قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث – في سرد لأقوال الأئمة في تأويل هذا الحديث – ومنها ( أن المراد أن الله خلق آدم على صورة الوجه , قال : وهذا لا فائدة فيه , والناس يعلمون أن الله تبارك وتعالى خلق آدم على خلق ولده , وجهه على وجوههم , وزاد قوم في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام مر برجل يضرب وجه رجل آخر , فقال ( لا تضربه , فإن الله تعالى خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته ) أي صورة المضروب , وفي هذا القول من الخلل ما في الأول تأويل مختلف الحديث ص ( 319 ) .
.
وقد قال الطبراني في كتاب السنة : حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل قال ( قال رجل لأبي : إن رجلاً قال : خلق الله آدم على صورته , أي صورة الرجل , فقال : كذب , هذا قول الجهمية , وأي فائدة في هذا . ميزان الاعتدال ( 1/603 ) .
وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الشيخ محمد الكرخي الشافعي أنه قال في كتابه " الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول إلزاماً لذوي البدع والفضول " ما نصه ( فأما تأويل من لم يتابعه عليه الأئمة فغير مقبول , وإن صدر ذلك عن إمام معروف غير مجهول , نحو ما ينسب إلى أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة في تأويل الحديث ( خلق آدم على صورته ) فإنه يفسر ذلك بذلك التأويل , ولم يتابعه عليه من قبله من أئمة الحديث , لما رويناه عن أحمد رحمه الله , ولم يتابعه أيضاً من بعد ... )
ثم قال شيخ الإسلام ( قلت : فقد ذكر الحافظ أبو موسى المديني فيما جمعه من مناقب الإمام المقلب بقوام السنة أبي القاسم إسماعيل بن محمد التميمي صاحب كتاب الترغيب والترهيب , قال : سمعته يقول : أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة , ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه فحسب . قال أبو موسى : أشار بذلك إلى أنه قلَّ من إمام
إلا وله زلة , فإذا ترك ذلك الإمام لأجل زلته , ترك كثير من الأئمة , وهذا لا ينبغي أن يفعل . نقض التأسيس ج3 ( مخطوط ) .
وقال الذهبي رحمه الله في السير – في ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة – ( وكتابه في التوحيد مجلد كبير , وقد تأول في ذلك حديث الصورة , فليعذر من تأول بعض الصفات , وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا , وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله , ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه , وبدعناه , لقل من يسلم من الأئمة معنا , رحم الله الجميع بمنه وكرمه سير أعلام النبلاء ( 14/374 ) .
.
قال الإمام أحمد ( من قال : إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي , وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه ؟.طبقات الحنابلة ( 1/309 ) .
وقال ابن قتيبة – بعد ذكره لهذا القول – ( ولو كان المراد هذا , ما كان في الكلام فائدة , ومن يشك في أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته , والسباع على صورها , الأنعام على صورها .تأويل مختلف الحديث ص ( 318 ) . .
قال ابن قتيبة رحمه الله ( والذي عندي – والله تعالى أعلم – أن الصورة ليست بأعجب من اليدين , والأصابع , والعين , وإنما وقع الإلف لتلك لمجيئها في القرآن , ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأت في القرآن , ونحن نؤمن بالجميع , ولا نقول في شيء منه بكيفية ولا حد )( . تأويل مخلف الحديث ص ( 318 ) .
وقد أبطل شيخ الإسلام قول من أرجع الضمير في حديث : إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه , فإن الله خلق آدم على صورته على المضروب من ثلاثة عشر وجها منها :
أنه في مثل هذا لا يصلح إفراد الضمير , فإن الله خلق آدم على صورة بنيه كلهم فتخصيص واحد لم يتقدم له ذكر بأن الله خلق آدم على صورته في غاية البعد , لا سيما وقوله ( وإذا قاتل أحدكم .. وإذا ضرب أحدكم ) عام في كل مضروب , والله خلق آدم على صورهم جميعهم , فلا معنى لإفراد الضمير , وكذلك قوله ( لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ) عام في كل مخاطب , والله قد خلقهم كلهم على صورة آدم .
· ومنها : أن ذرية آدم خلقوا على صورة آدم , لم يخلق آدم على صورهم , فإن مثل هذا الخطاب إنما يقال فيه : خلق الثاني المتأخر في الوجود على صورة الأول المتقدم وجوده , لا يقال : إنه خلق الأول على صورة الثاني المتأخر في الوجود , كما يقال : خلق الخلق على غير مثال أو نسيج هذا على منوال هذا .
· ومنها : أنه إذا أريد مجرد المشابهة لآدم وذريته لم يحتج إلى لفظ خلق على كذا , فإذ هذه العبارة إنما تستعمل فيما فطر على مثال غيره , بل يقال إن وجهه يشبه وجه آدم , أو فإن صورته تشبه صورة آدم .
· ومنها : أنه لو كانت علة النهي عن شتم الوجه وتقبيحه أنه يشبه وجه آدم لنهى أيضاً عن الشتم والتقبيح وسائر الأعضاء , لا يقولن أحدكم قطع الله يدك ويد من أشبه يدك ... إلخ ما ذكره . نقض التأسيس ج3 ( مخطوط ) ..
كما رد رحمه الله قول من أرجع الضمير إلى آدم من أوجه عدة بلغت تسعاً منها :
أنه إذا قيل : إذا فاتل أحدكم فليجتنب الوجه فإن الله خلق آدم على صورة آدم , أولا تقبحوا الوجه , ولا يقل أحدكم قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك ,فإن الله خلق آدم على صورة آدم , كان هذا من أفسد الكلام , فإنه لا يكون بين العلة والحكم مناسبة أصلاً , فإن كون آدم مخلوقاً على صورة آدم , فأي تفسير فسر به فليس في ذلك مناسبة للنهي عن ضرب وجوه بنية , ولا عن تقبيحها وتقبيح ما يشبهها , وإنما دخل التلبيس بهذا التأويل حيث فرق الحديث المروي ( إذا قاتل أحدكم فليتق الوجه ) مفرداً , وروي قوله ( إن الله خلق آدم على صورته ) مفرداً , أما مع أداء الحديث على وجهه فإن عود الضمير إلى آدم يمنع فيه , وذلك أن خلق آدم على صورة آدم سواء كان فيه تشريف لآدم أو كان فيه إخبار مجرد بالواقع فلا بناسب هذا الحكم .
· الوجه الثاني : أن الله خلق سائر أعضاء آدم على صورة آدم , فلو كان مانعاً من ضرب الوجه أو تقبيحه لوجب أن يكون مانعاً من ضرب سائر الوجوه وتقبيح سائر الصور , وهذا معلوم الفساد في العقل والدين , وتعليل الحكم الخاص بالعلة المشتركة من أقبح الكلام , وإضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يصدر إلا عن جهل عظيم أو نفاق شديد , إذ لا خلاف في علمه وحكمته وحسن كلامه وبيانه .
· الوجه الثالث : أن هذا تعليل للحكم بما يوجب نفيه , وهذا من أعظم التناقض , وذلك أنهم تأولوا الحديث على أن آدم لم يخلق من نطفة وعلقة ومضغة , وعلى أنه لم يتكون في مدة طويلة بواسطة العناصر , بَنوه قد خلقوا من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة , وخلقوا في مدة عناصر الأرض , فإن كانت العلة المانعة من ضرب الوجه وتقبيحه كونه خلق على ذلك الوجه , وهذه العلة منتفية في بينه , فينبغي أن يجوز ضرب وجوه بنيه وتقبيحها لانتفاء العلة فيها أن آدم هو الذي خلق على صورة دونهم , إذ هم لم يخلقوا كما خلق لآدم على صورهم التي هم عليها بل نقلوا من نطفة إلى علقة إلى مضغة .. إلخ . بيان تأسيس الجهمية ج3 ( مخطوط ) .
والله الموفق .
ويراجع بحث الدكتور بندر العبدلي (حديث الصورة رواية ودراية) والذي منه استفدت هذه النقول.