المسألة الثانية :
الجواب على ما أشكل من كلام ابن تيمية في حكم الرافضة
قد أشكل على بعض الباحثين بعض كلام ابن تيمية في حكم الرافضة , وفهم منه إن ابن تيمية يكفر الرافضة على سبيل التعيين , ومن ذلك قوله عن الرافضة :
أنهم قد ارتدوا عن الدين أو عن بعض الدين ,
ومن ذلك أيضا قوله :
أن أصل دين الرافضة من اليهود , لأن أول من قال به هو ابن سبأ , وهو من اليهود ,
ومن ذلك قوله :
أن الزندقة كثيرة في الرافضة , وأن أصل دينهم الكفر والزندقة,
ومن ذلك حديثه عن خبث الرافضة , ومعاداتهم المسلمين , وموالاة الكفار عليهم , وقولهم : بتحريف القرآن , وارتداد الصحابة , واتهامهم لأزواج النبي صلى الله عيه وسلم , وبناته ما عدا فاطمة , وغير ذلك من الكفريات التي عندهم([14]) .
ومن كلامه الذي فهم منه أنه يكفرالرافضة بأعيانهم قوله :" أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره. بلا شك في كفر من توقف في تكفيره،
و كذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت , أو زعم أن له تأويلات باطنية تسقط الأعمال المشروعة , ونحو ذلك , وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية , ومنهم التناسخية , و هؤلاء لا خلاف فيكفرهم.
وأما من سبّهم سبّا لا يقدح في عدالتهم و لا في دينهم , مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك.
وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء.
وأما من لعن وقبّح مطلقا , فهذا محل الخلاف فيهم , لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد.
وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشرَ نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره، فإنه مكذب لما نصه القرآن فيغير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم. بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وان هذه الأمة التي هي: ( كنتم خير امة أخرجت للناس ) وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا،
ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم و أن سابقي هذه الأمة هم شرارها.
وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام.
ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق. وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم. وقد ظهرت لله فيهم مثلا تواتر النقل بأن وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات. وجمع العلماء ما بلغهم فيذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه فيالنهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب"([15]),
هذا النص بين فيه ابن تيمية حكم أصناف الشيعة , وأطلق فيه الكفر على الرافضة كما هو ظاهر فيقوله :" وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره، فانه مكذب لما نصه القران في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم. بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين " إلى آخر كلامه .
ومن كلامه أيضا قوله :" وهؤلاء الرافضة : إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيهم أحد عالما بماجاء به الرسول مع الإيمان به فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى"([16]) .
ومن ذلك قوله : بجواز قتل الرافضي المعين إذا كان داعية , فإنه قال :" فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج , كالحرورية والرافضة ونحوهم , فهذا فيه قولان للفقهاء , هما روايتان عن الإمام أحمد , والصحيح : أنه يجوز قتل الواحد منهم , كالداعية إلى مذهبه , ونحو ذلك ممن فيه فساد"([17]) .
فهذه الأقوال وغيرها من كلام ابن تيمية قد فَهِم منها بعض الناظرين في كلامه أنه كان يكفر الرافضة بأعيانهم .
وفي الحقيقة : فإن هذا ونحوه لا يمكن أن يؤخذ منه أن ابن تيمية كان يكفر الرافضة بأعيانهم , ولا ينبغي في البحث العلمي أن يترك مثل كلامه السابق الصريح والواضح , الذي نص فيه أنه لا يكفر الرافضي بمجرد كونه رافضي , وإنما لا بدمن توفر شروط معينة , فلا يحق لنا أن نترك هذا الكلام الصريح الذي ذكره هو بنفسه , ونأخذ بمثل هذا الكلام العام والمجمل .
ومع هذا فما ذكر هنا يمكن أن يجاب عنه بعدة أجوبة كلية منها:
الأول : التذكير بقاعدة أهل السنة في التكفير ونحوه , وهي التفريق بين الكلام في الوصف المطلق وبين الكلام في المعين ,
فقد يكون القول كفرا ولا يلزم بالضرورة أن يكون القائل كافرا , وهذه القاعدة مشهورة طبقها الأئمة , ومنهم ابن تيمية كثيرا , وقد طبّقها مع الرافضة أنفسهم كما سبق نقل كلامه .
وأكثر ما وقع من الإشكال في حكم الرافضة عند كثير من الدارسين هو بسبب الغفلة عن حقيقة هذه القاعدة .
وبيان حقيقتها هو أن يقال : إن الحكم على الفعل المعين بكونه كفرا لا يلزم منه أن كل من فعله فهو كافر , وعدم تكفير المعين الذي وقع في الفعل المكفر لا يلزم منه أن ما وقع فيه ليس كفرا , فانطباق حكم الفعل المعين على فاعله لا بد فيه من توفر شروط معينة , وانتفاء موانع معينة , فإذا لم تتوفر الشروط وتنتفي الموانع , فإنه لا يحكم بانطباق حكم هذا الفعل المعين على فاعله , وإذا لم ننزل حكم الفعل على فاعله , فإن هذا لا يلزم منه أن حكم الفعل في نفسه قد ارتفع ,
فتحصل من هذا : أن هناك فرقا بين حكم الفعل في نفسه , وبين تحقق حكم هذا الفعل في فاعله , فرفع الحكم الثاني لا يلزم منه رفع الحكم الأول ,
فإذا قلنا : إن فاعل هذا الفعل ليس كافرا لا يعني هذا أن الفعل لا يمكن أن يكفر به أحد ,
بل قد يفعله رجل آخر فنحكم بكفره , لأنه قد توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع .
فالمعتبر في انطباق حكم الفعل على فاعله ليس حكم الفعل فقط , بل لا بد مع حكم الفعل من توفر شروط أخرى وانتفاء موانع , وعلى فإذا حكمنا على فعل ما بأنه كفر , لا يلزم منه أن يكون هذا حكم منا على كل فاعل له بأنه كافر .
إذا تقرر هذا فإن ابن تيمية قد أطلق الكفر على كثير من معتقدات الرافضة , بل وأطلق وصف الكفر على الرافضة , ومع هذا لم ينزل حكم هذه المعتقدات - الذي هو التكفير - على أعيانهم , وهذا منه تطبيق للقاعدة التي سبق شرحها .