناس من النظر فيما كتبته الشياطين من السحر والأقوال التي أخذوها من الكهنة كما في أحد الأقوال، وأيضا دفن عهده وكتابه تحت كرسيه، فلما توفي سليمان عليه السلام أَعلمت الشياطين الكهانَ بأن عهد سليمان مكتوب ومجعول تحت كرسيه، فحفروا فوجوده -والذي أذكره الآن هو القدر الذي تجتمع عليه الروايات وأما ما تختلف فيه فليس هذا محل بيانه لأنه دخلها كثير من الإسرائيليات، والروايات كلها عن الصحابة ليس في ذلك شيء مرفوع، لكن الذي يناسب ظاهر المعنى –معنى الآية- هو ما أصفه لك الآن- بيّن الشياطين للكهان أن عهد سليمان تحت كرسيه فحفروا فوجدوه.
أما على القول بأن عهده الذي كان عَهِدَ به للناس فإنهم يقولون إن الشياطين كذبت على سليمان بأنهم لما استخرجوه زادوا فيه أقوالا وزادوا فيه إباحة السحر، وزادوا فيه كيف يسحر المسحور أو كيف يسحر الناس ونحو ذلك من الأقوال الشيطانية، ومن قال إنّ الذي دفنه سليمان هو كتب الكهنة وما كتبه الكهنة، فيكون أولئك الشياطين استخرجوا تلك الكتب من الكهنة، وزعموا للناس أنها عهد سليمان، مع أن عهد سليمان كان معروفا فيهم، كان محفوظا في الناس يعرفونه ويعملون به، لكن لما أظهرت الشياطين تلك الكتب وقالوا إنها من عهد سليمان أو إنها عهد سليمان قال اليهود إنّ سليمان ساحر، وهذا ما أخبر الله جل وعلا به في قوله ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ﴾[البقرة:102] ما كفر سليمان عليه السلام بالسحر، وإنما عهد للناس العهد الذي ينفعهم، وعلّمهم ما ينفعهم، وأقام الحجة عليهم وبين لهم ما ينجيهم، وأنفذ فيهم ما أوحى الله جل وعلا (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ) وحاشاه أن يكون كذلك (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يعني بعد موت سليمان بما أخذوه من الكتب زاعمين أن هذا من دين سليمان، زاعمين أن هذا هو عهد سليمان.
وهذا هو أصل هذه المسألة من أن أولئك الذين كانوا من أتباع سليمان اعتاضوا عما آتاهم من الله جل وعلا من عهد سليمان، ومما أنزله الله جل وعلا عليهم وبينهم لهم على لسان سليمان عليه السلام، ذلك القدر المتيقن، ذلك القدر الذي لا شك فيه و لا التباس اعتاضوا عنه بكتب السحر التي جعلتها الشياطين، وهذا الأمر أصل في أنّ أهل الجاهليات نبذوا الرسالات وأخذوا بما هو من جنس السحر أو أخذوا بالسحر أصلا كما في هذه المسألة.
فهذه المسألة أصل في كل من خالف الرسل ممن جاء بعدهم إنما خالف الرسل لأنهم اعتاضوا واستبدلوا ما أنزل الله جل وعلا عليهم، وما أمرهم باتباعه، استبدلوه بشيء آخر من الكتب إما كتب سحر، وإما بكتب محرفة، وإما بكتب مفتراة على الله جل وعلا ونحو ذلك.
اليهود طائفة منهم من علمائهم افتروا على الله الكذب؛ بأن جعلوا في التوراة ما ليس منها، وأدخلوا فيها ما ليس منها، حرّموا على الناس الحلال، وأحلوا لهم الحرام، مع أن التوراة الأصلية كانت في أول الأمر موجودة عند الناس ولكنهم تركوها و أخذوا بتلك الأقوال وبتلك الآراء.
وهكذا في أهل الجاهلية العرب كان ذلك عندهم نبذوا المتيقن لديهم من دين إبراهيم عليه السلام، وأخذوا بما أحدثه طائفة من أهل مكة أو طائفة من العرب.
فكانت هذه المسألة واضحة في أن أهل الجاهلية يتركون ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره.
وهذه الشعبة من شعب أهل الجاهلية أيضا هي في هذه الأمة في أوسع صورها، وفي أظهر مظاهرها وأوضح مظاهرها، أعظم مما كان عند اليهود وأعظم مما كان عند غيرهم، ذلك أن كتاب الله جل وعلا محفوظ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾[الحجر:9]، والسنة؛ سنة النبي محفوظة أيضا بما بينه أهل العلم من صحيحها وسقيمها، فالدين محفوظ ليس بعرضة للتغيير ولا التبديل، دين باق إلى قيام الساعة، كتاب الله باق وسنة النبي باقية، وهذا يوجب على الناس أن لا يحيدوا عنها، وأن لا يرغبوا الهدى في غير الكتاب وسنة النبي ، ما الذي حصل في هذه الأمة؟ تُركت تلك الأصول.
تُرك الكتاب وتركت السنة، واستبدل طائفة من هذه الأمة كتب السنة كتب الفلسفة وكتب الكلام.
طائفة أخرى استبدلت بكتب السنة كتب الرأي من كتب بعض الفقهاء المتقدمين الذين لا يذكرون في كتبهم إلا الرأي؛ أرأيت إن كان كذا فكيف يكون، بخلوِّها من الحجج والأدلة وكلها مبنية على قياس ورأي.
ترك طائفة من هذه الأمة سير السلف في العبادات وأخذوا بكتب القوم الذين صنفوا في ذلك من أهل الطرق ونحو ذلك مع أن الكتاب محفوظ والسنة محفوظة لكنهم اعتاضوا واستبدلوا ما آتاهم من الله جل وعلا بغيره من جنس ترك أولئك لعهد سليمان واتباعهم السحر، بل إن طائفة من هذه الأمة أخذت بالسحر وكتب السحر وتركت الأصل المنزل على هذه الأمة.
الفلاسفة دخلوا في هذه الأمة فطائفة من عقلاء هذه الأمة كما يقولون وكما يسمونهم العقلاء والأذكياء، تركوا الكتاب والسنة وزعموا أن نصوص الكتاب والسنة هذه توهيمية تخيلية إنما تنفع للعوام، وأن النبي ما ذكره في السنة، بل وما أنزله الله جل وعلا في الكتاب إنما هو وهم وخيال هؤلاء يسمون أهل الوهم والتخييل؛ يعني قالوا إن هذه النصوص وتلك الظواهر من النصوص ليست مرادة وإنما هي ظواهر وهمية خيالية لإصلاح الناس؛ لأنه لا يصلح الجمهور -على حد قولهم- إلا هذا لا يصلح الناس لأجل بلادة عامتهم وعدم فهمهم كما يقول أولئك، لا يصلحهم إلا هذه الطريقة والحكماء يصلحون الناس بما يناسبهم من الطرائق، يقولون فأتى الكتاب والسنة بالطرائق التي تصلح للجمهور وما فيها من الوهم والتخييل، وأما طرائق أهل العقول والحجى وأهل الفهم والنظر فإنما هي طريقة الفلسفة؛ طريقة طلب الحكمة بالاستدلال بالكونيات ونحو ذلك مما يبحثونه، وبه قُدمت الفلاسفة على صفوة هذه الأمة، ومن أجله قيل إن علم السلف أسلم ولكن علم الخلف أعلم وأحكم، كما قاله ضُلاَّلهم.
كذلك اعتاض طائفة من هذه الأمة عما جاء في الكتاب والسنة وما بيّنه علماؤنا؛ يعني علماء سلف هذه الأمة من معانيهما، اعتاضوا عنهما بكتب أحدثها المتكلمون والمتكلمون أخص من الفلاسفة، فكل فيلسوف متكلم وليس كل متكلم فيلسوف، وأخذوا بمنطق اليونان وأخذوا بالقواعد التي يسمونها قوطع عقلية وأدخلوها بهذه الأمة، وجعلوا كتبهم في العقائد مقدمة على العقائد التي جاءت في الكتاب والسنة بل إنه منهم -من أهل الكلام- من زعم أن نصوص الكتاب والسنة تحير ولا تهدي، لأننا لا نعرف المعنى مثل ما قال بعض من ينحى منحى أولئك –سامحه الله وهو من المنتسبين لشرح كتب السنة- حينما ذكر مسألة الاستواء يشرح جامع الترمذي قال: الاستواء يرد في لغة العرب على خمسة عشرة معنى ثم ساقها وكل ذلك غلط؛ لأن الاستواء لا يرد في اللغة إلا بمعنى واحد وهو العلو، ثم ساقها، فلما ساقها قال فالله أعلم أي ذلك المراد، وهؤلاء يزعمون أن نصوص الكتاب والسنة أنها توهم الناس الاعتقاد بالتجسيم والعياذ بالله، فاعتاضوا عن شرحها وبيان ما فيها من العقائد شرح الكتاب والسنة، إلى كتب وضعوها كتب عقائدية وضعوها يعتمدون عليها ويدرسونها...( )
مبناها على الرأي وليس مبناها على النص.
كذلك أهل السلوك أهل السلوك اعتاضوا عن الزهد المشروع الذي كان عليه صحابة رسول الله ، بل ما كان من هدي النبي الذي هو عليه والسلام أزهد الزاهدين وإمام العارفين وقدوة العباد، اعتاضوا عن ذلك إلى كتب خاصة وضعها القوم في زهدهم وعبادتهم، فصنفوا كتبا في ذلك، ومن أوائل من صنف في هذا الحارث المحاسبي وطائفة من طبقته، وكان ذلك شائعا فانتبه إلى ذلك أئمة السنة، فصنفوا في مقابلة ذلك ما يهدي الناس في باب السلوك، صنفوا كتب الزهد أئمة الحديث صنفوا كتب الزهد، في مقابلة أخذ المتصوفة بكتب يضعونها ليست معتمدة على هدي السلف، فصنف الإمام عبد الله ابن المبارك كتاب الزهد، وصنف الإمام أحمد الزهد وهكذا طوائف صنفوا الزهد في مقابلة ترك أولئك زهد السلف إلى زهد مبتدع وتصنيف الكتب فيه، ولهذا حذر السلف من تلك الكتب وتلك التصانيف، زاد الأمر حتى وضع للسلوك أصولا في هذه الأمة، فاعتاضوا عن أصل الكتاب والسنة إلى تلك الأصول المبتدعة والعياذ بالله، حتى جُعلت تلك الأصول في آخر الأمر طريقة من طرائق القوم لها اصطلاحاتها ولها مدلولاتها مما يعارض به الكتاب والسنة، بل زاد الأمر حتى وصل بهم الحال أن جعلوا مقام السائرين من الأولياء أعظم من مقام الأنبياء كما قال قائلهم وهو ابن عربي في فصوصه قال :
مقام النبوة في برزخ فُوَيْقَ الرسول ودون الولي
فجعل الولاية أعظم من النبوة والنبوة أعظم من الرسالة ذلك أن الولاية عندهم كسبية تكتسب مما أخذ من المعارف والكتب التي تهدي تبين كيف تكتسب وأما النبوة فإنما هي فضل وما كان بالكسب تكشف له الحجب، وما كان بالاختيار لا تكشف له الحجب ولهذا فضلوا خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، كما يقولون، سبب ذلك ترك ما أنزل الله جل وعلا إلى غيره، فكانوا حقيقين بما وصف الله جل وعلا اليهود بقوله﴿نَبَذَ فَرِيقٌ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ﴾[البقرة:101-102]، وهكذا في جوانب السحر كذلك في الكهانة، في الجبت، في الصرف، ونحو ذلك من الأنواع، كلها فيها كتب، موجودة في الأمة، ولهذا كان أهل العلم يوصفون بأن تحرق وتمنع الكتب التي فيها البدع، بل نصّ الفقهاء على أن كتب البدع التي تشتمل على الضلال أنها تحرق ولا يضمّن من حرقها من كتب أهل الضلال وأهل البدع المشتملة على مناقضة الشرع ومناقضة كتب السنة، مثل كتب السحر والشعوذة والفلسفة والكلام ونحو ذلك، مما حفظ به علماؤنا الأوائل هذه البلاد من شرها، واليوم مع شديد الأسف وقولنا ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾[البقرة:156]، كثرت الكتب المخلفة لمنهج السلف في هذه البلاد،سابقا ما ترى الكتب حتى في التفسير ما ترى الكتب المخالفة لكتب السلف ما ترى مثل تفسير الرازي وأمثاله، ما ترى كتب السحر ما ترى كتب الصوفية الغلاة، ما ترى كتب أهل البدع، ولكن اليوم كثر ذلك في الناس لأجل أن من الناس منا من اعتاض عن تلك الكتب إلى غيرها من الكتب، وهذا لا شك أنه خصلة من خصال أهل الجاهلية، وسبب من أسباب الضلال، أن يكون عندنا كتاب الله جل وعلا نقي كأنما أنزل الساعة، ويكون عندنا سنة النبي كأن النبي بيننا يحدثنا بها ونترك ذلك إلى غيره من الهذيان وإلى غيره من الأفهام و الأفكار، لا شك من جنس فعل أهل الجاهلية، وهكذا في أصناف كثيرة من الأمة يضيق المقام في استقصائها.
نقف عند هذا الحد نجيب على بعض الأسئلة.
ثم إن هذه المسائل الجاهلية التي خالفهم رسول الله فيها كما ترى هي عزيزة المعاني وهي مهمة جدا في حياتنا اليوم، بل إنه على الشباب والدعاة إلى الله جل وعلا أن يكون في حلقاتهم، وأن يكون في بيان دعوتهم ما يستدلون فيه بكثير من هذه المسائل؛ لأنه إذا بينت للناس أن هذه خصلة من خصال اليهود، خصلة من خصال الجاهلية، بدلائلها وبكلام أهل العلم عليها، ثم بينت أن هذه دخلت في الأمة، يكون هذا من أنفع أبواب الدعوة، ومن أنفع طرقها، وهذه هي الطريقة أو هذه من الطرق السلفية المحمودة في الدعوة؛ دعوة الناس، ولهذا الشيخ رحمه الله اعتنى ببيان هذه المسائل لأن الجميع راغب في أن يكون مجانبا لسنن أهل الجاهلية ولطرائقهم ولخصالهم سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مشركين أو مجوس أو... إلى آخره من الملل و النحل.
فعنايتكم بهذه المسائل فهما واستنباطا، ثم عنايتكم بشرحِ كيف كان عليه أهل الجاهلية ببيان أصل المسألة، ثم صور دخول هذه الخصلة في هذه الأمة، وأنّ هذا مصداقا لقول النبي : «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع» هذا من الأمور التي تعين الداعية على الوصول إلى مبتغاه، وتبين الحق للناس.
أسأل الله الكريم أن يزيدني وإياكم من الهدى والاهتداء، وأن يجعلنا ملازمين لما أنزله الله جل وعلا علينا منابذين لكل ما يخالف ذلك الأصل العظيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
|