بسم الله الرحمن الرحيم
تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام
بشرح أحاديث عمدة الأحكام
للعلامة : احمد النجمي
-رحمه الله -
[126] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل ثلاث عشر ركعة ، يوتر
من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها.
موضوع الحديث :
عدد ركعات صلاة الليل .
المفردات :
يوتر من ذلك بخمس : أي يجعلها وتراً لكونها متصلة بسلام وتشهد واحد .
المعنى الإجمالي :
تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ. كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس
متصلة لا يفصل بينها بتشهد ولا سلام .
فقه الحديث :
أولاً : اختلفت الروايات عن عائشة رضي الله عنها في عدد صلاة النبي ﷺ بالليل فرواية تقول كان
يصلي إحدى عشرة ركعة أربعاً وأربعاً وثلاثاً ولا يزيد عليها لا في رمضان ولا في غيره وهي رواية أبي سلمة بن
عبد الرحمن عنها ، والرواية الثانية تقول كانت صلاة النبي ﷺ بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا
الفجر وهي رواية القاسم بن محمد عنها.
والرواية الثالثة تقول كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء الصبح ركعتين خفيفتين
فتكون الثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر ، وهذه الرواية توافق الحديث الذي نحن بصدد شرحه وهي رواية
هشام بن عروة عنها.
ومن أجل ذلك فقد أُدعى الاضطراب في حديثها في صفة صلاة النبي ﷺ بالليل ونفى القرطبي ذلك وقال
: وهذا – أي الاضطراب – إنما يتم لو كان الراوي عنها واحد أو أخبرت عن وقت الصواب أن كل شيء
ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز.
قلت : الذي يظهر لي في الجمع بين هذه الروايتين أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أبا سلمة بما علمته من
فعله في بيتها في صلاة الليل وحدها ثم ضمت إليها ركعتي الفجر كما في الرواية الأخرى ثم علمت أن
النبي ﷺ صلى في بيت ميمونة ثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر فحدثت به كما في الرواية الثالثة
والله أعلم .
ثانياً : يؤخذ منه عدد صلاة النبي ﷺ في الليل وأنها لم تزد على ثلاث عشرة وإذا كان هذا عدد صلاة
النبي ﷺ في رمضان وغيره فما حكم الزيادة على ذلك في التراويح ، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب
_ جمع الناس في خلافته على قارئ وأنهم كانوا يصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين .
وإليك تفصيل القول في هذه المسألة مع بيان مذاهب العلماء فيها ، وبيان الراجح مؤيداً بالأدلة ،
فأقول ومن الله أستمد العون وأسأله أن يلهمني الصواب :
أولاً : ينبغي أن نعلم أن النفل المطلق لم يرد في الشرع حصره في عدد معين ففي صحيح البخاري أن النبي
ﷺ قال لعبد الله بن عمرو : " ألم أُخبر أنك تقوم الليل وصوم النهار " قال : إني أفعل ذلك ، قال
: " فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينيك ، ونفهت نفسك ، وإن لنفسك حقاً ، ولأهلك حقاً فصم وأفطر ، وقم ونم ".
فلم يحده على عدد معين في قيام الليل ، ولم ينهه عن قيام كل الليل من أجل ذلك ، ولكن من أجل
أن ذلك يؤدي إلى ضعف القوى وتلف الجسم ثم يؤدي بعد ذلك إلى الإخلال بالحقوق الواجبة لله أو للنفس
أو الناس .
ومثل ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل عليّ
رسول الله ﷺ فقال : من هذه ؟ قلت : فلانة لا تنام الليل – تذكر من صلاتها - ، فقال : " مَهْ ! عليكم
ما تطيقون من الأعمال ، فإن الله لا يملّ حتى تملوا " .
فقولـه :" عليكم ما تطيقون من الأعمال " تحديد للعمل بالطاقة وليس بالعدد وهو إن كان عاماً في جميع الأعمال
إلا أن نوافل الصلاة تدخل في ذلك دخولاً أولياً ؛ لأنها السبب في صدور هذا القول من النبي ﷺ .
وقوله : "فإن الله لا يمل حتى تملوا" أي : أن الله لا يمل من إعطاء الثواب والأجر حتى تملوا من العمل .
ومثل قولـه ﷺ : " الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر " ، وفي هذا كله دليل أن النفل
المطلق لا يحدد بعدد معين بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده .
ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عمرو بن عبسة الذي رواه مسلم في الأوقات التي نهي عن الصلاة
فيها وفيه : فقلت : يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة ، قال : " صل صلاة
الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذٍ
يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة
فإنه حينئذٍ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ، ثم أقصر
عن الصلاة حتى تغرب الشمس ".
فقوله :" ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة أمر إباحة لا تحديد فيه ، وكذلك قوله ﷺ في حديث
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل واحدة .. " الحديث
يدل على إباحة الصلاة بدون عدد معين ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : _ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ _ (البقرة: من الآية148) .
فالأمر بالتسابق إلى الخيرات عام يشمل النفل في الصلاة وغيره .
ثانيا : أن الناس كانوا يصلون في زمن النبي وأبي بكر
وصدراً من خلافة عمر متفرقين ، هذا يصلي في بيته ، وهذا يصلي في المسجد ، وهذا يصلي وحده
وهذا يصلي بصلاته الجماعة ولم يأمر النبي _ أحداً منهم بعدد لا يتجاوزه .
فقد روى البخاري من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى قال : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لـه ما تقدم من ذنبه " قال بان
شهاب : فتوفي رسول الله ﷺ والناس على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من
خلافة عمر رضي الله عنهما .
وعن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة
في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعاً متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاة الرهط ،
فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم
خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال : " نعم البدعة هذه " ، والتي ينامون عنها أفضل.
ثالثاً : أن تسمية أمير المؤمنين عمر رضيي الله عنه لجمع الناس على قارئ واحد بدعة وإنما هو من باب
التجوّز لهضم نفسه وإلا فصلاة النبي ﷺ بالناس الذين حضروا معه أتموا به فيها ثلاث ليال كافية لشرعية
الجماعة في التراويح ولا ينافي الشرعية امتناعه عن الخروج إليهم في الليلة الرابعة لأنه قد بين السبب في عدم
خروجه وهو خشية أن تكتب عليهم.
رابعاً : قد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يصليا بالناس التراويح إحدى
وعشرين ركعة ، فكانوا يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر .
وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر رضيي الله
عنه. وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على عهد عمر ثلاثة وعشرون ركعة .
وأخرج ابن نصر في قيام الليل عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويقرؤون
بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصي في زمان عمر بن الخطاب .
والجمع بين هذه الآثار : أنهم كانوا أحياناً يوترون بواحدة فتكون إحدى وعشرين ، وأحياناً يوترون بثلاث
فتكون ثلاثاً وعشرين ، وأحياناً يحكي التراويح بدون وتر ، ولا يعكر عليه ما رواه محمد بن نصر عن
السائب بن يزيد .
أمر عمر ن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، وفي رواية :
كنا نصلي في زمن عمر بن الخطاب في رمضان ثلاث عشرة ركعة ولكن والله ما كنا نخرج إلا في وجاه الصبح .
فالجمع بين هذه الآثار ممكن بحمل هذا الأثر والذي قبله على البدء والآثار المتقدمة على النهاية وتوضيح
ذلك والله أعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرهم أن يقوموا بإحدى عشرة أو ثلاث عشرة يطيلون
فيها القيام والركوع والسجود اقتداء بالنبي ﷺ في صلاته ، وكانوا يصلون معظم الليل فطال عليهم ذلك
وهذا ما يوحي به قوله : " وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام " فلعله قد اشتكى بعضهم إلى عمر
فأمرهم أن يضعفوا عدد الركعات ليخف عليهم القيام فبدلاً من عشر وركعة أو ثمان وثلاث أو عشر وثلاث
يصلون عشرين وركعة أو عشرين وثلاثاً ليكون في ذلك دفعاً لهمة الضعيف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة
وجمعاً بين مصلحة هؤلاء وهؤلاء فلو أبقى الأمر على ما كان عليه أولا من طول القيام والركوع والسجود مع
عدد الركعات لا نقطع ضعيف الهمة ولو التزم تقصير القيام الركوع والسجود مع عدد الركعات التي علمت عن
النبي صلى وهي الإحدى عشرة والثلاث عشرة لبقي قوي الإيمان الراغب في العبادة المطبق لها يطلب الزيادة
فكان في زيادة عدد الركعات وتخفيف القيام والقعود والركوع والسجود علاج حكيم يجمع بين رغبة الفريقين
ولا يفوت على أحد منهم شيئاً ، وهذا إنما يكون حسناً في حق من احتاج إلى تكثير عدد الركعات ليشغل وقتاً
طويلاً من الليل في العبادة من دون مشقة تحصل لـه بطول القيام .
أما من كان يصلي عشرين ركعة بجزء أو نصف جزء مثلاً فالأفضل له أن يصلي ثمان ركعات بجزء أو
نصف جزء مثلاً ويوتر بثلاث فإن أدى الأمر بالمصلي إلى الاستعجال المخل مع التزام عدد الركعات عشرين
أو ثلاثين ، أو غير ذلك يرى أنه لزاماً عليه أن يأتي بها ولو بالإخلال بالركوع والسجود والاعتدال فأخشى على
مثل هذا أن يكون آثماً لا مثاباً ، ومأزوراً لا مأجوراً ، فالله قد خاطب عباده باتباع رسوله ﷺ دون غيره ،
وأمرهم بطاعته دون سواه .
ولسنا ننكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمر النبي ﷺ بطاعتهم
واتباع سنتهم حيث يقول عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ . إلا أن عمر
رضي الله عنه لم يأمر بزيادة الركعات التي زادها إلا للعلة التي سبرناها سابقاً وهي المشقة الحاصلة بطول
القيام لأنهم ما كانوا يخرجون من الصلاة إلا في وجاه الصبح أي الصبح الأول الذي يحل فيه السحور كما في
الأثر السابق وورد في بعض الروايات أنهم كانوا إذا خرجوا يستعجلون الخدم بالسحور خوف الفوات بطلوع
الفجر الثاني .
ومن ما فصلته تعلم أن فعل النبي ﷺ هو الأكمل والأفضل وأن الزيادة عليه داخلة تحت عمومات القول
فلا مكان للتبديع ، وأن من التزم عدداً معيناً كالعشرين أو ست وثلاثين أو غير ذلك كالتزام الفريضة ولو أخل
بالقراءة أو الركوع والسجود فإنه قد أساء ويخشى عليه أن يبلغ به ذلك إلى شرك التحكيم .
وقد زعم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – في صلاة التراويح له وهي الرسالة الثانية من كتاب
تسديد الإصابة له ، أن التراويح لم يثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاها عشرين ثم قال : تحقيق
الأخبار الواردة في ذلك وبيان ضفعها ... ثم ساق الآثار الواردة في ذلك وضعفها جميعاً بتحامل شديد .
وأنا مع احترامي للشيخ الألباني – رحمه الله – وحبي إياه ؛ أرى أنه قد جازف في ذلك ، إذ أن الأمر بالعشرين
قد ثبت بنقل العدل عن العدل المؤيد بالعمل المستمر على ذلك الذي تؤكده الآثار المستفيضة التي تدل أن
السلف قد فهموا أن النفل المطلق لا تحديد فيه ؛ بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده ، وأن ما نقل عن
النبي ﷺ من الإحدى عشرة والثلاث عشرة مع طول القيام والركوع والسجود هو الأفضل وأن من
خفف القيام والركوع والسجود وكثر عدد الركعات فإن ذلك جائز له ما لم يصل التخفيف إلى حد الإخلال الممقوت .
أما كون العدد الذي صلاه النبي ﷺ هو اللازم الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه أو يقصر عنه فهذا
مردود بأمور :
أولاً : أن النبي ﷺ لم يأمر أحداً بالتزام ذلك العدد الذي كان يصليه صلوات الله وسلامه عليه فلا
يزيد عليه ولا يقصر عنه ولو فعل لتحول التطوع إلى فرض وهذا ما كان النبي ﷺ يحذره على أمته .
ثانياً : أنا قد قدمنا نقل أحاديث صحاح تدل على أن النفل المطلق لا تحديد فيه بل هو موكول إلى الطاقة
والجهد والرغبة في العبادة .
ثالثاً : أن النبي ﷺ قد أخذ بالأفضل مع التوسط في العدد واليسير الذي يلائم الكثرة الكاثرة من أمته من
دون مشقة تحصل عليهم وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يحب اليسر وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما .
رابعاً : أنه لا يختلف اثنان فيما أعلم أنه لو قام أحد الليل كله بركعتين أو أربع لاعتبر قد قامه ولا يستطيع أحد
أن يقول أنه مبتدع أو مخالف للسنة أو عاص لله ، وقد ورد عن بعض السلف أنهم قرأوا القرآن كله في ليلة
وفي ركعة أو ركعتين .
خامساً : أن أهل العلم قد اختلفوا هل الأفضل طول القيام والركوع والسجود مع قلة الركعات أو تكثير الركعات
مع تخفيف القيام والركوع والسجود ، وفي ذلك حديثان مختلفان وقد نقل محمد بن نصر عن الشافعي أنه
فضل طول القيام والركوع والسجود ، وأما الإمام أحمد فقد نقل عنه التوقف .
سادساً : من المعلوم أن طاقات الناس تختلف في القوة والضعف وفي شرعية الوجهين تيسير على أمة محمد
ليعمل كل واحد أو كل جماعة على قدر حالهم فالذين يشق عليهم طول القيام ويريدون مع ذلك أن يشغلوا
وقتاً طويلاً في العبادة ، فلا شيء عليهم أن يكثروا عدد الركعات ويقصروا القيام ، وهذا في رأيي هو الذي
حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأمر بإضعاف عدد الركعات من عشر إلى عشرين
مع الوتر ليجمع بين المصلحتين فيكون في ذلك دفعاً لهمة الضعف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة .
سابعاً : أن حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " يحمل على الكيف والكم في الفرائض والسنن الرواتب ،
وأعنى بالكيف والكم أي كيف نصليها وكم نصليها ؟ فلا يجوز أن نصلي المغرب أربعاً ، ولا أن نصليها
ثلاثاً بتشهد واحد وسلام .
أما النفل المطلق كصلاة الليل فيحمل فيه حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " أن المراد به الكيف لا الكم ،
أي فالأمر فيه محمول على الكيفية لا على العدد ؛ لأن الأحاديث الدالة على عدم التحديد فيه مخصصة
لهذا الحديث على وجوب التأسي في الكيفية لا في العدد ، ولا مانع أن يكون الأفضل التأسي به أيضاً في العدد
فيكون صارفاً له من الوجوب إلى الندبية . والله أعلم .
ثامناً : أنه لا منافاة بين المرفوع والموقوف إذ الجمع ممكن بحمل ما ثبت عن النبي ﷺ من الإحدى عشرة
والثلاث عشرة على الأفضل ، وما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من الأمر بالعشرين
على جواز الزيادة على ذلك إذا دعت الحاجة .
وقد عُلم من القاعدة الأصولية أنه لا يجوز الانتقال إلى الترجيح إلا عند تعذر الجمع ؛ ذلك لأن الجمع يعمل
فيه بالنصين معاً ، أما الترجيح لأحدهما فلابد فيه من إلغاء أحد النصين بتضعيفه ، أو الحكم بشذوذه ،
أو نسخه .
ومن هنا نعلم أن تضعيف هذه الآثار وتلمس القدح في رواتها العدول أمر لا ينبغي .
تاسعاً : وإلى القارئ الكريم رد ما قدح به الشيخ الألباني – رحمه الله – في رواية العشرين ، والله يعلم أني لم
أكتب هذا الرد انتصاراً لمذهب ولا تحيزاً إلى أحد ، ولكن كتبته بياناً للحق الذي ظهر لي بعد البحث والتأمل
للنصوص ، مع أني قد كنت برهة من الزمن أعتقد ما اعتقده الشيخ الألباني في هذه المسألة .
فأقول : روى مالك في الموطأ من طريق محمد بن يوسف الكندي عن السائب ابن يزيد الكندي أنه قال : أمر
عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيّ بن كعب وتميماً الداري – رضي الله عنهما – أن يقوما للناس بإحدى عشرة
ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف
إلا في فروع الفجر .
قال الشيخ الألباني في صلاة التراويح (ص52) : قلت : إسناده صحيح جداً ، فإن محمد بن يوسف شيخ
مالك ثقة اتفاقاً واحتج به الشيخان ، والسائب بن يزيد صحابي حج مع النبي ﷺ وهو صغير .
وقد تابع مالكاً على الإحدى عشرة ركعة يحيى بن سعيد القطان عند أبي شيبة ، وإسماعيل بن أمية وأسامة
بن زيد ومحمد بن إسحاق عند النيسابوري ، وإسماعيل بن جعفر المدني عند ابن خزيمة ، كلهم قالوا عن محمد
بن يوسف به إلا ابن إسحاق ، فإنه قال ثلاث عشرة . اهـ.
وقلت : فإذا كان مالك قد روى عن محمد بن يوسف الإحدى عشرة وتابعه جماعة من الثقات على ذلك ،
فقد خالفه داود بن قيس الفراء أبو سليمان القرشي مولاهم المدني عند عبد الرزاق في المصنف (4/260)
فقال عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى
تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر .
وإذا كان مالك مجمع على توثيقه محتج به في الصحيحين فإن داود بن قيس مجمع على توثيقه محتج به في
الصحيحين ، وقد أثنى عليه أئمة هذا الشأن ووثقوه .
أما قوله – رحمه الله - : ولا يجوز أن تعارض هذه الرواية – يعني رواية مالك المتقدمة – الصحيحة بما رواه
عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف بلفظ إحدى وعشرين
لظهور خطأ هذه الرواية من وجهين :
الأول : مخالفته لرواية الثقة المتقدمة بلفظ إحدى عشرة .
الثاني : أن عبد الرزاق قد تفرد بروايته على هذا اللفظ ،فإن سلم ممن بينه وبين محمد بن يوسف فالعلة
منه – أعني عبد الرزاق - لأنه وإن كان ثقة حافظاً ومصنفاً مشهوراً فقد كان عمي في آخر عمره ، فتغير .
والجواب على هذا سهل :
فإن عبد الرزاق ثقة مخرّج له في الصحيحين ، وقد خرج هذا الأثر في أول كتابه المصنف الذي هو أكثر
من عشر مجلدات ضخام ، فهل يستطيع الشيخ أن يقول إنه ألف كتابه هذا بعد أن عمي ؟ لا إخاله يقول
ذلك ، والذي يقطع به أنه قد ألف كتابه هذا في وقت قوته وصحته والاختلاط إنما حصل لـه بعد
أن عمي في آخر عمره الذي بلغ خمساً وثمانين سنة .
ومن جهة أخرى فإن كان عبد الرزاق قد تفرد بهذا الرواية عن داود بن قيس فإن داود بن قيس لم يتفرد بها
عن محمد بن يوسف ، والدلالة على ذلك قول عبد الرزاق – رحمه الله – في هذا السند عن داود بن قيس
وغيره ، وكأنه لم يذكر أسماء الذين شاركوا داود بن قيس للاختصار ، واكتفى بعدالة داود بن قيس لشهرتها .
ثانياً : أن محمد بن يوسف قد تفرد براوية الإحدى عشر التي رواها مالك عنه عن السائب ولم يتفرد برواية الإحدى
والعشرين التي رواها عنه داود بن قيس بل رواها معه يزيد بن عبد الله بن خصيفة والحارث بن عبد الرحمن
بن أبي ذياب ، عن السائب رضي الله عنه ، فكيف نحكم بالشذوذ على روايته التي وافق فيها ثقتين ، ونجعل
المحفوظ ما انفرد به ؟ لا أشك أن مثل هذا التصرف يتنافى مع القواعد الحديثية .
فقد روى البيهقي في السنن من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كانوا يقومون
على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ، قال : وكانوا يقرأون بالمئين ، وكانوا يتوكأون
على عصيهم في عهد عثمان رضي الله عنه من شدة القيام .
وأخرج عبد الرزاق في المصنف من طريق الأسلمي عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب عن السائب
بن يزيد رضي الله عنه قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على
عهد عمر ثلاثة وعشرين ركعة .
قلت : ولا تنافي بين رواية العشرين ورواية الإحدى وعشرين ورواية الثلاث والعشرين ، فرواية العشرين بحذف
الوتر ورواية الإحدى وعشرين باعتبار الوتر ركعة ، ورواية الثلاث والعشرين باعتبار الوتر ثلاث ركعات .
ثالثاً : أن القاعدة في رواية الثقة إذا خالفت الثقات أنها إما تكون منافية لرواية من هو أوثق بحيث لا يمكن الجمع
بينهما ، ففي هذه الحالة يحكم بشذوذها ، وإما أن تكون غير منافية فيكون حكمها حكم حديث مستقل ،
فتقبل سواء كانت مقيدة لإطلاق المحفوظ أو مخصصة لعمومه ، أو تفيد حكماً مستقلاً ، وقد قبل أهل
العلم زيادة مالك – رحمه الله – في حديث زكاة الفطر حيث قال غيره : على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير
والكبير ، وزاد هو : من المسلمين ، فكانت مقيدة لإطلاق المحفوظ ، فلم يوجبوا الزكاة إلا على المسلمين
من الأرقاء .
فإذا قلنا أن داود بن قيس قد تفرد بهذه الزيادة وهي رواية الإحدى وعشرين فإن تفرده لا يعتبر شذوذاً ولو
كان وحده ؛ لأن روايته لاتنافي المحفوظ ، وقد قالوا : زيادة الثقة مقبولة ، أما وقد وافقه غير محمد بن
يوسف وعضدت هذه الرواية عن محمد بن يوسف رواية يزيد بن خصيفة وهو ثقة مخرج له في الصحيحين ،
والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب وهو ثقة خرّج له مسلم فكيف نحكم عليها بالشذوذ ؟ .
رابعاً : فإن قيل أن محمد بن يوسف ابن أخبت السائب فتقدم روايته لأنه أضبط لحديث خاله ، قلنا :
ورواية يزيد بن عبد الله خصيفة أيضاً لا تقل عن رواية محمد بن يوسف في الضبط ؛ لأنه ابن ابن أخيه فخصيفة
جد يزيد هو أخو السائب كما جزم بذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وذكر الحافظ في التهذيب عن
ابن عبد البر غير مجزوم به ، وعلى هذا فلا يكون أحدهما أولى من الآخر بالضبط لحديثه .
خامساً : ولرواية العشرين شاهدٌ من حديث أبي جعفر الرازي عيسى بن عبد الله بن ماهان ، عن الربيع بن أنس ،
عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي ابن كعب أن عمر أمر أبيّاً أن يصلي بالناس في رمضان فقال إن الناس يصومون
ولا يحسنون أن يقرأوا فلو قرأت القرآن عليهم بالليل ، فقال يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ، فقال قد
علمت ولكنه أحسن فصلى بهم عشرين ركعة .
ولكن هذا الأثر ضعفه الألباني بأبي جعفر الرازي عيسى بن ماهان وهو وإن كان فيه كلام إلا أن الكلام فيه
كله يدور حول سوء حفظه وكثرة وهمه ، ولم يقدح أحد من علماء الجرح والتعديل في عدالته ، ومثل هذا
لا يوجب رد روايته ولكن يوجب التوقف فيما يرويه حتى يوجد له شاهد ، فإن وجد لـه شاهد علم أنه مما
حفظه ولم يخطئ فيه كما هو معلوم من علم المصطلح .
سادساً : أن رواية العشرين قد أيدتها آثار كثيرة فمنها أثر عن علي من طريق عبد الله بن قيس عن شُتير بن
شكل وكان من أصحاب علي رضي الله عنه أنه كان يؤمهم في شهر رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث ،
وفي ذلك قوله .
ومنها أثر عن أبي الحسناء عن علي بمعناه وأبو الحسناء مجهول ، فإن كانت جهالته جهالة حال فقد تقوى بالآثار
الأخرى ، ورواه عنه أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان عند البيهقي وهو ضعيف ، وعمرو بن قيس لعله الملائي
عند ابن أبي شيبة ، وعمرو بن قيس ثقة خرّج له مسلم .
ومنها أثر عن علي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي ، وفي سنده عطاء الخراساني ، قال في التقريب
صدوق يهم ويرسل ويدلس كثيراً .
ومنها أثر عن عبد الله بن مسعود من طريق زيد بن وهب ولفظه : كان يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف وعليه
ليل ، قال الأعمش : كان يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث وسنده صحيح .
ومنهما أثر عن يزيد بن رومان : كان الناس يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويوترون بثلاث ، رواه في الموطأ
وسنده صحيح .
ومنها أثر عن سويد بن غفلة من طريق أبي الخصيب قال : كان يؤمنا سويد بن غفلة في رمضان فيصلي خمس
ترويحات عشرين ركعة ، وسنده صحيح .
وآثار أخرى عن محمد بن سيرين ، ووهب بن كيسان ، وصالح مولى التوأمة ، ونافع ، وسعيد بن جبير ، وزرارة بن
أوفى ، والحسن البصري ، وأبي مجلز وغيرهم .
والخلاصة : فإن هذه الآثار وإن كان في بعضها ضعفٌ ، وفي بعضها انقطاع إلا أنها كلها مروية عن التابيعن ،
إما من فعلهم أو حكاية فعل عن قدماء الصحابة كعمر وعلي وأبيّ وعبد الله بن مسعود ومجموعة يعطي دلالة قوية
على صحة ما نقل عن عمر رضي الله عنه للأمور الآتية :
الأول : أن الانقطاع بين الصحابي والتابعي فيه احتمال أن يكون الواسطة صحابي لذلك فهو في حكم المرسل ، وقد قالوا عن المرسل هو مرفوع التابعي وجعلوه مما يجب التوقف فيه ، حتى يوجد له عاضد مثله في القوة يرفعه من وهدة التوقف إلى أدنى درجات القبول .
الثاني : أن القدماء كان الإرسال في غير الحديث النبوي عندهم كثير ، لأنهم كانوا يقصدون به حكاية الفعل لا
الرواية فيروى كذلك .
الثالث : أن هؤلاء التابعين الأخيار الذين صح عنهم أنهم صلوا التراويح عشرين أو أكثر ، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن
صح عندهم عن الصحابة إما بالمشاهدة أو بالنقل .
الرابع : وهو الذي سوغ هذه الزيادة عند الجميع في اعتقادي ، وهو عدم التحديد في النفل المطلق ومنه قيام
الليل في رمضان أو في غيره قال تعالى : _ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً *
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً _ (المزمل:1-4) . وقد قال النبي ﷺ " من قام رمضان إيماناً واحتساباً
غفر له ما تقدم من ذنبه " فعلقه بمجرد القيام من غير تحديد بعدد ، وقد تقدم الاستدلال على هذه الفقرة بما
فيه كفاية .
تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ
عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ
بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ
تَأْلِيف
فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة
أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ
تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2]
[ المجلد الثاني ]
http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf
التعديل الأخير تم بواسطة ام عادل السلفية ; 06-05-2015 الساعة 04:29AM
|