الثاني أن تكون شركة مشاعة؛ للشريكان شركة مشاعة، هذا وهذا مشتركان في ملك لا يتميز منه أحدهما عن الآخر، بل هو لهما جميعا.
الله جل وعلا بَيَّن في القرآن أنه لو كان له شريك في الملك -في ملكه- لابتغى إليه سبيلا، قال جل وعلا ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا﴾[الإسراء:52], ولو كان معه آلهة؛ معبودات تستحق العبادة فعلا، ما الذي يلزم من ذلك؟ يلزم أنه لهم نصيبا في ملك الله، بأنه لا يستحق العبادة إلا من يملك النفع والضر (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)، قال ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾[الإسراء:43], ليس مع الله أحد في ملكه، بل هو المتوحد في ملكه، ينتج من ذلك ويلزم أنه هو المستحق للعبادة وحده، لهذا قال له هنا (لا شريك له في عبادته كما أنه ليس له شريك في ملكه)، لهذا يقول العلماء: إن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، الإقرار أن الله عز وجل ليس له شريك في ملكه لا على وجه الاستقلال ولا على وجه الإشاعة؛ شيوع، هذا يلزم منه لزوما أكيدا أن الله جل وعلا وهو واحد في استحقاقه العبادة، لا يستحق العبادة إلا هو، هو وحده المستحق للعبادة لا شريك له, كما أنه هو وحده له الملك لا شريك له، كما جاء في آية الأنعام ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)لَا شَرِيكَ لَهُ﴾[الأنعام:162-163] قد بينت لكم معناها، وأن معناها (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي) لله استحقاقا (وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ) ملكا (لَا شَرِيكَ لَهُ) في عبادته و(لَا شَرِيكَ لَهُ) في ملكه (وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) هذا معنى الآية، وهذا التفسير للشيخ لكلمة التوحيد تفسير ضابط ظاهر.
أيضا قال (وتفسيرُها الذي يُوضِّحُها قوله تعالى ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾[الزخرف:26-28])، قال (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) ماذا قال إبراهيم؟ المقول سيأتي، قال (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) اشتملت كلمته هذه على نفي وإثبات؛ على بُغض ومحبة، فشقها الأول؛ جزؤها الأول نفي وبغض قال(إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) هذا فيه نفي ما دام أنه تبرأ منها في نفي لاستحقاقها العبادة، ومن معنى البراءة البغض، أو معنى البراءة البغض، فاشتمل قوله (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ) على النفي والبغض، ثم أتى بالإثبات والمحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)؛ أُثبت له العبادة، ثم أتى بما يدل على المحبة فقال (إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)، محبة فيها الرجاء. هذه كلمة وهي معنى لا إله إلا الله لأنه اشتملت على براءة وعلى ولاء، اشتملت على بغض و على محبة، اشتملت على نفي وعلى إثبات. قال (وَجَعَلَهَا) يعني تلك الكلمة (كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ) يعني في ولد إبراهيم، ومعلوم أن إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، والأنبياء من بعده جاؤوا لتقرير هذه الكلمة، قال (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يرجو أن يرجع إليها عقبه من بعده، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إليها، أيضا يفسرها قوله تعالى ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾[آل عمران:64], قل -يا محمد- يا أهل الكتاب؛ يا أهل التوراة ويا أهل الإنجيل ويا أهل الزبور، (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) إلى كلمة وسط، كلمة عدل بيننا وبينكم، نعلم أنه قد جاء بها رسولكم، وقد جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ما هذه الكلمة؟ ﴿أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾[آل عمران:64], وجه الاستدلال: أن هذه الكلمة بيننا وبينهم وهي كلمة التوحيد، تفسيرها أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، هذا واضح؛ التفسير لكلمة التوحيد، قال مؤكدا معناها ﴿وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾[آل عمران:64], يعني آلهة من دون الله، لأنهم ما ادعوا في الخلق أنه رب، بمعنى أنه يخلق استقلالا، ويرزق استقلالا، ويحيي ويميت استقلالا، هذا ما اُدعي، وكان تفسير الربوبية هنا بالإلهية، قال ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾[آل عمران:64], آخر الآية يبين أن من ترك ما دل عليه أولها فإنه ليس بمسلم، لأنه قال (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) إذْ خالفناكم، وإذْ لم تذعنوا لهذه الكلمة سواء التي بيننا وبينكم (ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا)، فأنتم لستم من أهل الإسلام.
قال بعد ذلك (ودليل شهادة أن محمدا رسول الله قوله تعالى ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾[التوبة:128])، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ) هذا قسم، اللام هذه هي التي تسمى الموطئة للقسم، دائما تصحب قد؛ (لَقَدْ)، نعلم أن ثم قسما محذوفا: والله لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ، هنا المقسِم هو الله جل وعلا، أقسم بأنه قد جاءكم رسول، وهذا لتأكيد الكلام وتعظيمه بأنفس السامع؛ لأنه أُكد بالقسم، والمقسِم هو الله، والمقسَم به هو الله جل وعلا، على مجيء الرسول لنا من أنفسنا، (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم، من بني جلدتكم، يتكلم بلسانكم وتعقلون عنه، هذا واضح الدلالة على الشهادة بأن محمدا رسول الله، لأن معنى شهادة أن محمدا رسول الله أن تعتقد أن محمدا أرسله الله جل وعلا بدين الإسلام، تعتقد ذلك اعتقادا يصحبه قول وإخبار عنه، وهذه الآية واضحة الدلالة على المراد.
بيّن معنى شهادة أن محمدا رسول الله، قال (ومعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما أمر) هذا التفكير والمعنى بالمقتضى، يعني معناها التي تقتضيه؛ تقتضي طاعته فيما أمر، إذن فمعنى شهادة أن محمدا رسول الله طاعته فيما الأمر، كونك شهدتَّ أنه مرسل من عند الله، معنى ذلك أنه إذا أمرك فإن الآمر هو الله جل وعلا، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داوود وغيره، الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام «ألا إن ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله» إذا اعتقدت أن هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتِ به من عنده وإنما هو رسول, فمعنى ذلك أن تطيعه فيما أمر، هذا مقتضى لكونك شهدت بأنه رسول الله، فإن لم تطعه فيما أمر اعتقادا أنه لا يطاع، كان ذلك تكذيبا لشهادته، فمن قال أشهد أن محمدا رسول الله، وهو يعتقد أنه لا تلزمه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فحاله حال المنافقين؛ شهادته مردودة، كاذب في شهادته، وأما إذا اعتقد أنه تجب عليه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر وخالف لغلبة هوى، فهذا يكون عاصيا قد نقص من تحقيقه لشهادة أن محمد رسول الله بقدر مخالفته.
قال (وتصديقه فيما أخبر) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الغيب وحي من عند الله، ولا يتخرّف عليه الصلاة والسلام، لهذا ما أتى من أخبار الغيبيات، يعني الكلام على الله جل وعلا، أسمائه وصفاته وأفعاله، عن الجنة والنار، عن أخبار الغيب، عن قصص الماضين، هو كله بوحي من الله جل وعلا، فمقتضى أنك شهدت أنه رسول الله أن تصدقه فيما أخبر، وألا يكون في قلبك شك، في أن ما أخبر به حق، وأن كل خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم نقول: عليه الصلاة والسلام فيه صادق. ولو كنا لا نرى ذلك الشيء، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: حدثني الصادق الصدوق. يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمؤمن يصدق رسول الله بما أخبر به، سواء عقل ذلك أو لم يعقله، وسواء أدرك ذلك بنظره أو لم يدركه، فقد كان الصحابة يتناقلون فيما بينهم الأخبار الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى بن مريم عليه السلام سينزل، وكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يقول لأصحابه، ولمن ينقل عنه الحديث من تلامذته، يقول: فإذا لقيه أحدكم فليقرئه مني السلام. تصديق لا يصاحبه شك، إذا كان المؤمن يعتقد أنه رسول الله، فمعنى ذلك أن كل خبر أخبر به فهو حق، بلا شك وبلا ريب عليه الصلاة والسلام.
قال (ومن معناها اجتناب ما عنه نهى وزجر) والأصل في النهي والزجر التحريم؛ لأنها نهي زاجر كما هو مقرر في الأصول، فما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم أو زجر عنه أو حرمه فإنه يجب اجتنابه طاعة له عليه الصلاة والسلام، كما قال جل وعلا ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر:7], وما أتاكم الرسول من الأوامر أو من الأخبار فخذوه امتثالا للأمر وتصديقا بالخبر، وما نهاكم عنه فانتهوا، ما نهاكم عنه يجب عليكم أن تتركوه طاعة لله جل وعلا ولرسوله، وهنا نقول مثل ما قلنا أولا أن من لم يجتنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وزجر، اعتقادا أنه لا يجب عليه الانتهاء، يعني لم يلتزم ذلك، لم يلتزم أنه مخاطب بهذه المنهيات، فهذا قدح في الشهادة، فلا يكون شاهدا بأن محمدا رسول الله، وإن كان يقولها بلسانه، وإن التزم ذلك، قال: نعم، نلتزم بالذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويجب تركه. لكن غلبته نفسه وخالف ذلك قليلا كانت المخالفة أو كثيرا في نفسه أو في غيره، فإن ذلك يكون نقصا في شهادته ومعصية لله ولرسوله.
قال (وألا يعبد الله إلا بما شرع ) يعني لا يُعبد بالبدع والأهواء والمحدثات، وإنما يُعبد الله جل وعلا بالطريق وعلى الطريق التي بينها نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يُعبد الله جل وعلا بالأهواء والآراء والاستحسانات المختلفة، إنما يُعبد الله جل وعلا عن طريق واحدة وهي طريق الرسول صلى الله عليه وسلم بما شرعه هذا الرسول، فإذا اعتقد المسلم ذلك كمُلت له شهادته بأن محمدا رسول الله وصار مسلما حقا.
بعد ذلك قال(ودليل الصلاة والزكاة وتفسير التوحيد قوله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾[البينة:5]) بين أن هذه الأشياء مأمور بها، وهي دليل على أنها من دين الإسلام، ثم ذكر دليل الصيام، ثم ذكر دليل الحج وهذه واضحة ظاهرة.
بهذا يتبين المرتبة الأولى من الأصل الثاني؛ ألا وهي مرتبة الإسلام، وأعظم أركان الإسلام الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يكون معنى الشهادتين واضحا في قلبه، واضحا في ذهنه، فاهما له، بحيث يستطيع أن يعبر عن ذلك بأيسر عبارة وبتنوع العبارة، لأن أعظم ما يدعا إليه ما دلت عليه الشهادتان، فعلى طالب العلم أن يعوّد لسانه على تفسير الشهادتين بتنويع العبارة، وعلى حفظ الأدلة التي فيها معنى الشهادتين، وعلى تفسير ذلك، وإذا دَرَبَ على ذلك، فسوف يرى أنه ستفتح له أبواب بفضل الله جل وعلا وبرحمته بمعرفة التوحيد وحسن التعبير عنه، وأما أن يترك طالب العلم نفسه لفهم ما دلّت عليه، دون أن يمرن نفسه على تأدية المعنى وتعليمه لأهله وللصغار، ولمن حوله ولمن يلقاه ممن لا يعلم حقيقة معنى هذه الكلمة، فإن هذا تضيعه النفس ولا يصدق على فاعله أنه طالب العلم؛ لأن العامي هو الذي يفهم ذلك؛ يفهم ذلك فهما، لكن لا يستطيع أن يعبر عن فهمه بالتعبير العلمي الصحيح، وأما طالب العلم فعليه أن يهتم بأصل الأصول هو تفسير الشهادتين، ومر معنا بعض ما يتصل بتفسيرها.
أسأل الله جل وعلا أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد، وأن يجعل ألسنتنا لاهجة بالثناء عليه وبذكره، وجوارحنا مقيمة على طاعته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
مرتبةُ الإيمانِ: الإيمانُ، وهو بضعٌ وسبعونَ شعبَة، فأعلاها قولُ لا إله إلاّ الله، وأدْناها إماطةُ الأذَى عنِ الطريقِ، والحياءُ شعبةٌ مِنَ الإيمانِ، وأركانُهُ سِتَّة: أنْ تؤمنَ بالله، وملائكَتِهِ، وكتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، وبالقَدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والدليلُ على هذه الأركانِ الستَّةِ قولُه تعالى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة:177], ودليلُ القَدَرِ قوله تعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49].
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قد ذكر المؤلف -رحمه الله وأجزل له المثوبة- أن الأصل الثاني من ثلاثة الأصول العظيمة: هو معرفة دين الإسلام بالأدلة، وذكر أن دين الإسلام مبني على ثلاث مراتب، فالأولى هي مرتبة الإسلام، وبيّن ذلك وفسره, وذكر الأدلة على ذلك, ثم قال رحمه الله (المرتبة الثانية الإيمان وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾[البقرة:177], ودليل القدر قوله تعالى ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾[القمر:49]) انتهى كلامه رحمه الله.
هذه المرتبة الثانية، وهي مرتبة الإيمان، والإيمان أصله:
في اللغة: كما سبق أن ذكرت لكم هو التصديق الجازم، فهو تصديق وجزم.
وفي الشرع: الإيمان قول وعمل واعتقاد, أو نقول الإيمان في الشرع قول وعمل؛ لأن القول هو قول اللسان وقول القلب, والعمل عمل القلب وعمل الجوارح.
فإذا قال من قال من أهل السنة: إن الإيمان قول وعمل. فهو بمعنى من يقول: قول وعمل واعتقاد.
لأن القول ينقسم إلى قول اللسان وقول القلب:
• قول اللسان: هو النطق والإقرار ظاهرا بنطقه.
• وقول القلب: النية.
عمل القلب وعمل الجوارح:
• عمل القلب: أقسامه كثيرة، منها أنواع الاعتقادات، ومنها أنواع العبادات القلبية؛ الخشية والخوف والرجاء، فالعلم أنواع العلميات هذه من أعمال القلب، وكذلك عبادات القلب المتنوعة هذه أعمال قلبية.
• وكذلك عمل الجوارح.
وهذا بمعنى قول من قال: إن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بطاعة الرحمان، وينقص بطاعة الشيطان.
قال أهل العلم إن هذا الإيمان الشرعي هو الذي حصل الابتلاء به، فهو من الأسماء التي نقلت من اللغة إلى الشرع، وصارت حقيقتها الشرعية هو ما وصفت لك من أن الإيمان يشتمل على قول اللسان والعمل بالأركان والاعتقاد وأنه يزيد وينقص.
الإيمان كثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به اللغوي، وكثيرا ما يأتي في القرآن ويراد به الشرعي، بمثل الألفاظ الأخرى كالصلاة فإنها تأتي ويراد بها اللغوي؛ الصلاة اللغوية وهي الدعاء والثناء، ويأتي ويراد بها الصلاة المعروفة ومما ذكره بعض أهل العلم المحققين، ومما ذكره بعض أهل العلم من ذوي التحقيق:
أن الإيمان اللغوي في القرآن كثيرا ما يُعدّى باللام كقوله تعالى ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾[يوسف:17], كقوله ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾[العنكبوت:26], ونحو ذلك من الأمثلة وما سبق أن ذكرت لك.
والإيمان الشرعي المنقول عن أصله اللغوي الذي يراد به العمل والقول والاعتقاد هذا يُعدى كثيرا بالباء ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ﴾[البقرة:285]، إلى آخر الآية قال﴿فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا﴾[البقرة:137], ونحو ذلك من الآيات وكقوله ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾[النساء:136].
هذا الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويراد به تارة الاعتقادات الباطنة، وهو الذي يناسب المرتبة الثانية، لأن المرتبة الأولى هي الإسلام، وهي ما يشمل العمل الظاهر كما جاء في حديث جبريل, فقد جاء في بعض طرقه أنه ذكر عليه الصلاة والسلام لجبريل أن من الإسلام بعد الحج الغُسل من الجنابة، ومنه الذكر، ونحو ذلك مما هو من جنس الأعمال الظاهرة. وأما الإيمان: فهو العقائد الباطنة؛ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.
الشيخ رحمه الله تعالى هنا قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة) وهذا يعني به اسم الإيمان العام الذي يدخل فيه الإسلام؛ لأن الإيمان أوسع من الإسلام، والإسلام بعض الإيمان، وأهل الإيمان أخص مرتبة من أهل الإسلام، لهذا الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، بهذا المعنى ولهذا المعنى قال الشيخ رحمه الله (وهو بضع وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله) ومن المعلوم أن قول لا إله إلا الله أنه أول أركان الإسلام؛ شهادة لله بالتوحيد بقول لا إله إلا الله مع توابع ذلك هذا الركن الأول، فهنا عدَّ قول لا إله إلا الله أعلى شعب الإيمان، وهذا لأن الإيمان يشمل الإسلام وزيادة، وهذا قد جاء مبينا في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قال «الإيمان بضع وستون أو قال بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» فذكر أن أعلى شُعب الإيمان لا إله إلا الله، وقوله شُعب هذا تمثيل للأيمان بالشجرة التي لها شعب ولها فروع، وقد مثل عليه الصلاة والسلام بأعلى الشعب وبأدنى الشعب، ومثّل بشعبة من الشعب، وهذه الثلاث التي ذكرها عليه الصلاة والسلام متنوعة:
• فالأول وهو أعلاها قول: قول لا إله إلا الله.
• وأدناها إماطة الأذى عن الطريق هذا عمل.
• والحياء شعبة من الإيمان، الحياء عمل القلب.
فذكر في هذا قول لا إله إلا الله، وهذا قول باللسان، ولا شك أنه يتبعه اعتقاد بالجنان، وذكر الحياء أيضا وهو عمل بالقلب، وذكر إماطة الأذى عن الطريق وهو عمل الجوارح، فتمثيله عليه الصلاة والسلام لذلك لأجل أن يُستدل لكل واحد من هذه الثلاثة؛ لكل شعبة من هذه الشعب على نظائرها:
فيُستدل بكلمة التوحيد بقول لا إله إلا الله على الشعب القولية.
ويُستدل بإماطة الأذى عن الطريق بالشعب العملية؛ عمل الجوارح.
ويُستدل بذكره الحياء على الشعب القلبية.
وهذا من أبلغ ما يكون من التشبيه والتمثيل، وذلك لأن التنويع -كما نوع عليه الصلاة والسلام- يجعل الناظر يُعدِّي هذا الذي ذكر إلى أمثال تماثلها كثيرة، ولهذا العلماء اختلفوا في شعب الإيمان بِعَدِّها، عَدَّها جماعة وصنفوا فيها مصنفات كما صنف الحليمي كتابه، الشيخ البيهقي كتابه، كتاب الإيمان؛ المنهاج في شعب الإيمان وهو مطبوع، وتلاه على ترتيبه وعلى نصقه البيهقي موسعا داعما بالأدلة في كتابه شعب الإيمان، ونحو ذلك، عدُّوها على اجتهاد منهم، وهذا الاجتهاد يختلف فيه العلماء، فمنهم من يعد خصالا من شعب الإيمان، ومنهم من يعد أخرى، وسبب ذلك اجتهادهم في قياس ما لم يذكر على ما ذكر، فيجعل بعضا منها قولية، ويجعلون بعضا منها عملية، ويجعلون بعضا منها لعبادات القلب، وهم يقسمونها في الغالب أثلاثا: فيجعلون للقوليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون للعمليات نحوًا من خمس وعشرين شعبة، ويجعلون لأعمال القلوب نحوًا من سبع وعشرين أو خمس وعشرين شعبة، يزيدون و ينقصون.
المقصود أن هذا اجتهاد، اجتهاد من العلماء، لكن هذا التمثيل يدل على ما ذكرت لك من استيعابه للأقوال وأعمال الجوارح وأعمال القلوب، إذن فيدخل في هذه الشعب، شعب الإسلام: إقام الصلاة، إيتاء الزكاة، صوم رمضان، الحج، الجهاد، الغسل، الطهارة، ونحو ذلك، يدخل فيها الأعمال الاجتماعية التي أُمر بها؛ صلة الأرحام، بر الوالدين إلى آخره، يدخل فيها أعمال القلوب من الخشية والإنابة والحياء والمحبة والرجاء والخوف والرهب والرغب إلى آخر هذه الأمثلة، فكل هذه من الإيمان ودليل ذلك الحديث الصحيح الذي جاء في الصحيحين.
بعد أن ذكر ذلك قال رحمه الله تعالى (وأركانه ستة أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره) أوضحت لكم في شرح الأربعين النووية تفصيل شرح هذه الأركان، لكن أذكر ذلك باقتضاب, ليكمل الشرح لهذا الكتاب.
الإيمان بالله يشمل: الإيمان بوجود الله؛ بأن الله واحد في ربوبيته, وأنه واحد في إلهيته لاستحقاقه العبادة، أنه واحد في أسمائه وصفاته، يعني ليس كمثله شيء في أسمائه, وليس كمثله شيء في صفاته كما قال تعالى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11]، فبيان قوله أن تؤمن بالله هو شرح التوحيد كله.
قال (وملائكته) الملائكة جمع ملك، وهو المرسل لأن أصلها (مَأْلَكَ) من (أَلَكَ) يعني أرسل رسالة خاصة، أَلَكَ يألك أَلُوكَةً، والمرسل مألك أو مَلْأَك، وأصلها مألك؛ لأنها من أَلَكَ، خُففت الهمزة كما تخفف كثيرا فصارت ملَك، وجمعها ملائكة، لهذا ظهر في الجمع الهمز؛ لأن أصله في المفرد موجود، الملك جمعه ملائكة ظهر الهمز، ومفرد الملائكة ملأك إلى آخره. يعني المرسلون الموكلون بما وكلهم الله جل وعلا به.
هذا الركن من أركان الإيمان تحقيقه يكون بأن يؤمن المسلم بأن لله جل وعلا ملائكة، خلق من خلقه جل وعلا، جعلهم موكلين بتصريف هذا العالم، يأمرهم فينفذون ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾[الأنبياء:26], ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم:6], فمن أيقن أن هذا الجنس من خلق الله موجود، وآمن بذلك، وأن منهم من ينزل بالوحي إلى الرسل، يبلِّغهم رسالات الله فقد حقق هذا الركن من أركان الإيمان، ثم بعد ذلك يكون الإيمان التفصيلي على نحو ما فصلت لكم في شرح الأربعين، يكون الإيمان التفصيلي، وهذا يختلف فيه الناس بحسب العلم، لكن المقصود هنا أن تحقيق هذا الركن من أركان الإيمان يكون بتحقيق ما ذكرت، وبعد ذلك الإيمان بكل ما جاء بالكتاب والسنة من أوصاف الملائكة ومن أحوالهم؛ صفة خلقهم ومقامهم عند ربهم، وأنواع أعمالهم وأعمال ما وكلوا به، فكله من الإيمان التفصيلي، من علم شيئا من النصوص في ذلك وجب عليه الإيمان، لكن تحقيق الركن يكون بالمعنى الأول.
كذلك الإيمان بالرسل، إذا آمن المسلم بأن الله جل وعلا أرسل رسلا؛ بعثهم بالتوحيد، يدعون أقوامهم إلى التوحيد، وأنهم بلغوا ما أمروا به، وأيدهم الله بالمعجزات، بالبراهين والآيات الدالة على صدقهم، وأنهم كانوا أتقياء بررة، بلّغوا الأمانة وأدوا الرسالة. بهذا يكون آمن بالرسل جميعا، ثم يؤمن إيمانا خاصا بمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه خاتم الرسل، وأنه جل وعلا بعثه بالحنيفية السمحة، بعثه بدين الإسلام الذي جعله خاتم الأديان وآخر الرسالات، القسم الثاني الإيمان التفصيلي بالرسل على نحو ما أوضحت لكم، فيه مقامات كثيرة في ذلك, يتبع العلم التفصيلي بأحوال الرسل وأسمائهم وأحوالهم مع أقوامهم وما دعوا إليه وكتبهم ونحو ذلك.
قال بعدها (وكتبه) الكتب قبل الرسل (وكتبه ورسله) الإيمان بالكتب أيضا إيمان إجمالي، يتحقق الإيمان بهذا الركن بأن يؤمن العبد أن الله جل وعلا أنزل كتبا مع رسله إلى خلقه، جعل في هذه الكتب الهدى والنور والبينات وما به يصلح العباد، وأن هذه الكتب التي أُنزلت مع الرسل كلها حق؛ لأنها من عند الله جل وعلا، والله جل وعلا هو الحق المبين، وما كان من جهة الحق فهو حق، ويوقن بذلك يقينا تاما، ثم يوقن ويؤمن إيمانا خاصا بآخر هذه الكتب ألا وهو القرآن، فكما أنه يؤمن بالكتب السابقة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وصحف موسى ونحو ذلك, يؤمن بها إيمانا عاما على ما أنزله الله جل وعلا على أنبيائه ورسله، فإنه يؤمن به إيمانا خاصا بهذا القرآن، وأنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود، وأنه حجة الله على الناس إلى قيام الساعة، وأنه به نُسخت جميع الرسالات وجميع الكتب من قبل، وأنه حجة الله الباقية على الناس، وأن هذا الكتاب مهيمن على جميع الكتب وما فيه مهيمن على جميع ما سبق, كما قال جل وعلا في وصف كتابه ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾[المائدة:48], وأن ما فيه من الأخبار يجب تصديقها، وما فيه من الأحكام يجب امتثالها, وأن من حكم بغيره فقد حكم بهواه, ولم يحكم بما أنزل الله. هذا كله من الإيمان الخاص بالقرآن.
قال بعد ذلك (واليوم الآخر) هذا هو الركن الخامس؛ الإيمان باليوم الآخر يعني الإيمان بيوم القيامة، وتحقيق هذا الركن يكون بأن يوقن هذا العبد يؤمن بغير شك بأن ثَم يوم يعود الناس إليه، يُبعثون فيه وإليه، يحاسبون فيه، وأن كل إنسان مَجْزِيٌّ بما فعل، لأن الأمر ليس منتهيا بالموت، بل ثَم يوم يجتمع فيه الناس فيقتص من الظالم إلى المظلوم ويحاسب الناس على أعمالهم، كما قال تعالى ﴿وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾[الزمر:70], إذا آمن بهذا القدر، وأن هناك يومٌ سيكون، وأنه سيبعث من جديد، فإنه قد حقق هذا الركن. بعد ذلك الإيمان التفصيلي باليوم الآخر هذا يتبع العلم بما جاء في الكتاب والسنة من أحوال يوم القيامة، من أحوال القبور، أحوال ما يكون يوم القيامة، الإيمان بالحوض، بالميزان، الإيمان بالصحف، الإيمان بالصراط، الإيمان بأحوال الناس في العرصات، أحوال الناس بعد أن يجوزوا الصراط يعني المؤمنين الذين يدخلون الجنة، وما يكون بعد أن يجوزوا الصراط، ومن يدخل الجنة أولا، وأحوال الناس في النار ونحو ذلك، أحوال الظُّلمة، أحوال الجسر، هذه كلها أمور تفصيلية لا يجب الإيمان بها على كل أحد، إلا من سمعها في النصوص فإنه يجب عليه الإيمان بما سمع، لكن لو قال قائل: أنا لا أعلم هل ثَمَّ حوض أم لا؟ لا أدري هل ثم ميزان أم لا؟ ونحو ذلك، يُعرف بالنصوص فإن عرف فأنكر وكذَّب فيكون مُكذِّبا بالقرآن وبالسنة، أما تحقيق هذا المقام الذي هو اليوم الآخر، يؤمن بأن ثم يوم يعود فيه الناس، فيجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. فلو سألت أحدا قلت له: هل ثم يوم آخر يعود فيه الناس؟ قال: بلا شك هناك يوم القيامة يُبعث فيه ويحاسب الناس، فيه أهوال. وسكت، بهذا حقق الركن وهو الإيمان باليوم الآخر، إذا سألته هل تؤمن بالحوض؟ قال: أُوشْ الحوض؟ أنا ما أعرف هذا الحوض. هل تؤمن بالميزان؟ أنا ما أعرف. يُعرَّف النصوص الدالة على ذلك, لأن هذا من العلم التفصيلي الذي إنما يجب العلم به بعد إخباره بما جاء في النصوص عليه.
السادس قال (وبالقدر خيره وشره) الإيمان بالقدر، تحقيق هذا الركن أن يعلم ويعتقد؛ يؤمن بأن كل شيء يحدث في هذا الملكوت بخلق الله، قد سبق به قدر، وأن الله جل وعلا عالم بهذه الأحوال وتفصيلاتها بخلقه قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك، وإذا آمن أن كل شيء قد سبق به قدر الله فيكون حقق هذا الركن، والإيمان بالقدر؛ الإيمان الواجب يكون على مرتبتين:
المرتبة الأولى الإيمان بالقدر السابق لوقوع المقدر: وهذا يشمل درجتين:
الأولى العلم السابق: فإن الله جل وعلا يعلم ما كان وما سيكون وما يكون وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، علم الله السابق بكل شيء بالكليات و بالجزئيات، بجلائل الأمور وبتفصيلات الأمور، هذا العلم السابق كما قال جل وعلا في آخر سورة الحج ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ( ) أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾[الحج:70], وقال جل وعلا ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾[الأنعام:59], فبيَّن الله جل وعلا أن علمه بالأشياء سابق، وأنه يعلم كل شيء؛ الكليات والجزئيات، الأمور الجلية وتفاصيل الأمور، هذا العلم الأول، وهذا العلم لم يزل الله جل وعلا عالما به، علمه جل وعلا بهذه الأشياء بجميع تفاصيل خلقه، عِلْمُه بها أَوَّل يعني ليس له بداية.
الدرجة الثانية الكتابة: أن يؤمن العبد أن الله جل وعلا كتب ما الخلق عاملون، كتب أحوال الخلق وتفصيلات ذلك قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وذلك عنده في كتاب جعله في اللوح المحفوظ، كما قال جل وعلا (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) فأثبت أنه في كتاب وقال جل وعلا ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ﴾[القمر:53], يعني قد سُطِّر وكُتِب في اللوح المحفوظ، وقال جل وعلا ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾[الحج:70]، بيّن أن كل شيء إنما هو في كتاب، وهذا قد جاء أيضا في صحيح الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«قدر الله مقادير الخلائق يعني بالكتابة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة».
هاتان الدرجتان في المرتبة الأولى؛ المرتبة الأولى تسبق وقوع المقدر، هذه المرتبة الأولى تحوي درجتين.
المرتبة الثانية أيضا تحوي درجتين وهي تواكب أو تقارن وقوع المقدر:
أولى الدرجتين الإيمان بأن مشيئة الله جل وعلا نافذة: وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لا يكون، فليس ثم شيء يحدث ويحصل في ملكوت الله جل وعلا إلا وقد شاءه الله جل وعلا، وقد أراده الله جل وعلا كونا، سواء في ذلك طاعات المطيعين أو عصيان العاصين، سواء في ذلك إيمان المؤمنين أو كفر الكافرين، فكل شيء يحصل في ملكوت الله إنما هو بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية؛ لأن المشيئة ما تنقسم، التي تنقسم الإرادة, بإذنه ومشيئته وإرادته الكونية، ومشيئة الله إذا أطلقت يُعنى بها الإرادة الكونية، الإرادة تنقسم إلى إرادة كونية وإرادة شرعية، فأما المشيئة فهي مشيئة الله جل وعلا في كونه، هذه الدرجة الأولى هذه تواكب وقوع المقدر، فلا يمكن أن يعمل العبد شيء يكون مقدرا من الله جل وعلا إلا وهذا الشيء قد شاءه الله جل وعلا.
الدرجة الثانية أن يؤمن بأن الله جل وعلا خالق كل شيء: كل شيء مخلوق الله جل وعلا خالقه؛ أعمال العباد، أحوال العباد, السماوات، الأرض، من في السماوات ومن في الأرض, ما في السماوات وما في الأرض, الجميع الذي خلقه هو الله جل وعلا، فإذا أراد العبد أن يعمل شيئا فإنه لا يكون إلا إذا شاءه الله جل وعلا, وخلق الله جل وعلا ذلك الشيء، طاعات المطيعين خلقها الله جل وعلا، عصيان العاصين خلقه الله جل وعلا، إذا توجه العبد بإرادته إلى أن يفعل شيء إذا شاءه الله كونا وقع بعد خلقه له، إذا لم يشأه ولو أراده العبد لم يقع، كما قال جل وعلا ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[التكوير:29]، قال ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾[الإنسان:30]، مرتبة الخلق عامة.
إذن هذا الإيمان الواجب يصح أن نقول أنه إيمان تفصيلي، مرتبة قبل وقوع المقدر، العلم الأزلي؛ العلم الأول، والكتابة التي هي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم ما يواكب وقوع المقدر وهو أنّ العبد عنده إرادة وعنده قدرة؛ إذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقدرة التامة حصل منك الفعل، توجهت إلى الفعل حصل منك الفعل لكن لا يحصل منك إلا بعد أن يشاء الله جل وعلا ذلك منك، وإلا بعد أن يخلق الله جل وعلا ذلك الفعل منك، الفعل فعل العبد حقيقة، لكن الخالق لهذا الفعل هو الله جل وعلا، لما؟ لأن من العبد لا يكون إلا بإرادة جازمة وبقدرة تامة، والإرادة والقدرة قد خلقها الله جل وعلا، الله جل وعلا خلق ما به يكون الفعل ويخلق الفعل نفسه إذا توجه إليه العبد.
فحصل بهذا الإيمان التفصيلي الواجب بالقدر.
وبهذا البيان تتضح لك أركان الإيمان الستة؛ الإيمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.
قال الشيخ بعد ذلك رحمه الله (والدليل على هذه الأركان الستة قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ)-يعني الذي يُمدح أصحابُه- (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ) النبيين يعني الرسل، وهنا ذكر الخمسة هذه، آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين فهذه الآية دليل على خمسة من أركان الإيمان، وكثيرا ما تأتي هذه الخمسة مقترنة كقوله جل وعلا في آخر سورة البقرة ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، ذكر الأربعة ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾[البقرة:285]، وكقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾[النساء:136]، وكقوله جل وعلا ﴿الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا(150)أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾[النساء:150-151]، ونحو ذلك من الآيات، وقد جاءت أيضا في حديث جبريل المشهور.
بقي القدر، القدر أدلته في القرآن أدلة عامة بذكر القدر، وأدلة مفصلة لكل مرتبة من مراتب القدر، فمن الأدلة العامة ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى وهو قوله تعالى (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) وجه الاستدلال: مجيء (كُلَّ شَيْءٍ) يعني ليس ثم مخلوق من مخلوقات الله إلا وقد خلق بقدر سابق من الله جل وعلا، لا يخرج شيء عن هذه الكلية (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) و(كُلَّ) من ألفاظ الظهور في العموم، ومنه قوله تعالى ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾[الفرقان:2]، وكل دليل فيه ذكر مرتبة من المراتب التي ذكرت يصلح دليلا على القدر لأنه دليل لبعضه.
هذا ما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في بيان المرتبة الثانية من مراتب الدين ألا وهي مرتبة الإيمان.
المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل:128], وقولُهُ تعالى ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الشعراء:217-220], وقولُهُ تعالى ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾[يونس:61] الآية.
المرتبة الثالثة الإحسان قال(المرتبةُ الثالثةُ: الإحسانُ، ركنٌ واحدٌ، وهو أنْ تعبدَ اللهَ كأنَّك تَراهُ فإنْ لم تكنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ، والدليلُ قولُهُ تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل:128], وقوله تعالى ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ(219)إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾[الشعراء:217-220], وقوله تعالى ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيه وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍِ﴾[يونس:61])
الإحسان الذي هو مرتبة من المراتب؛ إحسان العابد أثناء عبادته؛ وهو مقام المراقبة؛ مراقبة العابد لله جل وعلا؛ لربه جل وعلا أثناء عباداته، بل في أحواله كلها، لأنه إذا راقب ربه، بأنه قد علم أن الله جل وعلا مطلع عليه، كأنه يرى الله جل وعلا، فإن هذا يدعوه إلى إحسان العمل، وأن يجعل عمله أحسن ما يكون، وأن يجعل حاله في إقبال قلبه، وإنابته، وخضوعه، وخشوعه، ومراقبته لأحوال قلبه، وتصرفات نفسه، يجعل ذلك أكمل ما يكون لحسنه وبهائه، لأنه يعلم أن الله جل وعلا مطلع عليه.
هذا المقام -مقام المراقبة- ركن واحد، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. أن تكون عابدا لله على النحو الذي أمر اللهُ جل وعلا به وأمر به رسولُه، وحالتك أثناء تلك العبادة التي تكون فيها مخلصا موافقا للسنة، حالتك أن تكون كأنك ترى الله جل وعلا، فإن لم تكن تراه، فلتعلم أن الله جل وعلا مطلع عليك، عالم بحالك، يرى ويبصر ما تعمل، يعلم ظاهر عملك وخفيه، يعلم خلجات صدرك، ويعلم تحركات أركانك وجوارحك. وبضعفه تضعف المراقبة لله جل وعلا، إذن فمقام الإحسان -مرتبة الإحسان- تعظم بعظم مراقبة الله جل وعلا، وتضعف بضعف مراقبة الله جل وعلا، فالعبد المؤمن أثناء عبادته إذا كان يعبد الله جل وعلا مخلصا على وَفق السنة، وحاله كأنه يرى الله عالم بأنه مطلع عليه يراه، هذه تجعله يحسن عمله، بل يجعل عمله وحاله أثناء العمل أحسن ما يكون.
(والدليل قوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل:128]) وجه الاستدلال أن الله جل وعلا ذكر ها هنا معيته للذين اتقوا ولمن هم محسنون قال (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) وهذه المعية تقتضي في هذا الموضع شيئين:
الأول: أنه جل وعلا مطلع عليهم، عالم بهم، محيط بأحوالهم، لا يفوته شيء من كلامهم، ولا من أحوالهم، ولا من تقلباتهم.
والثاني: أنه جل وعلا معهم ناصر لهم بتأييده، ونصره وتوفيقه, المعية ها هنا معية خاصة بالمؤمنين، ومعلوم أن المعية الخاصة للمؤمنين تُفسر بما تقتضيه، وهو أنها معية نصر وتأييد وتوفيق وإلهام ونحو ذلك، وهذا متضمن للمعية العامة، وهي معية الإحاطة والعلم ونحو ذلك.
إذن وجه الاستدلال:
أولا: أنه ذكر المعية.
الثاني: أنه ذكر معيته للمحسنين فقال (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) والمحسنون ها هنا جمع المحسن، والمحسن اسم لفاعل الإحسان، ففاعل الإحسان اسمه محسن، والإحسان هو الذي نتكلم عليه؛ المرتبة الثالثة.
فإذن وجه الاستدلال من جهتين: أولا ذكر المعية، الثانية ذكر المحسنين.
(وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(217)الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وجه الاستدلال من هذه الآية أنه ذكر رؤية الله جل وعلا لنبيه حال عبادة نبيه، وأنه يراه في جميع أحواله حين يقوم وتقلَّبَه في الساجدين من صحابته أثناء صلاته بهم عليه الصلاة والسلام؛ قال واصفا نفسه جل وعلا (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وهذا دليل الشق الثاني من ركن الإحسان وهو قوله (فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، دليل الرؤية ها هنا قوله (الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ(218)وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني في المصلين.
قال أيضا (وقوله تعالى ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾[يونس:61]) وجه الاستدلال قوله تعالى هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) وشهود الله جل وعلا بما يعمله العباد من معانيه رؤيته جل وعلا لهم وإبصاره جل وعلا بهم، رؤيته جل وعلا من معانيه كونه جل وعلا شهيدا، قال جل وعلا هنا (إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) هذا الاستدلال ظاهر؛ لأن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تراه فإنه يراك.
قال جل وعلا هنا (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) أي شأن تكون فيه (وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ) أنواع تلاوتك للقرآن، وأحوال ذلك في الصلاة، خارج الصلاة، وأنت على جنبك، وأنت قائم، أحوال ذلك (وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ) أحوال عملكم، كل ذلك منكم الله جل وعلا شهيد عليه، يرى أحوالكم فيه على تفصيلاتها، شاهد وشهيد عليكم، يرى أعمالكم، يسمع كلامكم، ويبصر أعمالكم جل وعلا، وهذا دليل أيضا ظاهر الاستدلال.
والدليلُ مِنَ السُّنَّة حديثُ جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه قال: بينما نحن جُلوسٌ عند رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذا طلع علينا رجلٌ شديدٌ بياضِ الثياب، شديد سوادِ الشَّعر، لا يُرى عليه أثَرُ السَّفر، ولا يعرفه مِنَّا أحد، حتّى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاسند رُكبَتَيْه إلى رُكبَتَيْه، ووضع كَفَّيْه على فخذيه، وقال: «يا مُحَمَّدُ؛ اَخْبِرْنِي عَنِ الإسلام» فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « الإِسْلاَمُ أن تَشْهَدَ أَن لا إلَهَ إلاَّ ا لله، وَأَنَّ مُحَمَدََا رَسُولُ ا لله، وَتُقِيمَ الصَلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اِسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا»، قال: «صَدَقْتَ». فعجبنا له: يسأله ويُصَدِّقُه ! قال: «فأخبرني عن الإيمان ؟»، قال:«أنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُِلهِ وَاليَوْمِ الآخِرْ،وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرَّهِ»، قال: «صدقت». قال: «فأخبرني عن الإحسان؟» ، قال: «أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهْ فَإِِنَّهُ يَرَاكْ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ السَّاعة؟» قال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ». قال: «فََأَخْبِرِْني عَنْ أَمَارَاتِهَا ؟» قال: «أَنْ تَلِِدَِِ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاَةََ الْعُرَاةَ الْعَالَةََ رِعاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ». ثُمّ انْطَلَق. فَلَبِثتُ مَلََََََََِيا، ثم ّ قال:« يَا عُمَرُ, أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قلت: الله ورسوله أعلَم، قال: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ, أَتَاكُمُ يُعَلِمُكُمْ ِدينَكُمْ ».
ثم ذكر رحمه الله الدليل من السنة، وهو حديث جبريل المشهور عن عمر رضي الله عنه، وهو الذي شرحناه في الأربعين النووية، وهو ثاني الأحاديث النووية الأربعين، وبهذا يتم ذكر الأصل الثاني من أصول دين الإسلام، ألا وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة.
ملخص ذلك: ذكر الشيخ أن الأصل؛ الأصل الثاني معرفة دين الإسلام بالأدلة، عرّف الإسلام، وذكر أركانه، وذكر معنى الشهادتين، معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فسّر التوحيد وأدلة ذلك شهادة أن محمدا رسول الله، وبين معنى الشهادة بأن محمدا رسول الله، ثم بين أدلة أركان الإسلام الباقية، ثم ذكر المرتبة الثانية وهي الإيمان كما ذكرنا لكم هذا اليوم، ثم ذكر المرتبة الثالثة وهي الإحسان، ودلائل ذلك كله على نسق ووضوح يسهل معه الفهم ويسهل معه الإفهام.
ولهذا ينبغي لنا أن نحرص على هذه الرسالة؛ تعليما لها للعوام، وللنساء في البيوت، وللأولاد ونحو ذلك، على حسب مستوى من يخاطب في ذلك، وقد كان علماؤنا رحمهم الله تعالى يعتنون بثلاثة الأصول هذه تعليما وتعلما، بل كانوا يلزمون عددا من الناس بعد كل صلاة فجر أن يتعلموها، أن يحفظوا هذه الأصول ويتعلموها، وذلك هو الغاية في رغبة الخير، ومحبة الخير لعباد الله المؤمنين، إذْ أعظم ما تُسدي للمؤمنين من الخير، أن تُسدي لهم الخير الذي ينجيهم حين سؤال الملكين للعبد في قبره، لأنه إذا أجاب جوابا حسنا -جوابا صحيحا- عاش بعد ذلك سعيدا، وإن لم يكن جوابه مستقيما ولا صحيحا عاش بعد ذلك، والعياذ بالله على التوعد بالشقاء والعذاب.
أسأل الله جل وعلا أن يُنَوِّر بصائرنا، وأن يقينا الزلل والخطل، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الأصلُ الثالثُ: معرفةُ نبيكُمْ محمدٍ صلى الله عليه وسلم: وهو محمدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عبدِ المطلبِ بنِ هاشمٍ، وهاشمُ مِنْ قريشٍ، وقريشٍ مِنَ العربِ، والعربُ مِنْ ذرّيّةِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ الخليلِ، عليْهِ وعلى نبيّنا أفضلُ الصَّلاةِ والسّلامِ، وله مِنَ العُمْرِ: ثلاثٌ وسِتُّونَ سنةً، منها أربعون قبل النُّبُوَّةِ، وثلاثُ وعشرون نبيّا رسولا، نُبِّئَ بِـ (اقرأ) وأُرْسِلَ بـ(المدّثر)، وبلدُهُ مكّةَ، وبعثَهُ اللهُ بالنَّذَارَةِ عنِ الشِّركِ، ويدعُو إلى التَّوحيدِ، والدليلُ قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ(3)وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ(4)وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ(6)وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾[المدثر:1-7] ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) يُنْذِرُ عنِ الشِّركِ ويدعُو إلى التَّوحيدِ، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي: عَظِّمْهُ بالتَّوحيدِ، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي: طَهِّرْ أعمالَكَ عنِ الشِّركِ، (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرُّجْزُ: الأصنامُ، وهجرُها تَرْكُها وأهلَها، والبراءَة منها وأهلِها.
أخذَ على هذا عشْرَ سِنينَ يدعُو إلى التوحيدِ، وبعدَ العشْرِ عُرِجَ به إلى السماءِ وفُرِضَتْ عليه الصلواتُ الخمسُ، وصلَّى في مكّةَ ثلاثَ سنينَ، وبعدَها أُمِرَ بالهجرةِ إلى المدينةِ.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حق الحمد وأعلاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فبقي من هذه الرسالة ما يحتاج شرحه إلى أكثر من مجلس، ولهذا رغبة في إتمامها قبل انقضاء هذه الدروس، فإننا غدا إن شاء الله تعالى سيكون هناك درس فيها فقط لمدة ساعة إلا ربع تقريبا، وكذلك إن لم نُتِمَّها غدا سيكون أيضا يوم الخميس بعد العصر مباشرة في قريب من تلك المدة، لأن إلمام مثل هذه الرسالة، وعدم إرجاء الإنهاء إلى وقت آخر من المهمات، ولهذا قد يكون الكلام فيه بعض الاختصار، ليس على نسق أوله للرغبة في إنهاء ما تبقى إن شاء الله تعالى ويَسَّرَ وأَعانَ.
قال رحمه الله تعالى (الأصل الثالث معرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم) الأصل الأول: معرفة العبد ربه يعني معبوده، والأصل الثاني: معرفة دين الإسلام بالأدلة، والأصل الثالث: معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد ها هنا بالمعرفة العلم به على نحو ما أوضحت لكم في الكلام على الأصل الأول، فمعرفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم معناه العلم به وبحاله؛ العلم بنسبه، وأنه من العرب، بل من أشرف العرب قبيلةً، وأنه كان في عمره له كذا وكذا، نبئ وأرسل، قام داعيا يدعو إلى التوحيد، وينذر عن الشرك، وما يتصل بذلك من المباحث.
فحقيقة هذا الأصل العلم ببعض سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا العلم متعلق لتكون الشهادة بأن محمدا رسول الله على علم ومعرفة، فإنه إذا قال أشهد أن محمدا رسول الله، فإذا قيل له من محمد هذا؟ فلم يعرفه، كانت شهادته مدخولة، ولهذا فإن معرفة هذا الأصل يكون به الجواب بتوفيق الله على سؤال القبر الثالث؛ ألا وهو من نبيك؟ يشهد المسلم أن محمدا رسول الله، لكن هذه الشهادة يتبعها أن يكون عالما وعارفا بمحمد هذا من هو عليه الصلاة والسلام.
فقال رحمه الله تعالى موضحا هذا الأمر (وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم) تسميته عليه الصلاة والسلام بمحمد:
• قال طائفة من أهل العلم: لم يُسمّ قبله عليه الصلاة والسلام في العرب أحد بهذا الاسم، وإنما كانت العرب تسمي أحمد، وتسمي حَمْد، وكل ذلك مشتق من الحمد، يعني رغبة في أن يكون هذا الولد من ذوي الحمد، يعني ممن يحمده الناس على خصاله.
• وقال آخرون: بل العرب تَسَمَّت بمحمد، لكن قليل، إمّا اثنان أو ثلاثة، وهذا الثاني صحيح، إن صح النقل عن أهل التاريخ بتسمية أولئك النفر بمحمد، ممن هم في عصره عليه الصلاة والسلام، أو قبل ذلك بقليل.
محمد معناه كثير الخصال التي يستحق عليها الحمد، فذو العرش محمود وهذا محمد؛ ذو العرش الله جل وعلا صفاته وأفعاله وأسمائه كلها يُحمد عليها؛ يُثنى عليه بها، وتسمية المولود بمحمد تسمية جد النبي عليه الصلاة والسلام له بمحمد، على رجاء أن يكون من أهل خصال الخير، التي يكثر من أجلها حمد الناس له عليها، وهذا كان وصار ظاهرا، فإنه عليه الصلاة والسلام خصاله كلها, وصفاته كلها يُحمد عليها, لأن خصاله عليه الصلاة والسلام خير, حتى ما كان منه قبل البعثة قبل النبوءة وقبل الرسالة. وقد كان كثير صفات الخير, فإذن التسمية بمحمد تسمية من قبيل التفاؤل, كانت العرب تعرف ذلك, كانوا يسمون خالدا تفاؤلا بأن يكون من أهل المكث الطويل في الدنيا؛ يعني من أهل الأعمار الطويلة, كانوا يسمون عاصيا تفاؤلا بأن يكون على أعدائهم من ذوي العصيان, كانوا يسمون صخرا ليكون شديدا كالصخر على أعدائهم... وهكذا, فكثير من العرب إذا سموا رأوا المعنى, وتسمية النبي عليه الصلاة والسلام لوحظ فيها ذلك, على رجاء أن يكون عليه الصلاة والسلام أن يكون كثير الصفات التي يحمد عليها, وكان ما أمّله جده في تسميته بمحمد, أمّل ما أمّله، فأعظم ذلك أنه كان عليه الصلاة والسلام رسولا منزلا من عند الله جل وعلا.
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي, وقريش أفضل العرب وصفوتهم, فأفضل قبائل العرب قريش, وهذا كما جاء في الحديث «إن الله اصطفى قريشا من كنانة», وأفضل قريش بنو هاشم, وأفضل بني هاشم محمد عليه الصلاة والسلام, فكما جاء في الحديث الصحيح قال بعد ذلك «فأنا خيار من خيار من خيار». قريش من العرب, والمراد بالعرب العرب المستعربة, لأن العرب قسمان عند أهل النسب:
عرب عاربة: وهؤلاء انقرضوا إلاّ قحطان في اليمن.
وعرب مستعرِبة: وهم الذين لم يكونوا أصلا من العرب, لكنهم دخلوا وصاروا عربا بانفتاق لسانهم عن العربية, وبتكلمهم بالعربية, وأكثر قبائل العرب من هذا الجنس؛ العرب المستعربة وهم العرب، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:«أول من فُتِق لسانُه بالعربية الفصحى إسماعيل عليه السلام» وذلك كما هو معلوم أن إسماعيل لما أتى به أبوه إبراهيم, وأتى بأمه وجعله في مكة, ناسب العرب فصار مُلْهَما من عند الله جل وعلا بالانفتاق؛ بانفتاق اللسان عن العربية الفصحى, وهذا كما جاء في الحديث على أن كثير من أهل النسب ينازعون في هذا الأخير.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل) يعني أن قبائل العرب, القبائل المعروفة؛ قريش, وهذيل, بنو تميم, بنو دوس إلى آخره، أن هؤلاء جميعا من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام, النسَّابون يصلون بالنسب تارات بأنساب القبائل إلى إسماعيل, ولكن المعروف عند العرب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقبله, أنهم يمكنهم وصل أنسابهم إلى عدنان, وأما بعد ذلك إلى إسماعيل فإنه لا يثبت ولا يمكن التصديق به.
العرب كثيرون، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث من العرب كما قال جل وعلا ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ﴾[التوبة:128] (مِنْ أَنفُسِكُمْ) يعني من جنسكم, من قبائلكم من جنسكم العربي، ﴿عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ﴾[التوبة:128] وقال جل وعلا ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾[آل عمران:164]، ونحو ذلك من الآيات, فإذن النبي عليه الصلاة والسلام ابنٌ لعبد الله, وهو والده الأدنى, وابن لإسماعيل بن إبراهيم, وهو والده الأعلى، وهذان وهما عبد الله وإسماعيل هما الذبيحان, فقد جاء في حديثٍ ضعيف السند لكنه صحيح المعنى, أنه قال «أنا ابن الذبيحين» المراد بالذبيحين عبد الله لأنه كما تعلمون قصة أبيه لما استقصم فنذر أن يذبح إن خرج....( ) فنذر أن يذبح ولده, ثم حصل قصة ما هو معروف فصار ذبيحا, يعني قد كاد أن يذبح، إسماعيل كذلك, فهو الذي جاء فيه قول الله جل وعلا ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾[الصافات:102] وهذا هو الصحيح, فإن الابن الذي استسلم لأبيه, صابرا, محتسبا, مطيعا, لأبيه ومطيعا لربه جل وعلا, هو إسماعيل أبو العرب.
واليهود تزعم أن الذبيح هو إسحاق, وهذا باطل, ذلك لأن الله جل وعلا قال في سورة الصافات هذه ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ(101)فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾[الصافات:101-102]، فوصف هذا الابن بأنه حليم, وهذا الوصف بالحلم في القرآن لإسماعيل عليه السلام, وأما إسحاق فإنه يوصف بأنه عليم؛ قال (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ) هذا من صفة إسماعيل, ولهذا في هذه الآيات بعدها قال ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾[الصافات:113] فبشّر إسحاق بعد ذلك, فالصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو ابن الذبيح عبد الله والده الأدنى، وهو ابن الذبيح إسماعيل والده الأعلى, وأما القول بأن الذبيح إسحاق, فإن هذا باطل, وإنما دسه اليهود في المسلمين, حتى كثُر في كتب التفسير, حتى يأخذوا هذا الفخر وهو أن إسحاق عليه السلام هو الذي صبر, واحتسب واستسلم وابتلي بهذا البلاء العظيم.
قال (والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام) الخليل هو إبراهيم كما قال جل وعلا ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾[النساء:125]، ووُصف بالخُلَّة إبراهيم ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم, فإبراهيم هو خليل الله, وموسى كليم الله, وأمّا محمد عليه الصلاة والسلام نبيُّنا فإنه اجتمع فيه الوصفان اللذان خُصَّ بهما إبراهيم وموسى, فهو خليل الله, كما أن إبراهيم خليل الله, وهو كليم الله, كما أن موسى كليم الله, كلّمه الله جل وعلا ليلة المعراج.
قال هنا (وله من العمر ثلاث وستون سنة) يعني من مبدأ ميلاده إلى وفاته عليه الصلاة والسلام عمره ثلاث وستون سنة, ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل, العام المعروف, وعاش أربعين سنة, ثم بعد ذلك نُبئ وبعدها أُرسل, ولما مضى عليه بعد ذلك عشر سنين عرج به كما ذكر, وبعد ذلك بثلاث سنين ترك مكة إلى المدينة مهاجرا, فصار عمره إذن حين الهجرة ثلاثا وخمسين سنة, ومكث في المدينة عشرة أعوام وأشهر, وصار عمره ثلاثا وستين سنة عليه الصلاة والسلام، فصَّل ذلك فقال (منها أربعون قبل النبوة) النبوّة تسبق الرسالة, (أربعون قبل النبوة, وثلاث وعشرون نبيا رسولا) قال بعض أهل العلم: أنه عليه الصلاة والسلام مكث ثلاث سنين نبيا, ثم عشرون سنة نبيا رسولا, لأنه كما قال الشيخ هنا (نبئ بـ(قرأ) وأرسل بـ (مدثر)) قال (أربعون قبل النبوة) ثم قال(نبئ) وهذان لفظان مختلفان الأول النبوة, والثاني قال نُبئ، نبئ من النبوءة بالهمز، ونُبِّيَ من النبوة, وفرق بين النبوة والنبوءة, وفرق بين النبي والنبيء لغة, أما من حيث الشرع فالنبي والنبيء واحد, وهما قراءتان مشهورتان سبعيتان متواترتان بالقرآن كله ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ﴾[التحريم:01]، القراءة الأخرى ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ﴾[التحريم:01]، والنبيين, والقراءة الأخرى والنبيئين ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾[الأحزاب:01]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ اللَّهَ﴾[الأحزاب:01]، قراءتان مشهورتان, أشهر من يقرأ بالنبي عاصم وأشهر من يقرأ بالنبيء نافع، النبوة من الارتفاع, كأنه صار في نَبْوَة من المكان, يعني في مرتفع منه, وسبب هذا الارتفاع الإنباء, والنبوءة من الإنباء أنبأه فصار نبيئا, يعني منبئا قال (نبئ بإقرأ) هذا من الإنباء، (نُبِّيَ بإقرأ ) لا يصلح؛ لأن نبي من الارتفاع, ليس من الإنباء والإخبار والإيحاء, نبي من الارتفاع فيقال: نبوة فإذا أردت الفعل تقول نبئ، أنبئ لأنه من الإنباء فإذن نقول يأيها النبي، السلام على النبي ورحمة الله وبركاته، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, لأنه صار مرتفعا عن غيره من أهل الأرض بما أوحى الله جل وعلا إليه, أو النبوءة وهي التي هنا قال (نبئ ) بمعنى أوحي إليه منبئا به، نبئ بإقرأ، قبل ذلك قال (ثلاث وعشرون نبيا رسولا)يعني يريد بعضا منها نبيا, وبعضا منها نبيا رسولا.
مرّ معنا الفرق بين النبي والرسول, وأن النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين, معلوم أنه إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه, أن هذا على سبيل الوجوب, لكن قد يبلغ ولا يكون التبليغ واجبا عليه, فالنبي هو من أوحي إليه بشرع, يعني بدين, وأمر بتبليغه أو لم يؤمر بتبليغه. إذا قلنا لم يؤمر بتبليغه يعني وجوبا, وقد يبلغ ذلك استحبابا, فالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يرسل بالمدثر بلغ ما أوحى الله جل وعلا إليه, بلغه خاصته كأبي بكر, وكخديجة, ونحو ذلك. وهذا التبليغ على التعريف ليس على سبيل الوجوب, بل هذا من جهة الاستحباب, لأن هذه فترة النبوة, فإذا كان تعريف النبي هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه, يعني وجوبا, أو أمر بتبليغه لقوم موافقين فإنه يكون تبليغه فيما لو بلغ يكون على وجه الاستحباب, ليس على وجه المطالبة من الله جل وعلا له بذلك, وقد يطالَب؛ يؤمر بتبليغه، فإذا أمر بتبليغه لقوم يخالفونه, لقوم مشركين, فإنه يكون ذلك الأمر إرسالا, ولهذا قال (نُبِّئَ بِـ(اقرأ)) قال جل وعلا بسم الله الرحمن الرحيم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾[العلق:01] كما هو معروف في حديث عائشة المشهور أنها قالت -وهذا في أول الصحيح-: أول ما بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم حُبِّبَ إليه الخلاء فكان يتحنث؛ أي يتعبد الليالي ذوات العدد. وساقت خبر إتيانه بالوحي, ورجوعه إلى خديجة, وما حصل في ذلك. فنبئ باقرأ جاءه الوحي, فقال«ما أنا بقارئ»، قال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ» ظنّ عليه الصلاة والسلام أن جبريل يريد أن يقرأ شيئا مكتوبا, فقال: «ما أنا بقارئ»، يعني لست من أهل القراءة, خلافا لما قد يظن, أو ما حمل عليه بعضهم أن قوله «ما أنا بقارئ»، لست بقارئ يعني لن أقرأ, ولم يرفض هذا الطلب عليه الصلاة والسلام, لكن قال «ما أنا بقارئ»، يعني لست بقارئ, لست من أهل القراءة, لأنه لا يقرأ ولا يكتب عليه الصلاة والسلام, فقال له مرة أخرى: اقرأ. قال: «ما أنا بقارئ»، ثم جاءه في الأخيرة ككل مرة غطّه, ثم قال ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾[العلق:1-4]، فنزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من غار حراء الذي كان يتحنث فيه يرجف بها فؤادُه, حتى أتى خديجة, فقصّ عليها الخبر، فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبدا, إنك لتحمل الكلّ, وتعين على نوائب الدهر, وتصل الرحم. أو كما قالت، ثم قالت لورقة بن نوفل ما قاله لها عليه الصلاة والسلام، وقص عليه -عليه الصلاة والسلام- الخبر, فقال: هذا والله هو الناموس الذي كان يأتي موسى. الناموس يعني ملك الوحي الذي كان يأتي موسى ليتني كنت فيها -يعني في مكة- حيا, إذ يخرجك قومُك، قال: أو مخرجي هم؟ قال: لم يأتِ أحد بمثل ما جئت به إلا عُودي. فما لبث ورقة أن توفي وفتر الوحي. أو كما جاء في الحديث, حديث عائشة المعروف المخرج في الصحيحين, وهو في أوائل صحيح البخاري.
(نبئ بـ(اقرأ)) فمكث فيها مدة, وهذه المدة فتر فيها الوحي, ثم بعد ذلك أرسل بالمدثر, أنزل الله جل وعلا عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ﴾[المدثر:1-2]، فصار الواجب هنا الإنذار, والإنذار يكون كما سيأتي, يكون لقوم وقعوا في شيء ينذرون عنه، فصار هذا علامة على الرسالة، (قُمْ فَأَنذِرْ) أنذر من؟ جاء مبينا في الآية الأخرى حيث قال ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾[الشعراء:214]، هذه كانت بداية الإرسال وبداية الإنذار عليه الصلاة والسلام.
(وأُرسِل بـ(المدثر))؛ أرسل يعني صار رسولا بنزول أول سورة المدثر عليه.
(وبلده مكة) هو من أهل مكة عليه الصلاة والسلام؛ فقد كان يقول في مكة «إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت منك» بلده مكة، وكان عليه الصلاة والسلام يحبها، وذكر لما هاجر إلى المدينة أو قبل ذلك -وَهْمٌ مني الآن- قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما لقيته إلا سلَّم علي» كانت أحجار مكة تحبه عليه الصلاة والسلام، وهذا الحجر بخصوصه أنطقه الله للسلام عليه، عليه الصلاة والسلام قال: «إني لأعرف حجرا بمكة ما مررت عليه إلا سلم علي» يعني بصريح السلام: السلام عليك يا رسول الله.
(وبلده مكة) وهذه البلد هي التي نبئ فيها، وهي التي أرسل فيها، وهي التي بها عشيرته وقومه وأهله وقرابته، وبعثه الله جل وعلا ينذر ويبشر ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ(1)قُمْ فَأَنذِرْ﴾[المدثر:1-2]، أوضح الشيخ هنا قال (بعثه الله بالنذارة عن الشرك يدعو إلى التوحيد)، (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن أي شيء؟ ينذر عن الشرك ، يخوّف، الإنذار إعلامٌ فيه تخويف عن شيء يمكن تداركه، لكن وقت تداركه يطول بخلاف الإشعار، هناك عندنا ثلاثة ألفاظ: إعلام، إنذار، إشعار:
الإعلام: مجرد إيصال العلم؛ خبر.
الإنذار: إعلام فيه تخويف، وهناك فترة يمكن تصحيحها.
الإشعار: إعلام فيه تخويف، لكن مدة استدراكه قليلة كما قال الشاعر:
قبل الصباح فقد عصى عمرُو أنذرتَ عمرا وهو في مَهَل
فدل على أن الإنذار يكون بعده مدة يمكن الاستدراك بها، (ينذر عن الشرك) أيضا يخوف من النار، يخوف من عذاب الله، يخوف من سخط الله كما قال جل وعلا ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾[فصلت:13] فإذا الإنذار يكون عن الشرك، وعما يكون عقابا لأهل الشرك من أنواع العقوبات، في الدنيا بالهلاك والاستئصال، وفي الآخرة بالعذاب والنكال، (بعثه الله بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) الإنذار والنهي عن الشرك مقدم هنا، قدمه على الدعوة إلى التوحيد، وهذا التقديم هو المفهوم من كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وهو المفهوم من قوله تعالى (قُمْ فَأَنذِرْ(2)وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)، (قُمْ فَأَنذِرْ) يعني أنذر عن الشرك، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)كما سيأتي معناه، أن معناه عظمه بالتوحيد، فإذن قال (بالنذارة عن الشرك ويدعو إلى التوحيد) هو معنى لا إله إلا الله، ذكر العلماء أن ثمَّ مناسبة ها هنا وهي أن الإنذار عن الشرك هذا فيه تخلية، والدعوة إلى التوحيد تحلية، ومن القواعد المقررة أن التَّخْلِيَة تسبق التَّحْلِيَة، لهذا النهي عن الشرك والإنذار عن الشرك إخراج لكل ما يتعلق به القلب؛ لأنه قال لا يتعلق القلب بأي أحد من هذه الآلهة، ثم إذا خلا القلب من التعلق بأحد، أمره بأن يتعلق بالله جل وعلا وحده دون ما سواه.
قال هنا (والدليل قوله تعالى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) الْمُدَّثِّرُ هو المتغطي؛ المتدثر بأغطيته وأكسيته وملابسه أو نحو ذلك. قال(قُمْ فَأَنذِرْ) هذا للوجوب، قال الشيخ رحمه الله (ومعنى (قُمْ فَأَنذِرْ) ينذر عن الشرك ويدعو إلى التوحيد، (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عظمه بالتوحيد) يعني أن قوله تعالى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) معناه خُصَّ ربك بالتكبير, لأنه قدم المفعول؛ أصل الكلام: كبِّر ربك. فقدَّم المفعول على العامل فيه وهو الفعل, فدل على الاختصاص, فقال (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قال الشيخ معنى (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي عظّمه بالتوحيد, وهذه لاشك من الشيخ رحمه الله تعالى من العلم الغزير العظيم الذي يحتاج إلى إيضاح وبسط, ذلك أن التكبير جاء في القرآن وله خمسة موارد:
1- فتكبير الله جل وعلا يكون في ربوبيته, يعني اعتقاد أنه أكبر من كل شيء يُرى أو يُتوهم أو يُتصور أنه موجود, هو أكبر من كل شيء في ربوبيته, في ملكه, في تصريفه لأمره, في خلقه، في رزقه, في إحيائه, في إماتته, إلى آخر معاني الربوبية هذا الأول، قال جل وعلا ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾[الإسراء:111]، الله أكبر يشمل هذا المعنى, ويشمل غيره من معاني التكبير التي ستأتي، إذن قوله هنا (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) يدخل فيه أولا اعتقاد أن الله جل وعلا أكبر من كل شيء في مقتضيات ربوبيته.
|