بسم الله الرحمن الرحيم
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب.
ج / 1 ص -54- [الباب الثاني:] * باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب.
قال الشيخ رحمه الله: "باب فضل التّوحيد وما يكفِّر من الذنوب"، ثم ساق في هذا الباب آية من كتاب الله، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيّن فضل التّوحيد، وتُبيّن ما يكفِّره من الذنوب، والمناسبة بين هذا الباب والذي قبله، مناسبة ظاهرة، فإنه رحمه الله لما بيّن في الباب الذي قبله حقيقة التّوحيد، ومعنى التّوحيد المطلوب، ووضّح ذلك بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ناسب أن يذكِّر فضله ليرغب فيه، ويحث عليه، لأن الشيء إذا عُرفت مزاياه فإن النفس تتعلق به وتحرص عليه، وهذا التصنيف بين البابين في غاية الحكمة، مما يدل على دقة فهمه رحمه الله، لأنه لو ذكر فضل التّوحيد قبل أن يبيّن معنى التّوحيد لم يكن ذلك مناسباً، فلابد أن تُبيّن حقيقة الشيء ومعناه، ثم بعد ذلك تبين فضله، أما أن تذكر الفضائل لشيء غير معروف، فهذا لا يُجْدِي شيئاً، ومن هنا نُدرك خطأ كثير من الدعاة اليوم، أو من المؤلفين المعاصرين، الذي يزعمون أنهم يكتبون عن الإسلام، وعن الدعوة، ويمدحون الإسلام مدحاً كثيراً، في محاضراتهم، وفي كتبهم، وهذا حق، لكن ما هو الإسلام أوّلاً، لم يبيّنوا ما هو الإسلام، تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، أو تستمع إلى المحاضرة- أو الشريط- من أوله إلى آخره، وهو مدح للإسلام وثناء عليه، وبيان لمزاياه، لكن ما هو الإسلام، لأن كل واحدة من الفرق الضالة والمنحرفة تفسِّر الإسلام بمذهبها، وينزِّلون هذا المدح، وهذا الثناء على مذهبهم، فلا يكفي أننا نمدح الإسلام ونثني عليه فقط، لابد أن تبيّن ما هو الإسلام، ما هي حقيقة الإسلام الذي يُنجي من الكفر، ويدخل في التّوحيد، ويُنجي من النار ويدخل في الجنة، وما هي نواقض الإسلام التي تُفسد الإسلام، وتُخرج منه، وما هي مكمِّلاته، وما هي منقِّصاته، لابد من هذا، أما مجرد المدح، وذكر الفضائل بدون إنك تبيّن حقيقة الشيء، فهذا خطأ عظيم، والإسلام هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته الكرام، وكان عليه القرون المفضلة، أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء، وإن كان صاحبه يدَّعي أنه هو الإسلام، ومن هنا تجدون الشيخ بيّن في الباب الأول حقيقة التّوحيد
ج / 1 ص -55- وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية.
لئلا يدعي كل واحد أن مذهبه هو التّوحيد، أو ما هو عليه هو التّوحيد، وهذا أمر مهم جدًّا، لأنهم يقولون أدعوا إلى الإسلام وبينوا مزايا الإسلام فقط، ولا تبينوا للناس حقيقة الإسلام، لأن هذا يفرق عنكم الناس.
قال رحمه الله تعالى: "وقول الله- تعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}"، هذه الآية جاءت بعد ذكر مناظرة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- لقومه، لأن قومه كانوا يعبدون الكواكب، وهم الصابئة، في أرض العراق، فالله سبحانه وتعالى بعث نبيّه ورسوله إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- للدعوة إلى التّوحيد، وإنكار هذا الشرك، ولم يكن هناك مسلم وقت بعثته- عليه الصلاة والسلام-، كلهم على الوثنيّة- والعياذ بالله-، وذكر الله ذلك في القرآن في عدة مواضع منها: في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}بدأ بأبيه، لأنه يجب على الإنسان أول ما يبدأ بنفسه، ثم بأقرب الناس إليه، وأهل بيته، وجيرانه، ثم ينتشر في الدعوة إلى الله شيئاً فشيئاً، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، وفي الآية الأخرى يقول- جلّ وعلا-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)} إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أطلعه الله سبحانه وتعالى، على ذلك من أجل أن يؤهله لحمل الرسالة، والدعوة إلى الله عز وجل والمناظرة، {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} الموقنين بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، ويزول عنه أي شك أو أي ارتياب، أو أي شبهة، يكون على وضح اليقين، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} يعني: غَشَى عليه الليل بظلامه، {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} هذا من باب المناظرة، وليس من باب النظر- كما يقول الفلاسفة أو علماء الكلام- لأن إبراهيم يعرف ربه من قبل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، ولكنه قال ذلك لأجل المناظرة، هذا ربي بزعمكم، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب واختفى، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} لأنه لو كان رباً ما غاب ولا اختفى، فهذا مما يُبطل ربوبية هذا الكوكب، { قَالَ لا أُحِبُّ
ج / 1 ص -56- الآفِلِينَ} لأنه لو كان ربًّا ما عرض له هذا العارض وهذا الزوال بعد الوجود، {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} يتدرج شيئاً فشيئاً، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب وانتقل، صار هذا القمر يُتصرّف فيه، ويُديّر، مثل النجم الذي قبله، يُسَيَّرْ من المطلع إلى المغرب، فهو ليس برب إذاً، {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً} تدرج إلى أكبر الكواكب هي الشمس، وإذا بطلت عبادة الشمس بطلت عبادة بقية الكواكب من باب أولى، {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} الآن صرّح بالتّوحيد، وبين بطلان عبادة هذه الكواكب التي يعبدونها، تقرّر عقلاً وشرعاً وفطرة أنها ليست بآلهة، وأعلن البراءة، وهي الهجر والترك والابتعاد عنه، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي فطر السموات والأرض، يعني: خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، فالخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الكواكب فهي مخلوقة، والمخلوق لا يستحق العبادة، مدبَّرة ليس لها في نفسها تدبير فكيف بغيرها؟، {حَنِيفاً} الحنيف معناه: المقبل على الله،
المعرض عما سواه، يعني: لا ألتفت إلى غيره سبحانه وتعالى، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة أيضاً، لما تبرّأ من الأصنام تبرّأ من أصحابها، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ناظروه على ترك هذه الدعوة، وأن يسلك مسلك الناس، ويمشي مع الناس، حتى أبوه وقف في وجهه، كما ذكر الله ذلك في سورة مريم، فإن أباه وقف منه موقف المُعادي {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً(46)}، أفحمهم بالحجة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} لأنهم توعدوه بأصنامهم، {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كيف تهدِّدونني بآلهتكم وأنتم لا تخافون الله الذي خلق السموات والأرض وجعلتم معه شريكاً؟، إن كان هناك تهديد أو وعيد فهو عليكم أنتم، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} ما تهمني أصنامكم ولا وعيدكم، لأني متوكل على الله سبحانه وتعالى {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} إذا كنتم تهدّدون بالوعيد والتخويف، وأنا أخوّفكم بالله عزّ وجلّ، وأبيّن لكم أنكم إن لم تتوبوا إليه فسيعذبكم، فـ { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ
ج / 1 ص -57- أَحَقُّ بِالأَمْنِ} أنا أو أنتم؟، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَصَل الله الحكم بينهم فقال:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} هذا هو الحكم الإلهي، {الَّذِينَ آمَنُوا}، وهذا عام في قوم إبراهيم، وغيرهم من الخلق، يعني: الذين وحّدوا الله، وأخلصوا له العبادة،
{وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} المراد بالظلم هنا: الشرك، لأن الظلم- كما بيّن أهل العلم-
ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو أعظمها-: ظلم الشرك، قال- تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لماذا سُمي الشرك ظلماً؟ لأن الظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، والشرك معناه: وضع العبادة في غير موضعها، وهذا أعظم الظلم، لأنهم لما وضعوا العبادة في غير موضعها، أعطوها لغير مستحقها، وسوَّوْ المخلوق بالخالق، سوَّوْ الضعيف بالقوي الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟
والنوع الثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي، فالعاصي إنما ظلم نفسه، لأنه عرّض نفسه للعقوبة، وكان الواجب عليه أن يُنقذ نفسه، وأن يضعها في موضعها اللائق بها، وهو الطاعة، والكرامة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
النوع الثالث: ظلم العبد للناس: بأخذ أموالهم، أو غيبتهم، أو نميمتهم، أو سرقة أموالهم، أو التعدي عليهم في أعراضهم بالغيبة والنميمة والقذف والهمز واللمز وغير ذلك من التنقُّص، أو في دمائهم بقتل الأبرياء بغير حق، أو بالضرب والجرح والإهانة بغير حق، فهذا تعدِّ على الناس.
هذه هي أنواع الظلم: ظلم الشرك؛ وهذا أعظم أنواعه، وظلم العبد نفسه، وظلم العبد لغيره من المخلوقين.
أما النوع الأول وهو: ظلم الشرك، فهذا لا يغفره الله أبداً إلاَّ بالتوبة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وأما النوع الثالث وهو: ظلم العبد للناس، فهذا لا يترك الله منه شيئاً، لابد من القصاص، إلاَّ أن يسمح المظلومون، جاء في الحديث: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها
ج / 1 ص -58- يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القَرْنَاء" الشاة الجَلحَاء هي التي ليس لها قرون، والشاة القَرْنَاء التي لها قرون، إذا نطحتها بقرونها لابد من القصاص يوم القيامة حتى بين البهائم، قال- تعالى-: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} تحشر البهائم يوم القيامة، ويُقْتَصُّ بعضها من بعض، ثم يقول الله لها: "كوني تراباً"، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
وكذلك بنو آدم، يقام القصاص بينهم يوم القيامة، فيُقْتَصُّ من المظلومين للظلمة، ولا يُترك من حقوقهم شيء إلاَّ إذا سمحوا بها، أما النوع الثاني وهو ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفره، وإن شاء عذب به، كما يقول أهل العلم:
الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الشرك. وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد. وديوان تحت المشيئة إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه، وهو الذنوب والمعاصي التي دون الشرك.
فهذا معنى قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك، هذا هو الذي فسَّرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لما نزلت هذه الآية شقت على الصحابة، قالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يظلم نفسه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بالذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} هل المراد في: الأمن المطلق يعني: أنهم لا يعذبون أبداً، أو المراد مطلق الأمن أي أنهم وإن عذبوا فلابد أن يدخلوا الجنة؟، الآية محتملة، وعلى كلا التفسيرين فالآية تدلُّ على فضل التّوحيد، وأنه أمن من العذاب إما مطلقاً وإما يُؤَمّن من العذاب المؤبّد، فالآية فيها فضل التّوحيد، وأنه يمنح الله لأصحابه الأمن على حسب درجاتهم في التّوحيد والسلامة من الذنوب والمعاصي، ودلّت الآية بمفهومها على أن من أشرك بالله وخلط توحيده بشرك أنه ليس له أمن- والعياذ بالله، فهذا فيه خطر الشرك، وأن من عبد الله، ولكنه يدعو
ج / 1 ص -59- مع الله غيره، ويستغيث بالموتى، ويذبح للقبور، ويطوف بالأضرحة مستعيناً بها، فهذا خلط إيمانه بشرك، وليس له أمن أبداً حتى يتوب إلى الله عزّ وجلّ، ويُخلص التّوحيد، فليس المقصود أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد- أيضاً- أن يتجنّب الشرك، وإلاَّ فالمشركون لهم عبادات، كانوا يحجون، وكانوا يتصدقون، وكانوا يطعمون الأضياف، وكانوا يُكرمون الجيران، ولهم أعمال لكنها ليست مبنيّة على التّوحيد، فهي هباء منثور، لا تنفعهم شيئاً يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً(23)}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} لا يثبّت الأعمال إلاَّ التّوحيد، ما دام هناك شرك فالأعمال لا قيمة لها، مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، وهذا يدلُّنا على فضل التّوحيد، ومكانة التّوحيد، وأنه مُؤَمّن من عذاب الله عزّ وجلّ بخلاف المشرك فإنه لا أمن له من عذاب الله، والأمن يكون في الدنيا، كالأمن من الأعداء، والأمن من الحروب، تعرفون قيمته، وخطر الخوف، هذا في الدنيا فكيف بالأمن في الآخرة من النار؟، النار أشد من الحروب، وأشد من الأعداء، وأشد من كل شيء، إذا كان الأمن في الدنيا هذه قيمته، وهذه منافعه، فكيف بالأمن في الآخرة.
ثم قال: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} هذه مزيّة ثانية من مزايا التّوحيد، وهي حصول الهداية للموحّدين المخلصين لله، أنهم في الدنيا يكونون مهتدين في أعمالهم، يعبدون الله على بصيرة، سالمين من الشرك في الأعمال، وسالمين من البدع والخرافات، بخلاف أهل الشرك، فإنهم غير مهتدين في الدنيا، بل هم ضالون، لأنهم يعبدون الله، ويخلطون العبادة بالشرك، ويعبدون غير الله، فهم ضالون لا مهتدون،
إذاً الموحّد يعطيه الله مزيتين:
المزيّة الأولى: الأمن من العذاب.
المزيّة الثانية: الهداية من الضلال.
بحيث أنه يعبد الله على بصيرة وعلى نور وبرهان، متبعاً للسنّة متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على الجادة الصحيحة، بخلاف المشرك فإنه يمشي على غير هدى، وعلى غير دين، وعلى غير برهان، يتعب نفسه في هذه الدنيا، وهو يتقدم إلى النار، ويمشي
ج / 1 ص -60- عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه.
إلى النار، كما قال- تعالى- في الآية الأخرى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} لا يضل في الدنيا عن الحق، ولا يشقى في الآخرة، وهذا ضمان من الله سبحانه وتعالى لمن اتبع القرآن أنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
قوله: " من شهد أن لا إله إلاَّ الله"، يعني: نطق بالشهادة عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، موقناً بها، لأنه لا يكفي التلفظ، بالشهادة من غير معرفة لمعناها، كذلك النطق بالشهادة مع معرفة بمعناها، لكن لا يعمل بمقتضاها، هذا -أيضاً- لا يكفي، بل لابد من النطق والعلم والعمل بمقتضى هذه الكلمة العظيمة، فليست هي مجرد لفظ يردَّدُ على اللسان من غير فهم لمعناها، ولا يكفي العلم بمعناها، بل لابد من العمل بمقتضاها، بأن يُفرد الله بالعبادة، ويترك عبادة ما سواه، هذا معنى أشهد أن لا إله إلاَّ الله فإذا لم ينطق بها فإنه لا يحكم بإسلامه، ولو كان يعرفها بقلبه، ولو كان يعبد الله في أعماله، لكنه أبى أن ينطق بالشهادة، فهذا لا يُعتبر مسلماً، حتى ينطق بالشهادة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله" وكذلك من نطق بها بلسانه ولكنه لا يعتقدها في قلبه، هذا -أيضاً- ليس بمسلم، بل هو منافق، فالمنافقون يقولون: لا إله إلاَّ الله، وهم في الدرك الأسفل من النار، لماذا؟ لأنهم لا يعتقدون معناها، وعُبّاد القبور اليوم يقولون لا إله إلاَّ الله بألسنتهم، لكنهم لا يعملون بمقتضاها، بل يعبدون القبور والأضرحة، ويدعون الأولياء والصالحين، فهم أقرُّوا بها لفظاً، وخالفوها معنىً، فالمشركون جحدوا لفظها ومعناها، والقبوريُّون أقرُّوا بلفظها وجحدوا معناها، هم سواء لا فرق بينهم أبداً، كذلك المنافقون تلفّظوا بها، لكنهم لا يؤمنون بها في قلوبهم -أيضاً- هم سواء، بل هم شر من الكفّار، قال- تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ
ج / 1 ص -61- تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} وهم ينطقون، ويقولون: لا إله إلاَّ الله، ويصلّون، ويصومون، لكن لما كانوا مُنكرين بقلوبهم، غير معترفين بها في قلوبهم، وإنما قالوها لأجل المصالح الدنيوية فقط، صاروا- والعياذ بالله- في الدرك الأسفل، من النار.
فالحاصل أنها كلمة عظيمة، لكن لابد أن يتوفّر.
أولاً: النطق بها.
وثانياً: العلم بمعناها.
وثالثاً: العمل بمقتضاها.
ومعنى: {لا إله إلاَّ الله} نفي العبادة عما سوى الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: إبطال عبادة كل ما سوى الله، وإثبات العبادة لله، فقوله: {لاَ إله}: هذا إبطال لجميع المعبودات من دون الله عزّ وجلّ، وإنكار لها {إلاَّ اللهَ}: هذا إثبات للعبادة لله سبحانه وتعالى، فعلى هذا معنى لا إله إلاَّ الله: لا معبود بحق- أو لا معبود حقاً- إلاَّ الله سبحانه وتعالى، أما لو قلت: معناها: لا معبود إلاَّ الله، نقول: هذا ضلال عظيم، لأنك أدخلت كل المعبودات وجعلتها هي الله، جعلت الأصنام والأضرحة والكواكب وكل ما عُبد من دون الله هو الله، وهذا غلط، وهو مذهب أهل وحدة الوجود. فلابد أن تأتي بكلمة حق، لأن المعبودات على قسمين: معبود بحق، ومعبود بالباطل، المعبود بحق هو الله، والمعبود بالباطل هو ما سوى الله من كل المعبودات، قال- تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، هذا معنى: لا إله إلاَّ الله.
وقوله: "وحده لا شريك له" كلمتان جيء بهما للتأكيد، وحده: تأكيد للإثبات، لا شريك له: تأكيد للنّفي، فهما كلمتان مؤكِّدتان للا إله إلاَّ الله، لما فيها من النفي والإثبات.
وهذه الكلمة كلمة عظيمة، جاءت في القرآن بلفظها وجاءت بمعناها، كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)} وجاءت بمعناها مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فقوله:
ج / 1 ص -62- {إِنَّنِي بَرَاءٌ} هذا هو معنى النّفي: لا إله، {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} هذا هو معنى الإثبات: إلاَّ الله، فهي كلمة عظيمة.
وقوله: "وأن محمداً عبده ورسوله" هذا يدل على أنه لا يكفيه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد معها من شهادة أن محمداً رسول الله، فلو شهد أن لا إله إلاَّ الله، وأبى أن يشهد أن محمداً رسول الله؛ لم يدخل في الإسلام، لأن هذه قرينة هذه، وكما في الأذان، وفي الإقامة، وفي الخطب، وإذا جاءت لا إله إلاَّ الله وحدها، تدخل فيها شهادة أن محمداً رسول الله ضِمناً.
وقوله:"وأن محمداً عبده ورسوله" هذا نفي للإفراط والتفريط، عبده هذا نفي للإفراط والغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم بجعل شيء له من الربوبية، كما يعتقد المخرِّفون، فالرسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ ليس له من الرُّبوبية شيء، وقد سمَّاه الله عبداً في أشرف المقامات، في مقام الوحي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وفي مقام الإنزال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)} وفي مقام التحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فهو عبد لا يُعبد- عليه الصلاة والسلام-، ورسول لا يُكذّب صلى الله عليه وسلم بل يُطاع ويُتبع، فليس له من العبادة شيء، فالذين يطلبون منه المدد، ويطلبون منه النصر على الأعداء، ويطلبون منه قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات،
هؤلاء رفعوه من العبودية إلى الألوهية- والعياذ بالله-، ما أقرُّوا أنه عبد الله، بل جعلوه شريكاً لله في ربوبيّته وإلهيّته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله"، يقول الله سبحانه وتعالى له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، ويقول سبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}.
ج / 1 ص -63- وقوله: "ورسوله" هذا رد على أهل التفريط، الذين لا يقدِّرون الرسول حق قدره، إما يجحدون رسالته -عليه الصلاة والسلام-، وإما أنهم يقرُّن برسالته، لكنهم لا يتبعونه الإتباع المطلوب، فهؤلاء لم يشهدوا أنه رسول الله، وشهادتهم إما باطلة وإما ناقصة، باطلة إن كانوا لا يتبعونه أبداً، وناقصة إن كانوا يتبعونه في بعض الأشياء ويخالفونه في بعض الأشياء رغبة لنفوسهم وشهواتهم.
فقوله: "ورسوله " هذا رد على أهل التفريط والتساهل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم الخلق- عليه الصلاة والسلام-، وأشرف الخلق، وأفضل الرسل، فلا يُتساهل في حقه صلى الله عليه وسلم لكن ليس معنى هذا أننا نغلوا فيه، ونجعل له شيئاً من الربوبية، فلا إفراط ولا تفريط.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه" عيسى -عليه الصلاة والسلام- هو عيسى بن مريم، خلقه الله من أم بلا والد، وذلك ليُظهر للعباد قدرته سبحانه على كل شيء، وقصة مريم عليها السلام ذكرها الله في القرآن، من نشأتها: أنها من بيت طيّب، وبيت عبادة، وأن والدها توفي وهي صغيرة، وكَفَلَها زكريا نبي الله- عليه الصلاة والسلام-، لأن خالتها كانت زوجة زكريا {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} يعني: أم مريم، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} نذرت حَمْلَها أن يكون خادماً لبيت المقدس، الذي هو أحد المساجد الثلاثة في الأرض، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} كانت ترجو أن يكون ذكراً، لأن الذكر هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} لأنها قالت هذا من باب الدعاء، لا من باب إخبار الله عزّ وجلّ أنها وضعتها، وقرئت الآية: {والله أعلم بما وَضَعْتُ}، هذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه لا يَخفى عليه هذه المولودة، وليست امرأة عمران تُخبر ربها عزّ وجلّ، وإنما تدعوه {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} بمعنى: أن الذكر أفضل من الأنثى في القيام بالمهمات، فالذكر يستطيع ما لا تستطيعه الأنثى، لما جعل الله في خِلقة الذكر من الامتياز عن خِلقة الأنثى، وهذا من حيث الجنس،
ج / 1 ص -64- لا من حيث الأفراد، قد يكون في أفراد الإناث من هو خير من كثير من الذكور، أما من حيث الجنس فالذكور أفضل من الإناث، لأنهم يستطيعون من الأعمال ما لا تستطيعه الإناث، ولأن عقولهم أوفى من عقول الإناث، بلا شك، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يعني: تقبل مريم: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، نشأت في العبادة والطاعة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وفي قراءة: {كَفَلَها} لأن بني إسرائيل اختصموا في مريم أيهم يكفلها، لأنها بنت عالمهم وحَبْرِهِمْ وشيخهم، فهم تنافسوا أيهم يكفل مريم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} عملوا القُرعة أيهم يكفل مريم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني: أنك يا محمد لم تشهد هذه القرون الماضية وما حصل فيها، ولكن هذا من آيات الله، ومن معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أخبره بما جرى كأنه حاضر، وحتى إن بني إسرائيل انبهروا لأنه جاءهم بمعلومات هم لا يعرفونها من أمورهم، وهي مذكورة في كتبهم وتواريخهم، ويعرفها علماؤهم وأحبارهم، فيكون هذا الرسول يحدث بما جرى من قرون طويلة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من عنده، فهو أُمّي لا يقرأ ولا يكتب، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وهذا من العجائب، أنه آخر ما نزل من الكتب ومع هذا يقصُّ أخبار الماضين كما وقعت،
وهذا من أعظم معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعت القُرعة لزكريا عليه السلام، وكانت خالتها- أخت أمها- تحته، فكَفَلَها زكريا {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} يعني: المكان الذي تصلي فيه، لأن المحراب معناه: المكان الذي يصلى فيه، فليس المحراب خاصاً بالزاوية التي تكون في المسجد الآن {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هذا من كرامات الأولياء، كان يجد عندها في الشتاء فاكهة الصيف، ويجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، كان هذا يحضره ربه لها إكراماً لها، وهي تصلي في هذا المكان، ولا يتصل بها أحد من الخلق، ثم مع هذا يجد عندها نبي الله هذا الرزق، ثم ذكر قصة زكريا ودعائه لربه، ثم ذكر بقية قصة مريم وحملهما بعيسى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
ج / 1 ص -65- وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، هذه هي المعجزة، يعني: كيف علمت: أيها الرسول وأنت آخر الرسل، و- أيضاً- أنت أُمّي لا تقرأ ولا تكتب، هذا من أعظم المعجزات لك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني ما الذي أدراك؟، لولا الله سبحانه، وهذا من أنباء الغيب، يعني: من الأخبار الماضية، ويطلق الغيب على المستقبل- أيضاً-، والغيب لا يعلمه إلاَّ الله، الماضي والمستقبل أو من علّمه الله من رسله، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46)} هذه بَشَارة لها، لكنها انبهرت كيف يحصل لها ولد وهي لم تكن تزوجت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} إلى آخر الآيات.
هذا ما ذكره الله من قصة نشأة مريم، ونشأة ابنها عيسى عليه السلام، وهذا البيت الطاهر العظيم، ولهذا لما قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآيات التي في بيان نشأة عيسى عليه السلام عند النجاشي بحضرة البطارقة وكبار النصارى؛ اعترف النجاشي بأن هذا وحي من الله سبحانه وتعالى، وقال: "هذا هو والذي أنزل على موسى يخرج من مشكاة واحدة"، فأسلم النجاشي رحمه الله، لما سمع ما ذكره الله من نبأ عيسى عليه السلام، وتفاصيل ولادته، لأنه لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" هذا فيه ردٌّ على اليهود وردٌّ على النصارى. أما اليهود فلأنهم جحدوا رسالة عيسى عليه السلام، ورموه بالبُهْت- والعياذ بالله- وقالوا: إنه ولد بغي، قبّحهم الله وأخزاهم، وحاولوا قتله، وسلّمه الله منهم ورفعه إليه، وألقى عليهم الخزي.
وفيه ردٌّ على النصارى الذين لم يقرِّوا بأن عيسى عبد الله، وإنما ادعوا أنه ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أو أنه هو الله، ثلاث مقالات لهم، ذكرها الله جل
ج / 1 ص -66- وعلا في القرآن: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وفي قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} ولا يزالون يقولون هذا إلى الآن في إذاعتهم يرددون هذه الأقوال الكفرية الشنيعة، ولا يزالون يقولون: إن عيسى هو ابن الله، وأنه مخلِّص، ويرددون عقائد النصارى السابقة، المهم أنهم لا يزالون على هذه الفِرية: أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون، وأنه الإله المخلِّص، وأنه مَكَّن من نفسه للقتل، وقتلوه وصلبوه من أجل أن يخلِّص العباد من الخطيئة التي ارتكبها آدم عليه السلام، كما يقولون، قبْحهم الله، فيسمونه المخلِّص ويسمون هذا العمل الفداء، وأن عيسى فعل هذا من باب الفداء لبني آدم، ليخلِّصهم من إثم العقوبة.
وقوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، الكلمة قوله تعالى لعيسى: {كُن}، لأن عيسى وُجد من غير أب، بل وُجد بكلمة {كُن} وليس هو الكلمة، وإنما سُمِّيَ بالكلمة لأنه خُلق بها، بخلاف بقية البشر فإنهم يُخلقون من أب وأم، وكما قال في آدم: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فإذا كنتم تعجبون من كون عيسى وُلد من أم بلا أب، ووجد على أثر الكلمة {كُن} فكيف لا تعجبون من خلق آدم من تراب بدون أم ولا أب، بل بكلمة {كُن}، ليس في هذا غرابة على قدرة الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "وروح منه" ليس المراد أن عيسى روح من الله، بمعنى أنه من ذات الله، وإنما من روحه المخلوق، لأن الله خلق الأرواح جميعاً، ومنها روح عيسى- عليه الصلاة والسلام-، فكلمة "منه" لابتداء الغاية، يعني كلمة مبتدأة من الله، وروح مبتدأة من الله، كما تقول مثلاً هذا الرزق من الله، معناه أن الله هو الذي يسّر هذا الشيء، وهو الذي هيّأه وخلقه، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} معناه: أنه حاصل ونازل وكائن من الله سبحانه وتعالى، فـ "مِنْ" لابتداء الغاية، وقد تسأل وتقول كل أرواح بني آدم من الله على هذا التفسير، فما وجه اختصاص عيسى بذلك نقول: نعم كل أرواح بني آدم من الله، لكن عيسى عليه السلام خُصَّ بذلك لأنه من غير أب، بل هو روح من دون أب.
المصدر :
كتاب :
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد
رابط تحميل الكتاب
http://www.alfawzan.af.org.sa/sites/.../mostafeed.pdf