مجلة معرفة السنن والآثار العلمية

مجلة معرفة السنن والآثار العلمية (http://www.al-sunan.org/vb/index.php)
-   منبر الرقائق والترغيب والترهيب (http://www.al-sunan.org/vb/forumdisplay.php?f=30)
-   -   [خطبة] اتباع الهوى أسباب وصور - خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ (http://www.al-sunan.org/vb/showthread.php?t=6348)

أبو محمد أحمد بوشيحه 24-03-2010 06:55PM

[خطبة] اتباع الهوى أسباب وصور - خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ
 
اتباع الهوى أسباب وصور- خطبة لسماحة المفتي عبد العزيز آل الشيخ


إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له؛ ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله، وصحبِه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمَّا بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، خلق اللهُ الخلقَ لعبادته، ليعبدوه بامتثالِ أمره، واجتنابِ نهيِه، وما أنزل اللهُ الكتبَ وما أُرسِلت الرسلُ، وما جاء الوعيدُ إلا لإخراجِ الناسِ إلا لإخراجِ الناسِ من دائرةِ الهوى إلى عبادة الله، والانقيادِ لشرعِه وإخلاصِ الدينِ له بتنفيذِ الأوامر واجتنابِ النواهي، وربُّنا جلَّ وعلا أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، كلُّ حكم حكما به، أحكامُه وشرعُه مبنيةٌ على كمالِ حكمتِه وكمالِ عدلِه وكمالِ علمِه، وكمالِ رحمته (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك:14] وأخبرنا ربُّنا أن الحقَّ لو خضعَ لأهواءِ النفوسِ لعمَّ الفسادُ (وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) [المؤمنون: 71]
أيُّها المسلمُ، وإن الواجبَ على المؤمنِ أن يكونَ هواهُ تبعًا لما جاء به محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ فالإيمانُ الحقُّ ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقرَ بالقلبِ وصدَّقه العملُ، ذلك الإيمانُ الحقُّ، وإنّ المتأمِّلَ لكتابِ اللهِ ولسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، لَيَرَى التحذيرَ من اتباعِ الهوى والعواقبَ السيئةِ لمن اتَّبَعَ هواهُ، وانصرفَ عن صراطِ اللهِ المستقيمِ، فأوَّلًا حذَّرَ اللهُ نبيَّه من اتّباعِ الهوى، من الوقوعِ في الهوى، ومن طاعةِ الأهواءِ، قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ* إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) [الجاثية:18]وقال: (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِين) [البقرة:145]
أيُّها المسلمُ، وجاءَ التحذيرُ من مخالفةِ أمرِ اللهِ، (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمرِهِ أن تُصِيبَهُمْ فتنةٌ أَوْ يُصِيبَهم عَذَابٌ أليمٌ) [النور:63] ،قال الإمامُ أحمدُ -رحمه اللهُ-: "أتدري ما الفتنةُ؟ الفتنةُ الشركُ، لعلَّه إذا ردَّ بعضَ قولِه أن يقعَ في قلبه شيءٌ من الزيغِ؛ فيهلكَ" أن يقعُ في قلبِه شيءٌ من الزيغِ فيهلك، وبيَّـنَ تعالى أنَّ اتِّباعَ الهوى مخالفٌ للحق، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26]، وجاء الوعيدُ بالجحيمِ لمن اتَّبَعَ الهوى، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:38]، وجاء أيضا بيانُ أنَّ الهوى مضادٌّ لوحيِ اللهِ، قال تعالى: (َمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:3-4]؛ فالهوى ضدُّ الحقِّ، ومباينٌ له، ولا يكونُ المؤمنُ حقًّا حتى يستسلمَ لأمرِ اللهِ، ويَنقادَ له في كلِّ أحوالِهِ في شؤونِ حياتِه كلِّها، فيما بينَهُ وبينَ ربِّه، وبينَه وبينَ عبادِ اللهِ، (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام:162].
أيُّها المسلمُ، وإنَّ مخالفةَ شرعِ اللهِ هو غايةُ اتّباعِ الهوى، قال تعالى: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50]، والواجبُ على المسلمِ الانقيادُ لشرعِ اللهِ، والرضى والتسليمُ، وعدمُ المعارضةِ، قال تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء:65]، وقال: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِين) [الأحزاب:36]، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يُؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواهُ تبعًا لما جئتُ به".
أيُّها المسلمُ، من أسباب اتِّباعِ الهوى قلَّةُ العلمِ؛ فمن لا علمَ عندهُ يسيرُ على هواهُ، وما تُملي عليه النفسُ الأمّارةُ بالسوءِ، قال تعالى: (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) [الأنعام:119]، ومنها الغفلةُ عن ذكرِ اللهِ والإعراضُ عن ذكرِ اللهِ، قال تعالى: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطا) [الكهف:28]، ومن أسبابِ ذلك أيضا الخلودُ إلى الأرضِ والانخداعُ بالشهوات، وتقديمُ ذلك على طاعة الله، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) [الأعراف:176]، ومن أسبابِ ذلك أيضا الظلمُ، قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء:160]، ومنها أيضا ومن أسباب الهوى واتباع الهوى تزيينُ العملِ السيِّئِ (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُم) [محمد:14]، والظنُّ السيئُ من أسبابِ اتِّباعِ الهوىِ (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى) [النجم:23].
أيُّها المسلمُ، إن لاتِّباعِ الهوى صورًا متعددةً، إن لاتِّباعِ الهوى صورًا متعددة، فمن ذلك أيُّها المسلمُ، الفصلُ بين الناسِ في الدماءِ والأموالِ والأعراضِ، فالمسلمُ يفصلُ بين الناسِ في خصومتِهم في دمائِهم وأموالِهم وأعراضِهم، على وفقِ شرعِ اللهِ، والمُتَّبِعُ للهوى يحكمُ فيهم بالقوانينِ الوضعيةِ والآراءِ الشاطَّةِ البعيدةِ عن الحقِّ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:50] وقد أمر الله نبيه بالحكمِ بين الناسِ بالحقِّ، قال جل وعلا (أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) [النساء:105] وقال الله جل وهلا (وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة:49] فالحكمُ بما أنزلَ اللهُ مخالفٌ لأهواءِ الضالِّين والمنحرفين، ومنها أيضا تحريف الشهادة بأن يشهدَ شهادةَ زورِ باطلةٍ؛ فإنَّ شهادةَ الزورِ تغييرٌ للحقِّ، وقلبٌ للحقائقِ، واللهُ يقولُ: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) [الحج:30]، أو تحريفُ الشهادة بالزيادة والنقصان؛ لأجل أن ينفعَ صديقًا، أويَضُرَّ عدُوًّا على زعمه، وكلُّ هذا من اتِّباع الهوى.
ومن صورِ اتِّباعِ الهوى التحقيقُ مع المتَّهَمِ باتِّباع الهوى ليُفرضَ عليه، أو يُلزَمَ بأن يُقِرَّ بما لا يعلمُ، أو يعترفُ بفعلِ ما لم يفعلْ ظُلمًا وعُدوانًا.
ومن صورِ اتِّباع الهوى أيُّها المسلم، أن تحكمَ على الناسِ بمجرَّدِ هواك، ورأيِك دونَ أن يكونَ مبنيًا على علمٍ صحيحٍ، واللهُ جلَّ وعلا يقول: (َلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء:135]، وقال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام:152]، فلا تَحكُمْ على الناسٍ بهواك ورأيِك مُجَرَّدٍ عن اتِّباع الكتاب والسنة؛ فليكنْ حكمُك على الآخرين مبنيًا على أُسُسٍ من الكتاب والسنة، حتى تكونَ من العادِلين في أحكامِك.
أيُّها المسلمُ، ومن صورِ اتِّباعِ الهوى، ميولُ بعضِ الرجالِ لبعضِ الزوجاتِ دونَ بعض؛ فيميلُ مع هذه، دونَ الأخرى، ويهجرُ هذه، ويقرِّبُ الأخرى، بلا سببٍ شرعيٍّ في ذلك، ولهذا تُوُعِدَّ من كان له زوجتان، فمالَ مع إحداهما، أن يأتيَ يومَ القيامةِ وشقُّهُ مائلٌ، يُفضِّل بعضَ الأولادِ على بعضٍ بمجرَّد الهوى، وكلُّ هذا مخالفٌ لشرعِ اللهِ؛ فإنَّ اللهَ قَسَمَ الميراثَ بين الورثةِ بقسمةٍ عادلةٍ، والنبيُّ يقولُ صلى الله عليه وسلم: "اتَّقُوا اللهَ واعْدِلُوا بينَ أولادِكم".
أيُّها المسلمُ، ومن صورِ اتِّباعِ الهوى ما يفعلُه البعضُ من تقليدِ أعداءِ اللهِ، في أقوالِهم، وأعمالِهم، وهيئاتِهم، وما يتعلَّق بذلك، اغترارًا وانخداعًا بهم، وزهدًا في شريعة اللهِ، "ومن تَشَبَّهَ بقومٍ فَهُوَ منهم" دعاةُ السفور، الذينَ يَدْعونَ المرأةَ المُسلِمَةَ إلى التَبَرُّجِ والسفور، ويُخرِجُونَها من حَيائِها وعفَّتِها، وصِيانَتِها، وكرامَتِها؛ ليفسدُوا أخلاقَها، ويَقضُوا على كرامَتِها، وفَضِيلَتِها، وينزِعوا جِلبابَ الحياءِ الإسلامي منها، كلُّ ذلك باتباع الهوى؛ لأنهم اتَّبَعوا أهواءَهم (واللهُ يُريدُ أن يتوبَ عليكُمويُريدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً* يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) [النساء:28].
دعاةُ فَوْضَوِيَاتِ الأخلاقِ، الذين ينافرون الأخلاق، وعدم التقيد بالحرام والحلال، في الأعراض والأموال، كلُّ أولئك اتَّبَعُوا أهواءَهم، يريدون فسادَ المجتمعِ، وتدميرَ قِيَمِهِ وأخلاقِه والقضاءَ على كلِّ خيرٍ فيه، وكلُّ ذلك من اتِّباعِ الهوى.
ومن صور اتِّباعِ الهوى ما ينخدعُ به الجاهلون من شؤونِ التعاملِ بالرِّبا، واعتقادِ أنّ الرِّبا من ضرورياتِ العصرِ، وأنه لا بدَّ من الربا، وهذا التعاملُ بالربا الذي حرَّمَهُ اللهُ في كتابه، وحَرَّمَهُ رسولُه صلى اللهُ عليه وسلم، وأجمعَ المسلمون على تحريمهِ، بل تحريمُه معلومٌ من الدين بالضَّرورةِ، فالذين يُحِلُّون الرِّبا، ويَضَعونَ حِيَلًا لاستحلالِ الرِّبا لِيُناقضوا شرعَ اللهِ، هم مُحارِبونَ للهِ ورسولِه، مُتَّبِعونَ أهواءَ أنفسِهم.
ومن صورِ اتِّباع الهوى من يُسِيءُ الظَّنَّ، بالآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، ويبحثُ عن أخطائهم ويُجَسِّدُ أخطاءَهم، ويتناسى فضائلَهم، وأعمالَهم الطيِّبَةَ، ومكانتَهم الرَّفيعةَ وحِرصَهم على حِمايةِ المجتمعِ من الانحرافِ الخُلُقِي، فهؤلاءِ يطعنون في هيئاتِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، ويُسيئون الظنَّ بهم، وينسبون كلَّ الأخطاءِ إليهم؛ لأنه غاظهم أن يَرَوْا من يقولُ هذا حقٌّ، وهذا باطلٌ، هذا حلالٌ، وهذا حرامٌ، وصدقَ اللهُ، في قوله جلَّ وعلا -مُبَيِّنًا أن هذا من أخلاقِ الضالين-: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) [الحج:72] وقال جلَّ وعلا عنهم: (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:79]؛ فالقادحون في هيئاتِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، والمسيئون الظنَّ بهم، والباحثون عن مساويهم، والكاتبون في الصحف الأخطاءَ، التي يدَّعون أنَّ هيئاتِ الأمرِ بالمعروفِ واقعون فيها، كلُّ هذه من المغالطات والخطأ ليس معصومًا أحدٌ منه، ولكن نشرُ الأخطاءِ بهذه الصفة، والقدحِ والسبِّ واللَّمزِ، ليس من أخلاق المؤمنين.
ومن صُوَرِ اتِّبَاع الهوى إساءةُ الظّنِّ بأهلِ الخيرِ، بأهلِ الدِّينِ والتُقى والصَّلاحِ، ونسبةُ كُلِّ الأخطاءِ إليهم، وكُلُّ هذا من الخطأ؛ فإن حبَّ أهلِ الخيرِ والصَّلاحِ من واجباتِ الإيمانِ، واللهُ جلَّ وعلا قد حذَّرَنا من القدحِ في أهلِ الإسلامِ، قال تعالى عن المنافقين أنهم قالوا -كما قال الله عنهم- (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال:49].(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ* وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ* وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ* وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين:30].
ومن صُوَرِ اتِّباع الهوى ما يسلُكُهُ البعضُ من الحاقِدِين على وُلاةِ الأُمَّةِ والقادِحينَ في وُلاةِ الأُمَّةِ والباحثين عن الأخطاءِ والنقائصِ والمتجاهلون للمحاسنِ والفضائلِ، كُلُّ هذه من الأخطاء؛ فإنَّ الواجبَ التعاونُ في كلِّ خيرٍ والنصيحةُ الهادفةُ والكلمةُ النافعةُ والبعدُ عن التجريحِ والإساءةِ والدعوةِ إلى الباطلِ؛ فإنَّ اللهَ جلَّ وعلا جَعَلَ وُلاةَ الأُمَّةِ نعمةً من نعمه على الأُمَّة يدفعُ اللهُ بهم الظلمَ عن المظلوم، ويقيمُ الحدودَ، ويحفظُ بهم الثغورَ، ويجمعُ بهم الكلمةَ؛ فمن قدحَ فيهم، أو أساءَ الظَّنَّ بهم، أو بحثَ عن المعائبِ والأخطاء، مُتجاهلًا المحاسنَ والفضائلَ؛ فكُلُّ هذا من الخطأ؛ إذ الواجبُ التناصحُ بالقنواتِ الشرعيةِ والدعوةُ إلى الخير، وجمعُ كلمةِ الأُمَّةِ، والسعيُ في إصلاحِها، وأن نبتعدَ عن الهوى الذي يُضِّلُنا ويبعدُنا عن صراط الله المستقيم.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ، لي ولكم، ولسائرِ المسلمين، من كُلِّ ذنبٍ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:
الحمد لله، حمدا كثيرا، طيِّبا مباركا فيه، كما يُحِبُّ ربُّنا ويَرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدا عبدُه ورسوله، صلَّى اللهُ عليه، وعلى آله وصحبه، وسلّمَ تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فيا أيُّها الناسُ، اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى.
أخي المسلمَ قِفْ معي قليلًا؛ لنتأمَّلَ قولَ الله: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص:50] أخبرَ اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقوله فإن لم يستجيبوا لك يا محمد، ويقبلوا ما جئتهم به، من توحيدِ الله وإخلاص الدينِ له، وإفرادِه بالعبادةِ، والإقرارِ بنُبُوَّتِكَ، وأنّك رسولُ اللهِ حقًا؛ فاعلم أنما يتبعون أهواءَهم، إنما أَمْلَى عليهم الهوى المُضلُّ، الذي هو يُضِلُّ الناسَ (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية:23]، فما هو إلا أمران: إما اتباعُ الحق، أو اتباعُ الهوى؛ فليحذرِ المسلمُ من أن يكونَ متبعًا لهواه، من غيرِ أن يَشعُرَ، لِيحذرِ المسلمُ أن يكونَ متبعًا لهواه من غير أن يشعرَ، ليحذرِ المسلمُ أن يَخُطَّ بقلمِه ما يخالفُ شرعَ اللهِ، لِيحذَرْ أن يَخُطَّ بقلمه ما يخالفُ شرعَ اللهِ؛ فينشرَ باطلا وهو يظن أنه () حقًّا (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [فاطر:8] كم نقرأُ مقالاتٍ، فيها من الجفاءِ، وفيها من الشرِّ، وفيها من البلاءِ ما اللهُ به عليمٌ، يعجب ُالمسلمُ، كيف مسلمٌ يدعي الإسلامَ، وقلمُه يَخُطُّ هذه الرذائلَ، ويدعو إلى هذه المصائبِ، ويَخُطُّ بقلمه كلماتٍ سيئةً، لو عاد إليها بإيمانِه الصادقِ، ورجعَ إلى فطرتِه السليمةِ، لَعَلِمَ أنّ ما خطَّ قلمُه باطلٌ وضلالٌ، لِيحذرِ المسلمُ أن ينقادَ إلى الهوى فَيَخُطَ بقلمِه ما يُضادُّ شرعَ اللهِ، ما يخالفُ أمرَ اللهِ، ما يقدحُ في أهل الخيرِ والصلاحِ والتُقى، ولْيعلَم أنّ اللهَ مُحاسِبُهُ عن هذا كُلِّهِ، في الحديث "إنَّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمةِ من سَخَطِ الله،ِ ما يَظُنُّ أن تَبُلغَ ما بلغت، يكتُبُ اللهُ له بها سخطَه إلى يومِ يلقاه، وإنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من رِضوانِ اللهِ ما يَظُنُّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتُبُ اللهُ له بها رضوانَه إلى يومِ يلقاه".
إنَّ كثيرًا من الكلماتِ التي تُكتَبُ والمقالاتِ التي تُنشَرُ، يأسفُ المُسلِمُ كيف مسلمٌ يكتبُ هذا، وكيف مسلمٌ يّخُطُّ هذا، وكيفَ مُحَرِّرُ صحيفةٍ يسمح ُلصحيفتِه أن تَنشُرَ هذا المقالَ، إنّهم أحيانًا يُريدون تَرويجَ هذه الصحيفةِ، والشراء منها، ورَوَجانِها بين الناسِ؛ فيكتبون ما لا يليقُ، وقد يكونوا في أنفسهم أنهم ضدُّ ذلك لكنَّ اتِّباعَ الهوى والانسياقَ وراءَ الأرباحِ الضارَّة والأرباحِ الكثيرةِ، قد يحملُهم على أن يتناسَوا دينَهم، ويتناسوا نبيَّهم، ويتناسوا ربَّهم؛ فيكتبون ما لا يليقُ، وما لا يناسبُ، أو قنوات فضائية، تَبُثُّ الشرَّ والسُّمومَ والبلاءَ ممّا يُنافي الأخلاقَ، ممّا يتنافى مع العقيدةِ؛ فنسألُ اللهَ أن يُوَفِّقَ الجميعَ لاتِّباعِ الحَقِّ، وأن يَهديَنا جميعًا صراطَه المستقيمَ، وأن يُجَنِّبَنا طريقَ المغضوبِ عليهم والضالين، وأن يجعلَ سعيَنا فيما يقرِّبُنا إلى الله، كُلُّ الناسِ يَغدُو فبائعٌ نفسَه؛ فمُعتِقُها أو مُوبِقُها، نسألُ اللهَ أن يكونَ سعيُنا فيما يُقَرِّبُنا إليه زُلفى، وأن يَتوبَ علينا، وأن يُثبِّتَ أقدامَنا، ويرزُقَنَا الاستقامةَ على طاعته إلى يومِ نلقاه، واعلمواواعلموا رحمكم اللهُ أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ بدعة ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعة؛ ومن شذَّ شذَّ في النار،وصلوا رحمكم الله على عبد الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: ٥٦].
اللهم صلِّ وسلِّم، وبارك على عبدك ورسولك، محمدٍ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خلفائه الراشدين، الأئمة المهديين، أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن سائر أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوِك وكرمِك وجودِك وإحسانِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك الموحدين، واجعلْ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنا مطمئنا، وسائرَ بلاد المسلمين، يا ربَّ العالمين ، اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتَنا وولاةَ أمرنا، اللهمَّ وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللَّهمّ وفِّق إمامَنا إمامَ المسلمين عبدَ الله بنَ عبدِ العزيزِ لكلِّ خير، اللَّهمَّ أمِدَّه بعونك، وتوفيقك، وتأييدك، اللَّهمَّ أَرِهِ الحقَّ حقًا وارزُقه اتباعَه، وأرِهِ الباطلَ باطلاً، وارزقُه اجتنابَه، وكُنْ له عونًا ونصيرًا في كل ما أهمَّهُ، وبارك له في عُمُرِهِ وعملِه اللّهُمَّ شُدَّ عَضُدَهُ بوليِّ عهده سلطانّ بنِ عبد العزيزِ اللهم وفقه للصواب في أقواله وأفعاله وأيده بالصحة والسلامة والعافية، اللهمَّ وفق النائبَ الثانيَ لكلِّ خيرٍ، أعنه على مسؤوليتِه إنك على كلِّ شيءٍ قديرٍ، واجعلهم قادةَ خيرٍ، ودعاةَ هُدَى إنك على كلِّ شيءٍ قديرٍ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:١٠]، (َّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: ٢٣].
اللّهمّ أنت اللهُ، لا إله إلا أنت، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراءُ، أنزِلْ علينا الغيثَ واجعلْ ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حين، اللَّهمَّ أَغِثْنَا، اللهم أَغِثْنا، اللهم أغثتنا، اللهم أغثنا، اللهم سُقْيَا رحمةٍ، لا سُقْيا بلاءٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ. اللهم أسقنا غيثا هنيئا مريئا سحا غدقا طبقا مجللا نافعا غير ضار عاجل غير آجل يا أرح الراحمين أمك على كل شيء قدير، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
عباد الله، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90] ؛ فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكرْكُم، واشكروه على عمومِ نعمِه يزدْكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنعون.

استمـاعحفـظ



Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd