تنبيه على انتشار صور لجداول مقترحة لبرامج ختم القرآن الكريم في شهر رمضان
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِـــيمِ الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد ... فقد انتشرت في المنتديات الإسلامية بصورة عامة وفي بعض المنتديات السلفية صور لجداول تبين طرق مختلفة يتبعها المسلم والمسلمة لزيادة عدد مرات ختم القرآن الكريم خلال شهر رمضان!! ولا يخفى ـ إن شاء الله تعالى ـ على كثير من الإخوة السلفيين والأخوات السلفيات الذين قاموا بنشر هذه الجداول أن الأصل في قراءة القرآن هو تدبره وفهم معانيه وليس الانشغال بعدد مرات ختم القرآن، ومتى اختمه؟! وكم اختمه؟!! قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) وذكر شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العجاب [مفتاح دار السعادة: 1/187]: (قراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب ... وأدعى الى حصول الايمان ... وذوق حلاوة القرآن .... وهذه كانت عادة السلف يردد أحدهم الآية إلى الصباح. وقد ثبت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم أنه قام بآية يرددها حتى الصباح وهي قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب؛ ولهذا قال ابن مسعود (لاتَهذُّوا[1] القرآن كَهَذِّ الشعر ولا تنثروه نَثْرَ[2] الدَّقَلِ[3] وقفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب لا يكن هَمّ أحدكم آخر السورة). وقال الحسن البصري رحمه الله: (يا ابن آدم ... كيف يَرِقُ قلبك وإنما همتك في آخر سورتك؟!)[4]. ولقد جاءت معظم الصور التي أشرت إليها ـ إن لم أقل كُلَّها ـ على أساس تحزيب القرآن الكريم بالأجزاء وبعضها بالصفحات!! بينما الأصل في تحزيب القرآن الكريم يكون بالأجزاء كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى. وفي هذا الموضوع هناك مشاركة للأخت والأستاذة الفاضلة سكينة بنت الشيخ محمد ناصر الدِّين الألباني رحمه الله تعالى، فلقد نبهت لهذا الأمر وكتبت عنه جزاها الله تعالى كل خير قبل عام تقريبًا في مدونتها ولقد أجادت في ذلك وأفادت فسأنقل ما دونته في هذه المسألة بنصه وحرفه حيث قالت وفقها الله تعالى: "المسألة هي: كم يقرأ كل يوم؟ وهذا الذي يُعرف بـ: تحزيب القرآن الكريم، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانٌ شافٍ لهذه المسألة، نص فيه على أن تحزيب القرآن إنما هو بالسُّور، وقال أن هذا "معلوم بالتواتر"، فلا يكون التحزيب بالأجزاء، هذا الذي ذكره رحمه الله، والآن صاروا يحزّبون بالصفحات أيضًا! وذكر رحمه الله أن في هذا مصالح عظيمة وهي: "ـ ..قِرَاءَة الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ ـ وَالِافْتِتَاح بِمَا فَتَحَ اللَّهُ بِهِ السُّورَةَ ـ وَالِاخْتِتَام بِمَا خَتَمَ بِهِ ـ وَتَكْمِيل الْمَقْصُودِ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ مَا لَيْسَ فِي ذَلِكَ التَّحْزِيبِ". ا.هـ في حين أن التحزيب بالأجزاء ـ أو بالصفحات ـ فيه مفاسد، بيّن رحمه الله أنه ذكر بعضها، وسأختار أحدَها والذي هو سبب تحرير ذي النقطة، قال رحمه الله: "وَهَذَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ هُوَ الْأَحْسَنُ؛ لِوُجُوهِ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذِهِ التحزيبات الْمُحْدَثَةَ تَتَضَمَّنُ دَائِمًا الْوُقُوفَ عَلَى بَعْضِ الْكَلَامِ الْمُتَّصِلِ بِمَا بَعْدَهُ، حَتَّى يَتَضَمَّنَ الْوَقْفَ عَلَى الْمَعْطُوفِ دُونَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلَ الْقَارِئُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُبْتَدِئًا بِمَعْطُوفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) وَأَمْثَالِ ذَلِكَ. وَيَتَضَمَّنُ الْوَقْفَ عَلَى بَعْضِ الْقِصَّةِ دُونَ بَعْضٍ ـ حَتَّى كَلَامُ الْمُتَخَاطِبَيْنِ ـ حَتَّى يَحْصُلَ الِابْتِدَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِكَلَامِ الْمُجِيبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا). وَمِثْلُ هَذِهِ الْوُقُوفِ لَا يَسُوغُ فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ إذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيِّ، وَلِهَذَا لَوْ أُلْحِقَ بِالْكَلَامِ عَطْفٌ أَوْ اسْتِثْنَاءٌ أَوْ شَرْطٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ بِأَجْنَبِيٍّ؛ لَمْ يَسُغْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ تَأَخَّرَ الْقَبُولُ عَنْ الْإِيجَابِ بِمِثْلِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَخَاطِبَيْنِ؛ لَمْ يَسُغْ ذَلِكَ بِلَا نِزَاعٍ، وَمَنْ حَكَى عَنْ أَحْمَد خِلَافَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ كَمَا أَخْطَأَ مَنْ نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْأَوَّلِ خِلَافَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَحْمَد أَنَّهُ فِيمَا إذَا كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ غَائِبَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا غَائِبًا وَالْآخَرُ حَاضِرًا فَيَنْقُلُ الْإِيجَابَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَيَقْبَلُ فِي مَجْلِسِ الْبَلَاغِ وَهَذَا جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَا حَاضِرَيْنِ وَاَلَّذِي فِي الْقُرْآنِ نَقْلُ كَلَامِ حَاضِرَيْنِ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَيْفَ يَسُوغُ أَنْ يُفَرَّقَ هَذَا التَّفْرِيقُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا فَرَّقَ فِي التَّلْقِينِ لِعَدَمِ حِفْظِ الْمُتَلَقِّنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ". إلخ ما قال رحمه الله، ينظر في "مجموع الفتاوى" (13/ 405 – 416). ويوجد في الشبكة (النت) الآن جداول أنيقة مِن حيث الشكل؛ لكنها حزّبت بطريقة الأجزاء دون مراعاة المعاني، فكانت في بعض محتواها تريد مِن القارئ أن يقع فيما ضرب به شيخُ الإسلام مثالاً على القطع والابتداء الذي لا يســوغ! نعم لنا أن نستأنس بتقسيم الأجزاء مِن باب أنها دلالة على المقادير المتساوية، لكن لا نلزمها، بل نقسّم ما سنتلوه (أو ما سنراجع حِفظه) بحيث يكون الحدُّ لنا: السُّوَر، فهي السُّوْرُ المحيط بعملية التقسيم، وما الأجزاءُ إلا أضواء. وأضع هنا مثالاً تقريبيًا للختم في أسبوع بالسور: اليوم الأول: من الفاتحة إلى آل عمران الثاني: من النساء إلى الأنعام الثالث: من الأعراف إلى هود الرابع: من يوسف إلى طه الخامس: من الأنبياء إلى العنكبوت السادس: من الروم إلى الجاثية السابع: من الأحقاف إلى الناس وآخر للختم خلال عشرة أيام: اليوم الأول: سورة الفاتحة وسورة البقرة الثاني: آل عمران والنساء الثالث: المائدة والأنعام الرابع: الأعراف إلى التوبة الخامس: يونس إلى الرعد السادس: إبراهيم إلى الإسراء السابع: الكهف إلى الفرقان الثامن: الشعراء إلى سبأ التاسع: فاطر إلى الحجرات العاشر: ق إلى الناس على أنه ينبغي ملاحظة إقبال النفس ومراعاة الأحوال، فمَن وجد في نفسه نشاطًا في جهده وذهنه، وسعة في وقته في أحد تلك الأيام؛ فما المانع أن يزيد على المقرر؟! فإذا ما انشغل يومًا أو تعب؛ لا يتأثر تقسيمُه بإذن الله تعالى. نسأله سبحانه أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا، ونسأله العونَ على شكره وذكره وحُسن عبادته، فمتى كلّتْ آلةُ التوكل والتسليم؛ لن تتقدم وسائلُ التحزيب والتقسيم، كما أنه دون جذور التوحيد؛ لن تزهر أغصانُ عملٍ يَنفع يومَ المزيد"[5] انتهى النقل من كلام أختنا الفاضلة حفظها الله تعالى. والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسَّلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ــــــــــــ [1] الهَذَّ: السرعة في القراءة، أراد رضي الله عنه التحذير من السرعة في قراءة القرآن كما يُسرع في قراءة الشعر؛ لسان العرب: 3/517 بتصرف. [2]نثر: أَي كما يَتساقَطُ الرُّطَبُ اليابِسُ من العِذْقِ إِذا هُزَّ؛ لسان العرب: 5/191. [3] الدَّقَل: أي التمر الرديء اليابس، فتراه ليُبْسِه ورَداءته لا يجتمع ويكون منثورًا؛ لسان العرب: 11/346. النسخة الألكترونية. [4] مختصر قيام الليل لمحمد بن نصر المروزي: 1/315، النسخة الألكترونية. [5] الرابط الألكتروني لمشاركة الأخت والأستاذة الفاضلة سكينة الألباني في مدونتها المفيدة هو: http://tamammennah.blogspot.com/search/label/%D8%B1%D9%85%D8%B6%D8%A7%D9%86 |
جــــزاك الله خـــــــيرا أخـــتي وبـــارك فــــيك
|
وهذه تتمة جيدة للموضوع...
ضوابط تكثير الختمات:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد.. النقطة الثالثة: تكثير الختمات – لا سيما في هذا الشهر المبارك- مَطْلبٌ بلا شك، فهو شهر القرآن! وبينما يحتاج بعضُنا إلى الحضّ والحث، والتحريض والتشجيع؛ نجد البعض الآخر يُبالغ في هذا إما فِعلاً وإما حَضًّا! فنسمع أو نقرأ بعضَ النقول عن السابقين بأن فلانًا كان يختم كل ليلة، وفي رمضان يختم مرتين في الليلة، أو أنه صلى التراويح بختمة، وينسبون ذلك إلى بعض الأكابر كالإمام الشافعي أو الإمام أحمد رحمهما الله تعالى. وهذا – إن صحت أسانيده إلى هؤلاء الأكابر – إلا أنه مرجوح؛ لِما يلي: 1) لم يترك الشرع الحنيف هذا الأمر دون ضابط، فهو الدين الكامل، وسيتضح هذا في الآتي إن شاء الله. 2) بتتبع الأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب، نجد أن أقصر مدة للختم هي: ثلاثة أيام، ثبت هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: فعن سعد بن المنذر الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! أقرأ القرآنَ في ثلاث؟ قال: ((إن استطعتَ)). قال: وكان يَقرأه كذلك حتى تُوفِّي. قال فيه الوالدُ رحمه الله: "أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (1247)، وإسناده جيد". باختصار من: "السلسلة الصحيحة" (4/ 17). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! فِي كَمْ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ) قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ)، قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي عِشْرِينَ) قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي خَمْسَ عَشْرَةَ) قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (اقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ) قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: (لَا يَفْقَهُهُ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ). "مسند الإمام أحمد"، وينظر "السلسلة الصحيحة" (1513). واستكمالاً للموضوع أقول: وأقصى مدة ثبتت بالأحاديث الصحيحة هي: أربعون يومًا، جاء في الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: (اقْرَأْ الْقُرْآنَ فِي أَرْبَعِينَ)، رواه الترمذي، وصححه الوالد، "صحيح سنن الترمذي" (القراءات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم / ما جاء أن القرآن أنزل على سبعة أحرف). ونذكر جميعًا: (خَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ) رواه مسلم. وهو صلى الله عليه وسلم أتقانا لله وأخشانا له، كما ثبت في الحديث المتفق عليه. وهذا وحده كافٍ للزوم نصحه عليه الصلاة والسلام، لكن تزيد النقاط التالية نافلة: 3) قد أُمرنا أن نرتل القرآن ترتيلاً، فقال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} قال الحافظ الطبري رحمه الله: "يقول جلّ وعزّ: وبيِّن القرآنَ إذا قرأته تبيينًا، وترسَّلْ فيه ترسُّلاً". 4) وأُمِرنا أن نتدبره: قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص: 29) ، قال العلامة السعدي رحمه الله: "أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة؛ تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود". ا.هـ من "تيسير الكريم الرحمن" 5) ونُهينا عن الإسراع فيه: روى الإمام مسلم في "صحيحه" (822) عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ نَهِيكُ بْنُ سِنَانٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَقْرَأُ هَذَا الْحَرْفَ أَلِفًا تَجِدُهُ أَمْ يَاءً: {مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ } أَوْ { مِنْ مَاءٍ غَيْرِ يَاسِنٍ }؟ قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَكُلَّ الْقُرْآنِ قَدْ أَحْصَيْتَ غَيْرَ هَذَا؟ قَالَ: إِنِّي لَأَقْرَأُ الْمُفَصَّلَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: "هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ! إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ..." 6) وكانت قراءته صلى الله عليه وسلم مدًا، كما روى البخاري رحمه الله في "صحيحه" (كِتَاب فَضَائِلِ الْقُرْآنِ/ بَاب مَدِّ الْقِرَاءَةِ): عن قَتَادَة قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ قِرَاءَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: (كَانَ يَمُدُّ مَدًّا). وتصف لنا حفصة رضي الله عنها قراءته صلى الله عليه وسلم فتقول: "وَكَانَ يَقْرَأُ بِالسُّورَةِ فَيُرَتِّلُهَا حَتَّى تَكُونَ أَطْوَلَ مِنْ أَطْوَلَ مِنْهَا". "صحيح مسلم" (735) ولنتأمل هذه القصة: كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يُقْرِئُ الْقُرْآَنَ رَجُلا فَقَرَأَ الرَّجُلُ: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" مُرْسَلَةً، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:"مَا هَكَذَا أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ" [التوبة: 60] فَمَدَّدَها". رواها الطبراني في "المعجم الكبير"، وهي في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (2237) فالآن؛ جمعًا بين هذه النقاط الأخيرة؛ ليت شعري؛ كيف يمكن للمرء أن يختم في أقلِّ مِن ثلاث؟! بل ليلة؟ بل ركعة؟! نعم؛ يمكن الجمع! لكن مع إخلالٍ بما على المرء من واجبات ومسنونات أُخر في ليله ونهاره، فلا يطمئن في فريضة، ولا يتنفّل بالصلوات، ولا ينعم بالأذكار بين تسبيح وتحميد، بل ينقطع للقراءة وللقراءة فقط، فضلاً عن أن يكون له يدٌ في معونةٍ بيتية (وهذه في حقنا -معشر النساء- آكد!)، فيترك كلَّ شيء لأجل أن يختم في يوم، والحال أنه ما كلّفه الله بهذا، ولا ندبه إليه رسولُه، بل الأدلة إلى النهي أقرب، والله المستعان. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع فتاواه" (13/ 407) تحت عنوان (فَصْلٌ: فِي " تَحْزِيبِ الْقُرْآنِ " وَفِي " كَمْ يُقْرَأُ ") : " فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ انْتَهَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى سَبْعٍ، كَمَا أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً بِقِرَاءَتِهِ فِي الشَّهْرِ، فَجَعَلَ الْحَدَّ مَا بَيْنَ الشَّهْرِ إلَى الْأُسْبُوعِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ ابْتِدَاءً أَنْ يَقْرَأَهُ فِي أَرْبَعِينَ، وَهَذَا فِي طَرَفِ السَّعَةِ يُنَاظِرُ التَّثْلِيثَ فِي طَرَفِ الِاجْتِهَادِ. وَأَمَّا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى : " { مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ } " فَلَا تُنَافِي رِوَايَةَ التَّسْبِيعِ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ أَمْرًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَلَا فِيهِ أَنَّهُ جَعَلَ قِرَاءَتَهُ فِي ثَلَاثٍ دَائِمًا سُنَّةً مَشْرُوعَةً وَإِنَّمَا فِيهِ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْ وَمَفْهُومُهُ مَفْهُومُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مَفْهُومٌ صَحِيحٌ أَنَّ مَنْ قَرَأَهُ فِي ثَلَاثٍ فَصَاعِدًا فَحُكْمُهُ نَقِيضُ ذَلِكَ، وَالتَّنَاقُضُ يَكُونُ بِالْمُخَالَفَةِ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، فَإِذَا كَانَ مَنْ يَقْرَؤُهُ فِي ثَلَاثٍ أَحْيَانًا قَدْ يَفْقَهُهُ؛ حَصَلَ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ، وَلَا يَلْزَمُ إذَا شُرِعَ فِعْلُ ذَلِكَ أَحْيَانًا لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْ يَكُونَ الْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَحَبَّةً ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُعْلَمْ فِي الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ، أَعْنِي عَلَى قِرَاءَتِهِ دَائِمًا فِيمَا دُونَ السَّبْعِ، وَلِهَذَا كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْرَؤُهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ". ا.هـ وقد يرد هنا سؤال: ألا يختلف رمضان عن غيره، فيكون قوله (لا يفقه..) يعني في غير رمضان؟ الجواب نحظى به مِن سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: فقد سئل: ما أقل مدة يختم فيها القرآن؟ فأجاب: ليس فيه حد محدود إلا أن الأفضل أن لا يقرأه في أقل من ثلاث كما في حديث عبد الله بن عمرو: ((لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث))، فالأفضل أن يتحرى في قراءته الخشوع والترتيل والتدبر، وليس المقصود العجلة، بل المقصود أن يستفيد وينبغي أن يكثر القراءة في رمضان كما فعل السلف رضي الله عنهم ولكن مع التدبر والتعقل، فإذا ختم في كل ثلاث فحسن، وبعض السلف قال: إنه يستثنى من ذلك أوقات الفضائل وأنه لا بأس أن يختم كل ليلة أو في كل يوم كما ذكروا هذا عن الشافعي وعن غيره، ولكن ظاهر السُّنّة أنه لا فرق بين رمضان وغيره، وأنه ينبغي له أن لا يعجل وأن يطمئن في قراءته، وأن يرتل كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عمرو فقال: ((إقرأه في سبع)) هذا آخر ما أمره به، وقال: ((لا يفقه من قرأه في أقل من ثلاث))، ولم يقُل: إلا في رمضان، فحمْلُ بعضِ السلف هذا على غير رمضان محلُّ نظر. والأقرب - والله أعلم- أنّ المشروع للمؤمن أن يعتني بالقرآن ويجتهد في إحسان قراءته وتدبر القرآن والعناية بالمعاني ولا يعجل، والأفضل أن لا يختم في أقل من ثلاث، هذا هو الذي ينبغي حسب ما جاءت به السُّنة ولو في رمضان". ا.هـ المصدر: "مجموع فتاوى الشيخ ابن باز رحمه الله"، رابطه في موقع الشيخ. وخيرُ خاتمةٍ لهذا كلامٌ ذهبيٍّ للحافظ الذهبي رحمه الله تعالى إذ قال في ترجمة الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: "وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نازله إلى ثلاث ليال، ونهاه أن يقرأه في أقل من ثلاث، وهذا كان في الذي نزل من القرآن، ثم بعد هذا القول نزل ما بقي من القرآن. فأقل مراتب النهي أن تكره تلاوة القرآن كله في أقل من ثلاث، فما فقه ولا تدبر من تلا في أقل من ذلك. ولو تلا ورتل في أسبوع، ولازم ذلك؛ لكان عملاً فاضلاً، فالدين يُسر، فواللهِ! إنّ ترتيلَ سُبع القرآن في تهجُّدِ قيام الليل مع المحافظة على: النوافل الراتبة، والضحى، وتحية المسجد، مع الأذكار المأثورة الثابتة، والقول عند النوم واليقظة، ودبر المكتوبة والسَّحَر، مع النظر في العلم النافع والاشتغال به مخلصًا لله، مع الأمر بالمعروف، وإرشاد الجاهل وتفهيمه، وزجر الفاسق، ونحو ذلك، مع أداء الفرائض في جماعة بـ: خشوع وطمأنينة وانكسار وإيمان، مع أداء الواجب، واجتناب الكبائر، وكثرة الدعاء والاستغفار، والصدقة وصلة الرحم، والتواضع، والإخلاص في جميع ذلك؛ لشُغلٌ عظيمٌ جســيم، ولَمقام أصــحاب اليمين، وأولـــياء الله المتقين، فإن سائر ذلك مطلوب. فمتى تشاغل العابد بختمة في كل يوم؛ فقد خالَفَ الحنيفيةَ السمحة، ولم ينهض بأكثرِ ما ذكرناه ولا تدبَّر ما يتلوه. هذا السيد العابِد الصاحبُ كان يقول لَمّا شاخ: "ليتني قَبِلْتُ رخصةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم". وكذلك قال له عليه السلام في الصوم، وما زال يناقصه حتى قال له: "صم يومًا وأفطر يومًا، صوم أخي داود عليه السلام ". وثبت أنه قال: " أفضل الصيام صيام داود ". ونهى عليه السلام عن صيام الدهر. وأمر عليه السلام بنوم قسط من الليل، وقال: " لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". وكلُّ مَن لم يَزُمَّ نفسَه في تعبُّده وأوراده بالسُّنّة النبوية؛ يندم ويترهّب ويسوء مزاجُه، ويفوته خيرٌ كثير مِن متابعة سُنّةِ نبيِّه الرؤوف الرحيم بالمؤمنين، الحريص على نفعهم، وما زال صلى الله عليه وسلم معلمًا للأمة أفضلَ الأعمال، وآمِرًا بهجر التبتُّل والرهبانية التي لم يُبعَث بها، فنهى عن سَرْد الصوم، ونهى عن الوصال، وعن قيام أكثر الليل إلا في العشر الأخير، ونهى عن العزبة للمستطيع، ونهى عن ترك اللحم.. إلى غير ذلك من الأوامر والنواهي. فالعابد بلا معرفةٍ لكثيرٍ مِن ذلك: معذورٌ مأجور، والعابدُ العالِم بالآثار المحمدية، المتجاوز لها: مفضولٌ مغرور، وأَحَبُّ الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإنْ قَلّ. ألهمنا اللهُ وإياكم حُسْنَ المتابعة، وجنَّبَنا الهوى والمخالفة". انتهى من " سير أعلام النبلاء" (3/ 84 - 86) ونقول: آمين آمين آمين. كتبته سُكينة الألباني مرسلة بواسطة سُكَينة بنت محمد ناصر الدين الألبانية في 10:33 م http://www.blogger.com/img/icon18_edit_allbkg.gif http://tamammennah.blogspot.com/sear...B6%D8%A7%D9%86 |
جزاكما الله خير الجزاء أختاي.
|
وإيـــــــــــاك أختي في الله...
|
أختنا أم البراء أحسنتِ على إكمال النقل والفائدة لنا جميعًا بإذن الله تعالى أختنا أم العبدين وإياكِ جزى الله تعالى كل خير. *** ويُرفـعُ للعِلمِ والفائــدةِ *** |
بارك الله فيكِ أختي ( أم سلمة), أعاننا الله وإياكم على طاعته.
|
وإياكِ أختي أم سلمة ووفقك الله لكل خير...
|
جزاكِ الله خيرًا أم سلمة على النقل المهم .. يُرفع للفائدة
|
Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd