![]() |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله - [122] : وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله صلى علمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : قل : " اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم " . موضوع الحديث : الدعاء في الصلاة وهذا الحديث من جوامع الأدعية والإستغفارات . المفردات : دعاء أدعو به في صلاتي : الدعاء هو طلب العبد من ربه سبحانه طلب يصحبه خضوع وافتقار ومسألة . ظلمت نفسي ظلماً كثيراً : إخبار أن الذنوب ما هي إلا ظلم من الإنسان لنفسه بإيقاعها فيما لا طاقة لها به ، أما الرب عز وجل فهو في غنى عن طاعة المطيعين ويتنـزه أن تضره معصية العاصين وفي الحديث القدسي : " يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني " . ظلماً كثيراً : فيه إخبار بكثرة وقوع الإنسان في الذنوب والظلم للنفس وذلك بالتقصير في الواجبات إما بالتأخير وعدم المسارعة أو بعدم تأديتها على الوجه المطلوب وإما بدخول الرياء والعجب فيها وإما بترك بعضها والتهاون فيه إيثار الراحة أو خوفاً من الملامة من بعض الجاهلين أو غير ذلك ، أما المعاصي فكثير ما يقع فيها العبد بدافع الطمع أو بدافع الهوى أو رضا المخلوق أو طاعة للشيطان ولهذا فإن العبد لا يخلو في كل لحظة من عمره من تقصير في واجب أو وقوع في ذنب ؛ فلهذا قال ظلماً كثيراً . والله أعلم . من عندك : أي تفضلاً منك عليّ وإن كنت لا استوجبه تفضلاً محضاً . المعنى الإجمالي : طلب أبو بكر الصديق _ من رسول الله ﷺ أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فعلمه هذا الدعاء الجامع النافع المتضمن لمغفرة كل ظلم بدر من العبد بحكم بشريته وبحكم دنياه التي يتقلب فيها والتي لا يخلو فيها أحد من ظلم وقد تضمن هذا الدعاء على قلته عدة أمور هي أساس في العقيدة : أولها : اعتراف العبد بالتقصير في حق ربه . ثانيها : إفراد الله بالألوهية في قوله "ولا يغفر الذنب إلا أنت". ثالثها : تفويضه إليه وتخليه عن السببية في قوله "فاغفره لي مغفرة من عندك " . رابعها : استكانة العبد لربه وتذلـله له وافتقاره إليه بطلب التفضل المحض . خامسها : وصف العبد لربه بالمغفرة والرحمة . فقه الحديث : يؤخذ من هذا الحديث سنية هذا الدعاء في الصلاة أما في أي مكان فيها فهذا لم يرد بالتحديد ومواضع الدعاء في الصلاة موضعان . قال ابن دقيق العيد رحمه الله : هذا الحديث يقتضي الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين لمحله ولو فعل فيها حيث لا يكره الدعاء في أي الأماكن كان ، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين إما السجود وإما بعد التشهد اهـ. وقال في العدة : أما محلات الدعاء في الصلاة التي ورد أنه كان يدعو فيها رسول الله ﷺ فهي سبعة مواضع كما ذكره ابن القيم في زاد المعاد ويجمعها قولنا مواضع كانت في الصلاة لأحمد إذا ما دعا قد خصصوها بسبعة : مواضع كانـت في الصـلاة لأحمد إذا مـا وعـاقد خصـوصها بسبعة عقـيب افتـتاح ثم بعـد قـراءة وحـال ركوع واعتـدال وسـجدة وبيـنهما بـعد التشـهد هـذه مواضـع تـروى عن ثـقات بصحة وتحريرها : 1- دعاء الاستفتاح . 2- بعد القراءة كما ورد أنه كان إذا قرأ فمر بآية رحمة سأل أو آية عذاب استعاذ . 3- في الركوع . 4- في الاعتدال من الركوع . 5- في السجود . 6- في الاعتدال بين السجدتين . 7- بعد التشهد . قلت : أكثر هذه المواضع لها أذكار معينة كالاستفتاح وذكر الاعتدال من الركوع وبين السجدتين ، فينبغي المثابرة على الوارد إلا إذا أطال فلا مانع أن يدعو بغير ما ورد ، والذي ثبت الحث على الدعاء فيه هو السجود لحديث أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا فيه في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم ، وبعد التشهد لقوله صلى ثم ليتخير من الدعاء أعجبه أو من المسألة ما شاء . ثانياً : فيه دليل على أن الإنسان لا يخلو من ذنب أو تقصير في واجب دائماً ويدل عليه قوله _ : " استقيموا ولن تحصوا ، وأعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ". عزاه في الجامع الكبير إلى أحمد والحاكم والبيهقي من حديث ثوبان والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو وسلمة ابن الأكوع ، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير رقم 963 ، وحديث : " كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " عزاه في تخريج الجامع الصغير إلى أحمد والترمذي والحاكم وقال حسن وهو برقم 4391 . ثالثاً : يؤخذ منه أن الأليق بالعبد التخلي عن الاعتماد على الأسباب لا لأنها ليس لها تأثير بل ما أمر الله بها إلا لربط مسبباتها بها كربط دخول الجنة بالإيمان والعمل الصالح وربط عصمة الدم والمال بالشهادتين وما من شيء إلا ربط مسببه بسبب كربط المغفرة بالتوبة ولكن لا يكون مدلياً بها على الله وينص الحديث أن توفيق الله للعبد للعمل الصالح تفضل من الله وقبول العمل على ما فيه من آفات النقص والخلل تفضل منه وثوابه على العمل الصالح تفضل منه مع أن العمل الصالح مغمور في جانب النعم الكثيرة والمتعددة الثابتة منها والمتجددة وعلى هذا فليس للعبد شيء يوجب إدلاله بالعمل مع ما ذكر . والله أعلم . رابعاً : يؤخذ منه رد على المعتزلة في قولهم أن الأعمال الصالحة موجبة للثواب وجوباً عقلياً إذ لو كان كما قالوا لقال فاغفر لي باستغفاري ولا يخفى أن هذا إلزام للباري تعالى من قبل عباده وفي ذلك من سوء الأدب مع الله ما فيه . والحق أن الله لا يلزم بشيء من قبل خلقه ولا يجب عليه شيء لخلقه ولكنه وعد ووعده الحق أن يثيب المطيعين ويرحم المؤمنين لا إلزاماً ووجوباً ولكن رحمة منه وفضلا والله لا يخلف الميعاد . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي - رحمه الله - [123] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما صلى رسول الله ﷺ صلاة بعد أن نزلت عليه [إذا جاء نصر والفتح ] إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، وفي لفظ : كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي . موضوع الحديث : الذكر في الركوع والسجود . المفردات : ما صلى : ما نافية وإلا استثناء بعدها وصلاة مفعول صلى . إلا يقول فيها : أي إلا قال سبحانك بمعنى أسبحك أي أنزهك والمصدر ناب عن الفعل . وبحمدك : يحتمل أن تكون الباء سببية أي بسبب إنعامك علي بالتوفيق أسبحك ، ويحتمل أن تكون للملابسة أي حال كوني متلبساً بحمدك ورجح هذا المعنى الصنعاني في العدة (3/44) لجمعه _ بين التسبيح والتحميد في الحديث وفائدة الجمع بين هذه الثلاث أن التسبيح تنـزيه الله عن النقائص والعيوب والحمد اعتراف لـه بالكمالات المقتضية للمحامد كلها اللهم اغفر لي إقرار بالنقص واعتراف بالذنب وتوحيد لله بطلب المغفرة منه تعالى دون سواه . المعنى الإجمالي : جعل الله لنبيه ﷺ علامة تدل على دنو أجله وهي دخول الناس في دين الله أفواجاً أي جماعات بعد أن كانوا يدخلون فيه واحداً واحدا فإذا رأى ذلك أكثر من التسبيح والتحميد وطلب المغفرة وقد نفذ ذلك بعد نزول السورة ورأى العلامة وجعل ذلك ذكراً للركوع والسجود . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ منه مشـروعية هذا الذكر في الركوع والسجود ، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ، أو سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، أو سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي . ثانياً : يؤخذ منه مشروعية ضم التحميد إلى التسبيح من الذكر الآخر سبحانك ربي العظيم وسبحان ربي الأعلى ، وقد ورد بذلك نص عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أخرجه أبو داود برقم (870) وفيه رجل مجهول ولفظه : فكان رسول الله ﷺ إذا ركع قال سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثاً ، وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثاً ، وقال قال أبو دواد : وهذه الزيادة نخاف أن لا تكون محفوظة . وأصل الحديث لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال رسول الله ﷺ اجعلوها في ركوعكم فلما نزلت سبح اسم ربك الأعلى قال اجعلوها في سجودكم أخرجه الحاكم (1/245) فسمى المبهم إياس بن عامر وقال صحيح وقد اتفقا على الاحتجاج برواته كلهم إلا إياس بن عامر وهو مستقيم الإسناد ، ورده الذهبي بقوله اياس ليس بالمعروف ، وأيده الألباني ؛ لأنه لم يرو عنه غير ابن أخيه موسى بن أيوب وقال لم يورده الذهبي في الميزان . قلت : ولا الحافظ في اللسان وأخرجه ابن ماجة رقم 887 باب التسبيح في الركوع والسجود بدون الزيادة أيضاً وترجم في التهذيب لاياس بن عامر رقم 717 ونقل عن العجلي أنه قال لا بأس به قال وذكره ابن حبان في الثقات ، قلت : ابن حبان يوثق من لا يعلم فيه جرحاً قال وصحح له ابن خزيمة ، قلت : وابن خزيمة يتساهل في التصحيح وبهذا تعلم أن الحديث ضعيف إلا أنه يتأيد بهذا الحديث الصحيح وإن تقيد باللفظ الوارد فحسن والله أعلم . ثالثاً : يؤخذ منه ما كان عليه النبي _ من المتابعة للقرآن ولهذا تقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق النبي ﷺ قالت كان خلقه القرآن . رابعاً : يؤخذ من قوله اللهم اغفر لي دليل لمن قال أن النبي ﷺ. ليس معصوماً من الصغائر وفي ذلك خلاف بين أهل العلم ليس هذا محل بسطه ولعل الأقرب في هذا أن النبي ﷺ معصوم من قصد المعصية سواء كانت صغيرة أو كبيرة وقد يقع فيما يعد من اللمم من قبيل اجتهاد يخطئ ولكن لعلو مقامه يعتبر منه كذنب كقوله تعالى : _ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ _ (التوبة: من الآية43) . وقوله : _ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ _ (النساء: من الآية107) . وكقوله تعالى _ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ _ (آل عمران: من الآية128) . أما الأقوال التشريعية فهو معصوم فيها قال تعالى : _ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى _ (النجم:3-4) . والله أعلم . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله - باب الوتر [124] : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال سأل رجل النبي ﷺ وهو على المنبر ما ترى في صلاة الليل ؟ قال : " مثنى ، مثنى ، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة ، فأوترت له ما صلى " . وإنه كان يقول : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا ". موضوع الحديث : صلاة الليل والوتر . المفردات : وهو على المنبر : جملة حالية أي سأله حال وجوده على المنبر . ما ترى في صلاة الليل : ما استفهامية . قال مثنى مثنى : أي هي مثنى مثنى أي اثنتين اثنتين ، فالضمير مبتدأ ومثنى خبر وهو معدول عن اثنين واثنتين . فإذا خشي أحدكم الصبح : أي خاف أن يدركه الفجر قبل أن يوتر . صل واحدة فأوترت له ما صلى : أي صلى ركعة واحدة . فأوترت له ما صلى : أي صيرته وتراً . الوتر : هو الفرد من العدد وهو ما لا ينقسم على اثنين بدون انكسار . اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً : أي اجعلوا الوتر خاتمة لها . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ من قوله ﷺ صلاة الليل مثنى ، مثنى . أن الأفضل في صلاة الليل أن تكون مثنى ، مثنى . أي يسلم من كل ركعتين وبه أخذ مالك فمنع الزيادة على ركعتين في النافلة وزعم بعض الحنفية أن يتشهد بعد كل ركعتين ورد بأنه قد ورد تفسير مثنى عن راوي الحديث عبد الله بن عمر من طريق عقبة بن حريث عن مسلم قال قلت لابن عمر رضي الله عنه ما مثنى مثنى قال تسلم من كل ركعتين . أما الشافعية فقد أجازوا الزيادة على اثنتين مطلقاً بشرط أن لا يزيد على تشهد في الشفع ولا على ركعة في الوتر . قلت : وقد صرح في المهذب بتفضيل الصلاة مثنى على الزيادة على ذلك . وهو المصرح به في مذهب الحنابلة كما أفاده في الكشاف وإنما فضل أهل العلم الصلاة مثنى في صلاة الليل لأنها وردت من القول والفعل أما الزيادة على اثنتين فقد وردت من الفعل فقط . ثانياً : أنها وردت بصيغة تشبه الحصر قال ابن دقيق العيد رحمه الله ، وإنما قلنا إنه ظاهر اللفظ لأن المبتدأ محصور في الخبر فيقتضي ذلك حصر صلاة الليل فيما هو مثنى وقال في العدة لأنه معرف بالإضافة وتعريفه يفيد قصره على الخبر . ثالثاً : أن الصلاة مثنى أيسر على العبد لأنه يسلم بعد كل ركعتين فيقضي حاجته إن كان له حاجة. وقد صح عن النبي ﷺ أنه صلى أربعاً وأربعاً وثلاثاً وصح عنه أنه صلى خمساً بتشهد وسلام وأنه صلى سبعاً بتشهدين وسلام ، وأنه صلى سبعاً بتشهدين وسلام يجلس على السادسة ثم يتشهد ثم يقوم فيأتي بالسابعة ثم يتشهد ويسلم وأنه صلى تسعاً بتشهدين وسلام يجلس على الثامنة فيتشهد ثم يقوم فيأتي بالتاسعة ويتشهد ويسلم . فهذه الأحاديث تدل على أن الأمر في ذلك واسع وكل ذلك جائز إلا أن الصلاة مثنى مثنى أفضل لما ذكرنا والله أعلم . يؤخذ منه أن وصف المثنوية بصلاة الليل دون صلاة النهار إلا أنه قد وردت رواية عن أصحاب السنن وابن خزيمة في صحيحه وأحمد وغيرهم من طريق علي بن عبد الله البارقي عن ابن عمر بلفظ صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وقد رد قوم هذه الرواية وحكموا على راويها بالوهم لأن الأثبات من أصحاب ابن عمر رووا عنه هذا الحديث بدون زيادة والنهار ، وهم نافع وسالم بن عبد الله بن عمر وعبد الله بن دينار وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وطاووس وعبد الله بن شقيق . ولهذا قال يحيى بن معين ومن علي الأزدي حتى أقبل منه ، أي من يكون إلى جانب هؤلاء الأئمة الأثبات ، وحكم النسائي على راويها بالخطأ . قال في الفتح لكن روى ابن وهب بإسناد قوي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى" ، أخرجه بن عبد البر م طريقه فلعل الأزدي اختلط عليه الموقوف بالمرفوع فلا تكون هذه الزيادة صحيحة على طريقة من يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً . قال وقد روى ابن أبي شيبة من وجه آخر أن ابن عمر كان يصلي بالنهار أربعاً اهـ. وقد احتج يحيى بن سعيد الأنصاري على بطلان هذه الزيادة بأن ابن عمر كان يصلي في النهار أربعاً أربعاً فلو كانت صحيحة لم يخالفها . ورغم شذوذ هذه الزيادة ومخالفة راويها لمن هم أعلى منه ثقة وأفضل منه حفظاً وأكثر منه ملازمة لعبد الله بن عمر وهم عدد وهو واحد ، ومع مخالفتها أيضاً لما صح عن الراوي رغم هذا كله فإن بعضهم قد صححها . ومن المعاصرين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني فإنه قال في تعليقه على صحيح ابن خزيمة الحديث رقم 1210 : قلت : إسناده صحيح ، كما حققته في صحيح أبي داود رقم 1172 وغيره . ناصر . وحكى الحافظ في التلخيص تصحيحه عن ابن خزيمة وابن حبان والحاكم . ومن صححه فقد أيده بإطلاق حديث عبد الله بن الحارث عند أبي داود وفي سنده عبد الله بن نافع بن العمياء وهو ضعيف وأخرج الترمذي نحوه عن ربيعة بن الحارث عن الفضل بن عباس مرفوعاً بلفظ الصلاة مثنى مثنى تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع وتمسكن وفي سنده أيضاً عبد الله بن نافع المذكور قال الحافظ في التلخيص وله طرق أخرى منها ما أخرجه الطبراني في الأوسط والدارقطني في غرائب مالك . وقال به الحنيني عن مالك عن نافع عن ابن عمر . قلت : الحنيني هو إسحاق بن إبراهيم الحنيني . قال في التقريب ضعيف ، قال الذهبي في الكاشف ضعفوه ، ومنها ما أخرجه الدارقطني من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، وفي إسناده نظر . قلت : تبين من هذا الاستعراض لطرقه أنها كلها ضعيفة وأن تصحيحه لا يعدو أن يكون تساهلاً والله أعلم . قال ابن دقيق العيد كما يقتضي ظاهره "أي حديث صلاة الليل مثنى مثنى" عدم الزيادة على الركعتين فكذلك يقتضي عدم النقصان منها ، وقد اختلفوا في التنفل بركعة مفردة والمذكور في مذهب الشافعي جوازه وعن أبي حنيفة منعه قلت : المعروف عن مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الإيتار بركعة ولو صلى قبلها مثنى ، أما غير الحنفية فقد جوزوا الإيتار بركعة إذا تقدمتها صلاة ومنعوا التنفل بركعة مفردة لم تتقدمها صلاة إلا ما ذكر عن مذهب الشافعي أنه يجيز ذلك . وقال في المغني : قال بعض أصحابنا : ولا يصح التطوع بركعة ولا بثلاث ، وهذا كلام الخرقي . وقال أبو الخطاب في صحة التطوع بركعة روايتان أحدهما يجوز كما روى سعيد قال جرير عن قابوس عن أبيه قال دخل عمر المسجد فصلى ركعة ثم خرج فتبعه رجل فقال يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة فقال هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص ، ولنا أن هذا خلاف قول رسول الله ﷺ صلاة الليل مثنى مثنى ولأنه لم يرد الشرع بمثله والأحكام إنما تتلقى من الشارع اهـ. واستدل الشافعية لجواز التطوع بركعة مفردة بحديث الصلاة خير موضوع فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر عزاه الألباني في تخريج الجامع الصغير 3764 للطبراني في الأوسط وقال حسن وذكره الصنعاني في العدة بلفظ فمن شاء استكثر ومن شاء استقل وقال صححه ابن حبان . قلت : وعلى تقدير صحته فليس فيه دليل على موضع النـزاع لأن أل في الصلاة للعهد الذهني ولم يعهد عن الشارع ﷺ أنه صلى ركعة مفردة لم يتقدمها شيء ، وقد قال ﷺ : " صلوا كما رأيتموني أصلي " . وهل يصح الإيتار بركعة مفردة لم تتقدمها صلاة . يقال في هذا ما قيل في سابقه اللهم إلا أن ينام عن وتره فيقوم متأخراً قد طرقه الفجر أو كاد فيوتر بواحدة مبادرة للفجر وقد فعله عبد الله بن مسعود وحذيفة . وأما الحنفية فقد خصصوا الإيتار بواحدة بحالة الضرورة كهذه الصورة واستدلوا على ذلك بقوله فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة . رابعاً : يؤخذ من قوله : " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى ". وفي رواية عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه عن عبد الله بن عمر _ عند البخاري رقم 993 : " فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت " ، دليل على مشروعية الإيتار بركعة وإلى ذلك ذهب الجمهور ومنعت ذلك الحنفية فقالوا لا يصح الوتر إلا بثلاث وقد نقل الإيتار بركعة عن جماعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص ومعاوية وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وحذيفة ، أخرج ذلك عنهم عبد الرزاق في المصنف بأسانيد صحيحة . وروى محمد بن نصر في قيام الليل الإيتار بركعة عن ابن عمر ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي هريرة ، وفضالة بن عبيد وأبي موسى ، ومن التابعين عن عطاء ومحمد بن سيرين والحسن البصري وبن شهاب الزهري ، وحكاه أيضاً عن مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وهو ثابت عن النبي ﷺ من قوله وفعله ، فأما القول ففي حديث عبد الله بن عمر الثابت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها وفيه فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة توتر له ما قد صلى ، وفي لفظ عبد الرحمن بن القاسم الذي ذكرته في هذا البحث فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت . وأما الفعل فقد ثبت إيتاره بركعة من حديث ابن عباس عند البخاري ومسلم من حديث عائشة عند مسلم ومن حديث ابن عمر عن البخاري ومسلم . وقال الشوكاني في السيل الجرار (1/326) : أما الإيتار بركعة فقد ثبت ثبوتاً متواتر وذلك واضح ظاهر لمن له أدنى اطلاع على السنة المطهرة اهـ. وروى الطحاوي في معاني الآثار بسند في غاية الصحة من طريق عروة عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : كان رسول الله ﷺ يصلي فيما بين أن يفرغ من العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة . وهذه الأحاديث الصحاح كلها أدلة ساطعة تدل على سنية الإيتار بركعة وترد على من كره ذلك . والله يعلم أنه ضاق صدري حينما قرأت باب الوتر في معاني الآثار للطحاوي فرأيته- رحمنا الله وإياه – على كثرة ما أورد من أحاديث وآثار تدل على سنية الإيتار بواحدة أو بثلاث متصلة بتشهد وسلام ، أو بثلاث يفصل شفعها عن وترها بتشهد وسلام ، فتعود إلى الإيتار بواحدة ، يدعى إجماعاً على خلاف ما دلت عليه هذه الأحاديث والآثار ، ويتأول الأحاديث والآثار بتأويلات متعسفة لكي توافق رأي إمامه . وكم ترى من جهبذ في العلم كهذا يحاول التخلص من سنة ثابتة لكي ينـزل على رأي إمامه كأن رأي الإمام هو الأصل وسنة النبي ﷺ هي الفرع وفي هذا من شرك التحكيم ما فيه . خامساً : يؤخذ من قوله " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى واحدة " وفي رواية فليركع ركعة توتر له ما صلى أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر ، قال ابن دقيق العيد وفي مذهب الشافعي وجهان أحدهما أنه ينتهي بطلوع الفجر والثاني أنه ينتهي بصلاة الصبح . اهـ. قلت : وفي المذهب الحنبلي أن وقته ينتهي بطلوع الفجر قال في المغني ، ووقته ما بين العشاء وطلوع الفجر الثاني فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره ، وقال الثوري وأبو حنيفة إن صلاها قبل العشاء ناسياً لم يعده وخالفه صاحباه فقالا يعيد ، وكذلك قال مالك والشافعي اهـ. وهذا القول هو الذي تؤيده الأدلة وعليه الإجماع . قال المقريزي في مختصر قيام الليل والوتر للمروزي في باب وقت الوتر والذي اتفق عليه أهل العلم أن ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر وقت للوتر ، واختلفوا فيما بعد ذلك إلى أن يصلي الفجر وقد روى عن النبي ﷺ أنه أمر بالوتر قبل طلوع للفجر اهـ. قلت : وحديث عائشة الآتي بلفظ من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى وانتهى وتره إلى السحر . يدل دلالة واضحة أن وقت الوتر ينتهي بانقضاء وقت السحر ، ووقت السحر ينقضي بطلوع الفجر الثاني . ومما يدل على انقضاء وقت الوتر بطلوع الفجر القاني حديث أبي سعيد عند مسلم أنهم سألوا النبي ﷺ عن الوتر فقال أوتر قبل الصبح وفي لفظ له أوتر قبل أن تصبحوا . وقد أخذنا بما صح عن النبي ﷺ وما انعقد عليه الإجماع من أمته وتركنا ماعدا ذلك لأنه اجتهاد من غير معصوم والله أعلم . سادساً : يؤخذ من قوله فإذا أردت أن تنصرف فاركع ركعة توتر لك ما صليت . دليل على وجوب الوتر إلا أن في الاستدلال بهذا الحديث على الوجوب نظر لأنه كان جواباً على سؤال واستدل القائلون بالوجوب أيضاً بحديث إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن، وليس فيه دليل على الوجوب العام وإن صح واستدل للوجوب أيضاً بحديث أن الله زادكم صلاة ألا وهي الوتر فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر قال في نصب الراية روى من حديث خارجة بن حذافة ومن حديث عمرو بن العاص وعقبة بن عامر ومن حديث ابن عباس ومن حديث أبي بصرة الغفاري ، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . ومن حديث ابن عمر ومن حديث أبي سعيد ثم ساقها ، ونقل عن البزار أنه قال في مسنده : وقد روى في هذا المعنى أحاديث كلها معلولة ونقل عن ابن الجوزي في التنقيح أنه قال لا يلزم أن يكون المزاد من جنس المزاد فيه . قلت : وعلى تقدير صحة هذا الحديث فليس فيه دليل على الوجوب بل غاية ما فيه أنه يدل على الفضيلة ؛ لأن كلمة الإمداد والزيادة لا تفيد الوجوب . والله أعلم . واستدل للوجوب أيضاً بحديث ابن بريدة " الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا " . أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود وابن أبي شيبة وأخرج ابن أبي شيبة من طريق معاوية بن قرة عن أبي هريرة نحو حديث ابن بريدة ، وفي سنده خليل بن مرة الضبعي البصري ضعيف من السابعة قاله في التقريب وهو منقطع بين معاوية وأبي هريرة واستدل للوجوب أيضاً بحديث اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا أخرجه الشيخان وتعقب بأن صلاة الليل ليست بواجبة فكذا آخره . وبأن الأصل عدم الوجوب حتى يقوم دليل على الوجوب اهـ. قال الشيخ مباركفوري في تحفة الأحوذي . قلت : هذا الحديث إنما يدل على وجوب جعل آخر صلاة الليل وتراً لا على وجوب نفس الوتر المطلوب هذا لا ذا فالاستدلال به على وجوب الوتر غير صحيح ، وكذا الاستدلال بحديث جابر أوتروا قبل أن تصبحوا رواه الجماعة إلا البخاري ليس بصحيح فإنه إنما يدل على وجوب الإيتار قبل الإصباح لا على وجوب نفس الإيتار . واستدل أيضاً بحديث أبي أيوب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة مرفوعاً بلفظ الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل الحديث . قال في مختصر السنن وقد وقفه بعضهم ولم يرفعه إلى رسول الله ﷺ. أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة مرفوعاً كما ذكرناه من رواية بكر بن وائل عن الزهري وتابعه على رفعه الإمام أبو عمرو الأوزاعي وسفيان بن حسن ومحمد بن أبي حفصة وغيرهم ويحتمل أن يكون يرويه مرة من فتياه ومرة من روايته اهـ. وقال في معالم السنن وقد دلت الأخبار الصحيحة أنه لم يرد بالحق الوجوب الذي لا يسع غيره ومنها خبر عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما بلغه أن أبا محمد "رجلاً من الأنصار" يقول الوتر حق فقال كذب أبو محمد ثم روى عن رسول الله ﷺ حديث خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة الحديث اهـ. وبهذا تعلم أن كل ما أجلب به الحنفية لا ينتهض للوجوب ولا يصلح دليلاً عليه ، نعم هذه الأحاديث تفيد الحث على الوتر والمبالغة في تأكيده ولذلك فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوتر سنة وليس بواجب ولهم أدلة على ما ذهبوا إليه منها الصحيح ومنها الضعيف وأصح تلك الأدلة وأبينها في الدلالة على ما ذهبوا إليه ما رواه الشيخان عن ابن عمر بلفظ كان رسول الله ﷺ يسبح على الراحلة قِبَل أي وجه توجه ويوتر عليها غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة ، وهذا لفظ مسلم ، وأخرج البخاري هذا اللفظ عن الليث معلقاً من طريق يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه وقال الحافظ وصله الإسماعيلي بالإسنادين المذكورين قبل ببابين وقد أخرجه جماعة غيرهم قال النووي في شرح مسلم على قوله ويوتر على الراحلة ، فيه دليل لمذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور أنه يجوز الوتر على الراحلة في السفر حيث توجه وأنه سنة وليس بواجب . وقال أبو حنيفة رحمه الله هو واجب ولا يجوز على الراحلة . ومما يدل على عدم الوجوب حديث علي المتقدم الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة سنها رسول الله ﷺ وحديث عبادة الذي سبقت الإشارة إليه أنه قال حين أخبر عن أبي محمد أنه يقول الوتر حق فقال كذب أبو محمد سمعت رسول الله ﷺ يقول خمس صلوات كتبهن الله على العباد الحديث . ومما يدل على عدم الوجوب ما أخرجه مسلم عن عائشة أن النبي ﷺ. صلى في المسجد ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس الحديث وفيه فلما أصبح قال قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ، وأخرج ابن نضر في قيام الليل والوتر من طريق عيسى بن جارية وفيه لين عن جابر بمعنى حديث عائشة وفيه فقلنا يا رسول الله رجونا أن تخرج فتصلي بنا فقال إني كرهت أو خشيت أن يكتب عليكم الوتر . أما حديث : "ثلاث هن على فرائض ولكم تطوع النحر والوتر وركعتا الضحى" . فهو ضعيف ؛ لأنه من رواية أبي جنّاب الكلبي وهو ضعيف ، وتابعه جابر الجعفي وهو أضعف منه وتابعهما أيضاً وضاح بن يحيى ، عن مندل بن علي ، عن يحيى بن سعيد عن عكرمة وهو ضعيف أيضاً ، قال ابن حبان : لا يحتج به كان يروي الأحاديث التي كأنها معلولة ومندل أيضاً ضعيف ، ولهذا فقد أطلق الأئمة على هذا الحديث الضعف كأحمد وابن الصلاح وابن الجوزي والبيهقي والنووي وروى الدارقطني له شاهداً من حديث أنس وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف جداً اهـ. ومن ما سبرته تعلم أن الوتر سنة مؤكدة وليس بواجب ، وفيما ذكرته مقنع لمن أراد الحق وتجرد عن الهوى . والله أعلم . سابعاً : يؤخذ من قوله ﷺ : وأنه كان يقول : " اجعلوا آخر صلاتكم باليل وتراً " وجوب ختم صلاة الليل بالوتر وجعله في آخرها ، وقد اختلفوا في ذلك هل هو على الإيجاب أم على الندب ؟ . فذهب جماعة إلى وجوب جعل الصلاة من آخر الليل وتراً واحتجوا بقولـه ﷺ : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً " ، حكى ذلك عنهم المروزي في قيام الليل ، وقال : منهم إسحاق بن إبراهيم وجماعة من أصحابنا يذهبون إلى هذا اهـ. وهؤلاء يأمرون من أوتر من أول الليل ثم قام آخره أن يشفع وتره بركعة ثم يصلي مثنى ، فإذا كان آخر صلاته أوتر ، وهذا مروي عن جماعة من الصحابة منهم عثمان بن عفان قال : إني إذا أردت أن أقوم من الليل أوترت بركعة فإذا قمت ضممت إليها ركعة ، فما شبهتها إلا بالغريبة من الإبل تضم إلى الإبل . وفعله عبد الله بن عمر وأخبر أنه من رأيه لا رواية وهو مروي أيضاً – أي الشفع بركعة – عن أبي سعيد الخدري وعروة بن الزبير ، وأسامة بن زيد . وأبى ذلك الأكثرون وقالوا : إذا أوتر أول الليل ثم قام آخر الليل فصلى ركعة أخرى لتشفع وتره الأول بعد السلام والكلام والحدث والنوم لم تشفعه بعد ما ذُكر بل تكون وتراً آخراً ، فإذا أوتر من آخر صلاته كان قد صلى ثلاثة أوتار وخالفوا قول النبي ﷺ لا وتران في ليلة وعن ابن عباس أنه لما بلغه فعل ابن عمر لم يعجبه وقال ابن عمر يوتر في ليلة ثلاثة أوتار . وهؤلاء يقولون إن أوتر ثم قام من آخر الليل صلى شفعاً حتى يصبح فإنه إذا صلى شفعاً إلى الوتر يكون قد قطع صلاته على الوتر وممن قال بهذا القول عبد الله بن عباس وعائشة وأبو هريرة ورافع بن خديج وأبو بكر الصديق وعمار بن ياسر وعائذ ابن عمرو ومن التابعين سعيد بن جبير وسعبد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن قال محمد بن نصر وهذا مذهب الشافعي وأحمد وهو أحب إليّ وإن شفع وتره إتباعاً للأخبار التي رويناها رأيته جائزاً . وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن الشعبي أنه سئل عن نقص الوتر فقال إنما أمرنا بالإبرام ولم نؤمر بالنقص وروى عدم النقض عمن ذكروا سابقاً وعن سعد بن أبي وقاص وعلقمة والحسن وإبراهيم النخعي ومكحول وقال الترمذي وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وأحمد وابن المبارك وهذا أصح لأنه روى من غير وجه أن النبي ﷺ قد صلى بعد الوتر ركعتين . قلت : الصلاة بعد الوتر قد أخرجها مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي في حديث سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه أبو داود من طريق علقمة بن وقاص عن عائشة وأخرج الترمذي وأحمد وابن ماجة أن النبي ﷺ كان يصلي بعد الوتر ركعتين زاد ابن ماجة وهو جالس من طريق الحسن عن أمه عن أم سلمة. وحكى الساعاتي تصحيحه عن الدارقطني وأخرج أحمد أيضاً عن أبي أمامة _ الركعتين بعد الوتر وهو جالس وقال فقرأ بـ_ إذا زلزلت _ و _ قل يا أيها الكافرون _ وإذ قد ثبت أن النبي ﷺ صلى بعد الوتر ركعتين فالجمع بين هذه الأحاديث وبين قول النبي ﷺ " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا " ، أن هذه الأحاديث التي أثبتت أن النبي ﷺ صلى بعد الوتر ركعتين صرفت الأمر في قوله اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً من الإيجاب إلى الندبية إذ أن فعله كان بياناً للجواز . هذا هو رأي الجمهور قال النووي الصواب أن هاتين الركعتين فعلهما ﷺ بعد الوتر جالساً لبيان الجواز ولم يواظب على ذلك وأبى ذلك الشوكاني في النيل فقال أما الأحاديث التي فيها الأمر للأمة بجعل آخر صلاة الليل وترا فلا معارضة بينها وبين فعله ﷺ للركعتين بعد الوتر لما تقرر في الأصول أن فعله لا يعارض القول الخاص بالأمة بلا معنى للاستنكار . اهـ. وأقول : الحق أن الأصل في أفعاله ﷺ التشريع إلا ما دل الدليل على خصوصيته به ولا دليل على الخصوصية هنا فلم يبق سوى التشريع وبذلك يترجح قول من قال أن النبي ﷺ فعلها لبيان الجواز وخلاصة هذا البحث أن حديث "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" محمول على الاستحباب وأن الأفضل في الوتر أن يكون آخر صلاة الليل شفعاً ، وأن من أوتر أول الليل وقام في آخره تشرع له الصلاة شفعً ، وأن نقض الوتر لا يمكن ولا يشرع بل هو اجتهاد من غير معصوم خالف النص . والله أعلم . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي - رحمه الله - 125] : عن عائشة رضي الله عنها قال : من كل الليل أوتر رسول الله ﷺ ، من أول الليل ، وأوسطه ، وآخره ، وانتهى وتره إلى السَحَر.. موضوع الحديث : وقت الوتر . المفردات : من كل الليل أوتر : أي صلى وتره في أول الليل ، وصلى وتره في أوسط الليل وصلاه في آخر الليل . وانتهى وتره : أي وصل وقت وتره إلى السحر أي وقت السحور . المعنى الإجمالي : تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ تنقل بوتره في كل الليل ليشرّع لأمته جواز الوتر في كل الليل وحتى لا يكون على أحد من أمته حرج إذا صلاه في أي وقت من الليل وانتهى وقت أداء وتره إلى السحر . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ من الحديث أن كل الليل وقت للوتر ويبدأ من بعد صلاة العشاء إلى وقت السحر . ثانياً : يؤخذ منه أن الأفضل في الوتر أن يكون في آخر الليل ، وذلك إذا فسرنا وانتهى وتره إلى السحر أي انتهى عمله لوتره في آخر عمره إلى السحر ولكن هذا يعكر عليه أن النبي ﷺ قد كان مشدداً على نفسه في قيام الليل منذ نبوته حتى أنزل الله عليه _ طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى _ (طـه:1-2) ، فهو قول مرجوح والراجح أن المعنى وانتهى وتره إلى السحر بالنسبة إلى الليل وليس بالنسبة إلى عمره ولكن أفضلية تأخير الوتر تؤخذ من الآيات القرآنية التي تحث على قيام الليل مع قوله "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً". ثالثاً : يؤخذ منه أن وقت الوتر ينتهي بطلوع الفجر الثاني وقد تقدم في الحديث الذي قبله بحث هذه المسألة والخلاف فيها والترجيح . رابعاً : يؤخذ منه أن الوتر أول الليل أفضل لمن لا يثق من نفسه بالقيام ، وقد ورد في ذلك حديث رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجة بلفظ من خاف ألا يقوم ولأحمد من ظن منكم ألا يستيقظ آخر الليل فليوتر أوله ، الحديث وفي آخره للجميع فإن قراءة آخر الليل مشهودة وفي رواية محضورة وذلك أفضل . خامساً : إذا أوتر العبد أول الليل ثم استيقظ من آخره فهل يشفع وتره أو يصلي شفعاً حتى يصبح سبق بحث هذه المسألة مستوف ولله الحمد والمنة . سادساً : إذا فات وقت الوتر بنوم أو نسيان فهل يقضيه أم لا ؟ ذهب إلى قضائه جماعة من أهل العلم مستدلين بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا ذكر أو استيقظ ، أخرجه الترمذي وابن ماجة في سنده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم متروك ورواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي ، وأخرجه أبو داود بسند صحيح صححه العراقي وغيره كما ذكر ذلك الشوكاني في النيل وبحديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ بلفظ إذا أصبح أحدكم ولم يوتر فليوتر أخرجه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي . وبحديث أبي نهيك أن أبا الدرداء خطب الناس فقال : " لا وتر لمن أدركه الصبح " فانطلق رجال إلى عائشة فأخبروها فقالت كذب أبو الدرداء كان النبي صلى يصبح فيوتر ، أخرجه المروزي وسنده حسن . وبحديث معاوية بن قرة قال جاء رجل إلى النبي صلى فقال إني لم أوتر حتى أصبحت فقال إنما الوتر من الليل فأعاد عليه فأمره أن يوتر وفي سنده خالد بن أبي كريمة صدوق يخطئ ويرسل كثيراً ، وبحديث ابن عمر عند الدارقطني مرفوعاً من فاته وتره من الليل فليقضه من الغد ، وفي سنده أبو عصام رواد وفيه مقال ونهشل بن سعيد الورداني وهو متروك وكذبه إسحاق . وهذه الأحاديث بمجموعها تكون حجة للقائلين بالقضاء ولهذا فقد قال بالقضاء جماعة من الصحابة والتابعين منهم عبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت وعامر بن ربيعة وأبو الدرداء ومن التابعين القاسم بن محمد وسعيد بن جبير وعطاء وأبي نضرة وطاووس وغيرهم وحكاه الشوكاني عن الأئمة الأربعة إلا أنهم اختلفوا في الوقت الذي يقضي فيه فقال بعضهم يقضيه ما لم يصل الصبح وقال بعضهم يقضيه ما لم تطلع الشمس وقال بعضهم يقضيه ما لم يصل الظهر أو ما لم تزل الشمس ، وهذا القول الأخير هو الأسعد بالدليل لحديث عمر بن الخطاب مرفوعاً من نام عن حزبه من الليل وعن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل . رواه الجماعة إلا البخاري ومعلوم أن ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس غير مقصود لأنه وقت نهي بعموم قوله ﷺ من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وعليه يحمل فعل الصحابة للوتر بعد طلوع الفجر أنهم فعلوا قضاء ولم يفعلوا أداء وبهذا تجتمع الأدلة . فإن قيل فكيف تجمع بين الأحاديث الدالة على قضاء الوتر وبين حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وغيره كان رسول الله ﷺ إذا عمل عملاً أثبته وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة . فأقول : الجمع بينهما أن حديث عائشة فيمن كان له ورد من الليل لا يتركه فمتى نام عنه أو مرض صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة وأحاديث قضاء الوتر فيمن فاته الوتر وحده . والله أعلم . وقد ذهب قوم إلى عدم فضاء الوتر وهو مروي عن ابن عباس وابن شهاب ونافع والحسن والبصري وقتادة ومكحول وإبراهيم النخعي والشعبي ومالك بن أنس والشافعي في رواية الزعفراني عنه والإمام أحمد بن حنبل وأيوب وأبو خيثمة وإسحاق وذكر ذلك عنهم ابن نصر المروزي في قيام الليل واحتج لهم بما رواه الترمذي عن ابن عمر مرفوعاً إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر وقال سليمان بن موسى قد تفرد به على هذا اللفظ قال وهو قول غير واحد من أهل العلم وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق لا يرون الوتر بعد صلاة الصبح . قلت : سليمان بن موسى الأموي الأشدق قال في التقريب صدوق فقيه في حديثه بعض لين وخلط قبل موته بقليل . واحتج لهم أيضاً بما رواه ابن خزيمة في صحيحه من طريق أبي سعيد الخدري مرفوعاً بلفظ من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له وإسناده صحيح وأخرجه محمد بن نصر في قيام الليل من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد مرفوعاً بلفظ نادى منادي رسول الله صلى " لا وتر بعد الفجر " إلا أنه في سنده أبا هارون العبدي وهو متروك ، وقد كذبه بعضهم ولكن حديث ابن خزيمة صحيح صححه الألباني – رحمه الله – وهو كما قال ، وإذ قد صح حديثا ابن عمر وابي سعيد وظاهرهما المنع من الإيتار بعد الصبح مطلقاً . والقاعدة الاصطلاحية أن ينظر بين الحديثين المتعارضين فإن أمكن الجمع بينهما عمل به وإلا رجع إلى الترجيح وهنا يمكن الجمع بأن يحمل حديث ابن عمر على أنه إذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء ويحمل حديث ابن عمر على أنه إذا طلع الفجر الثاني فقد ذهب وقت الأداء ويحمل حديث أبي سعيد أن من أدركه الصبح ولم يوتر فلا وتر له أداء ويحمل ما عدا ذلك من الأحاديث الدالة على الأمر بفعله بعد الفجر محمول على القضاء وكذلك فعل الصحابة له بعد طلوع الفجر يحمل على أنهم فعلوه قضاء وبهذا تجتمع الأدلة ويعمل بكل حديث في موضعه من غير تصادم بين الأدلة الشرعية ولا إطراح لبعضها . والله أعلم . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله - [126] : عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله ﷺ يصلي من الليل ثلاث عشر ركعة ، يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء منها إلا في آخرها. موضوع الحديث : عدد ركعات صلاة الليل . المفردات : يوتر من ذلك بخمس : أي يجعلها وتراً لكونها متصلة بسلام وتشهد واحد . المعنى الإجمالي : تخبر عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ. كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة يوتر منها بخمس متصلة لا يفصل بينها بتشهد ولا سلام . فقه الحديث : أولاً : اختلفت الروايات عن عائشة رضي الله عنها في عدد صلاة النبي ﷺ بالليل فرواية تقول كان يصلي إحدى عشرة ركعة أربعاً وأربعاً وثلاثاً ولا يزيد عليها لا في رمضان ولا في غيره وهي رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عنها ، والرواية الثانية تقول كانت صلاة النبي ﷺ بالليل ثلاث عشرة ركعة منها الوتر وركعتا الفجر وهي رواية القاسم بن محمد عنها. والرواية الثالثة تقول كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة ثم يصلي إذا سمع النداء الصبح ركعتين خفيفتين فتكون الثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر ، وهذه الرواية توافق الحديث الذي نحن بصدد شرحه وهي رواية هشام بن عروة عنها. ومن أجل ذلك فقد أُدعى الاضطراب في حديثها في صفة صلاة النبي ﷺ بالليل ونفى القرطبي ذلك وقال : وهذا – أي الاضطراب – إنما يتم لو كان الراوي عنها واحد أو أخبرت عن وقت الصواب أن كل شيء ذكرته من ذلك محمول على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط وبيان الجواز. قلت : الذي يظهر لي في الجمع بين هذه الروايتين أن عائشة رضي الله عنها أخبرت أبا سلمة بما علمته من فعله في بيتها في صلاة الليل وحدها ثم ضمت إليها ركعتي الفجر كما في الرواية الأخرى ثم علمت أن النبي ﷺ صلى في بيت ميمونة ثلاث عشرة من غير ركعتي الفجر فحدثت به كما في الرواية الثالثة والله أعلم . ثانياً : يؤخذ منه عدد صلاة النبي ﷺ في الليل وأنها لم تزد على ثلاث عشرة وإذا كان هذا عدد صلاة النبي ﷺ في رمضان وغيره فما حكم الزيادة على ذلك في التراويح ، فقد ثبت أن عمر بن الخطاب _ جمع الناس في خلافته على قارئ وأنهم كانوا يصلون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين . وإليك تفصيل القول في هذه المسألة مع بيان مذاهب العلماء فيها ، وبيان الراجح مؤيداً بالأدلة ، فأقول ومن الله أستمد العون وأسأله أن يلهمني الصواب : أولاً : ينبغي أن نعلم أن النفل المطلق لم يرد في الشرع حصره في عدد معين ففي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال لعبد الله بن عمرو : " ألم أُخبر أنك تقوم الليل وصوم النهار " قال : إني أفعل ذلك ، قال : " فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينيك ، ونفهت نفسك ، وإن لنفسك حقاً ، ولأهلك حقاً فصم وأفطر ، وقم ونم ". فلم يحده على عدد معين في قيام الليل ، ولم ينهه عن قيام كل الليل من أجل ذلك ، ولكن من أجل أن ذلك يؤدي إلى ضعف القوى وتلف الجسم ثم يؤدي بعد ذلك إلى الإخلال بالحقوق الواجبة لله أو للنفس أو الناس . ومثل ذلك ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت عندي امرأة من بني أسد فدخل عليّ رسول الله ﷺ فقال : من هذه ؟ قلت : فلانة لا تنام الليل – تذكر من صلاتها - ، فقال : " مَهْ ! عليكم ما تطيقون من الأعمال ، فإن الله لا يملّ حتى تملوا " . فقولـه :" عليكم ما تطيقون من الأعمال " تحديد للعمل بالطاقة وليس بالعدد وهو إن كان عاماً في جميع الأعمال إلا أن نوافل الصلاة تدخل في ذلك دخولاً أولياً ؛ لأنها السبب في صدور هذا القول من النبي ﷺ . وقوله : "فإن الله لا يمل حتى تملوا" أي : أن الله لا يمل من إعطاء الثواب والأجر حتى تملوا من العمل . ومثل قولـه ﷺ : " الصلاة خير موضوع فمن شاء استقل ومن شاء استكثر " ، وفي هذا كله دليل أن النفل المطلق لا يحدد بعدد معين بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده . ومما يدل على ذلك أيضاً حديث عمرو بن عبسة الذي رواه مسلم في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها وفيه : فقلت : يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة ، قال : " صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان ، وحينئذٍ يسجد لها الكفار ، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح ، ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذٍ تسجر جهنم فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس ". فقوله :" ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة أمر إباحة لا تحديد فيه ، وكذلك قوله ﷺ في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : " صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فصل واحدة .. " الحديث يدل على إباحة الصلاة بدون عدد معين ومما يدل على هذا المعنى من القرآن قوله تعالى : _ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ _ (البقرة: من الآية148) . فالأمر بالتسابق إلى الخيرات عام يشمل النفل في الصلاة وغيره . ثانيا : أن الناس كانوا يصلون في زمن النبي وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر متفرقين ، هذا يصلي في بيته ، وهذا يصلي في المسجد ، وهذا يصلي وحده وهذا يصلي بصلاته الجماعة ولم يأمر النبي _ أحداً منهم بعدد لا يتجاوزه . فقد روى البخاري من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى قال : " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر لـه ما تقدم من ذنبه " قال بان شهاب : فتوفي رسول الله ﷺ والناس على ذلك ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما . وعن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه قال خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاعاً متفرقون ، يصلي الرجل لنفسه ، ويصلي الرجل فيصلي بصلاة الرهط ، فقال عمر : إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ، ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم فقال : " نعم البدعة هذه " ، والتي ينامون عنها أفضل. ثالثاً : أن تسمية أمير المؤمنين عمر رضيي الله عنه لجمع الناس على قارئ واحد بدعة وإنما هو من باب التجوّز لهضم نفسه وإلا فصلاة النبي ﷺ بالناس الذين حضروا معه أتموا به فيها ثلاث ليال كافية لشرعية الجماعة في التراويح ولا ينافي الشرعية امتناعه عن الخروج إليهم في الليلة الرابعة لأنه قد بين السبب في عدم خروجه وهو خشية أن تكتب عليهم. رابعاً : قد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر أبي بن كعب وتميم الداري أن يصليا بالناس التراويح إحدى وعشرين ركعة ، فكانوا يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر . وأخرج عبد الرزاق أيضاً عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر رضيي الله عنه. وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على عهد عمر ثلاثة وعشرون ركعة . وأخرج ابن نصر في قيام الليل عن السائب بن يزيد أنهم كانوا يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويقرؤون بالمئين من القرآن وأنهم كانوا يعتمدون على العصي في زمان عمر بن الخطاب . والجمع بين هذه الآثار : أنهم كانوا أحياناً يوترون بواحدة فتكون إحدى وعشرين ، وأحياناً يوترون بثلاث فتكون ثلاثاً وعشرين ، وأحياناً يحكي التراويح بدون وتر ، ولا يعكر عليه ما رواه محمد بن نصر عن السائب بن يزيد . أمر عمر ن الخطاب رضي الله عنه أبي بن كعب وتميم الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، وفي رواية : كنا نصلي في زمن عمر بن الخطاب في رمضان ثلاث عشرة ركعة ولكن والله ما كنا نخرج إلا في وجاه الصبح . فالجمع بين هذه الآثار ممكن بحمل هذا الأثر والذي قبله على البدء والآثار المتقدمة على النهاية وتوضيح ذلك والله أعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمرهم أن يقوموا بإحدى عشرة أو ثلاث عشرة يطيلون فيها القيام والركوع والسجود اقتداء بالنبي ﷺ في صلاته ، وكانوا يصلون معظم الليل فطال عليهم ذلك وهذا ما يوحي به قوله : " وكانوا يعتمدون على العصي من طول القيام " فلعله قد اشتكى بعضهم إلى عمر فأمرهم أن يضعفوا عدد الركعات ليخف عليهم القيام فبدلاً من عشر وركعة أو ثمان وثلاث أو عشر وثلاث يصلون عشرين وركعة أو عشرين وثلاثاً ليكون في ذلك دفعاً لهمة الضعيف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة وجمعاً بين مصلحة هؤلاء وهؤلاء فلو أبقى الأمر على ما كان عليه أولا من طول القيام والركوع والسجود مع عدد الركعات لا نقطع ضعيف الهمة ولو التزم تقصير القيام الركوع والسجود مع عدد الركعات التي علمت عن النبي صلى وهي الإحدى عشرة والثلاث عشرة لبقي قوي الإيمان الراغب في العبادة المطبق لها يطلب الزيادة فكان في زيادة عدد الركعات وتخفيف القيام والقعود والركوع والسجود علاج حكيم يجمع بين رغبة الفريقين ولا يفوت على أحد منهم شيئاً ، وهذا إنما يكون حسناً في حق من احتاج إلى تكثير عدد الركعات ليشغل وقتاً طويلاً من الليل في العبادة من دون مشقة تحصل لـه بطول القيام . أما من كان يصلي عشرين ركعة بجزء أو نصف جزء مثلاً فالأفضل له أن يصلي ثمان ركعات بجزء أو نصف جزء مثلاً ويوتر بثلاث فإن أدى الأمر بالمصلي إلى الاستعجال المخل مع التزام عدد الركعات عشرين أو ثلاثين ، أو غير ذلك يرى أنه لزاماً عليه أن يأتي بها ولو بالإخلال بالركوع والسجود والاعتدال فأخشى على مثل هذا أن يكون آثماً لا مثاباً ، ومأزوراً لا مأجوراً ، فالله قد خاطب عباده باتباع رسوله ﷺ دون غيره ، وأمرهم بطاعته دون سواه . ولسنا ننكر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمر النبي ﷺ بطاعتهم واتباع سنتهم حيث يقول عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ . إلا أن عمر رضي الله عنه لم يأمر بزيادة الركعات التي زادها إلا للعلة التي سبرناها سابقاً وهي المشقة الحاصلة بطول القيام لأنهم ما كانوا يخرجون من الصلاة إلا في وجاه الصبح أي الصبح الأول الذي يحل فيه السحور كما في الأثر السابق وورد في بعض الروايات أنهم كانوا إذا خرجوا يستعجلون الخدم بالسحور خوف الفوات بطلوع الفجر الثاني . ومن ما فصلته تعلم أن فعل النبي ﷺ هو الأكمل والأفضل وأن الزيادة عليه داخلة تحت عمومات القول فلا مكان للتبديع ، وأن من التزم عدداً معيناً كالعشرين أو ست وثلاثين أو غير ذلك كالتزام الفريضة ولو أخل بالقراءة أو الركوع والسجود فإنه قد أساء ويخشى عليه أن يبلغ به ذلك إلى شرك التحكيم . وقد زعم الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله – في صلاة التراويح له وهي الرسالة الثانية من كتاب تسديد الإصابة له ، أن التراويح لم يثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاها عشرين ثم قال : تحقيق الأخبار الواردة في ذلك وبيان ضفعها ... ثم ساق الآثار الواردة في ذلك وضعفها جميعاً بتحامل شديد . وأنا مع احترامي للشيخ الألباني – رحمه الله – وحبي إياه ؛ أرى أنه قد جازف في ذلك ، إذ أن الأمر بالعشرين قد ثبت بنقل العدل عن العدل المؤيد بالعمل المستمر على ذلك الذي تؤكده الآثار المستفيضة التي تدل أن السلف قد فهموا أن النفل المطلق لا تحديد فيه ؛ بل يترك لكل إنسان فيه طاقته وجهده ، وأن ما نقل عن النبي ﷺ من الإحدى عشرة والثلاث عشرة مع طول القيام والركوع والسجود هو الأفضل وأن من خفف القيام والركوع والسجود وكثر عدد الركعات فإن ذلك جائز له ما لم يصل التخفيف إلى حد الإخلال الممقوت . أما كون العدد الذي صلاه النبي ﷺ هو اللازم الذي لا يجوز لأحد أن يتجاوزه أو يقصر عنه فهذا مردود بأمور : أولاً : أن النبي ﷺ لم يأمر أحداً بالتزام ذلك العدد الذي كان يصليه صلوات الله وسلامه عليه فلا يزيد عليه ولا يقصر عنه ولو فعل لتحول التطوع إلى فرض وهذا ما كان النبي ﷺ يحذره على أمته . ثانياً : أنا قد قدمنا نقل أحاديث صحاح تدل على أن النفل المطلق لا تحديد فيه بل هو موكول إلى الطاقة والجهد والرغبة في العبادة . ثالثاً : أن النبي ﷺ قد أخذ بالأفضل مع التوسط في العدد واليسير الذي يلائم الكثرة الكاثرة من أمته من دون مشقة تحصل عليهم وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يحب اليسر وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما . رابعاً : أنه لا يختلف اثنان فيما أعلم أنه لو قام أحد الليل كله بركعتين أو أربع لاعتبر قد قامه ولا يستطيع أحد أن يقول أنه مبتدع أو مخالف للسنة أو عاص لله ، وقد ورد عن بعض السلف أنهم قرأوا القرآن كله في ليلة وفي ركعة أو ركعتين . خامساً : أن أهل العلم قد اختلفوا هل الأفضل طول القيام والركوع والسجود مع قلة الركعات أو تكثير الركعات مع تخفيف القيام والركوع والسجود ، وفي ذلك حديثان مختلفان وقد نقل محمد بن نصر عن الشافعي أنه فضل طول القيام والركوع والسجود ، وأما الإمام أحمد فقد نقل عنه التوقف . سادساً : من المعلوم أن طاقات الناس تختلف في القوة والضعف وفي شرعية الوجهين تيسير على أمة محمد ليعمل كل واحد أو كل جماعة على قدر حالهم فالذين يشق عليهم طول القيام ويريدون مع ذلك أن يشغلوا وقتاً طويلاً في العبادة ، فلا شيء عليهم أن يكثروا عدد الركعات ويقصروا القيام ، وهذا في رأيي هو الذي حمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يأمر بإضعاف عدد الركعات من عشر إلى عشرين مع الوتر ليجمع بين المصلحتين فيكون في ذلك دفعاً لهمة الضعف وإشباعاً لنهمة الراغب في العبادة . سابعاً : أن حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " يحمل على الكيف والكم في الفرائض والسنن الرواتب ، وأعنى بالكيف والكم أي كيف نصليها وكم نصليها ؟ فلا يجوز أن نصلي المغرب أربعاً ، ولا أن نصليها ثلاثاً بتشهد واحد وسلام . أما النفل المطلق كصلاة الليل فيحمل فيه حديث " صلوا كما رأيتموني أصلي " أن المراد به الكيف لا الكم ، أي فالأمر فيه محمول على الكيفية لا على العدد ؛ لأن الأحاديث الدالة على عدم التحديد فيه مخصصة لهذا الحديث على وجوب التأسي في الكيفية لا في العدد ، ولا مانع أن يكون الأفضل التأسي به أيضاً في العدد فيكون صارفاً له من الوجوب إلى الندبية . والله أعلم . ثامناً : أنه لا منافاة بين المرفوع والموقوف إذ الجمع ممكن بحمل ما ثبت عن النبي ﷺ من الإحدى عشرة والثلاث عشرة على الأفضل ، وما ثبت عن أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه من الأمر بالعشرين على جواز الزيادة على ذلك إذا دعت الحاجة . وقد عُلم من القاعدة الأصولية أنه لا يجوز الانتقال إلى الترجيح إلا عند تعذر الجمع ؛ ذلك لأن الجمع يعمل فيه بالنصين معاً ، أما الترجيح لأحدهما فلابد فيه من إلغاء أحد النصين بتضعيفه ، أو الحكم بشذوذه ، أو نسخه . ومن هنا نعلم أن تضعيف هذه الآثار وتلمس القدح في رواتها العدول أمر لا ينبغي . تاسعاً : وإلى القارئ الكريم رد ما قدح به الشيخ الألباني – رحمه الله – في رواية العشرين ، والله يعلم أني لم أكتب هذا الرد انتصاراً لمذهب ولا تحيزاً إلى أحد ، ولكن كتبته بياناً للحق الذي ظهر لي بعد البحث والتأمل للنصوص ، مع أني قد كنت برهة من الزمن أعتقد ما اعتقده الشيخ الألباني في هذه المسألة . فأقول : روى مالك في الموطأ من طريق محمد بن يوسف الكندي عن السائب ابن يزيد الكندي أنه قال : أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبيّ بن كعب وتميماً الداري – رضي الله عنهما – أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة ، قال : وقد كان القارئ يقرأ حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام ، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر . قال الشيخ الألباني في صلاة التراويح (ص52) : قلت : إسناده صحيح جداً ، فإن محمد بن يوسف شيخ مالك ثقة اتفاقاً واحتج به الشيخان ، والسائب بن يزيد صحابي حج مع النبي ﷺ وهو صغير . وقد تابع مالكاً على الإحدى عشرة ركعة يحيى بن سعيد القطان عند أبي شيبة ، وإسماعيل بن أمية وأسامة بن زيد ومحمد بن إسحاق عند النيسابوري ، وإسماعيل بن جعفر المدني عند ابن خزيمة ، كلهم قالوا عن محمد بن يوسف به إلا ابن إسحاق ، فإنه قال ثلاث عشرة . اهـ. وقلت : فإذا كان مالك قد روى عن محمد بن يوسف الإحدى عشرة وتابعه جماعة من الثقات على ذلك ، فقد خالفه داود بن قيس الفراء أبو سليمان القرشي مولاهم المدني عند عبد الرزاق في المصنف (4/260) فقال عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد أن عمر جمع الناس في رمضان على أبي بن كعب وعلى تميم الداري على إحدى وعشرين ركعة يقرؤون بالمئين وينصرفون عند فروع الفجر . وإذا كان مالك مجمع على توثيقه محتج به في الصحيحين فإن داود بن قيس مجمع على توثيقه محتج به في الصحيحين ، وقد أثنى عليه أئمة هذا الشأن ووثقوه . أما قوله – رحمه الله - : ولا يجوز أن تعارض هذه الرواية – يعني رواية مالك المتقدمة – الصحيحة بما رواه عبد الرزاق من وجه آخر عن محمد بن يوسف بلفظ إحدى وعشرين لظهور خطأ هذه الرواية من وجهين : الأول : مخالفته لرواية الثقة المتقدمة بلفظ إحدى عشرة . الثاني : أن عبد الرزاق قد تفرد بروايته على هذا اللفظ ،فإن سلم ممن بينه وبين محمد بن يوسف فالعلة منه – أعني عبد الرزاق - لأنه وإن كان ثقة حافظاً ومصنفاً مشهوراً فقد كان عمي في آخر عمره ، فتغير . والجواب على هذا سهل : فإن عبد الرزاق ثقة مخرّج له في الصحيحين ، وقد خرج هذا الأثر في أول كتابه المصنف الذي هو أكثر من عشر مجلدات ضخام ، فهل يستطيع الشيخ أن يقول إنه ألف كتابه هذا بعد أن عمي ؟ لا إخاله يقول ذلك ، والذي يقطع به أنه قد ألف كتابه هذا في وقت قوته وصحته والاختلاط إنما حصل لـه بعد أن عمي في آخر عمره الذي بلغ خمساً وثمانين سنة . ومن جهة أخرى فإن كان عبد الرزاق قد تفرد بهذا الرواية عن داود بن قيس فإن داود بن قيس لم يتفرد بها عن محمد بن يوسف ، والدلالة على ذلك قول عبد الرزاق – رحمه الله – في هذا السند عن داود بن قيس وغيره ، وكأنه لم يذكر أسماء الذين شاركوا داود بن قيس للاختصار ، واكتفى بعدالة داود بن قيس لشهرتها . ثانياً : أن محمد بن يوسف قد تفرد براوية الإحدى عشر التي رواها مالك عنه عن السائب ولم يتفرد برواية الإحدى والعشرين التي رواها عنه داود بن قيس بل رواها معه يزيد بن عبد الله بن خصيفة والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب ، عن السائب رضي الله عنه ، فكيف نحكم بالشذوذ على روايته التي وافق فيها ثقتين ، ونجعل المحفوظ ما انفرد به ؟ لا أشك أن مثل هذا التصرف يتنافى مع القواعد الحديثية . فقد روى البيهقي في السنن من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كانوا يقومون على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة ، قال : وكانوا يقرأون بالمئين ، وكانوا يتوكأون على عصيهم في عهد عثمان رضي الله عنه من شدة القيام . وأخرج عبد الرزاق في المصنف من طريق الأسلمي عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : كنا ننصرف من القيام على عهد عمر وقد دنا فروع الفجر ، وكان القيام على عهد عمر ثلاثة وعشرين ركعة . قلت : ولا تنافي بين رواية العشرين ورواية الإحدى وعشرين ورواية الثلاث والعشرين ، فرواية العشرين بحذف الوتر ورواية الإحدى وعشرين باعتبار الوتر ركعة ، ورواية الثلاث والعشرين باعتبار الوتر ثلاث ركعات . ثالثاً : أن القاعدة في رواية الثقة إذا خالفت الثقات أنها إما تكون منافية لرواية من هو أوثق بحيث لا يمكن الجمع بينهما ، ففي هذه الحالة يحكم بشذوذها ، وإما أن تكون غير منافية فيكون حكمها حكم حديث مستقل ، فتقبل سواء كانت مقيدة لإطلاق المحفوظ أو مخصصة لعمومه ، أو تفيد حكماً مستقلاً ، وقد قبل أهل العلم زيادة مالك – رحمه الله – في حديث زكاة الفطر حيث قال غيره : على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير ، وزاد هو : من المسلمين ، فكانت مقيدة لإطلاق المحفوظ ، فلم يوجبوا الزكاة إلا على المسلمين من الأرقاء . فإذا قلنا أن داود بن قيس قد تفرد بهذه الزيادة وهي رواية الإحدى وعشرين فإن تفرده لا يعتبر شذوذاً ولو كان وحده ؛ لأن روايته لاتنافي المحفوظ ، وقد قالوا : زيادة الثقة مقبولة ، أما وقد وافقه غير محمد بن يوسف وعضدت هذه الرواية عن محمد بن يوسف رواية يزيد بن خصيفة وهو ثقة مخرج له في الصحيحين ، والحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذياب وهو ثقة خرّج له مسلم فكيف نحكم عليها بالشذوذ ؟ . رابعاً : فإن قيل أن محمد بن يوسف ابن أخبت السائب فتقدم روايته لأنه أضبط لحديث خاله ، قلنا : ورواية يزيد بن عبد الله خصيفة أيضاً لا تقل عن رواية محمد بن يوسف في الضبط ؛ لأنه ابن ابن أخيه فخصيفة جد يزيد هو أخو السائب كما جزم بذلك الذهبي في سير أعلام النبلاء ، وذكر الحافظ في التهذيب عن ابن عبد البر غير مجزوم به ، وعلى هذا فلا يكون أحدهما أولى من الآخر بالضبط لحديثه . خامساً : ولرواية العشرين شاهدٌ من حديث أبي جعفر الرازي عيسى بن عبد الله بن ماهان ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية الرياحي ، عن أبي ابن كعب أن عمر أمر أبيّاً أن يصلي بالناس في رمضان فقال إن الناس يصومون ولا يحسنون أن يقرأوا فلو قرأت القرآن عليهم بالليل ، فقال يا أمير المؤمنين هذا شيء لم يكن ، فقال قد علمت ولكنه أحسن فصلى بهم عشرين ركعة . ولكن هذا الأثر ضعفه الألباني بأبي جعفر الرازي عيسى بن ماهان وهو وإن كان فيه كلام إلا أن الكلام فيه كله يدور حول سوء حفظه وكثرة وهمه ، ولم يقدح أحد من علماء الجرح والتعديل في عدالته ، ومثل هذا لا يوجب رد روايته ولكن يوجب التوقف فيما يرويه حتى يوجد له شاهد ، فإن وجد لـه شاهد علم أنه مما حفظه ولم يخطئ فيه كما هو معلوم من علم المصطلح . سادساً : أن رواية العشرين قد أيدتها آثار كثيرة فمنها أثر عن علي من طريق عبد الله بن قيس عن شُتير بن شكل وكان من أصحاب علي رضي الله عنه أنه كان يؤمهم في شهر رمضان بعشرين ركعة ويوتر بثلاث ، وفي ذلك قوله . ومنها أثر عن أبي الحسناء عن علي بمعناه وأبو الحسناء مجهول ، فإن كانت جهالته جهالة حال فقد تقوى بالآثار الأخرى ، ورواه عنه أبو سعد البقال سعيد بن المرزبان عند البيهقي وهو ضعيف ، وعمرو بن قيس لعله الملائي عند ابن أبي شيبة ، وعمرو بن قيس ثقة خرّج له مسلم . ومنها أثر عن علي من طريق أبي عبد الرحمن السلمي ، وفي سنده عطاء الخراساني ، قال في التقريب صدوق يهم ويرسل ويدلس كثيراً . ومنها أثر عن عبد الله بن مسعود من طريق زيد بن وهب ولفظه : كان يصلي بنا في شهر رمضان فينصرف وعليه ليل ، قال الأعمش : كان يصلي عشرين ركعة ويوتر بثلاث وسنده صحيح . ومنهما أثر عن يزيد بن رومان : كان الناس يقومون في رمضان بعشرين ركعة ويوترون بثلاث ، رواه في الموطأ وسنده صحيح . ومنها أثر عن سويد بن غفلة من طريق أبي الخصيب قال : كان يؤمنا سويد بن غفلة في رمضان فيصلي خمس ترويحات عشرين ركعة ، وسنده صحيح . وآثار أخرى عن محمد بن سيرين ، ووهب بن كيسان ، وصالح مولى التوأمة ، ونافع ، وسعيد بن جبير ، وزرارة بن أوفى ، والحسن البصري ، وأبي مجلز وغيرهم . والخلاصة : فإن هذه الآثار وإن كان في بعضها ضعفٌ ، وفي بعضها انقطاع إلا أنها كلها مروية عن التابيعن ، إما من فعلهم أو حكاية فعل عن قدماء الصحابة كعمر وعلي وأبيّ وعبد الله بن مسعود ومجموعة يعطي دلالة قوية على صحة ما نقل عن عمر رضي الله عنه للأمور الآتية : الأول : أن الانقطاع بين الصحابي والتابعي فيه احتمال أن يكون الواسطة صحابي لذلك فهو في حكم المرسل ، وقد قالوا عن المرسل هو مرفوع التابعي وجعلوه مما يجب التوقف فيه ، حتى يوجد له عاضد مثله في القوة يرفعه من وهدة التوقف إلى أدنى درجات القبول . الثاني : أن القدماء كان الإرسال في غير الحديث النبوي عندهم كثير ، لأنهم كانوا يقصدون به حكاية الفعل لا الرواية فيروى كذلك . الثالث : أن هؤلاء التابعين الأخيار الذين صح عنهم أنهم صلوا التراويح عشرين أو أكثر ، لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن صح عندهم عن الصحابة إما بالمشاهدة أو بالنقل . الرابع : وهو الذي سوغ هذه الزيادة عند الجميع في اعتقادي ، وهو عدم التحديد في النفل المطلق ومنه قيام الليل في رمضان أو في غيره قال تعالى : _ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً _ (المزمل:1-4) . وقد قال النبي ﷺ " من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " فعلقه بمجرد القيام من غير تحديد بعدد ، وقد تقدم الاستدلال على هذه الفقرة بما فيه كفاية . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي - رحمه الله - باب الذكر عقب الصلاة [127] : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله ﷺ ، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته . قال ابن عباس : كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته ، وفي لفظ : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير . موضوع الحديث : مشروعية الذكر عقب الصلاة المكتوبة واستحباب رفع الصوت به . المفردات : حين ينصرف الناس : أي يسلمون . من المكتوبة : أي الصلاة المفروضة . ما كنا نعرف انقضاء : أي انتهاء صلاة رسول الله ﷺ . إلا بالتكبير : أي إلا بسماع التكبير . المعنى الإجمالي : يخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن رفع الصوت بذكر الله عز وجل حين يسلم الناس من الصلاة المكتوبة كان موجوداً في زمن رسول الله ﷺ ، لذلك فهو شعيرة من شعائر الإسلام وسنة من سننه ، وذلك بأن يرفع كل واحد من المصلين صوته بالذكر الوارد بعد السلام بمفرده ، لا يتقيد بأحد ، فيحصل من ذلك ضجة في المسجد بذكر الله هي محبوبة إلى الله تعالى . وقد ورد وصف أمة محمد ﷺ في بعض الكتب السابقة ، أن لهم دوي في مساجدهم كدوي النحل . أما رفع الصوت بالذكر بصورة جماعية بصوت واحد ونغمة واحدة فهو بدعة من البدع ، فيجب أن نحذر منها وأن تحارب . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ منه رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة وباستحبابه ، قال ابن حزم الظاهري : وذهب الجمهور إلى عدم استحباب رفع الصوت بالذكر عقب الصلاة ، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه جهر وقتاً يسيراً حتى يعلمهم صفة الذكر لا أنهم جهروا دائماً ، قال : واختار للإمام والمأموم أن يذكر الله تعالى بعد الفراغ من الصلاة ويخفيان ذلك. قلت : وإذ قد صح فعله في زمن النبي ﷺ فالقول باستحبابه بعد السلام أولى . والله أعلم . ثانياً : المراد برفع الصوت أن كل واحد من المصلين يذكر الله وحده غير متقيد بأحد ، أما ما يفعله كثير من الناس اليوم من اشتراك جماعة المسجد كلهم في الذكر بصوت ونغمة واحدة فهذا بدعة ، يجب أن تمنع وتحارب . ثالثاً : (ال) في الذكر للعهد ، والمراد به الذكر المعهود ، والذي كان النبي ﷺ يفعله والذي علمه أصحابه فيكون من العام الذي يراد به الخاص ، والذي حفظ عن النبي ﷺ أنه كان يفعله ويداوم عليه بعد السلام من الصلاة المكتوبة أنه كان يقول بعد السلام : "استغفر الله ، استغفر الله ، استغفر الله " . ثم يقول : " اللهم أنت السلام ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام " . ثم يقول : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير " . عشر مرات أو خمس مرات ، ثم يقول : " لا إله ولا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، وله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " ، ثم يقول :" اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد "، ثم يقول : " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " من مجموعهن ثلاثاً وثلاثين مرة أو من كل واحدة ثلاثاً وثلاثين مرة ويقول تمام المائة : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شي قدير . وفي رواية : وأربع وثلاثين تكبيرة . رابعاً : يؤخذ من الحديث جواز إطلاق اسم الجزء على الكل ؛ لأنه أطلق اسم التكبير على الذكر الذي هو أعم من التكبير ، وقيل يؤخذ منه سنية التكبير بعد السلام وهو ضعيف ؛ لأنه قد علم من القواعد الأصولية أنه إذا تعارض نصان أحدهما قطعي الدلالة والثاني ظنيها ، قد م القطعي على الظني ، فمثلاً : يقدم النص على الظاهر ، والمنطوق على المفهوم ، لأن قولـه : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله ﷺ إلا بالتكبير محتمل أن المراد بالتكبير هو الذي يكون مع التسبيح والتحميد ، ومحتمل أنه تكبير غيره يكون بعد السلام مباشرة ، إلا أنه يعارض الاحتمال الأخير الأحاديث الواردة في الذكر بعد السلام التي قد سبقت الإشارة إلى بعضها وهي نصوص في المسألة لا يتطرق إليها احتمال ، لذلك فهي مقدمة على مفهوم هذا الحديث . وبالله التوفيق . في حين أن حديث الباب من قول ابن عباس وتلك الأحاديث من فعل النبي ﷺ . خامساً : استدل الطبري – رحمه الله – بهذا الحديث على صحة ما كان يفعله أمراء الأجناد والعساكر المرابطون في الثغور من التكبير بعد العشاء وبعد الفجر ثلاثاً بصوت عال ، وعن مالك أنه محدث وهو الأقرب . والله أعلم . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله- [128] : وعن وراد مولى المغيرة بن شعبة قال أملى عليّ المغيرة بن شعبة من كتاب معاوية رضي الله عنهما أن النبي ﷺ كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد " ، ثم وفدت بعد ذلك على معاوية فسمعته يأمر الناس بذلك . وفي لفظ كان ينهى عن : قيل وقال : وإضاعة المال ، وكثرة السؤال ، وكان ينهى عن عقوق الأمهات ، ووأد البنات ، ومنعٍ وهات . موضوع الحديث : فضيلة الذكر بعد السلام من الصلاة المفروضة . المفردات : دبر الصلاة : دبر كل شيء آخره ، والمراد به هنا ما بعد لسلام من الصلاة المفروضة . مكتوبة : أي مفروضة . لا إله : لا معبود بحق في الوجود . إلا الله : تثبت الألوهية لله رب العالمين وحده لا شريك له . لا شريك له : لا مشارك له في ملكه ولا نضير له في أسمائه وصفاته . له الملك والحمد : أي هو المنفرد بهما دون سواه . وهو على كل شيء قدير : أي لا يفوت قدرته شيء فكل مستحيل عليه سهل وكل عسير عليه يسير . لا مانع لما أعطيت : لا حابس لما أردت إيصاله ولا موصل لما أردت حبسه . ذا الجد : لا ينفع ذا الحظ لا ينفعه منك حظه . قيل وقال : كثرة نقل الكلام . إضاعة المال : إتلافه فيما لا ينفع . كثرة السؤال : سؤال المال وطلبه من الناس استكثاراً . عقوق الأمهات : عصيانهن . وأد البنات : دفنهن أحياء . ومنعٍ وهات : إمساك ما في يدك بخلاً ، وطلب ما في أيدي الناس جشعاً . المعنى الإجمالي : يخبر المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يذكر الله بعد كل صلاة بهذا الذكر المتضمن لكمال التوحيد وأنه كان ينهى عن هذه الست الخصال لما فيها من صفات الذم والمقت والإثم والعار . والله أعلم . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ من هذا الحديث مشروعية هذا الذكر لما تضمنه من الاعتراف لله تعالى بالوحدانية وإفراده بالألوهية دون من سواه ، لتوحده بصفات الكمال والجلال ، وانفراده بالملك والتصرف ، وتفضله بالنعم ، واتصافه بجمع الكمالات ، فلا يستطيع أحد منع ما أعطى ، أو إعطاء ما منع ؛ لأن له مطلق التصرف ، فلا معقب لحكمه ، ولا راد لقضائه ، بيده الإعزاز والإذلال ، والإعطاء والمنع ، والخفض والرفع ، والتمليك والسلب ، ومن أجل تضمن هذا الدعاء لأعلى مقامات التوحيد شرع بعد كل صلاة مكتوبة . الله أعلم . ثانياً : معنى قوله : " لا ينفع ذا الجد منك الجد " أي لا ينفع ذا الحظ منك حظه ، سواء كان ذلك الحظ ملكاً وسلطاناً ، أو كنوز وأعوانا ، أو نسباً وشرفا أو غير ذلك ، فلم يُغْنِ عن فرعون ملكه ، ولا عن قارون ماله وأعوانه ، ولا عن أبي جهل شعبيته وشرفه ، ولا عن قوم عاد قوتهم وضخامة أجسامهم ، بل قال الله فيهم : _ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ _ (فصلت:15-16) . ثالثاً : يؤخذ من قوله : " وكان ينهى عن قيل وقال " كراهة نقل الإنسان لكل ما يسمعه ، فإنه يدخل في ذلك الحق والباطل ، والصدق والكذب ، قال ابن دقيق العيد – رحمه الله - : الأشهر فيه فتح اللام على سبيل الحكاية ، وهذا النهي لابد من تقييده بالكثرة التي لا يؤمن معها الخلط والخطأ ، والتسبب في وقوع المفاسد من غير تعيين والإخبار بالأمور الباطلة ، وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال : " كفى بالمـرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " . اهـ وقال الصنعاني في العدة : دليل التقييد ما علم من الإجماع على وقوع نقل أقاويل الناس ، بل قد وقع في التنـزيل من نقل مقالات الأمم وأنبيائهم ما لا يحصى كثره . اهـ قلت : إنما يتجه النهي على ما لا مصلحة في نقله ، وهو ثلاثة أنواع : ما تحققت فيه المفسدة أو رجحت فيحرم نقله ، وما كان احتمال المفسدة فيه مرجوحاً فيكره نقله ، وما خلا من المفسدة ولم يكن في نقله مصلحة فيكره الإكثار من نقله ، أما ما تحققت في نقله المصلحة أو رجحت فيجب نقله أو يستحب تبعاً لتلك المصلحة ، ومن هذا ما ذكره الله في القرآن من نقل أقاويل الأمم ، إما لبيان فسادها والرد عليها ، أو لبيان ما فيها من حق ونشره والدعوة إليه . والله أعلم . رابعاً : يؤخذ من قوله : " وإضاعة المال " عطفاً على ما كان ينهى عنه نهي تحريم وهو إضاعة المال بأي وجه من وجوه الإضاعة ، ذلك لأن الله – جل شأنه – جعل الأموال قياماً لمصالح العباد وفي تبذيرها تفويت لتلك المصالح ، إما في حق مضيعها أو في حق غيره بإنفاق المال فيما لا نفع فيه لا في الدين ولا في الدنيا ، لا بالنسبة للفرد ولا بالنسبة للمجتمع يعد إسرافاً وتضييعاً للمال ، ووضعاً له في غير موضعه . وكذلك الإنفاق فيما ثبت ضرره وانعدم نفعه ، كالقات والدخان بجميع أنواعه كالشيشة والسيجارة والغليون ومطحون التبغ كالبردقان وما يسمى بالعنجر أو النشوق ، وأشد من ذلك ما سبب انتشار الفساد في المجتمعات الإسلامية كأفلام المسارح الغنائية ، وتمثيليات الحب والعشق الهابطة ، والكتب القصصية سواء في ذلك قصص العشق والغرام ، أو قصص المغامرات في السرقة والنهي والغصب وسفك الدماء ومثل ذلك الجرائد والمجلات التي تحمل الصورة الخليعة وأشرطة الفيديو والسينما الخليعة وما استجد من ذلك أيضاً في هذا الزمن كالدش والإنترنت التي تنشر الفساد والدعارة وتجرد الناس من الإيمان والحياء ، وَتُعَوِدهُم على الخلاعة ، والوقاحة وعدم المبالاة بارتكاب الفواحش ، والانحدار في حمأة الفساد بعد أن تقضي على بقية الإيمان والحياء الموجودين في القلوب حتى تصبح القلوب عاطلة من كل خير ، متصفة بكل شر . ومن ذلك أيضاً الإسراف في المباحات والإنفاق فيها أكثر من الحاجة . والله أعلم . أما قوله : " وكثرة السؤال " فهو يحتمل أمرين : الأمر الأول : أن يكون المقصود به السؤال عن العلم ، فإن كان كذلك فلابد أن يحمل على نوع مخصوص من السؤال ؛ لأن الله تعالى أمر بسؤال أهل الذكر فقال : _ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ _ (النحل: من الآية43) . وعلى هذا فإن كان النهي عن السؤال هنا يراد به السؤال عن العلم فهو يحتمل على ما قصد به التعجيز أو المعايات أو الاشتهار أو التعمية والتشكيك . الأمر الثاني : أن يكون المقصود به سؤال المال ، إلا أن طلب العطاء من الناس قد ذم كثيره وقليله إلا ما لابد منه كحديث : " إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة .." الحديث . أما إن دخل فيه غير العطاء : كناولني السفرة يا غلام ، وما أشبه ذلك ، فلابد أن يحمل الحديث على سؤال المال وتقييده بالكثرة احترازاً عما فيه ضرر . والله أعلم . وأما قولـه : " وكان ينهى عن عقوق الأمهات " فالعقوق مأخوذ من العق وهو القطع ، ولا يختص النهي عن العقوق بالأمهات بل أن عقوق الآباء محرم أيضاً كعقوق الأمهات ، ولكن في هذا التخصيص تنبيه على عظيم حق الأمهات وأن عقوقهن أفظع وأعظم بشاعة لعظم حقهن ، وقد نبه القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى : _ وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً _ (الأحقاف: من الآية15) . أما "وأد البنات" فهو دفنهن أحياء ، وهذا الصنيع رغم فحشه فقد فعله كثير من أهل الجاهلية وعابهم الله به فقال : _ .. يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ _ (النحل: من الآية59) . وقد جاء الإسلام باجتثاث هذه العادة المنكرة وقلعها من أصلها ، بل بذر في قلوب أتباعه المودة والرحمة للبنات ووعد على ذلك الخير كله ، فقد روى أحمد وابن ماجة عن عقبة بن عامر مرفوعاً : " من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدَته ، كن له حجاباً من النار يوم القيامة " . ثم إن الواجب على الولي التأدب بالآداب الإسلامية وتأديب البنات بأدب الإسلام لكي يكنّ أعضاء صالحات في المجتمع ، وهنا التعليم والتأديب لا يقل وجوبه عن وجوب النفقة والكسوة والمسكن الذي يطالب به كل ولي لموليته ، والمقصود تعليم ما لابد منه من أمور الدين ، أما التوغل في التعليم لأخذ الشهادة العالية لتعمل موظفة وتترك الزواج والذرية والقيام بشؤون البيت الذي كلفت بالاستقرار فيه لتكون سكناً للزوج ومربية للأولاد فهذا ليس بمحمود ؛ لأنه ترك للوظيفة الإسلامية التي خلقت لها المرأة وفيه عدة محاذير : المحذور الأول : أن ذلك تركٌ للوظيفة الأساسية التي خلقت لها المرأة وهيئت لها وهي أن تكون سكناً للزوج يسكن إليها وتسكن إليه قال تعالى : _ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ _ (الروم:21) . وإن هذه الآية لأكبر شاهد بأن الرجل لا يستقيم حاله ولا يذوق لذة العيش إلا بالحياة الزوجية الكريمة ، وكذلك المرأة . المحذور الثاني : ترك النسل والذرية ، والنسل وهم الأولاد لا تطيب الحياة الزوجية إلا بهم ، وقد قال النبي _ : " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم " ، فالمرأة مهما حصل لها من شهادات فإن الحياة لا تطيب لها إلا بالبنين والبنات ، ولقد سمعت أن امرأة درست وتدرجت في الشهادات حتى أخذت أعلاها وفي النهاية قالت : خذوا شهادتي كلها وأعطوني طفلاً ألاعبه . ولقد خلق الله النساء ليكن أمهات مربيات وحاضنات ماهرات ، فإذا خرجت عن هذه الوظيفة وتركتها ندمت بعد ذلك وحنت إليها بعد أن ذهب الزمن وبلي الشباب . فالله المستعان . المحذور الثالث : ترك البيت بدون حارس أمين وسائس حكيم يجلب إليه وإلى أهله الصلاح ويدفع عنه الفساد ، فالله سبحانه أمر النساء بالاستقرار في البيوت ولا تكون المرأة سكناً للزوج إلا إذا كانت مستقرة في البيت ، تربي الأولاد ، وتحفظ البيت ، وتنظفه وتقوم بشؤونه وترصد حاجة الزوج فيه . المحذور الرابع : أنه تنكر للفطرة والجبلية التي خلق الله عليها الأنثى لحكمة يعلمها هو تعالى ، فهي مهيئة خلقة لبيت ومحضن الزوجية ، فإذا أخرجت نفسها عن هذا المحضن فإنها تكون قد عصت خالقها ، وجنت على مجتمعها وكانت نشازاً فيه بإعراضها عن الأمر الذي خلقت له ، ولهذا جاء في الحديث : " لعن الله المترجلات من النساء ، والمخنثين من الرجال " لأن كلا منهما خرج عن فطرته التي هُيأ لها ، وأراد أن يجعل لنفسه فطرة غير ما اختار الله له . وأخيراً ، فإن من منع ابنته من النكاح الشرعي فقد جنى عليها جناية عظيمة ، وعرضها للوقوع في الفاحشة ، وحرمها لذة الزوج والبيت والأولاد ، ولا ينتظر إلا المقت من الله والفضيحة في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً . وبالله التوفيق . ومعنى قوله : "ومنعٍ وهات" أن يمنع العبد ما في يديه بخلاً ، ويطلب ما في يد غيره جشعاً ، وكفى بهذا ذماً . وهذا يتضمن شيئين : أولها : البخل وهو ما عبر عنه بالمنع ، والمنع يكون مذموماً إذا كان منعاً عن الواجبات ، فهذا يسمى بخلاً ، قال الله تعالى : _ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ _ (الحديد:24) . وقال تعالى : _ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ _ (محمد: من الآية38) . والثاني : الطلب والسؤال وهو المعبر عنه بقوله "وهات" وهذا مذموم أشد الذم ، وقد جاء في الحديث : " لا يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم " . وفي الحديث أيضاً : " من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمر جهنم ، فليستقل منه أو ليستكثر". تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله- الحديث الثالث : في بيان الذكر عقب الصلاة [129] : عن سُمَيّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المسلمين أتوا رسول الله ﷺ فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : " وما ذاك ؟ " قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، فقال رسول الله ﷺ : " أفلا أعلمكم شيئاً تدركون من سبقكم ، وتسبقون به من بعدكم ، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع كما صنعتم ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة" . قال أبو صالح : فرجع فقراء المهاجرين فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله ﷺ : "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" قال سُميّ : فحدثت بعض أهلي بهذا الحديث . فقال وهمت إنما قال : " تسبح الله ثلاثاً وثلاثين ، وتحمد الله ثلاثاً وثلاثين ، وتكبر الله ثلاثاً وثلاثين " ، فرجعت إلى أبي صالح فقلت له ذلك ، فقال : قل الله أكبر وسبحان الله والحمد لله حتى تبلغ من جميعهن ثلاثاً وثلاثين. موضوع الحديث : الذكر بعد الصلاة وفضله . المفردات : أهل الدثور : أهل الأموال . بالدرجات العلى : أي في الجنة . والنعيم المقيم : أي فيها . ويتصدقون بفضول أموالهم : أي بما فضل عن حاجتهم . وفي هذه الرواية "ويتصدقون ولا نتصدق" . ويعتقون ولا نعتق : العتق هو تحرير الرقاب المرققة . المعنى الإجمالي : فهم الصحابة أن التسابق والتنافس إنما يكون في الأعمال التي تقرب من الله وترفع الدرجات في الجنة ، لا في الدنيا الفانية وحطامها الزائل أو جاهها المشوب بالأخطاء والممزوج بالأكدار ، فذهبوا إلى رسول الله ﷺ شاكين سبق الأغنياء لهم لا بالمال ، ولكن بما يكسبونه من أجر بسبب ما أوتوا من المال ؛ لأنهم يساوونهم في الصلاة والصوم ويزيدون عليهم بالصدقة والعتق ، فأعلمهم رسول الله ﷺ. بهذا الذكر الذي يدركون به من سبقهم ويسبقون به من بعدهم ، ولا يكون أحد أفضل منهم إلا من عمل كعملهم ، لكن أصحاب الأموال حينما سمعوا بهذه الفضيلة بادروا إليها فعملوا بها ، فبقي الفضل لهم على الفقراء ، فجاء الفقراء شاكين مرة أخرى لكي يجدوا عند النبي ﷺ حلاً آخر يساوونهم به ، فقال رسول الله صلى " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " . فقه الحديث : أولاً : في هذا الحديث مسألة المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر ، وهي مسألة مشهورة تكلم الناس فيها وألّف فيها بعضهم ، وممن علمناه ألّف في هذه المسألة كتاباً مستقلاً العلامة ابن القيم – رحمه الله – ألف فيها كتاب "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" ، وألف الصنعاني – رحمه الله- أيضاً كتاباً سماه "السيف الباتر في المفاضلة بين الفقير الصابر والغني الشاكر" ذكره في العدة ، وذكر أنه اختصره من كتاب ابن القيم وقال : وهو كتاب بديع ليس له نظير ألّفناه في مكة سنة 1135هـ. ومما احتج به لتفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر قوله تعالى : _ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا _ (الفرقان: من الآية75) . قال محمد بن علي بن الحسين : الغرفة الجنة ، بما صبروا : على الفقر في الدنيا . ومنها أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو مقدار خمسمائة سنة ، وورد بأربعين خريفاً حتى يتمنى الأغنياء من المسلمين أنهم كانوا فقراء ، ومنها أن الله ما ذكر الدنيا إلا على سبيل الذم فتارة يذكر المال أنه سبب للطغيان كقوله تعالى : _ كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى _ (العلق:6-7) . وتارة يذكر أنه سبب للبغي قال تعالى : _ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ _ (الشورى: من الآية27) ، وتارة يذكر المال بأنه فتنة _ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَة _ (التغابن: من الآية15) ، وتارة يذكر بأن الأموال والأولاد لا تقرب إلى الله تعالى : _ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً _ (سـبأ: من الآية37) . ومما استدل به أيضاً على تفضيل الفقير الصابر أن النبي ﷺ اختار الله له أن يكون فقيراً ، فقد عرضت عليه مفاتيح خزائن الأرض فأباها وقال : "بل أجوع يوماً وأشبع يوماً ، فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك" . هذا خلاصة ما استدل به من فضل الفقير الصابر . وقد أجاب من فضل الغني الشاكر على أدلة من فضل الفقير الصابر فقالوا : أما الآية فلا دليل لكم فيها ؛ لأن الصبر فيها عام في جميع أنواع الصبر فهو يعم الصبر عن المحارم لمن هو قادر عليها بالمال والصبر على أداء الطاعة والصبر على الابتلااءت بأنواعها كالأمراض والأوصاب والفقر والحاجة وغير ذلك . وأما دخول الفقراء إلى الجنة فلا يلزم من ذلك نقص درجة الغني ، بل ربما كان الغني الذي يدخل الجنة متأخراً أعلى درجة من الفقير الذي سبقه بالدخول ، وأما ما ذمّ الله به الدنيا والمال فإنما تكون مذمومة في حق من أنفق المال في معصية الله ، أما من أنفقه في طاعة الله فهو محمود قال سبحانه وتعالى : _ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ _ (المعارج:24-25) ، وقال تعالى : _ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى _ (الليل:5-7) . وأما النبي ﷺ فقد جمع الله لـه بين درجتي الغني الشاكر والفقير الصابر فكم قد أتاه من المال فأباه وأنفقه في طاعة مولاه – عليه الصلاة والسلام – ومن الأدلة على ذلك أن النبي ﷺ كان يجهز كل الوفود على كثرتهم في السنوات الأخيرة بعد فتح مكة ، ومع ذلك فقد مات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير أخذها نفقة لأهله ، ومن الأدلة على تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر ، قول النبي _ : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " في هذا الحديث . قال الصنعاني في العدة : قال من فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر لنا أدلة واسعة وكلمات للخير جامعة : الأول أن الله أثنى على أعمال في كتابة لا تتم إلا للأغنياء ، كالزكاة والإنفاق في وجوه البر والجهاد في سبيل الله بالمال وتجهيز الغزاة ورعاية المحاويج وفك الرقاب والإطعام في يوم المسغبة ، وأين يقع صبر الفقير من فرحة المضطر الملهوف المشرف على الهلاك ، وأين يقع صبره من نفع الغني بماله في نصرة دين الله وإعلاء كلمته وكسر أعدائه ؟ وأين يقع صبر أهل الصفة من إنفاق عثمان رضي الله عنه تلك النفقات حتى قال النبي ﷺ : " ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم " ؟ . قالوا : والأغنياء الشاكرون سبب لطاعة الفقراء الصابرين إياهم بالصدقة عليهم والإحسان إليهم ورعايتهم على طاعتهم ، فلهم نصيب وافر من أجور الفقراء زيادة على أجورهم بالإنفاق وطاعتهم التي تخصهم ، كما يفيده ما أخرجه ابن خزيمة – رحمه الله – من حديث سلمان رضي الله عنه مرفوعاً : " من فطر صائماً كان مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء " فقد حاز الغني الشاكر بضيافة هذا مثل أجل الفقير الذي فطره . قالوا : وفضائل الصدقة معلومة ، وفوائدها لا تحصى ، وهي ثمرة من ثمرات الغني الشاكر . اهـ من العدة للصنعاني (3/88) بتصرف قليل . وهذه خلاصة ما احتج به الفريقان ، وتبين مما ذكرناه رجحان الغني الشاكر على الفقير الصابر ، ومعلوم أنه لا مكان للفقير غير الصابر ولا للغني غير الشاكر في هذه المفاضلة . ثانياً : يؤخذ من الحديث مشروعية هذا الذكر عقب الصلاة المفروضة ، وأن من سبح الله وحمده وكبره ثلاثاً وثلاثين مرة فتلك تسع وتسعون كلمة ، وقال تمام المائة "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير" عقب كل فريضة مخلصاً فيها فإنه قد أصاب خيراً كثيراً , وحاز أجراً وفيراً . ثالثاً : اختلف في كيفية هذا الذكر ، هل يكون بإفراد التسبيح حتى يبلغ من مجموعه ثلاثاً وثلاثين ، ومثل ذلك التحميد والتكبير ؟ أو يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يبلغ من مجموعهن ثلاثاً وثلاثين ، ثم يقول تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ؟. والذي يظهر لي جواز الجميع ، وإن كان أبو صالح – رحمه الله – قد فضل الجمع . والله أعلم . رابعاً : أن درجات الجنة لا تنال إلا بالعمل لقوله ﷺ : " ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم .." الحديث . خامساً : يؤخذ منه ما كان عليه الصحابة – رضوان الله عليهم – من المنافسة على أعمال الخير التي تقرب من الله عز وجل . سادساً : أن المنافسة في أعمال الآخرة محمودة ؛ بل مطلوبة ومأمور بها ، بخلاف المنافسة في الدنيا فإنها مذمومة . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي - رحمه الله - الحديث الرابع : في باب الذكر عقب الصلاة [130] : عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ صلى في خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف قال : "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانية أبي جهم ، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي " . موضوع الحديث : استحباب إزالة ما يلهي عن الصلاة ويشغل القلب عن الخشوع فيها . المفردات : الخميصة : كساء مربع له أعلام . الأنجانية : كساء غليظ ، وقيل منبجانية . فلما انصرف : أي سَلَّمَ من صلاته . ألهتني : أشغلتني . آنفا : الوقت الذي قبل قول ذلك . المعنى الإجمالي : كان رسول الله ﷺ شديد الاهتمام بأمر الصلاة وإزالة كل ما يشغل أو ينقص الخشوع فيها ،لذلك نهى عن الصلاة مع الاحتقان ، وعند حضور الطعام ووجود التوقان إليه ، وهنا كره الصلاة في الخميصة لما فيها من الأعلام التي تلهي عن الخشوع فيها فتذهبه أو تنقصه . فقه الحديث : أولاً : يؤخذ من الحديث دليل على طلب الخشوع في الصلاة والإقبال عليها وإزالة كل ما يذهبه أو ينقصه ، ومن ثم نهى عن زخرفة المساجد ، فأخرج أبو داود في باب بناء المساجد وصححه الألباني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله ﷺ : " ما أمرت بتشييد المساجد " ، قال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى . وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : " لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد " وصححه الألباني . وروى ابن ماجة في باب تشييد المساجد عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد" صححه الألباني . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf التصفية والتربية TarbiaTasfia@ |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله - باب الجمع بين الصلاتين في السفر [131] : عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : كان النبي ﷺ يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء . موضوع الحديث : الجمع بين الصلاتين في السفر . المفردات : على ظهر سير : أي إذا كان جاداً في السفر ، قال ابن حجر – رحمه الله – ولفظ الظهر يقع في مثل هذا اتساعاً في الكلام كأن السير كان مستنداً إلى ظهر قوي . المعنى الإجمالي : تمتاز شريعة نبينا محمد ﷺ من بين سائر الشرائع السماوية بالسماحة واليسر وإزاحة كل حرج ومشقة عن المكلفين أو تخفيفهما ، ومن التخفيفات المرموقة في شريعتنا الجمع في السفر بين الصلاتين المشتركتين في الوقت وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء تقديماً وتأخيراً في وقت إحداهما مقصورتين ، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما يروي عن النبي ﷺ أنه كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء إذا كان على ظهر سير . فقه الحديث : أولاً : في قولـه : كان رسول الله ﷺ يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير ، ويجمع بين المغرب والعشاء ، دليل لمن قال إن الجمع في السفر مشروع وهم الجمهور ، ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد ؛ لأن كان تقتضي في الغالب الاستمرار على الشيء ومعاودته مرة بعد مرة . وذهب الحسن وابن سيرين وأبو حنيفة وصاحباه إلى أن الجمع لا يشرع إلا في عرفة ومزدلفة فقط ، وحملوا ما ورد في الجمع من نصوص على الجمع الصوري وهو تأخير الأولى إلى آخر وقتها ، وتقديم الأخرى في أول وقتها ، ورُدَّ عليهم بأن الجمع شرع لإزالة المشقة والحرج عن الأمة ، وهذا أكثر مشقة من جمع الصلاتين في وقت إحداهما لأمور : أولاً : لأن معرفة أوائل الأوقات وأواخرها لا يتسنى لكثير من الخاصة ، فكيف بالعامة ؟ . ثانياً : لأن ذلك يوجب تكرار النـزول لكي يعرف أوائل الأوقات وأواخرها بالظل ، وفي هذا مشقة أكثر من النـزول لأداء الصلاة في وقت إحداهما ، وذلك ينافي رفع الحرج الذي امتن الله به على عباده حيث يقول : _ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج _ (الحج: من الآية78) . ثالثاً : أن الأحاديث الواردة في الجمع في السفر صحيحة وصريحة ، وحملها على ما ذكر تعطيل لسنة ثابتة لا يعذر أحد عن الأخذ بها والعمل بموجبها . ومن هذا تعلم أن مذهب الجمهور هو الحق ؛ لأن الجمع بين الصلاتين في السفر صح من حديث ابن عباس وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل . ثانياً : يؤخذ من قوله : يجمع في السفر بين صلاة الظهر والعصر ..الخ ، دليلٌ لمن قال بجواز الجمع مطلقاً ، سواء كان تقديماً أو تأخيراً ، لأن حديث ابن عباس مطلق فيدخل تحته التقديم لكن قيد في حديث أنس بما إذا جمع تأخيراً ولفظه عند البخاري : كان النبي ﷺ إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى وقت العصر ثم يجمع بينهما ، وإذا زاغت صلى الظهر ثم ركب ، أي وإذا زاغت ولم يرتحل صلى الظهر ثم ركب ، قال الحافظ في الفتح : وهو المحفوظ عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس ، لكن روى الإسماعيلي عن جعفر الفرياني عن إسحاق بن راهويه عن شبابة فقال : إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل . ورواه الحاكم في الأربعين قال : حدثنا محمد بن يعقوب الأصم ، قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني أحد شيوخ مسلم ، قال حدثنا محمد بن عبد الله الواسطي فذكر الحديث ، وفيه : فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ركب ، قال صلاح الدين العلائي : جيد اهـ. نقلاً عن الفتح بتصرف . قلت : القاعدة الاصطلاحية أن زيادة الثقة مقبولة ، وإسحاق إمام فتقبل زيادته وجعفر المتفرد عنه إمام أيضاً وقد حصلت له المتابعة بما في سند الحاكم وع هذا فليس المعول في جمع التقديم على حديث أنس فقط ، بل قد صح جمع التقديم من حديث أبي جحيفة المتفق عليه من طريق عون بن أبي جحيفة والحكم بن عتبة ولفظ رواية عون : خرج علينا رسول الله ﷺ بالهاجرة ، فأتى بوضوء فتوضأ ، فصلى بنا الظهر والعصر وبين يديه عنـزة ، والمرأة والحمار يمرون من ورائهما . ومن حديث معاذ بن جبل عند أبي داود بلفظ : أن النبي ﷺ كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر فيصليها جميعاً ، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم سار ، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء ، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب. وروى الترمذي عن معاذ بن جبل أن النبي _ كان في غزوة تبوك بمثل حديث أبي داود إلا أن فيه : وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس عجل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل ، وقال في المغرب مثل ذلك ، صحيح سنن الترمذي (455) ، وصحيح أبي داود (1106) ، وصحيح الإرواء (785) ، وذكر في الإرواء تحت الرقم المذكور (3/28) وقال : صحيح ، وعزاه لأبي داود والترمذي وأحمد (5/241، 242) وكلهم قالوا : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن معاذ بن جبل أن النبي _ كان في غزوة تبوك ... الحديث . إلى أن قال : وقال الترمذي حديث حسن غريب ، تفرد به قتيبة ، لا نعرف أحداً رواه عن الليث غيره ، وقال في مكان آخر من الصفحة الأخرى : حديث حسن صحيح . قلت – يعني الألباني - : وأنا أرى أن الحديث صحيح ، رجاله كلهم ثقات رجال الستة ، وقد أعله الحاكم بما لا يقدح في صحته ، فراجع كلامه في ذلك مع الرد عليه في زاد المعاد (1/187، 188) ، ولذلك قال في أعلام الموقعين (3/25) : وإسناده صحيح ، وعلته واهية ، وغاية ما أعل به علتان : الأولى : تفرد قتيبة به أو وهمه فيه ، والأخرى : عنعنة يزيد بن أبي حبيب . والجواب عن الأولى أن قتيبة ثقة ثبت فلا يضر تفرده كما هو مقرر في علم الحديث ، وأما الوهم فمردود ؛ إذ لا دليل عليه إلا الظن ، والظن لا يغني من الحق شيئاً ، ولا يرد به حديث الثقة ولو فتح هذا الباب لم يسلم لنا حديث . والجواب عن العلة الأخرى : فهو أن يزيد بن أبي حبيب غير معروف بالتدليس وقد أدرك أبا الطفيل حتماً لأنه ولد سنة 53هـ وتوفي سنة 128هـ وتوفي أبو الطفيل سنة مائة أو بعدها وعمر يزيد حينئذٍ 47هـ سنة . وقد أطال – رحمه الله – في تصحيح حديث قتيبة هذا بما لا مزيد عليه. ثم قال : قلت : وليس في شيء من هذه الطرق عن أبي الزبير ذكر لجمع التقديم الوارد في حديث قتيبة ولا يضره لما تقرر أن زيادة الثقة مقبولة لا سيما ولم ينفرد به بل تابعه الرملي وإن خالفه في إسناده كما سبق ، على أن لهذه الزيادات شاهداًَ قوياً في بعض حديث أنس رضي الله عنه . قلت : هي رواية الفرياني عن إسحاق بن راهويه عن شبابة بن سوار بزيادة : صلى الظهر والعصر ثم ركب ، ثم أورد لهما شاهداً من حديث ابن عباس ولفظه : ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله ﷺ في السفر ؟ قال : قلنا : بلى ، قال : كان إذا زاغت الشمس في منـزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب ... الخ ، مثل حديث معاذ وعزاه للشافعي (1/116) ، وأحمد (1/367/368) ، والدراقطني (149) ، والبيهقي (3/163/164) ، من طريق حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة وكريب كلاهما عن ابن عباس ثم قال : قلت وحسين هذا ضعيف . قال الحافظ في التلخيص (2/48) : واختلف عليه فيه ، وجمع الدارقطني في سننه بين وجوه الاختلاف فيه ، إلا أن علته ضعف حسين ، ويقال أن الترمذي حسنه وكأنه باعتبار المتابعة وغفل ابن العربي فصحح إسناده . لكن طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في مسنده ، عن أبي خالد الأحمر ، عن الحجاج عن الحكم ، عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنهما وروى إسماعيل القاضي في الأحكام عن إسماعيل بن أبي أويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنه نحوه . قلت – يعني الألباني - : فالحديث صحيح عن ابن عباس بهذه المتابعات والطرق ، وقواه البيهقي بشواهده ، فهو شاهد آخر لحديث معاذ من رواية قتيبة ، وهي تدل على حفظه وقوة حديثه . قلت : وعلى هذا فقد صح جمع التقديم من رواية ثلاثة من الصحابة وهم : 1- أنس بن مالك عند الإسماعيلي من طريق جعفر الفرياني ، حدثنا إسحاق ابن راهويه ، أنبأنا شبابة بن سوار ، عن عقيل ، عن ابن شهاب الزهري ، عن أنس وفيه : وإذا زالت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ارتحل . ولـه متابع رواه الحاكم في الأربعين من طريق محمد بن يعقوب أبي العباس الأصم عن محمد بن إسحاق الصنعاني ، عن حسان بن عبد الله ، عن المفضل بن فضالة ، عن عقيل وفيه : وإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر والعصر ثم ارتحل . 2- من طريق معاذ بن جبل كما تقدم بيانه بشواهده التي تؤكد أن قتيبة ابن سعيد قد حفظ الحديث سنداً ومتناً . 3- من طريق ابن عباس وصح بالمتابعات ، ولذلك فإنه قد وجب المصير إلى جمع التقديم لصحته عن نبي الهدى ﷺ وإلى جواز جمع التقديم ، ذهب الشافعي وأحمد بن حنبل في المشهور عنه ، وهو رواية عن مالك . ثالثاً : يؤخذ من قوله : إذا كان على ظهر سير دليل ، لمن خصص الجمع بالسائر دون النازل وهو مروي عن ابن حبيب من المالكية ، ورواية عن مالك ، لكن روى أبو داود بإسناد رجاله رجال الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك ، فكان رسول الله ﷺ يجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً . قال الشافعي في الأم : قوله ثم خرج فصلى ثم دخل ، ثم خرج فصلى ، لا يكون إلا وهو نازل فللمسافر أن يجمع سائراً ونازلاً ، وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال : في هذا أوضح دليل على الرد على من قال : لا يجمع إلا من جدَّ به السير ، وهو قاطع اللالتباس .اهـ. ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر سائراً ونازلاً قال عطاء وجمهور أهل المدينة والشافعي وإسحاق وابن المنذر ورواية عن أحمد ، وهو المشهور عند أصحابه والمرجح عندهم . قال في المغنى : وروى عن أحمد جواز جمع الصلاة الثانية إلى الأولى ، وهذا هو الصحيح وعليه أكثر الأصحاب . قال القاضي : الأول هو الفضيلة والاستحباب ، وإن أحب أن يجمع بين الصلاتين في وقت الأولى منهما نازلاً كان أو سائراً أو مقيماً في بلد إقامة لا تمنع القصر ، وهذا قول عطاء وجمهور علماء المدينة والشافعي وإسحاق وابن المنذر لما روى معاذ بن جبل ، ثم أورد حديثي معاذ بن جبل وابن عباس السابقين في جمع التقديم . ثم قال : وروى مالك في الموطأ عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذ بن جبل أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك فكان رسول الله ﷺ يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال فأخر الصلاة يوماً ، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً ، ثم دخل ، ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً. قال ابن عبد البر : هذا حديث صحيح الإسناد ، وفيه أوضح الدلائل وأقوى الحجج في الرد على من قال لا يجمع بين الصلاتين إلا إذا جَدَّ به السير ؛ لأنه كان يجمع وهو نازل غير سائر ماكث في خبائه ، يخرج فيصلي الصلاتين جميعاً ، ثم ينصرف إلى خبائه ، ثم يخرج فيقيمها ويجمع بين الصلاتين من غير أن يجد به السير. وقال ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية : ويدل على جمع التقديم جمعه بعرفة بين الظهر والعصر ، لمصلحة الوقوف ولا يقطعه بالنـزول لصلاة العصر مع إمكان ذلك بلا مشقة بالجمع كذلك لأجل المشقة والحاجة أولى .اهـ. رابعاً : في قوله : " كان يجمع في السفر " الحديث ، دليل على جواز الجمع في كل ما يسمى سفراً ، وسيأتي الاختلاف في السفر الذي يجوز فيه الجمع والقصر ، ومنع ذلك أبو حنيفة وأصحابه كما تقدم . قال ابن عبد البر في كتابه التمهيد (12/198) : وقال أبو حنيفة وأصحابه لا يجمع أحد بين الصلاتين في سفر ولا حضر ، لا صحيح ولا مريض ، في صحو ولا في مطر ، إلا أن للمسافر أن يؤخر الظهر إلى آخر وقتها ، ثم ينـزل فيصليها في آخر وقتها ، ثم يمكث قليلاً ويصلي العصر في أول وقتها ، وكذلك المريض . قالوا : فأما أن يصلي صلاة في وقت الأخرى فلا إلا بعرفة والمزدلفة لا غير. وأجازت الهادوية التي تقمصت الزيدية واشتهرت بها على ما جمعت في مذهبها من الرفض والاعتزال قالت بجواز الجمع في الحضر لكل مشغول بطاعة أو مباح ينفعه تقديماً أو تأخيراً ، وعلى هذا يجري العمل في مساجد الزيدية دائماً من غير نكير ناسين أو متناسين قول الله تعالى : _ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً _ (النساء: من الآية103) . وتاركين ما ثبت في السنن الصحيحة الصريحة في المواقيت إلى ما قرره شيوخهم وقادتهم وكبراؤهم ، وحق عليهم قول الله تعالى : _ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا _ (الأحزاب:67) . قال في كتاب "الأزهار" الذي هو الكتاب المعتمد لديهم في الأحكام : وللمريض المتوضئ ، والمسافر ولو لمعصية ، والخائف والمشغول بطاعة أو مباح ينفعه وينقصه التوقيت جمع التقديم والتأخير بأذان لهما وإقامتين ، ولا يسقط الترتيب وإن نسي ويصح التنفل بينهما . قال الشوكاني – رحمه الله – في السيل الجرار (1/192) رداً على ما ورد في الفقرة السابقة : وأثبت لمن عداهم جمع المشاركة وهذا كله ظلمات بعضها فوق بعض وخبط يتعجب الناظر فيه إذا كان له أدنى تمييز ، والحاصل أن هذا القول لم يسمع في أيام النبوة ، وقد كان فيهم المريض وأهل العلل الكثيرة ، وفيهم من قال له رسول الله ﷺ : " صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب " . ولم يسمع بأنه أمر أحداً منهم بتأخير الصلاة عن وقتها ، ولا جاء في ذلك حرف واحد من كتاب ولا سنة ، وهكذا لم يسمع شيء من ذلك في عصر الصحابة بعد موته ولا في عصر من بعدهم ، ولم يقل بذلك أحد من أهل المذاهب الأربعة ، ولا من سائر أهل الأرض ، فمثل هذه المسائل من عجائب الرأي الذي اختص به أهل أرضنا اللهم غفراً ... إلى أن قال : وأما ما ذكره المصنف من جواز الجمع لمشغول بطاعة ، فليت شعري ما هي هذه الطاعة التي يجب تأثيرها على الصلاة ؟ التي هي رأس الطاعات وهي أحد أركان الإسلام ، والتي ليس بين العبد وبين الكفر إلا مجرد تركها ، وأعجب من هذا وأغرب تجويزهم الجمع للمشغول بمباح ينفعه وينقص في التوقيت ، فإن جميع الناس إلا النادر يدأبون في أعمال المعاش العائد لهم بمنفعة وإذا وقتوا فقد تركوا ذلك العمل وقت طهارتهم وصلاتهم ومشيهم إلى المساجد – ومعنى وقتوا : صلوا الصلاة في أوقاتها - . قال : فعلى هذا هم معذورون عن التوقيت طول أعمارهم ، ولهم جمع الصلاة ما داموا على قيد الحياة ، وهذا تفريط عظيم وتساهل بجانب هذه العبادة العظيمة ، وإفراط في مراعاة جانب الأعمال الدنيوية على الأعمال الأخروية ، وقد كان الصحابة – _ - في أيام الرسول ﷺ يشتغلون بالأعمال التي يقوم بها ما يحتاجون إليه ، فمنهم من هو في الأسواق ، ومنهم من هو في عمل الحرث ونحوه ، ومنهم من هو في تحصيل علف ماشيته ، ولم يسمع عن الرسول ﷺ أنه عذر أحداً عن حضور الصلاة في أوقاتها ، ولا بلغنا أن أحداً منهم طلب من الرسول ﷺ أن يرخص له ، لعلمهم أن هذا لا يسوغه الشرع . قلت : من سوّغ الجمع دائماً وأبداً من غير عذر من أعذار الجمع الثلاثة التي هي السفر والمرض والمطر استناداً إلى قول شخص بعينه ، فقد اتخذه مشرعاً ودخل في هذه الآية _ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ _ (الشورى: من الآية21) . وليعد للسؤال جواباً ، لأنه رفض النصوص الشرعية الدالة على التوقيت من كتاب وسنة ، وما أكثرها ، وأخذ بقول من ليس بمعصوم ، فإلى الله المشتكى ، وبين يديه الملتقى ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . قال الشوكاني – رحمه الله - : وأما التمسك بحديث جمعه ﷺ في المدينة فهذا وقع مرة واحدة ، وتأوله كثير من الراوين للحديث ، وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك ، وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقى ما ينتفع به طالب الحق . اهـ. قلت : حديث ابن عباس قال راويه لما سُئل : لم فعل ذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته . ومعنى ذلك – والله أعلم - : أنه صلوات الله وسلامه عليه أراد أن يشرع لأمته شرعاً للضرورات ، كأن يقع مثلاً حريق والناس يدأبون على إطفائه وإنقاذ من يمكن إنقاذه ، أو دهمهم سيل أو فيضان والناس في إنقاذ الأرواح والأموال ، أو حصل زلزال تهدمت بسببه أبنية والناس يدأبون في إنقاذ من تحت الأبنية لعلهم يجدون بعضهم أحياء ، أو يكون للإنسان مريض لا يوجد له أحد غيره فإذا تركه تضرر ، فهذا يجوز له الجمع لتمريض مريضه . ومما سبق يتبين أن مذهب الجمهور وسط بين الإفراط والتفريط . فالإفراط في مذهب الحنفية : الذين منعوا الجمع في غير عرفة ومزدلفة . والتفريط في مذهب الهادوية : الذين أجازوا الجمع لأي عمل من أعمال الدنيا ، بل قد اتخذه أتباع هذا المذهب ديدناً بل قد أسقطوا وقت العصر والعشاء من الحساب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قال ابن عبد البر في التمهيد – رحمه الله(_) - : وقد تقدم القول في جمع الصلاتين في السفر ، وأما في الحضر لغير عذر فإنه لا يجوز على أي حال البتة إلا طائفة شذت ، سنورد ما إليه ذهبوا إن شاء الله . وروينا عن النبي _ من حديث ابن عباس أنه قال الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر من الكبائر وهو حديث ضعيف . ثم اختلف أهل العلم في الجمع من أجل المطر ، فأجازه مالك في الليل أي بين المغرب والعشاء ومنعه في النهار أي بين الظهر والعصر ، وإن كان المطر نازلاً . قال الشوكاني – رحمه الله - : وأما التمسك بحديث جمعه _ في المدينة فهذا وقع مرة واحدة ، وتأوله كثير من الراوين للحديث ، وحمله بعضهم على الجمع الصوري لتصريح جماعة من رواته بذلك ، وقد أفردنا هذا البحث برسالة مستقلة وذكرنا في شرح المنتقى ما ينتفع به طالب الحق . اهـ. قلت : حديث ابن عباس قال راويه لما سُئل : لم فعل ذلك ؟ قال : أراد ألا يحرج أمته . ومعنى ذلك – والله أعلم - : أنه صلوات الله وسلامه عليه أراد أن يشرع لأمته شرعاً للضرورات ، كأن يقع مثلاً حريق والناس يدأبون على إطفائه وإنقاذ من يمكن إنقاذه ، أو دهمهم سيل أو فيضان والناس في إنقاذ الأرواح والأموال ، أو حصل زلزال تهدمت بسببه أبنية والناس يدأبون في إنقاذ من تحت الأبنية لعلهم يجدون بعضهم أحياء ، أو يكون للإنسان مريض لا يوجد له أحد غيره فإذا تركه تضرر ، فهذا يجوز له الجمع لتمريض مريضه . ومما سبق يتبين أن مذهب الجمهور وسط بين الإفراط والتفريط . فالإفراط في مذهب الحنفية : الذين منعوا الجمع في غير عرفة ومزدلفة . والتفريط في مذهب الهادوية : الذين أجازوا الجمع لأي عمل من أعمال الدنيا ، بل قد اتخذه أتباع هذا المذهب ديدناً بل قد أسقطوا وقت العصر والعشاء من الحساب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون . قال ابن عبد البر في التمهيد – رحمه الله(_) - : وقد تقدم القول في جمع الصلاتين في السفر ، وأما في الحضر لغير عذر فإنه لا يجوز على أي حال البتة إلا طائفة شذت ، سنورد ما إليه ذهبوا إن شاء الله . وروينا عن النبي _ من حديث ابن عباس أنه قال الجمع بين الصلاتين في الحضر لغير عذر من الكبائر وهو حديث ضعيف . ثم اختلف أهل العلم في الجمع من أجل المطر ، فأجازه مالك في الليل أي بين المغرب والعشاء ومنعه في النهار أي بين الظهر والعصر ، وإن كان المطر نازلاً . قال ابن عبد البر في التمهيد (12/210) : واختلفوا في عذر المرض والمطر ، فقال مالك وأصحابه : جائز أن يجمع بين المغرب والعشاء ليلة المطر ، قال : ولا يجمع بين الظهر والعصر في حال المطر . قلت : ويجمع بين المغرب والعشاء وإن لم يكن مطر إذا كان طيناً وظلمة ، هذا هو المشهور من مذهب مالك في مساجد الجماعات في الحضر . وهذا القول هو جواز الجمع لعذر المطر بين المغرب والعشاء هو المشهور عن الإمام أحمد ، قال في المغني : ويجوز الجمع بين المغرب والعشاء لأجل المطر ، ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة ، وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق ، وروى عن مروان وعمر بن عبد العزيز .. إلى أن قال : فأما الجمع بين الظهر والعصر فغير جائز ، قال الأثرم : قيل لأبي عبد الله : يجمع بين الظهر والعصر في المطر ؟ قال : لا ، ما سمعت بهذا ، وهذا اختيار أبي بكر ابن حامد وقول مالك . وقال أبو الحسن التميمي فيه قولان ، أحدهما : أنه لا بأس به وهو قول أبي الخطاب ومذهب الشافعي لما روى يحيى بن واضح ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر _ أن النبي _ جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر ، قال : ولأنه معنى أباح الجمع بين الظهر والعصر كالسفر(_)اهـ. واختلفوا في مشروعية الجمع للمريض بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، فذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية إلى جواز الجمع للمريض ومنع ذلك الشافعي ، وقال الليث بن سعد : يجمع المريض والمبطون ، وقال مالك : إذا خاف المريض أن يغلب على عقله جمع جمع تقديم ، أما إذا لم يخف على عقله أن يغلب ولكن كان الجمع أرفق به فإنه يجوز له أن يجمع بينهما في وسط الأولى وأخرها . أما إذا جمع وليس بمضطر فإنه يعيد مادام في الأولى ، فإن خرج الوقت ولم يعد فلا شيء عليه . وقال أبو حنيفة يجوز أن يجمع المريض كجمع المسافر(_) أي في أخر وقت الأولى وأول وقت الثانية . هذه مذاهب الفقهاء في مشروعية الجمع للمريض ، والأشبه بالحق عندي أنه يجوز الجمع للمريض سواء كان تقديماً أو تأخيراً ؛ وذلك أن المشقة الحاصلة بالمرض أعظم من المشقة الحاصلة بالسفر ، وقد أجاز النبي _ الجمع للمستحاضة بل أمرها به في قوله : فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلين العصر وتغتسلين لهما غسلاً واحداً يعني فافعلي . والاستحاضة مرض وحديثها دليل على جواز الجمع للمريض ، علماً بأن المشقة الحاصلة على المريض بأداء كل صلاة في وقتها معلومة لدى الجميع لا يختلف فيها اثنان . وبالله التوفيق . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf |
بسم الله الرحمن الرحيم تأسيس الأحكام على ما صح عن خير الأنام بشرح أحاديث عمدة الأحكام للعلامة : احمد النجمي -رحمه الله- باب قصر الصلاة في السفر [133] : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال صحبت رسول الله ﷺ في السفر فكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك . موضوع الحديث : القصر في السفر . المفردات : فكان لا يزيد في السفر على ركعتين : كان تفيد الاستمرار غالباً . قوله وأبا بكر وعمر وعثمان : تقديره وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان فلم يزيدوا على ركعتين في السفر . المعنى الإجمالي : يخبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه صحب رسول الله ﷺ وخلفائه الثلاثة أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهم فلم يزيدوا في السفر على ركعتين في الرباعية وأنهم لم يصلوا السنن الرواتب في السفر . فقه الحديث : يؤخذ من الحديث مسائل : المسألة الأولى : مشروعية القصر في السفر وهو أمر مجمع عليه قال في الإفصاح لابن هبيرة اتفقوا على القصر في السفر ، ثم اختلفوا هل هو رخصة أو عزيمة فقال أبو حنيفة هو عزيمة وشدد فيه حتى قال إذا صلى الظهر أربعاً ولم يجلس بعد الركعتين بطل ظهره وقال مالك والشافعي وأحمد هو رخصة وعن مالك أنه عزيمة كمذهب أبي حنيفة اهـ. إفصاح 1/165 . قلت : يرد على من زعم أن القصر عزيمة بما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها من طريق الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : " الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأُتمت صلاة الحضر قال الزهري فقلت لعروة ما بال عائشة تُتمُ قال تأولت ما تأول عثمان " . فأقول : لو كان القصر عزيمة لما تأولت عائشة في تركه فلما تأولت في تركه دل على أنه رخصة وليس بعزيمة . ثانياً : أن قولـه جل وعلا : _ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً _ (النساء:101) . مفهوم هذه الآية أن الإتمام هو الأصل وأن القصر رخصة من عزيمة وأن العزيمة هي الأصل وإلى ذلك ذهب الأئمة الثلاثة وقال مالك إذا صلى تماماً أعاد في الوقت لذلك قال بعضهم أن مذهبه كمذهب أبي حنيفة ونفي الجناح عمن قصر دال على أن الأصل هو الإتمام . وقد رد القرطبي في تفسير الآية على من قال القصر هو الأصل واستدل بحديث عائشة بقوله ولا حجة فيه لمخالفتها له فإنها كانت تتم في السفر وذلك يوهنه وإجماع فقهاء الأمصار على أنه ليس بأصل يعتبر في صلاة المسافر خلف المقيم يعني أن المسافر إذا إئتم بمقيم وجب عليه الإتمام وهذا دال على أن الإتمام هو الأصل ونفي الجناح عمن قصر يدل عليه ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " فرض الله الصلاة على لسان نبيكم ﷺ في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ". والقرطبي قد أعل حديث عائشة أيضاً بالاضطراب فقال ثم إن حديث عائشة رضي الله عنها قد رواه ابن عجلان عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قال : " فرض رسول الله ﷺ الصلاة ركعتين ركعتين " وقال فيه الأوزاعي عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : " فرض الله على رسول الله ﷺ ركعتين ركعتين " الحديث . وهذا اضطراب . اهـ. المسألة الثانية : أن مداومة النبي _ على القصر في السفر وعمل الخلفاء الراشدين به من بعده يدل على رجحانه على الإتمام فالعمل به أفضل . المسألة الثالثة : اتفق العلماء على أنه لا تقصير في صلاة الفجر ولا في صلاة المغرب . قال الحافظ ابن حجر نقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا تقصير في صلاة الفجر ولا في صلاة المغرب . اهـ. المسألة الرابعة : أنه يجوز القصر في كل سفر مباح ، قال النووي ذهب الجمهور إلى أنه يجوز القصر في كل سفر مباح وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يشترط في القصر الخوف في السفر . قلت : يرد على هؤلاء بحديث يعلى ابن أمية رضي الله عنها قال قلت لعمر بن الخطاب أرأيت قول الله _ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا _ وقد ذهب الخوف قال سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " . ثم قال : وذهب بعضهم إلى أن السفر المبيح للرخص وهو للحج أو العمرة أو الجهاد . وقال بعضهم كل سفر في طاعة . وعن أبي حنيفة والثوري أنه يجوز القصر في كل سفر سواء كان طاعة أو معصية . وأقول : أرجو أن تكون الرخص جارية في كل سفر مباح أما المعاصي فلا يعان على معصيته بوضع شيء من الواجبات عنه وبالله التوفيق . المسألة الخامسة : اختلف أهل العلم في السفر الموجب للقصر ما هو فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ومالك إلى أنه أربعة برد . قلت : وهي على تقدير الميل بألف وستمائة متر 1600م تكون الأربعة برد بالكيلو ستة وسبعين (76) كيلو وثمان مائة متر أما إن قلنا أن الميل ألفي خطوة للجمل كما في التقدير القديم فإنه يكون أكثر من ذلك وقد قدره محقق كتاب الاستذكار أي قدر الثمانية وأربعين ميلاً هاشمياً بواحد وثمانين كيلاً (81) وهو سير يومين للجمل والرِجل أي يومان بدون لليالي أو ليلتان بدون أيام أو يوماً وليلة متصلة . وقالت الحنفية لا يقصر إلا في سفر يكون مسافة ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة وقالت الظاهرية من خرج مسافة ثلاثة أميال قصر هذه مذاهب الناس في المسافة التي يجوز للمسافر أن يقصر فيها وليس في ذلك عن المعصوم ﷺ نص صريح أن من سافر كذا جاز له القصر ولكن عنه ﷺ حديث صحيح سمى فيه النبي ﷺ مسافة يوم منفرد وليلة منفردة سماها سفراً وذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم رقم 1339 من طريق قتيبة بن سعيد حدثنا الليث (يعني ابن سعد) عن سعيد ابن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ﷺ : " لا يحل لامرأة مسلمةٍ تسافر مسيرة ليلةٍ إلا ومعها رجلٌ ذو محرم منها ". ومن طريق زهير بن حرب حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يومٍ إلا مع ذي محرم" . وقد روى أبو هريرة مسيرة "يوم وليلة" "وأن تسافر ثلاثاً" وروى أبو سعيد الخدري في نفس الكتاب والباب " مسيرة يومين " "وثلاث""وفوق ثلاث". وروى ابن عمر أيضاً "ثلاث ليال" . والاستدلال من هذا الحديث من حيث تسمية النبي ﷺ هذه المسافات المذكورات في هذه الأحاديث سفراً وقد وجدنا أقل ما سماه النبي ﷺ سفراً هو مسافة يوم منفرد أو ليلة منفردة سمى ذلك سفراً وهو مسيرة يوم تام للجمل والرِجل وذلك يقدر بنحو بريدين أربعة وعشرون ميلاً ونحو أربعين كيلو وقد ورد في رواية لأبي داود بريداً ذكرها المنذري برقم 1651 وسكت عليها والذي أعلمه أنها من طريق سهيل بن أبي صالح وفيه كلام من قبل حفظه ورواية اليوم المنفرد والليلة المنفردة هي التي صحت لنا من غير قادح كما تقدم وهذا التحديد هو الحق لأمور : الأمر الأول : أنها هي عمل الصحابي راوي الحديث قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في كتابه الاستذكار ج6 ص83 : " وقد اختلف عن ابن عمر في أدنى ما يقصر إليه الصلاة وأصح ما في ذلك عنه ما رواه عنه ابنه سالم ومولاه نافع أنه لا يقصر إلا في مسيرة اليوم التام أربعة برد " . ذكره ذلك برقم 8013 وقد روى مالك عن نافع أنه كان يسافر مع عبد الله بن عمر البريد ولا يقصر . وأقول : الأصل في ذلك تسمية مسيرة اليوم سفراً من قول النبي ﷺ إلا أن ذلك يختلف باختلاف اليوم في الطول والقصر واختلاف الليل أيضاً في الطول والقصر كذلك فمن سافر يوماً من أيام الربيع القصيرة جاز له القصر وكذلك من سار ليلة من ليالي الصيف القصيرة جاز له القصر لأنه وقع عليه اسم اليوم واسم الليلة كما أنه يختلف باختلاف سرعة السير وبطئه فسير القافلة والمشي المعتدل بين السرعة والبطيء الشديد يختلف عن المشي السريع وأذكر أنا كنا نرتحل بالقافلة من قريتنا إلى مدينة جازان بعد صلاة العصر في أول وقتها في أيام الصيف مع أنه يكون ما بين دخول وقت العصر والمغرب ثلاث ساعات أو ما يقاربها ومع طريق مختصر وسير الليل كله ونصل إلى جازان ضحوة وذلك في الستينات وإذا أردنا أن نسرع في الرجوع وكان في القافلة ناقة باهل ترك صاحبها ولدها في البيت قدمناها فنمشي بعد المغرب ونصلي الصبح حول القرية والمسافة هي المسافة سبعون كيلو متر تقريباً وعلى هذا يحمل تفسير اليوم التام بمسيرة أربعة برد أما السير المعتدل للقافلة والأقدام فهو بريدان ومن كذب جرب . إن اسم اليوم والليلة اسم مجمل يقع على اليوم الطويل والقصير والمشي السريع والبطيء وترك تقييده من الشارع إنما كان رحمة بنا وما كان ربك نسيا فمن سار مسافة يوم ولحقته مشقة السفر فله القصر والفطر سواء سار بريدين أو أربعة برد ولعل السلف قدروه بأربعة برد بالسير السريع احتياطاً للدين . وقد روى عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه عن مالك عن ابن شهاب عن سالم أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة اليوم التام وإن المشقة اللاحقة بسفر يوم بسير الرجل والجمل مبيحة للقصر والفطر كما يباح ذلك في حق من قطع أربعة برد على دابة نجيبة وبسير سريع لأن كلاً منهما قد سماه النبي ﷺ سفراً ولأن كلاً منهما موجب للمشقة وإنما اختلفت اجتهادات الصحابة ومن بعدهم من السلف لأن بعضهم رأى أن الأحوط هو الأخذ بالتحديد الأعلى ثلاث فما فوقها وهذا قد ترك رواية اليومين واليوم والليلة وبعضهم رأى أن الواجب هو الأحوط في حق المكلف فأخذ برواية اليوم المنفرد أو الليلة المنفردة ويؤيد هذا المأخذ قول النبي ﷺ لعمر بن الخطاب " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " وقول النبي ﷺ لعثمان بن أبي العاص الثقفي أنت إمامهم واقتد بأضعفهم فما صاحب الدابة الفارهة والقوة بأولى بالتخفيف من صاحب الدابة الضعيفة والجهد الضعيف مع أني لا أعنف أحداً أخذ بالرأي الآخر إلا أن تحديد الظاهرية بثلاثة أميال لإباحة القصر والفطر وتسميتهم لهذه المسافة سفراً فهذا قول ظاهر البطلان وحديث أنس في الصحيحين إنما قصد به ابتداء القصر في سفر طويل . وبالله تعالى التوفيق . المسألة السادسة : متى يبدأ المسافر في السفر الطويل بالقصر ؟ قال البخاري باب يقصر إذا خرج من موضعه قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري يعني إذا قصد سفراً تقصر في مثله الصلاة وهي من المسائل المختلف فيها أيضاً قال ابن المنذر أجمعوا على أن لمن يريد السفر أن يقصر إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها واختلفوا فيما قبل الخروج عن البيوت فذهب الجمهور إلى أنه لا بد من مفارقة جميع البيوت وذهب بعض الكوفيين إلى أنه إذا أراد السفر يصلي ركعتين ولو كان في منـزله ومنهم من قال إذا ركب قصر إن شاء ورجح ابن المنذر الأول أنهم اتفقوا أنه يقصر إذا فارق البيوت . اهـ. قلت : وأثر علي الذي أورده البخاري بعد الترجمة دليل للقول المرجح وهو قوله ، وخرج علي رضي الله عنه فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها . وأرود البخاري حديث أنس رضي الله عنه برقم 1089 من طريق أبي نعيم قال حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر وإبراهيم بن ميسرة عن أنس رضي الله عنه قال صليت الظهر مع النبي ﷺ بالمدينة أربعاً وبذي الحليفة ركعتين هكذا لفظ البخاري قال الحافظ وفي رواية الكشميهني والعصر بذي الحليفة ركعتين وهي ثابتة في رواية مسلم وكذا في رواية أبي قلابة عند المصنف في الحج وذكر الحافظ أن بين المدينة وذي الحليفة ستة أميال . ومقتضى كلام الحافظ أنها أول منـزلة نزلها من المدينة . قلت : فعل علي ﷺ الذي هو أحد الخلفاء الراشدين دال لما قرره الجمهور أن يبتدأ القصر بعد خروج المسافر من أعمال قريته ويستمر فيه حتى يدخلها . المسألة السابعة : إلى كم يستمر في القصر إذا نزل بأرض له فيها حاجة ؟ اعلم أن من نزل بأرض له فيها حاجة إما أن يكون منتظراً قضاء حاجته متى قضيت ارتحل وإما أن يكون عنده علم أنه لابد له من إقامة معينة . فأما من كان منتظراً قضاء حاجته متى قضيت ارتحل إلا أنه لا يدري متى تقضى وبقي متردداً فهذا يجوز له القصر وإن بقي مدة طويلة ، دليله فعل النبي ﷺ حين أقام بعد الفتح في مكة تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة فقد روى البخاري في تقصير الصلاة رقم 1080 من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال أقام النبي صلى تسعة عشر يقصر فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا . وقد ذكر الحافظ أنه ورد في رواية سبعة عشر يوماً عند أبي داود وورد عنده أيضاً من طريق عمران بن حصين رضي الله عنه أنه ﷺ أقام ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين . وذكر البيهقي أنه جمع بين هذه الروايات أن من قال تسعة عشر حسب يومي الدخول والخروج ومن قال سبعة عشر أسقطهما ومن قال ثماني عشرة أسقط أحدهما وقد ورد خمسة عشر يوماً وقد ورد أنه أقام بتبوك عشرين يوماً فمنهم من قال نقصر إلى هذا العدد ثم نتم ومنهم من قال يقصر ما لم يجمع مكثا وإن طال . وفي مصنف ابن أبي شيبة آثار كثيرة عن السلف أنهم قصروا مدة طويلة إلا أنهم كانوا في الغزو ومثل هذه الآثار تحمل على التردد أو أنهم فعلوا ذلك باعتبارهم في الغزو وفي هذه المسألة خلاف كثير يدل على أنهم كانوا مجتهدين . وأما من عزم على إقامة معينة فقد اختلف فيه أيضاً فأثر عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله أقام رسول الله صلى تسعة عشر يوماً يقصر فنحن إذا أقمنا تسعة عشر قصرنا وإذا زدنا أتممنا . وفي رواية حفص سبع عشرة قال أبو عمر حفص أحفظ من أبي عوانة إلا أن عباد بن منصور قد تابع أبا عوانة . وقد نقل عن السلف أقوال بلغها ابن عبد البر في الاستذكار إلى أحد عشر قولاً والقول الصحيح فيما يظهر لي أن من عزم على إقامة أربع غير يوم نزولـه أتم الصلاة لحديث العلاء بن الحضرمي _ أن النبي _ جعل للمهاجر مقام ثلاثة أيام بعد قضاء نسكه عزاه في الاستذكار إلى البخاري في مناقب الأنصار الحديث رقم 3933 ومسلم في الحج برقم 3239 . قلت : ودلالة الحديث على هذه المسألة أن الزيادة على ثلاثة أيام يسمى إقامة فيلزم فيه الإتمام وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي والإمام أحمد بن حنبل وقال الشافعي ولا يحسب من ذلك يوم نزوله ولا يوم ارتحاله وقال به أتباع الأئمة الثلاثة فيما أعلم وقال في مسائل الخرقي مسألة رقم 277 وإذا نوى المسافر أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم . قال في المغني المشهور عن أحمد رحمه الله أن المدة التي تلزم المسافر الإتمام بنية الإقامة فيها هي ما كان أكثر من إحدى وعشرين صلاة رواه الأثرم والمروذي وغيرهما . وعنه أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم وإذا نوى دونها قصر وهذا قول مالك والشافعي وأبي ثور لأن الثلاثة حد القلة إلى أن قال ، وقال الثوري وأصحاب الرأي إن أقام خمسة عشر يوماً مع اليوم الذي يخرج فيه أتم وإن نوى دون ذلك قصر وقال قتادة من نوى إقامة أربع صلى أربعاً . المسألة الثامنة : إذا اقتدى المسافر بمقيم صلى صلاة مقيم والدليل عليه ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعاً إذا إئتم بمقيم قال تلك السنة . وفي لفظ أنه قال لـه موسى بن سلمة إنا إذا كنا معكم صلينا أربعاً وإذا رجعنا صلينا ركعتين فقال تلك سنة أبي القاسم _ قال الشوكاني وقد أورد الحافظ هذا الحديث في التلخيص ولم يتكلم عليه وقال إن أصله في مسلم والنسائي بلفظ قلت لابن عباس كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصلي مع الإمام قال ركعتين سنة أبي القاسم _ اهـ. من نيل الأوطار باب اقتداء المقيم بالمسافر ج3 ص166 ط دار المعرفة . وبالله التوفيق . تَأْسِيسُ الأَحْكَامِ عَلَى مَا صَحَّ عَنْ خَيْرِ الأَنَامِ بِشَرْحِ أَحَادِيثِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ تَأْلِيف فَضِيلةُ الشَّيخِ العلَّامَة أَحْمَدُ بن يحيى النجميَ تأسيس الأحكام بشرح أحاديث عمدة الأحكام [2] [ المجلد الثاني ] http://subulsalam.com/site/kutub/Ahm...ssisAhkam2.pdf التصفية والتربية TarbiaTasfia@ |
بسم الله الرحمن الرحيم رفع . |
Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd