![]() |
استعجال الثمر
استعجال الثمر من رسالة عوائق الطلب للشيخ عبد السلام بن برجس ال عبد الكريم يظن بعض الطلبة أن العلم لقمة سائغة أو جرعة عذبة ، سرعان ما تظهر نتائجها ، وتتبين فوائدها . فيؤمل في قرارة نفسه أنه بعد مضي سنة أو أكثر أو أقل – من عمره في الطلب – سيصبح عالماً جهبذاً ، لا يدرك شأوه ، ولا يشق غباره . وهذه نظرة خاطئة وتصور فاسد ، وأمل كاسد أضراره وخيمة ، ومفاسده عظيمة ، إذ يفضي بصاحبه إلى ما لا تحمد عقباه ، من القول علي الله بغير علم ، والثقة العمياء بالنفس ، وحب العلو والتصدر ... وينتهي مطافه بين هذه الأشياء إلى هجر الانتساب للعلم وأهله . ولقد أصاب المأمون عندما قال – متهكماً بهذا الضرب من الطلبة - : يطلب الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : أنا من أهل الحديث ([1]) والناظر إلى حال السلف يرى عجباً من صبرهم على مرارة التحصيل ، وطول الجادة ، لا يفترون ولا يتقاعسون ، ولا يستكبرون ، شعارهم (( العلم من المهد إلى اللحد )) ... (( العلم من المحبرة إلى المكبرة )) . قال الإمام المديني : قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كله ؟ قال : ( لنفي الاعتماد ، والسير في البلاد ، وصبر كصبر الجماد ، وبكور كبكور الغراب ) ([2]) . وقال الإمام الشافعي : ( لا يبلغ في هذا الشأن رجل حتى يضر به الفقر ويؤثره على كل شيء ) ([3]). وقال ابن حمزة قال لي يعقوب بن سفيان – الحافظ الإمام - : أقمت في الرحلة ثلاثين سنة ) ([4]) وقال يحي بن كثير ( لا يستطاع العلم براحة الجسد ) ([5]) . وقال ابن الحداد المالكي : ( ما للعلم وملائمة المضاجع ) ([6]) . فعلي طالب العلم أن يتأسي بهؤلاء الأئمة ، وأن يحذوا حذوهم ، حتى ينال مناه ، ويدرك بغيته ، فإن منهجهم سليم ، وطريقهم قويم وما حصل لهم ما حصل من ذكرٍ حسن ، ونفع مستمر للمسلمين إلا بالصبر والمثابرة ، وازدراء كل ما يبذل من مالٍ ، ووقتٍ في سبيل العلم والمعرفة . وختاماً أذكر محاورة بين اثنين ، تبين قيمة العلم ومكانته العالية وأنه لا يحصل إلا لمن بذل فيه كل شيءٍ ، على حد قولهم (( أعط للعلم كلك يعطيك بعضه )) . قال رجل لآخر : بم أدركت العلم ؟ قال : طلبته فوجدته بعيد المراد ، لا يصاد بالسهام ، ولا يرى في المنام ، ولا يورث عن الآباء والأعمام . فتوسلت إليه بافتراش المدارِ ، واستناد الحجر ، وإدمان السهر وكثرة النظر ، وإعمال الفكر ومتابعة السفر ، وركوب الخطر : فوجدته شيئاً لا يصلح إلا للغرس ولا يغرس إلا في النفس ، ولا يسقي إلا بالدرس . أرأيت من يشغل نهاره بالجمع ، وليله بالجماع هل يخرج من ذلك فقيهاً ؟ كلا والله . إن العلم لا يحصل إلا لمن اعتضد الدفاتر ، وحمل المحابر ، وقطع القفار ، وواصل في الطلب الليل والنهار ([7]) ولعل في هذه الممحاورة الظريفة ما يزيل الصورة المترسبة في أذهان بعض الطلبة : من أن العلم ينال في مدة وجيزة ، وفترة قصيرة ، فيواصلوا جهودهم ، ويحتقروا مبذولهم ، في طريق العلم والتعلم ، حتى يفتح الله عليهم أبواب المعرفة والعلم ليصبحوا قادة في العلم ، أئمة في الهدى . --------------------------------------------- [1] - السير ( 10/876 ) . [2] - التذكرة ، للذهبي ( ترجمة الشعبي عامر بن شراحبيل ) . [3] - السير ( 10/89 ) . [4] - التذكرة للذهبي ( ترجمة مكحول ) . [5] - الجامع ( 1/91 ) . [6] - السير ( 14/206 ) . [7] - ينظر مقامات بديع الزمان ( المقامات العلمية ) والزيادات التى هنا من بعض شيوخنا . |
الإثنين 21 ذو القعدة 1446 هجري - الموافق لـ 19 يونيو 2025 م |
Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd