عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-10-2010, 12:42AM
الصورة الرمزية أم العبدين الجزائرية
أم العبدين الجزائرية أم العبدين الجزائرية غير متواجد حالياً
مفرغة صوتيات - وفقها الله -
 
تاريخ التسجيل: Dec 2007
المشاركات: 848
افتراضي

وقوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[7]، هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباء فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)) انتهى المقصود، وبما ذكرناه آنفاً وما نقلناه عن الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآيتين يتضح للقراء حقيقةً معناهما وأنهما يدلان على شرعية النكاح والحث عليه لما فيه من المصالح العظيمة، التي منها قضاء الوطر وعفة الفرج وغض البصر وتكثير النسل. أما الاستدلال بهما على جواز قطع الحمل وتحديد النسل ففي غايةٍ من الغرابة والبعد عن الصواب.
وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء))، فهو دال على ما دلت عليه الآيتان من الحث على النكاح والترغيب فيه، وبيان بعض حكمه وأسراره، ودال أيضاً على أن من عجز عن النكاح يشرع له الاشتغال بالصوم؛ لأنه يضعف الشهوة ويضيق مجاري الشيطان، فهو من أسباب العفة وغض البصر، وليس فيه حجة بوجه ما على إباحة قطع الحمل أو تحديد النسل، وإنما فيه تأخير عند العجز إلى زمن القدرة، وشرعية تعاطي أسباب العفة حتى لا يقع في الحرام.
وأما الاحتجاج بأحاديث العزل على تحديد النسل فهو من جنس ما قبله بعيد عن الصواب مخالف لمقاصد الشرع؛ لأن العزل هو إراقة المني خارج الفرج لئلا تحمل المرأة وهذا إنما يفعله الإنسان عند الحاجة إليه مثل كون المرأة مريضة، أو مرضعة فيخشى أن يضرها الحمل أو يضر طفلها، فيعزل لهذا الغرض أو نحوه من الأغراض المعقولة الشرعية إلى وقت ما، ثم يترك ذلك، وليس في هذا قطع للحمل ولا تحديد للنسل، وإنما فيه تعاطي بعض الأسباب المؤخرة للحمل لغرض شرعي، وهذا لا محذور فيه في أصح الأقوال عند العلماء كما دلت عليه أحاديث العزل، ثم إن العزل لا يلزم منه عدم الحمل، فقد يسبقه المني أو بعضه فتحمل المرأة بإذن الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الواردة في العزل: ((ليس من نفس مخلوقة إلا الله خالقها))،وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ليس من كل الماء يكون الحمل))،فأي حجةٍ في أحاديث العزل على تحديد النسل لمن تأمل المقام وأعطاه حقه من النظر، وتجرد عن العوامل الأخرى، نسأل الله لنا ولفضيلة المفتي العام في الأردن ولسائر إخواننا التوفيق لإصابة الحق والعافية من خطأ الفهم إنه خير مسئول.
ومن تأمل ما ذكرناه وما نقلناه عن أهل العلم يعلم أن القول بإباحة تحديد النسل قول مخالف للشريعة الكاملة التي جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومخالف للفطرة السليمة، فإن الله سبحانه فطر العباد علي محبة الأولاد وبذل الأسباب في تكثير النسل، وقد امتن الله بذلك في كتابه وجعله من زينة الدنيا، فقال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ[8]،وقال تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[9]، من تأمل المقام أيضاً عرف أن القول بتحديد النسل مخالف لمصالح الأمة، فإن كثرة النسل من أسباب قوة الأمة وعزتها ومنعتها وهيبتها، وتحديد النسل بضد ذلك يفضي إلي قلتها وضعفها بل إلى فنائها وانقراضها، وهذا واضح لجميع العقلاء لا يحتاج إلى تدليل، وأما تخوف المفتي من كثرة السكان وقول الخبراء إن ذلك ينذر بالويل والثبور فهذا شيء لا ينبغي للعاقل فضلاً عن العالم أن يلتفت إليه بأن يعلق به أحكاماً تخالف الشريعة، وعلم الغيب إلى الله سبحانه هو خالق العباد ورازقهم، وهو القائل في كتابه الكريم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[10]،وهو القائل عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا[11]،والقائل: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[12]، والقائل: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[13]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة أن الله سبحانه إذا خلق الجنين أمر الملك أن يكتب رزقه وأجله وعمله. فكل مخلوق له رزقه المقدر على حسب ما يسر الله من الأسباب، فكيف يليق بالعاقل أن يستحسن أو يبيح تحديد النسل خوفاً من ضيق العيش والله سبحانه المتكفل بالرزق والقادر على كل شيء؟! وإذا كان السكان قد تزايدوا في كل مكان فأسباب الإنتاج والرزق قد كثرت أيضاً في كل مكان وقد تسهلت وتنوعت أكثر مما كانت قبل وأحسن مما كانت قبل، وهذا من دلائل حكمة الله سبحانه وكمال قدرته وعظيم عنايته بمصالح عباده، ثم كيف يليق بمسلم أن يسيء ظنه بربه حتى يبيح للأمة تحديد النسل وحتى يلزم بذلك إذا قررته الدولة خوفاً من ضيق العيش وعدم حصول الرزق؟! فأين الإيمان بالله؟ وأين الثقة بخبره؟ وأين التوكل عليه؟ ثم في هذا الظن السيء مشابهة للكفرة الذين كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر فأنكر الله عليهم ذلك وعابهم به في قوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ[14]،وقال سبحانه في آية الإسراء: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا[15].
وأما قول المفتي في آخر الفتوى: (وإذا قررت الدولة ذلك يكون العمل به لازماً؛ لأن من المتفق عليه أن ولي الأمر إذا أخذ بقول ضعيف يكون حتماً) فهذا القول في غاية السقوط بل هو ظاهر البطلان؛ لأن الحكومة إنما تطاع في المعروف لا فيما يضر الأمة ويخالف الشرع المطهر، والقول لتحديد النسل مخالف للشرع ومصلحة الأمة، فكيف تلزم طاعتها فيه؟ قال الله عز وجل في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ[16]،وهو صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بالمعروف، ولكن الله عز وجل أراد إعلام الأمة وإرشادها إلى أن طاعة ولاة الأمور إنما تكون في المعروف، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما الطاعة في المعروف))،وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق))،والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهذه كلمة موجزة أردنا بها إظهار الحق وكشف اللبس وإرشاد المسلمين إلى ما نعلم من شرع الله سبحانه في هذه المسألة.
ونسأل الله أن يوفقنا وسائر المسلمين لما فيه رضاه، وأن يمن على الجميع بالفقه في دينه والثبات عليه، وأن يعيذ الجميع من مضلات الفتن ونزغات الشيطان إنه على كل شيء قدير، وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه[17].

المصدر
__________________
نقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة
رد مع اقتباس