بسم الله الرحمن الرحيم.
إلى الشيخ ماهر القحطاني
ذكرتم في ختام درسكم الفجر يوم السبت 13\9\1432 هـ حول عبارة "مستقر رحمته" :
[...لا أقول مثل كثير من المحاضرين عند ختم المحاضرة أو بدئها- يقولون:" أسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم في مستقر رحمته".
هذا القول غلط.
أبو رجاء العطاردي كما خرَّج البخاري في الأدب المفرد قال له رجل الله يجمع بيننا وبينك في مستقر رحمته. قال تدري يا فلان -وكان من التابعين الكبار المخضرين- قال تدري ما معنى مستقر رحمة الله؟ قال ما معناها؟ قال هو عين الله ذات الله هو مستقر الرحمة .
فكيف نجمع نفسنا في ذات الله، إنما قل اللهم اجمع بيننا في الجنة.
هذا لفظ منتشر " مستقر رحمة الله" وهذا خطأ نبَّه عليه بعض التابعين- جزاه الله خيرًا-. فنسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم في جنت الخلد آمين...]
======
لكن استشكل عليّ أمر وهي أقوال العلماء والمشايخ التي تجوِّز هذه العبارة فنرجو التوضيح بإيجاز مبسَّط لو تكرمتم -لأنه مبهم عندي-، أما الأقوال فهي:
1- قال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " (2/253 -254) :
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، وذكره البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له عن بعض السلف ، وحكى فيه الكراهة قال : إن مستقر رحمته ذاته ، وهذا بناء على أن الرحمة صفة ، وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة .
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدا ، وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها ، ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار ، وهي المستقر نفسه كما قال : " حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا " [ الفرقان : 76 ] فكيف يضاف المستقر إليها ؟ والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء ، ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله ، ولهذا قال مستقر رحمته ذاته ،
والصواب : أن هذا لا يمتنع ، حتى ولو قال صريحا : " اجمعنا في مستقر جنتك " ، لم يمتنع ، وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا ، فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره ، كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر .
ونظير هذا أن يقال : " اجلس في مستقر المسجد " ، أي : المستقر الذي هو المسجد ، والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة ، وأيضا : فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ، ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة ، وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم .ا.هـ.
وقال في موضع آخر (4/95 -96) :
ومن مسائل أحمد بن أحرم بن خزيمة بن عباد بن عبد الله ابن حسان بن عبد الله بن المغفل المزني الصحابي
سمعته وقال له رجل : " جمعنا الله تعالى وإياك في مستقر رحمته " ، فقال : " لا تقل " هكذا .
قلت : اختلف السلف في هذه الدعوة ، وذكرها البخاري في كتاب " الأدب المفرد " له ، وحكى عن بعض السلف أنه كرهها ، وقال : " مستقر رحمته ذاته " ، هذا معنى كلامه ، وحجة من أجازها ولم يكرهها ، الرحمة ههنا المراد : الرحمة المخلوقة ، ومستقرها الجنة ، وكان شيخنا يميل إلى هذا القول .ا.هـ.
ويقصد بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية - كما نقله عنه البعلي في " الاختيارات " .
2- وقال العلامة الألباني في تعليقه على أثر أبي العطاردي في " صحيح الأدب المفرد " ( ص 286 – 287) :
وهذا الأثر عنه - أي عن أبي رجاء العطاردي - يدل على فضله وعلمه ، ودقة ملاحظته ، فإن الجنة لا يمكن أن تكون مستقر رحمته تعالى ؛ لأنـها صفة من صفاته ، بخلاف الجنة فإنـها خلق من خلق الله ، وإن كان استقرار المؤمنين فيها إنما هو برحمته تعالى ، كما في قوله تعالى : " وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ " [ آل عمران : 107 ] يعني الجنة .ا.هـ.
وقد ذكر الشيخ بكر أبو زيد في " معجم المناهي اللفظية " مبحث عبارة " مستقر رحمتك " في عدة مواضع وهي :
نقل في ( ص 333 – 334) عند عبارة " صباح الخير " كلاما لابن حجر الهيتمي من الفتاوى الحديثية ، وفي آخره : ... وزعم أنه يكره أن يقول : ارحمنا برحمتك ، كاجمع بيننا في مستقر رحمتك ، يردهما أنه لا دليل له بوجه إذ المراد : اجمع بيننا في الجنة التي هي دار القرار ولا تنال إلا بالرحمة .ا.هـ.
وقال في ( ص 604) عند عبارة " اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك " :
حرر ابن القيم – رحمه الله – القول في هذا الدعاء ، مرجحا جواز الدعاء بذلك على قول من قال بالكراهة من السلف فقال – رحمه الله تعالى – في مبحث كلامه على الرحمة والبركة من تحية الإسلام المضافتين إلى الله تعالى على نوعين :
أحدهما : مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله ، والثاني : مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها . وذكر للأول منهما عدة نصوص : منها قوله صلى الله عليه وسلم : " خلق الله الرحمة يوم خلقها مئة رحمة " الحديث .