مجلة معرفة السنن والآثار العلمية

مجلة معرفة السنن والآثار العلمية (http://www.al-sunan.org/vb/index.php)
-   منبر التوحيد وبيان ما يضاده من الشرك (http://www.al-sunan.org/vb/forumdisplay.php?f=2)
-   -   القول المفيد على كتاب التوحيد شرح فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- (http://www.al-sunan.org/vb/showthread.php?t=10544)

ام عادل السلفية 01-02-2015 12:58PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}

ج / 2 ص -167- باب قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، الآيات، [النساء:60].


هذا الباب له صلة قوية بما قبله; لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله


وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات:
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب، وهي قوله تعالى:
" ألم تر": الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم، والخطاب للنبي (.
قوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي ( هنا، ولم يقل الذين آمنوا; لأنهم لم يؤمنوا، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون. والذي أنزل إلى النبي ( الكتاب والحكمة، قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، [النساء: من الآية113]، قال المفسرون: الحكمة السنة، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم؛

ج / 2 ص -168-


حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله.
قوله: "إلى الطاغوت": صيغة مبالغة من الطغيان; ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله، أما الطاغوت بالمعنى الأعم; فقد حده ابن القيم بأنه: "كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع"، وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد1.


قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، أي: أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء، فمن أراد التحاكم إليه; فهذه الإرادة على بصيرة; إذ الأمر قد بين لهم.
قوله: "ويريد الشيطان": جنس يشمل شياطين الإنس والجن.
قوله: {أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}، أي: يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة، ولكن بالتدريج.
فقوله: "بعيدا" أي: ليس قريبا، لكن بالتدريج شيئا فشيئا؛ حتى يوقعهم في الضلال البعيد.


قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ}، أي: قال لهم الناس: أقبلوا " إلى ما أنزل الله" من القرآن "وإلى الرسول" نفسه في حياته، وسنته بعد وفاته، والمراد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته.
قوله: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}، الرؤية هنا رؤية



1سبق في المجلد الأول. ص

ج / 2 ص -169-


حال، لا رؤية بصر، بدليل قوله: " تعالوا"; فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده. والمعنى: كأنما تشاهدهم.
وقوله: "يصدون عنك صدودا": يعرضون عنك إعراضا.
وقوله: "رأيت المنافقين":

إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد:
الأولى: أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين.
الثانية: أن هذا لا يصدر إلا من منافق; لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود.
الثالثة: التنبيه; لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه، فإذا تغير، حصل له انتباه.
وقوله: "رأيت المنافقين" جواب "إذا"، وكلمة "صد" تستعمل لازمة; أي: يوصف بها الشخص ولا يتعداه إلى غيره، ومصدرها صدود; كما في هذه الآية، ومتعدية; أي: صد غيره، ومصدرها صد; كما في قوله تعالى: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، [الفتح: من الآية25].


وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، [النساء:62]، الاستفهام هنا يراد به التعجب; أي: كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين.
فالدنيوية مثل: الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك، فيأتون يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.

ج / 2 ص -170- ....


والشرعية: إذا أظهر الله رسوله على أمرهم; خافوا وقالوا: يا رسول الله! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق.
قوله: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}، الباء: هنا للسببية، و "ما" اسم موصول، و "قدمت" صلته، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل; أي: بما قدموه من الأعمال السيئة.


وقوله: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، "إن" بمعنى: "ما"; أي: ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان; أي: نمشي معكم ونمشي مع الكفار، وهذه حال المنافقين; فهم قالوا: أردنا أن نحسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين.


قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، [النساء: من الآية63]، توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع; فالله علام الغيوب، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الِْإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، [قّ: من الآية16]، بل إن الله أعلم منك بما فيك، قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}، [الأنفال: من الآية24]، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة، أن الله يحول بين المرء وقلبه، ولهذا قيل لأعرابي: "بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم".
فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة، بدون سبب ظاهر.
قوله: "فأعرض عنهم": وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار.

ج / 2 ص -171-


قوله: "وعظهم": أي: ذكرهم وخوفهم، لكن لا تجعلهم أكبر همك; فلا تخفهم، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة.
قوله: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}، اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال:
الأول: أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ; أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم; أي: يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا.
الثاني: أن المعنى: انصحهم سرا في أنفسهم.


الثالث: أن المعنى: قل لهم في أنفسهم (أي: في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة; لأن اللفظ صالح لها جميعا، ولا منافاة بينها، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبه لها، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم، إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض: فإنه يؤخذ بجميع المعاني.


وبلاغة القول تكون في أمور:
الأول: هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب; احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه؛ حتى كأنه منذر جيشا، يقول: صبحكم ومساكم1.
الثاني: أن تكون ألفاظه جزلة، مترابطة، محددة الموضوع.


1أخرجه مسلم في (الجمعة, باب تخفيف الصلاة والخطبة/2/592) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

ج / 2 ص -172- قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة:11].


الثالث: أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان، بأن يكون كلامه: سليم التركيب، موافقا للغة العربية، مطابقا لمقتضى الحال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله; لأن هؤلاء يقولون: إنهم يؤمنون بالله ورسوله، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول; يعرضون، ويصدون، ويقولون: نذهب إلى فلان وفلان، وإذا اعترض عليهم; قالوا: نريد الإحسان والتوفيق، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع". ذكره رحمه الله في "الفتوى الحموية".
الآية الثانية قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}:


الإفساد في الأرض نوعان:
الأول: إفساد حسي مادي، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك.
الثاني: إفساد معنوي، وذلك بالمعاصي; فهي من أكبر الفساد في الأرض، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، [الروم:41]، وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}، [الشورى:30]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ

ج / 2 ص -173- وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56].


وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}، الأعراف: من الآية96].وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}، [المائدة: الآية65-66].
قوله: "إنما نحن مصلحون": وهذه دعوى من أبطل الدعاوى، حيث قالوا: ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح. ولهذا قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ}، [البقرة: من الآية12]، "ألا": أداة استفتاح، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات، وهي: "ألا"، و"إن"، وضمير الفصل "هم"، والجملة الاسمية; فالله قابل حصرهم بأعظم منه; فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح؛ هم المفسدون حقيقة لا غيرهم.
ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض.


الآية الثالثة قوله تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}؛ يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق.
قوله: "بعد إصلاحها": من قبل المصلحين، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم، والوقوف ضد دعوة السلف، وضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "بعد إصلاحها": من باب تأكيد اللوم والتوبيخ; إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة، والخبث، والشر! فالإفساد

ج / 2 ص -174- وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الآية، [المائدة: من الآية50].


بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد.
ومناسبة الآية للباب: أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح، وأن التحاكم إلى غيره هو الإفساد.
الآية الرابعة قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، الاستفهام للتوبيخ، و"حكم": مفعول مقدم ل "يبغون"، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى: أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية.
و"يبغون": يطلبون، والإضافة في قوله: "أفحكم الجاهلية" تحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى: أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة، ومنها: البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد.


ثانيها: أن يكون المعنى: أفحكم الجهل الذي لا يبنى على العلم يبغون، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن، وهذا أعم.
والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير، وكل حكم يخالف حكم الله; فهو جهل وجهالة.
فإن كان مع العلم بالشرع; فهو جهالة، وإن كان مع خفاء الشرع; فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ

ج / 2 ص -175-


عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}، [النساء: من الآية17]، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه، لكن عليه أن يتعلم. قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً}، "من": اسم استفهام بمعنى النفي; أي: لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي; فهو أبلغ من قول: لا أحسن من الله حكما; لأنه متضمن للنفي وزيادة.
وقوله: "حكما": تمييز; لأنه بعد اسم التفضيل، وهو مبهم; فبين هذا التمييز المبهم وميزه. والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي.
فإن قيل: يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها; فأين الحسن في ذلك؟


أجيب: أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعلها حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا; فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}، [البقرة:66]، وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد، كما قال تعالى: "لقوم يوقنون"، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا، وعلى هذا; فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية.



ج / 2 ص -176- وعن عبد الله بن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"1........


وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}؛ خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص، وقالوا: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، [آل عمران: من الآية7]، وعرفوا حسن أحكام الله تعالى، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد; فلم يرضوا عنها بديلا.


قوله في حديث عبد الله بن عمر: "لا يؤمن أحدكم": أي: إيمانا كاملا، إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية; فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية، لأنه إذا كره ما أنزل الله فقد حبط عمله لكفره، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}، [محمد:9].
قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به": الهوى بالقصر هو: الميل، وبالمد هو: الريح، والمراد الأول.


و "حتى": للغاية، والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة.
وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار، وامتثالا للأوامر، واجتنابا للنواهي.
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى

ـ

1أخرجه ابن أبي عاصم في "السنة" (15), والخطيب في "التاريخ" (4/369), والبغوي في "شرح السنة" (1/212), وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 18). وانظر: كلام ابن رجب على سند الحديث في "جامع العلوم والحكم" حديث رقم (41).

ج / 2 ص -177- قال النووي: " حديث صحيح، رويناه في كتاب " الحجة"، بإسناد صحيح"1.
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود


الإيمان، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، [الجاثية: من الآية23]، وقال تعالى: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}، [محمد: من الآية14]، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كان محمودا، وهو من كمال الإيمان.


وقد سبق بيان أن من اعتقد أن حكم غير الله مساو لحكم الله، أو أحسن، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله; فهو كافر. وأما من لم يكن هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان كارها له; فهو كافر، وإن لم يكن كارها ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك; فليس بكافر، لكن يكون ناقص الإيمان.


قوله: "قال النووي: حديث صحيح": صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم"، ولكن معناه صحيح.
قوله في أثر الشعبي: "وقال الشعبي": أي: في تفسير الآية.
قوله: "رجل من المنافقين": هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وسمي منافقا من النافقاء، وهي جحر اليربوع، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء - أي يحفر في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقي شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف -، فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء.
قوله: "ورجل من اليهود": اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى



1"الأربعون النووية" (حديث رقم 41).

ج / 2 ص -178- خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد; عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية، [النساء: من الآية60]"1.


عليه السلام، وسموا بذلك إما من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، أي: رجعنا، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا، ولكن بعد التعريب صار بالدال.
قوله: "إلى محمد": أي: النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكره بوصف الرسالة; لأنهم لا يؤمنون برسالته، ويزعمون أن النبي الموعود به سيأتي.
قوله: "عرف أنه لا يأخذ الرشوة": تعليل لطلب التحاكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والرشوة: مثلثة الراء; فيجوز الرِّشوة، والرَّشوة، والرُّشوة.
والرشوة هي: المال المدفوع للتوصل إلى شيء.


قال أهل العلم: "لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه; فليست حراما على الباذل، أما على آخذها; فحرام".
قوله: "فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة": كأنه صار بينهما خلاف، وأبى المنافق أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.


والكاهن: من يدعي علم الغيب في المستقبل، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء، فيقولون: سيحدث كذا وكذا، فربما أصابوا مرة من المرات، وربما أخطئوا، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب،



1أخرجه ابن جرير (5/97) عن الشعبي مرسلا.

ج / 2 ص -179- وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله"1.


فكان العرب يتحاكمون إليهم; فنزل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، الآية.
قوله: "وقيل": ذكر هذه القصة بصيغة التمريض، لكن ذكر في "تيسير العزيز الحميد" أنها رويت من طرق متعددة، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها. اه.


قوله: "رجلين": هما مبهمان; فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين، ويحتمل أن يكونا من المنافقين، ويحتمل غير ذلك.
قوله: "إلى كعب بن الأشرف": وهو رجل من زعماء بني النضير.
قوله: "أكذلك": خبر لمبتدأ محذوف، التقدير: أكذلك الأمر.
قوله: "فضربه بالسيف": الضارب عمر.
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر يجب قتله، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه.



1علقه الواحدي في "أسباب النزول" (ص107, 108), والبغوي في "تفسيره" (1/552), وقد أشار الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى ضعفه بقوله: "وقيل...". وانظر: "تيسير العزيز" (ص573).



ج / 2 ص -180- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ}، [البقرة: من الآية11]، الآية.


فإن قيل: كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم؟
أجيب: أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله; لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه"1.


فيه مسائل:

الأولى: "تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": وهي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}، [النساء: من الآية60].
وقوله: "وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت": أي: أن الطاغوت مشتق من الطغيان، وإذا كان كذلك; فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع; فالأصنام والأمراء والحكام الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا



1أخرجه البخاري في (الجهاد, باب لا يعذب بعذاب الله/4/363) من حديث ابن عباس.

ج / 2 ص -181- الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، [الأعراف: من الآية56].
الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، [المائدة: من الآية50].
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.


إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، [البقرة: من الآية11]: ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض; لأنها في سياق المنافقين، والفساد يشمل جميع المعاصي.
الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقد سبق.
الرابعة: تفسير {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، وقد سبق ذلك، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع، وأضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه، وأنه مبني على الجهل والضلال.
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى: وقد سبق.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب: فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك.
السابعة: قصة عمر مع المنافق: حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبيحا لقتله لردته، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه.

ج / 2 ص -182- الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.



الثامنة: كون الأيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا واضح من الحديث.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 01-02-2015 02:29PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات

ج / 2 ص -183- باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات:


الجحد: الإنكار، والإنكار نوعان:
الأول: إنكار تكذيب، وهذا كفر بلا شك، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول: ليس لله يد، أو أن الله لم يستو على عرشه، أو ليس له عين، فهو كافر بإجماع المسلمين; لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة بالإجماع.
الثاني: إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها، ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها،


وهذا نوعان:
1- أن يكون للتأويل مسوغ في اللغة العربية; فهذا لا يوجب الكفر.
2- أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية; فهذا حكمه الكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيبا، مثل أن يقول: المراد بقوله تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، [القمر: من الآية14]، تجري بأراضينا; فهذا كافر لأنه نفاها نفيا مطلقا، فهو مكذب.
ولو قال في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، [المائدة: من الآية64]، المراد بيديه: السماوات والأرض; فهو كفر أيضا لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية; فهو منكر ومكذب، لكن إن


ج / 2 ص -184-


قال: المراد باليد النعمة أو القوة; فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة، قال الشاعر:

وكم لظلام الليل عندك من يد تحدث أن المانوية تكذب
فقوله: "من يد"; أي: من نعمة; لأن المانوية يقولون: إن الظلمة لا تخلق الخير، وإنما تخلق الشر.
قوله: "من الأسماء": جمع اسم، واختلف في اشتقاقه:
فقيل: من السمو، وهو الارتفاع، ووجه هذا أن المسمى يرتفع باسمه ويتبين ويظهر.
وقيل: من السمة وهي العلامة، ووجهه: أنه علامة على مسماه.
والراجح أنه مشتق من كليهما.
والمراد بالأسماء هنا: أسماء الله عز وجل، وبالصفات صفات الله عز وجل، والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمى به الله، والصفة ما اتصف به.


البحث في أسماء الله:

المبحث الأول1:

أن أسماء الله أعلام وأوصاف، وليست أعلاما محضة; فهي من حيث دلالتها على ذات الله تعالى أعلام، ومن حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف، بخلاف أسمائنا; فالإنسان يسمي ابنه محمدا وعليا دون أن يلحظ معنى الصفة، فقد يكون اسمه عليا وهو من أوضع الناس، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله; لأنها متضمنة للمعاني، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته، والعزيز يدل على العزة، والحكيم يدل على الحكمة، وهكذا.




1انظر: (باب احترام أسماء الله تعالى).


ج / 2 ص -185-


ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: دلالة مطابقة، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به.
الثاني: دلالة تضمن، وهي دلالته على جزء معناه.
الثالث: دلالة التزام، وهي دلالته على أمر خارج لازم.
مثال ذلك: الخالق يدل على ذات الله وحده، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلالة مطابقة، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام.


كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، [الطلاق:12]; فعلمنا القدرة من كونه خلق السماوات والأرض، وعلمنا العلم من ذلك أيضا; لأن الخلق لا بد فيه من علم، فمن لا يعلم لا يخلق، وكيف يخلق شيئا لا يعلمه؟!


المبحث الثاني:
أن أسماء الله مترادفة متباينة.
المترادف: ما اختلف لفظه واتفق معناه; والمتباين: ما اختلف لفظه ومعناه; فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله عز وجل لأنها تدل على مسمى واحد، فالسميع، البصير، العزيز، الحكيم; كلها تدل على شيء واحد هو الله، ومتباينة باعتبار معانيها; لأن معنى الحكيم غير معنى السميع، وغير معنى البصير، وهكذا.


المبحث الثالث:
أسماء الله ليست محصورة بعدد معين، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم


ج / 2 ص -186-
ـــ
في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور: "اللهم! إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك... - إلى أن قال - أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"1، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة"2، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فقوله: "من أحصاها" تكميل للجملة الأولى، وليست استئنافية منفصلة، ونظير هذا قول القائل: عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله; فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة، بل معناه أن هذه المئة معدة لهذا الشيء.


المبحث الرابع:

الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق; فيجب علينا أن نؤمن به اسما من الأسماء، ونؤمن بما تضمنه من الصفة، ونؤمن بما تدل عليه هذه الصفة من الأثر والحكم؛ إن كان الاسم متعديا.



1أخرجه: أحمد (1/391, 452), وابن حبان (2372), والطبراني في "الكبير" (10352), والحاكم (1/ 509)- وقال: "صحيح على شرط مسلم إن سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه; فإنه مختلف في سماعه من أبيه". وأخرجه أيضا: البيهقي في "الأسماء" (ص 6). والحديث صححه ابن القيم; كما في "بدائع الفوائد" (1/ 166), وحسنه الحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 13).
2أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب إن لله مائة اسم إلا واحدا, 4/ 482), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب في أسماء الله تعالى, 4/ 2063); من حديث أبي هريرة.


ج / 2 ص -187-


فمثلا: السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع، وأنه دال على صفة السمع، وأن لهذا السمع حكما وأثرا وهو أنه يسمع به; كما قال تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}، [المجادلة:1]، أما إن كان الاسم غير متعد; كالعظيم، والحي، والجليل; فنثبت الاسم والصفة، ولا حكم له يتعدى إليه.


المبحث الخامس:

هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله؟
إن أريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى; فهي غير الله عز وجل وإن أريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ; فهي المسمى.
فمثلا: الذي خلق السماوات والأرض هو الله; فالاسم هنا هو المسمى، فليست "اللام- والهاء" هي التي خلقت السماوات والأرض، وإذا قيل: اكتب باسم الله. فكتبت بسم الله; فالمراد به الاسم دون المسمى، وإذا قيل: اضرب زيدا. فضربت زيدا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلا; لأن المقصود المسمى، وإذا قيل: اكتب زيد قائم؛ فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى.


البحث في صفات الله:

المبحث الأول:
تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ذاتية ويقال معنوية.
الثاني: فعلية.
الثالث: خبرية.


ج / 2 ص -188-


فالصفات الذاتية: هي الملازمة لذات الله، والتي لم يزل ولا يزال متصفا بها، مثل: السمع والبصر، وهي معنوية; لأن هذه الصفات معاني.
والفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته؛ إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها، مثل: النزول إلى السماء الدنيا، والاستواء على العرش، والكلام من حيث آحاده، والخلق من حيث آحاده، لا من حيث الأصل; فأصل الكلام صفة ذاتية، وكذلك الخلق.


والخبرية: هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، أما بالنسبة لله; فلا يقال هكذا، بل يقال: صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة، وهي ليست معنى ولا فعلا، مثل: الوجه، والعين، والساق، واليد.


المبحث الثاني:

الصفات أوسع من الأسماء; لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة تكون اسما، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه; فيوصف الله بالكلام والإرادة، ولا يسمى بالمتكلم أو المريد.


المبحث الثالث:
أن كل ما وصف الله به نفسه; فهو حق على حقيقته، لكن ينزه عن التمثيل والتكييف، أما التمثيل; فلقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، [الشورى: من الآية11]، وقوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، [النحل:74].

والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه; لوجوه ثلاثة:
أحدها: أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقا، بخلاف التشبيه; فلم يأت القرآن بنفيه.


ج / 2 ص -189-

الثاني: أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح ; لأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به; ف: "الحياة" مثلا وصف ثابت في الخالق والمخلوق، فبينهما قدر مشترك، ولكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به.


الثالث: أن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيها، فإذا قلنا من غير تشبيه; فهم هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه.
وأما التكييف; فلا يجوز أن نكيف صفات الله، فمن كيف صفة من الصفات; فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه، عاص لأنه واقع فيما نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، [الإسراء: من الآية36]، وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية169]، بعد قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، الآية، [الأعراف: من الآية33]، ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية; لقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}، [طه:110]، وقوله: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}، [الأنعام: من الآية103].


وسواء كان التكييف باللسان تعبيرا أو بالجنان تقديرا، أو بالبنان تحريرا، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء: "الكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة"، وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية، بل لها كيفية، ولكنها ليست معلومة لنا; لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود; فالاستواء، والنزول، واليد، والوجه، والعين، لها كيفية، لكننا لا نعلمها; ففرق بين أن نثبت كيفية معينة ولو تقديرا، وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة، وهذا هو الواجب; فنقول: لها كيفية، لكن غير معلومة.


ج / 2 ص -190- وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، الآية، [الرعد: من الآية30].


فإن قيل: كيف يتصور أن نعتقد للشيء كيفية ونحن لا نعلمها؟
أجيب: إنه متصور; فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها، أو شاهد نظيرها، أو أخبره شخص صادق عنها.
قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، الآية.
"وهم": أي: كفار قريش. {يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، المراد: أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمى، فهم يقرون به، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه}، [لقمان: من الآية25]، وفي حديث سهيل بن عمرو: "لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما الرحمن; فوالله ما أدري ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم"1، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى.


وقد قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، [الإسراء: من الآية110]; أي: بأي اسم من أسمائه تدعونه; فإن له الأسماء الحسنى فكل أسمائه حسنى; فادعوا بما شئتم من الأسماء، ويراد بهذه الآية الإنكار على قريش.
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسمائه تعالى فإنه يكفر;



1أخرجه البخاري في (الشروط, باب الشروط في الجهاد/2/279،283).


ج / 2 ص -191-


لقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}، ولأنه مكذب لله ولرسوله، وهذا كفر، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية.
قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، [الرعد: من الآية30]، خبر "لا" النافية للجنس محذوف، والتقدير: لا إله حق إلا هو، وأما الإله الباطل; فكثير، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ}، [لقمان: من الآية30].
قوله: "عليه توكلت": أي: عليه وحده; لأن تقديم المعمول يدل على الحصر، فإذا قلت مثلا: "ضربت زيدا"; فإنه يدل على أنك ضربته، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره، وإذا قلت: "زيدا ضربت" دلت على أنك ضربت زيدا ولم تضرب غيره، وسبق معنى التوكل وأحكامه.


قوله: "وإليه متاب": أي: إلى الله، و "متاب" أصلها متابي، فحذفت الياء تخفيفا، والمتاب بمعنى التوبة; فهو مصدر ميمي; أي: وإليه توبتي.
والتوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة، ولها شروط خمسة:
1- الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا.
2- أن تكون في وقت قبول التوبة، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل حضور الموت.
3- الندم على ما مضى من فعله، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن.



ج / 2 ص -192- وفي " صحيح البخاري": قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون،......

ـ
4- الإقلاع عن الذنب، وعلى هذا، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق; فلا بد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها.
5- العزم على عدم العودة.
والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة; كما في الآية السابقة، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع; فإنها تكون له ولغيره، ومنه قول عائشة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نمرقة فيها صور، فوقف بالباب ولم يدخل، وقالت: "أتوب إلى الله ورسوله، ماذا أذنبت؟"1، فليس المراد بالتوبة هنا توبة العبادة; لأن توبة العبادة لا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الخلق بل لله وحده، ولكن هذه توبة رجوع، ومن ذلك أيضا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه; يقول الابن: أتوب.


قوله في أثر علي رضي الله عنه "حدثوا الناس": أي: كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ.
قوله: "بما يعرفون": أي: بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم؛ حتى لا يفتنوا، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"2، ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه، بل تدعوهم رويدا رويدا، حتى تستقر عقولهم، وليس معنى "بما يعرفون" أي: بما يعرفونه من قبل; لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل.



1أخرجه البخاري في (النكاح, باب هل يرجع إذا رأى منكرا في الدعوة رقم5181).
2أخرجه مسلم في مقدمة "صحيحه" (1/11).


ج / 2 ص -193- أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"1.


قوله: "أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!"2، الاستفهام للإنكار; أي: أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله، لأنك إذا قلت: قال الله وقال رسوله كذا وكذا، قالوا: هذا كذب؛ إذا كانت عقولهم لا تبلغه، وهم لا يكذبون الله ورسوله، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله; فيكونون مكذبين لله ورسوله، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل.
فإن قيل: هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس، وإن كانوا محتاجين لذلك؟


أجيب: لا ندعه، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم، وذلك بأن ننقلهم رويدا رويدا؛ حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول: هذا شيء مستنكر لا نتكلم به.
ومثل ذلك: العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس، ويستنكرونها; فإننا نعمل بها، ولكن بعد أن نخبرهم بها; حتى تقبلها نفوسهم، ويطمئنوا إليها.
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته.
مناسبة هذا الأثر لباب الصفات:مناسبته ظاهرة; لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة، فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم، كحديث النزول إلى السماء الدنيا3،



1أخرجه البخاري في (العلم, باب من خص بالعلم قوما دون قوم/1/62).
2 البخاري: العلم (127).
3أخرجه البخاري في (التهجد, باب الدعاء والصلاة من آخر الليل/1/356), ومسلم في (صلاة المسافرين, باب الترغيب في الدعاء/1/521); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وهو عند مسلم أيضا من حديث أبي سعيد الخدري في الموضع السابق (1/522).



ج / 2 ص -194- وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: "أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء؟........


مع ثبوت العلو، فلو حدثت العامي بأنه تعالى نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشه، فقد يفهم أنه إذا نزل; صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليا منه، وحينئذ لا بد في هذا من حديث تبلغه عقولهم، فتبين لهم أن الله عز وجل ينزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: "من يدعوني فأستجيب له..." الحديث.
والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى، وأن المراد بذلك بيان فضل الله عز وجل في هذه الساعة من الليل.


قوله في أثر ابن عباس: "انتفض": أي: اهتز جسمه، والرجل مبهم، والصفة التي حدث بها لم تبين، وبيان ذلك ليس مهما، وهذا الرجل انتفض استنكارا لهذه الصفة لا تعظيما لله، وهذا أمر عظيم صعب; لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به، ويصدق؛ ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل، أو يتصوره.


قوله: "ما فرق": فيها: ثلاث روايات:
1- "فَرَقُ"; بفتح الراء، وضم القاف.
2- "فَرَّقَ": بفتح الراء مشددة، وفتح القاف.
3- "فَرَقَ"; بفتح الراء مخففة، وفتح القاف.


ج / 2 ص -195- يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!" انتهى1.



فعلى رواية "فرق" تكون "ما" استفهامية مبتدأ، و"فرق": خبر المبتدأ; أي: ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة التي تليت عليهم وبلغتهم، لماذا لا يثبتونها لله عز وجل كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؟
وهذا ينصب تماما على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه؟
وعلى راوية "فرق" أو "فرق" تكون فعلا ماضيا بمعنى ما فرقهم; كقوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقنَاهُ}، [الإسراء: من الآية106]; أي: فرقناه.


و"ما" يحتمل أن تكون نافية، والمعنى: ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى: أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه؟
قوله: "يجدون رقة عند محكمه": الرقة: اللين والقبول، و "محكمه"; أي: محكم القرآن.
قوله: "ويهلكون عند متشابهه": أي: متشابه القرآن.


والمحكم الذي اتضح معناه وتبين، والمتشابه هو الذي يخفى معناه، فلا يعلمه الناس، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردا دون المتشابه; فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل: لا كذب في أخباره، ولا جور في أحكامه، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، [الأنعام: من الآية115]، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه، وذلك مثل قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}، [يونس:1]، وقال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه}، [هود: من الآية1].
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم؛ صار المعنى أنه يشبه



1أخرجه عبد الرزاق (20895), وابن أبي عاصم في "السنة" (485).


ج / 2 ص -196-


بعضه بعضا في جودته وكماله، ويصدق بعضه بعضا ولا يتناقض، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ}، [الزمر: من الآية23]، والتشابه نوعان: تشابه نسبي، وتشابه مطلق.
والفرق بينهما: أن المطلق يخفى على كل أحد، والنسبي يخفى على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، [آل عمران: من الآية7]; فعلى الوقف على "إلا الله" يكون المراد بالمتشابه المتشابه المطلق، وعلى الوصل {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي.


وللسلف في ذلك قولان:
القول الأول: الوقف على "إلا الله"، وعليه أكثر السلف، وعلى هذا; فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار، قال الله تعالى في نعيم الجنة: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}، [السجدة: من الآية17]; أي: لا تعلم حقائق ذلك، ولذلك قال ابن عباس: "ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء"1.


والقول الثاني: الوصل; فيقرأ: {إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}، وعلى هذا; فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابها، ولهذا يروى عن ابن عباس; أنه قال: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"2، ولم يقل هذا مدحا لنفسه أو



1أخرجه ابن حزم في "الفصل" (2/108)- وقال: "هذا سند غاية في الصحة"-. وقال المنذري في "الترغيب" (4/560): "رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد".
2انظر قوله في: "تفسير الطبري" (3/ 183).


ج / 2 ص -197-


ثناء عليها، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه; فالقرآن معانيه كلها بينة، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين، حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن، وهذا يدل على أنه خفي علىبعضهم، والصواب بلا شك مع أحدهم؛ إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعا، بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما; فإنها تحمل عليهما جميعا.


وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه; فيكون من المتشابه المطلق، ويحملون آيات الصفات على ذلك، وهذا من الخطأ العظيم; إذ ليس من المعقول أن يقول تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، [صّ: من الآية29]، ثم تستثنى آيات الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعا وأكثر من آيات الأحكام، ولو قلنا بهذا القول; لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعا يكون خفيا، ويكون معنى قوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}، أي: آيات الأحكام فقط، وهذا غير معقول، بل جميع القرآن يفهم معناه; إذ لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرءون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت... والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى، ولكن الخطأ في الفهم.


فقد يقصر الفهم عن إدراك المعنى أو يفهمه على معنى خطأ، وأما بالنسبة للحقائق، فما أخبر الله به من أمر الغيب، فمتشابه على جميع الناس.


ج / 2 ص -198- ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن; أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، [الرعد: من الآية30]،1.


قوله فيه مسائل:

قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن": أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فقال: "أما الرحمن; فلا والله ما أدري ما هي، وقالوا: إننا لا نعرف رحمانا إلا رحمن اليمامة. فأنكروا الاسم دون المسمى; فأنزل الله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، أي: بهذا الاسم من أسماء الله.


وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة; فهو كافر لقوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}.
وقوله: "ولما سمعت قريش": الظاهر - والله أعلم - أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك، بل طائفة منهم، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر; صح أن ينسب لهم جميعا، بل إن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}، [البقرة: من الآية63]، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين.


فيه مسائل:

1أخرجه ابن جرير (13/101) عن مجاهد مرسلا.

ج / 2 ص -199- الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة: أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله،


الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات: عدم بمعنى انتفاء; أي: انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات، وسبق التفصيل في ذلك.
الثانية: تفسير آية الرعد: وهي قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَن}، وسبق تفسيرها.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع: وهذا ليس على إطلاقه، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر.


الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر: وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله، فيكذب ويقول: هذا غير ممكن، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة; كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته"1، وما أشبه ذلك، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور، لو حدثنا بها إنسانا عاميا لأوشك أن ينكر، لكن يجب أن تبين له بالتدريج؛ حتى يتمكن من عقله، مثل ما نعلم الصبي شيئا فشيئا.




1أخرجه البخاري في (الرقاق, باب يقبض الله الأرض يوم القيامة/4/195), ومسلم في المنافقين, باب نزل أهل الجنة/4/2150).


ج / 2 ص -200- ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه:


وقوله: "ولو لم يتعمد المنكر": أي: ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه. وذلك قوله: "ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة- أي لينا- عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابهه"؛ فينكرونه!





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979







ام عادل السلفية 01-02-2015 10:43PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}

ج / 2 ص -201- باب: قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}، الآية، [النحل: من الآية83].


قوله تعالى: " يعرفون ": أي: يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله.
قوله: " نعمة الله ": واحدة والمراد بها الجمع; فهي ليست واحدة، بل هي لا تحصى، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}، [إبراهيم: من الآية34]، والقاعدة الأصولية: أن المفرد المضاف يعم، والنعمة تكون بجلب المحبوبات، وتطلق أحيانا على رفع المكروهات.


قوله: " ثم ينكرونها ": أي: ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبِّب الذي هو الله - سبحانه -، وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة، مثل أن يقولوا: ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله، متناسين الذي خلق السبب فوُجِد به المسبَّب.
قوله: "الآية": أي: إلى آخر الآية، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية.
قوله: ( وأكثرهم الكافرون): أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون، أي: الجاحدون كونها من الله أو الكافرون بالله عز وجل.
وقوله: ( أكثرهم)، بعد قوله (يعرفون)؛ الجملة الأولى أضافها إلى


ج / 2 ص -202- قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي"


الكل،والثانية أضافها إلى الأكثر، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون.


مناسبة هذا الباب للتوحيد:

أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره; فقد جعل معه شريكا في الربوبية لأنه أضافها إلى السبب على أنه فاعل، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات، وترك الشكر مناف للتوحيد; لأن الواجب أن يُشْكَر الخالق المنعم - سبحانه وتعالى -، فصارت لها صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة; فمن حيث إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية.


قوله: "قال مجاهد": هو إمام المفسرين في التابعين، عرض المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما يوقفه عند كل آية ويسأله عن تفسيرها، وقال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به. أي: كافيك، ومع هذا; فليس معصوما عن الخطأ.
قوله: "ما معناه": أي: كلاما معناه، وعلى هذا ف "ما": نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمه الله لم ينقله بلفظه.


قوله: "هو قول الرجل": هذا من باب التغليب والتشريف; لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق بتوجيه الخطاب إليه منها، وإلا; فالحكم واحد.
قوله: "هذا مالي ورثته عن آبائي": ظاهر هذه الكلمة؛ أنه لا شيء


ج / 2 ص -203- وقال عون بن عبد الله: " يقولون: لولا فلان; لم يكن كذا".


فيها،فلو قال لك واحد: من أين لك هذا البيت؟ قلت: ورثته عن آبائي; فليس فيه شيء لأنه خبر محض.
لكن مراد مجاهد: أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث، متناسيا المسبِّب الذي هو الله; فبتقدير الله عز وجل أنعم على آبائك وملكوا هذا البيت، وبشرع الله عز وجل انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث; فكيف تتناسى المسبِّب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم؟! فمن هنا صار هذا القول نوعا من كفر النعمة.
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق; فلا شيء في ذلك، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم الفتح: "أتنزل في دارك غدا؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع"1، فبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث. فتبين أن هناك فرقا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر، وبين إضافته إلى سببه متناسيا المسبِّب وهو الله عز وجل.


قوله: "وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا":
وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقا مطابقا للواقع; فهذا لا بأس به، وإن أراد بها السبب; فلذلك ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون سببا خفيا لا تأثير له إطلاقا، كأن يقول: لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا، فهذا شرك أكبر؛ لأنه يعتقد بهذا القول



1أخرجه البخاري في (الحج, باب توريث دور مكة وبيعها/1/489), ومسلم في
(الحج, باب النزول بمكة للحاج/2/984); من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -204-


أن لهذا الولي تصرفا في الكون مع أنه ميت، فهو تصرف سري خفي.
الثانية: أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعا أو حسا; فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه، وأن لا يتناسى المنعم بذلك.
الثالثة: أن يضيفه إلى سبب ظاهر، لكن لم يثبت كونه سببا لا شرعا ولا حسا; فهذا نوع من الشرك الأصغر، وذلك مثل: التِّولة، والقلائد التي يقال: إنها تمنع العين، وما أشبه ذلك; لأنه أثبت سببا لم يجعله الله سببا، فكان مشاركا لله في إثبات الأسباب.


ويدل لهذا التفصيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب: "لولا أنا; لكان في الدرك الأسفل من النار"1، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الشرك، وأخلص الناس توحيدا لله تعالى، فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم الشيء إلى سببه، لكنه شرعي حقيقي; فإنه أُذِن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه، فكان في ضَحْضَاح من النار، عليه نعلان يغلي منهما دماغه لا يرى أن أحدا أشد منه عذابا; لأنه لو يرى أن أحدا أشد منه عذابا أو مثله هان عليه بالتسلي; كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:

ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي



1أخرجه البخاري في (مناقب الأنصار, باب قصة أبي طالب/3/62), ومسلم في (الإيمان, باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب/1/194); من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

ج / 2 ص -205- وقال ابن قتيبة: " يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: " أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..."1.


وابن القيم رحمه الله - وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به - قال في القصيدة الميمية يمدح الصحابة:

أولئك أتباع النبي وحزبه ولولاهُمُو ما كان في الأرض مسلمُ
ولولاهُمُو كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هُمُ
ولولاهُمُو كانت ظلاما بأهلها ولكن هُمُو فيها بدور وأنجُمُ
فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح.


قوله: "وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا ": هؤلاء أخبث ممن سبقهم; لأنهم مشركون يعبدون غير الله، ثم يقولون: إن هذه النعم حصلت بشفاعة آلهتهم، فالعُزَّى مثلا شفعت عند الله أن ينزل المطر; فهؤلاء أثبتوا سببا من أبطل الأسباب لأن الله عز وجل لا يقبل شفاعة آلهتهم، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا، والله عز وجل لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة;

فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين:
1- الشرك بهذه الأصنام.
2- إثبات سبب غير صحيح.
قوله: "وقال أبو العباس": هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.



1 البخاري: الجمعة (1038), ومسلم: الإيمان (71), والنسائي: الاستسقاء (1525), وأبو داود: الطب (3906), وأحمد (4/117), ومالك: النداء للصلاة (451).


ج / 2 ص -206- الحديث1 وقد تقدم: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به".
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا... ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثيرة".


قوله: "وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره...": وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء، وإنما كان هذا مذموما; لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد; كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانا لنعمته،

وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق; لما يأتي:
1- أن الخالق لهذه الأسباب هو الله; فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه.
2- أن السبب قد لا يؤثر; كما ثبت في "صحيح مسلم" أنه صلى الله عليه وسلم قال:"ليس السنة أن لا تمطروا، بل السنة أن تمطروا ثم لا تنبت الأرض"2.
3- أن السبب قد يكون له مانع يمنع من تأثيره، وبهذا عرف بطلان إضافة الشيء إلى سببه دون الالتفات إلى المسبِّب جل وعلا.
قوله: "كانت الريح طيبة": هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا}، [يونس: من الآية22]، فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا: كانت الريح طيبة،



1( ص30).
2أخرجه مسلم في (الفتن, باب في سكنى المدينة/4/2228) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -207- فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.


وكان الملاح- هو قائد السفينة- حاذقا; أي: مجيدا للقيادة. فيضيفون الشيء إلى سببه، وينسون الخالق- جل وعلا-.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير معرفة النعمة وإنكارها: وسبق ذلك.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة: وذلك مثل قول بعضهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، وما أشبه ذلك.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة: يعني: إنكارا لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارا لوجودها; لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب: وهذا من قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}، [النحل: من الآية83]، فجمع بين المعرفة والإنكار، وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر، وخصلة فسوق وخصلة عدالة.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 01-02-2015 10:58PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

ج / 2 ص -208- باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية22]...


قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}، [البقرة: الآية21-22]، فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له; لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك، ولا ينبغي أن يُعبَد إلا من فعل ذلك، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية، أي: فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا.


و"لا" هذه ناهية; أي: فلا تجعلوا له أندادا في العبادة، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته; لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله عز وجل، كاشتقاق العزى من العزيز، وتسميتهم رحمن اليمامة.
قوله: "أندادا": جمع ند، وهو الشبيه والنظير، والمراد هنا: أندادا في العبادة.
قوله: "وأنتم تعلمون ": الجملة في موضع نصب حال من فاعل {تجعلوا} ; أي: والحال أنكم تعلمون، والمعنى: وأنتم تعلمون أنه لا


ج / 2 ص -209- وقال ابن عباس في الآية: "الأنداد هو الشرك، أخفى من


أنداد له-يعني في الربوبية-; لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء، أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية، أما في الألوهية; فيجعلون له أندادا، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}، [صّ:5]، ويقولون في تلبيتهم: "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، وهذا من سفههم; فإنه إذا صار مملوكا; فكيف يكون شريكا، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، [البقرة: من الآية22]؛ إذ الأنداد بالمعنى العام- بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية- يشمل الأنداد في الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات.


قوله: "وقال ابن عباس في الآية": أي: في تفسيرها.
قوله: "هو الشرك": هذا تفسير بالمراد; لأن التفسير تفسيران:
1- تفسير بالمراد، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها.
2- تفسير بالمعنى، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات.


فعندنا الآن وجهان للتفسير:
أحدهما: التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات، وهذا يقال فيه: معناه كذا وكذا.
والثاني: التفسير بالمراد، فيقال: المراد بكذا وكذا، والأخير هنا هو المراد.


ج / 2 ص -210- دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول:


فإذا قلنا: الأنداد الأشباه والنظراء; فهو تفسير بالمعنى، وإذا قلنا: الأنداد الشركاء أو الشرك; فهو تفسير بالمراد، يقول رضي الله عنه "الأنداد هو الشرك"، فإذن الند: الشريك المشارك لله - سبحانه وتعالى - فيما يختص به.
وقوله: "دبيب": أي: أثر دبيب النمل، وليس فعل النمل.
وقوله: "على صفاة": هي الصخرة الملساء.
وقوله: "سوداء": وليس على بيضاء; إذ لو كان على بيضاء; لبان أثر السير أكثر.


وقوله: "في ظلمة الليل": وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء.
فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا; فنسأل الله أن يعين على التخلص منه، ولهذا قال بعض السلف: "ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص"، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قال مثل هذا؟ قيل له: كيف نتخلص منه؟ قال: "قولوا: اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم"1.



1أخرجه الإمام أحمد (4/403), والطبراني في "الأوسط" و "الكبير"; كما في "المجمع" (10/223, 224); من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وقال المنذري في "الترغيب" (1/76): "ورواته إلى أبي علي محتج بهم في "الصحيح", وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه". وكذا قال الهيثمي في "المجمع". وأخرجه: المروزي في "مسند أبي بكر" (17), وأبو يعلى; كما في "المجمع" (10/ 224), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (287); من حديث أبي بكر. وفيه ليث بن أبي سليم, وقد اختلط. وأخرجه: البخاري في "الأدب المفرد" (716), وفيه ليث بن أبي سليم مع رجل من أهل البصرة. وأخرجه: ابن حبان في "المجروحين " (3/30), وأبو نعيم في "الحلية" (7/112), وفيه يحيى بن كثير البصري مجمع على ضعفه.


ج / 2 ص -211- والله، وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا; لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار; لأتى اللصوص،....


وقوله: "والله وحياتك": فيها نوعان من الشرك.
الأول: الحلف بغير الله.
الثاني: الإشراك مع الله بقوله: والله! وحياتك!

فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية؛ فيه نوع من الشرك.
والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة; فهو شرك أكبر، وإلا; فهو شرك أصغر.
وقوله: "وحياتي": فيه حلف بغير الله; فهو شرك.
وقوله: "لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص": كليبة تصغير كلب، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية، والحرث.
وقوله: "لولا كليبة هذا" يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبِّب، وهو الله عز وجل أما الاعتماد على السبب الشرعي، أو الحسي المعلوم; فقد تقدم أنه لا بأس به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أنا; لكان في الدرك الأسفل من النار"1، لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال: لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا، قد يقع في قلبه شيء من الشرك؛ بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب، وهو الله عز وجل.


وقوله: "لولا البط في الدار لأتى اللصوص": البط طائر معروف، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط، فإنه يصرخ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص.


1سبق (ص 204).


ج / 2 ص -212- وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان; لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك"، رواه ابن أبي حاتم1.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله; فقد كفر أو أشرك"، رواه الترمذي


وقوله: "وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت": فيه شرك; لأنه شرك غير الله مع الله بالواو، فإن اعتقد أنه يساوي الله عز وجل في التدبير والمشيئة; فهو شرك أكبر، وإن لم يعتقد ذلك واعتقد أن الله - سبحانه وتعالى - فوق كل شيء; فهو شرك أصغر، وكذلك قوله: "لولا الله وفلان".
وقوله: "هذا كله به شرك": المشار إليه ما سبق، وهو شرك أكبر أو أصغر حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك.


قوله: "وعن عمر": صوابه عن ابن عمر، نبه عليه في "تيسير العزيز الحميد".
وقوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من حلف بغير الله": "من": شرطية; فتكون للعموم.
قوله: "أو أشرك": شك من الراوي، والظاهر أن صواب الحديث "أشرك".



1أخرجه ابن أبي حاتم; كما في "تفسير ابن كثير" (1/57). وقال الشيخ سليمان في "تيسير العزيز" (ص 587): "وسنده جيد".


ج / 2 ص -213- وحسنه، وصححه الحاكم1.


وقوله: " من حلف بغير الله ": يشمل كل محلوف به سوى الله، سواء بالكعبة أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو السماء أو غير ذلك، ولا يشمل الحلف بصفات الله; لأن الصفة تابعة للموصوف، وعلى هذا; فيجوز أن تقول: وعزة الله; لأفعلن كذا.


وقوله: "بغير الله": ليس المراد بغير هذا الاسم، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع; فهو حلف بالله.
والحلف: تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة؛ بالباء، أو التاء، أو الواو، وحروف القسم ثلاثة: الباء، والتاء، والواو.


والباء: أعمها; لأنها تدخل على الظاهر والمضمَر وعلى اسم الله وغيره، ويذكر معها فعل القسم ويحذف، فيذكر معها فعل القسم; كقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}، [الأنعام: من الآية109].
ويحذف مثل قولك: بالله لأفعلن; وتدخل على المضمر مثل قولك: الله عظيم أحلف به لأفعلن، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة، مثل قولك: بالسميع لأفعلن، وأما الواو; فإنه لا يذكر معها فعل القسم، ولا تدخل على الضمير، ويحلف بها مع كل اسم، وأما التاء; فإنه لا يذكر



1أخرجه الطيالسي (1896), وأحمد (2/34،86), وأبو داود في (الإيمان, باب كراهة الحلف بالآباء/3/570), والترمذي في (الأيمان, باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله/5/253) -وحسنه, وابن حبان (1177), والحاكم (1/18), (4/297)- وصححه على شرط الشيخين, وأقره الذهبي-, والبيهقي (10/29). وقال الزين العراقي في "أماليه": "إسناده ثقات"; كما في "التيسير" (ص589).


ج / 2 ص -214-


معها فعل القسم، وتختص بالله ورب، قال ابن مالك: "والتاء لله ورب".
والحلف بغير الله شرك أكبر؛ إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة، وإلا فهو شرك أصغر.
وهل يغفر الله الشرك الأصغر؟ قال بعض العلماء: إن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النّساء من الآية: 48]; أي: الشرك الأكبر، {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء من الآية: 48] يعني: الشرك الأصغر والكبائر.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر1؛ لأن قوله: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48] مصدر مُؤَوَّل; فهو نكرة في سياق النفي، فيعم الأصغر والأكبر، والتقدير: لا يغفر شركا به أو إشراكا به.


وأما قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس:1]، وقوله: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1] وقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وما أشبه ذلك،
من المخلوقات التي أقسم الله بها;


فالجواب عنه من وجهين:
الأول: أن هذا من فعل الله، والله لا يُسْأَل عما يفعل، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه، وهو سائل غير مسئول، وحاكم غير محكوم عليه.
الثاني: أن قسم الله بهذه الآيات؛ دليل على عظمته، وكمال قدرته وحكمته; فيكون القسم بها الدال على تعظيمها ورفع شأنها؛ متضمنا للثناء على الله عز وجل، بما تقتضيه من الدلالة على عظمته.



1انظر: "الرد على البكري" (تلخيص "كتاب الاستغاثة") (ص 146).


ج / 2 ص -215-


وأما نحن; فلا نقسم بغير الله أو صفاته; لأننا منهيون عن ذلك.
وأما ما ثبت في "صحيح مسلم" من قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق"1.


فالجواب عنه من وجوه:
الأول: أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة، وقال: إنها لم تثبت في الحديث; لأنها مناقضة للتوحيد، وما كان كذلك; فلا تصح نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون باطلا.

الثاني: أنها تصحيف من الرواة، والأصل: "أفلح والله إن صدق"2. وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات، و "أبيه" تشبه، "الله" إذا حذفت النقط السفلى.
الثالث: أن هذا مما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: من الآية89]، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ.


الرابع: أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أبعد الناس عن الشرك; فيكون من خصائصه، وأما غيره; فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في الإخلاص والتوحيد.
الخامس: أنه على حذف مضاف، والتقدير: "أفلح ورب أبيه".
السادس: أن هذا منسوخ، وأن النهي هو الناقل من الأصل، وهذا أقرب الوجوه.
ولو قال قائل: نحن نقلب عليكم الأمر، ونقول: إن المنسوخ هو




1أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام, (1/40) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425).


ج / 2 ص -216-


النهي; لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به، كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور؛ ثم أذن لهم فيها1 ؟
فالجواب عنه: إن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم، فَتُرِكوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا، ثم أمروا باجتنابه2.


أما بالنسبة للوجه الأول;
فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح; فإنه لا يجوز إنكاره.

وأما الوجه الثاني;
فبعيد، وإن أمكن; فلا يمكن في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل: "أي الصدقة أفضل؟ فقال: أما وأبيك لتنبأنه"3.

وأما الوجه الثالث
فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم، كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي4 صلى الله عليه وسلم، ولو صح هذا; لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى; لأن هذا من عادته، وهذا باطل.


ـــ
1أخرجه: مسلم في (الجنائز, باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه زيارة أمه, (2/672) من حديث بريدة رضي الله عنه.
2كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون} [المائدة: 90].
3رواه: مسلم في (باب أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح).


4حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه; قال: "حلفت مرة باللات والعزى; فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ثم انفث عن يسارك ثلاثا, ثم تعوذ, ولا تعد. أخرجه: أحمد (1/ 183, 186, 187), والطحاوي في "المشكل" (1/ 360)- وعنده الأمر بالاستغفار بدلا من التعوذ-, وابن حبان (1178). والحديث ضعيف; كما في "إرواء الغليل" (8/193).


ج / 2 ص -217- "وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"1.


وأما الرابع; فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، وإلا فالأصل التأسي به.
وأما الخامس: فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات; فالله أعلم.


قوله في أثر ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا": اللام: لام الابتداء، و"أن" مصدرية; فيكون قوله: "أن أحلف" مؤوّلا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله.
قوله: "أحب إلي": خبر المبتدأ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: من الآية184].


قوله: "كاذبا": حال من فاعل أحلف.
قوله: "أحب إلي": هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه شيء من الجانبين، وهذا نادر في الكلام; لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه، وأحيانا في المفضل دون المفضل



1سبق (ص 27).


ج / 2 ص -218-


عليه، وأحيانا لا يوجد في الجانبين; فابن مسعود رضي الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادقا،

فالحلف كاذبا بالله محرم من وجهين:
1- أنه كذب، والكذب محرم لذاته.
2- أن هذا الكذب قُرِن باليمين، واليمين تعظيم لله عز وجل، فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص لله عز وجل ؛ حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين الغَمُوس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.


وأما الحلف بغير الله صادقا فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك، لكن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا: إن الحلف بالله كاذبا من اليمين الغموس; لأن الشرك لا يغفر، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: من الآية48]، وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب، قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: من الآية13]، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم: "أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك"1 والشرك متضمن للكذب، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب، بل من أكذب الكاذبين; لأن الله لا شريك له.



1أخرجه البخاري في (التفسير, باب: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر), (3/271), ومسلم في (الإيمان, باب كون الشرك أقبح الذنوب, (1/91); عن ابن مسعود رضي الله عنه.


ج / 2 ص -219- * * *
وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان،....

ـ
قوله في حديث حذيفة رضي الله عنه "لا تقولوا": "لا": ناهية، ولهذا جُزم الفعل بعدها بحذف النون.
قوله: "ما شاء الله وشاء فلان": والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه; فيكون القائل: ما شاء الله وشئت؛ مسويا مشيئة الله بمشيئة المخلوق، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق، أو أنه مساو له فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه أقل; فهو شرك أصغر.
قوله: "ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان": لما نهى عن اللفظ المحرم بيّن اللفظ المباح; لأن "ثم" للترتيب والتراخي، فتفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه.


أما بالنسبة لقوله: "ما شاء الله فشاء فلان"; فالحكم فيها أنها مرْتَبَة بين مرتبة (الواو) ومرتبة (ثم); فهي تختلف عن (ثم) بأن (ثم) للتراخي والفاء للتعقيب، وتوافق (ثم) بأنها للترتيب; فالظاهر أنها جائزة، ولكن التعبير ب (ثم) أولى; لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق.


ويستفاد من هذا الحديث:

1- إثبات المشيئة للعبد; لقوله: "ثم شاء فلان"، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا: إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار.
2- أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرَّما أن يفتح لهم الباب


ج / 2 ص -220- ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح1.


المباح; لقوله: "ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان"2 ونظير ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104]، لما نهاهم عن قول راعنا; قال: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: من الآية104] وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما جيء له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة; قال: "لا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جَنِيبا"3 أي: تمرا جيدا. فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم.


وفي هذا فائدتان عظيمتان:

الأولى: بيان كمال الشريعة وشمولها، حيث لم تسد على الناس بابا؛ إلا فتحت لهم ما هو خير منه.
والثانية: التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم.
فعامل الناس بهذا ما استطعت، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا; فافتح لهم من المباح ما يغني عنه، ما استطعت إلى ذلك سبيلا؛ حتى لا يقعوا في الحرج.



1أخرجه: أحمد (5/ 384, 394, 398), وأبو داود في (الأدب, باب لا يقال: خبثت نفسي), (5/259), والطيالسي (430), والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (991), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (671), وابن أبي الدنيا في "الصمت" (341), والطحاوي في "المشكل" (1/90), والبيهقي في "السنن" (3/216), وفي "الأسماء والصفات" (ص 144), وفي "الاعتقاد" (ص 156). والحديث صححه النووي في "الأذكار" (308), وفي "الرياض" (1748), وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "بسند صحيح".


2 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/398).
3 أخرجه: البخاري في (البيوع, باب إذا أراد بيع تمر بتمر), (2/106), ومسلم في (المساقاة, باب بيع الطعام مثلا بمثل), (3/1215); عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -221- وجاء "عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله، وبك، ويجوز أن يقول: بالله، ثم بك، ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله، وفلان".


قوله: "عن إبراهيم النخعي": من فقهاء التابعين، لكنه قليل البضاعة في الحديث; كما ذكر ذلك حماد بن زيد.
قوله: "يكره أعوذ بالله وبك": العياذ: الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه، واللِّياذ بالشخص: هو اللجوء إليه لطلب المحبوب، قال الشاعر:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله.


وقوله: "أعوذ بالله، وبك": هذا محرَّم; لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية، وهو الواو.
ويجوز "بالله ثم بك"; لأن "ثم" تدل على الترتيب والتراخي، فإن قيل: سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله وعلى هذا يكون قوله: أعوذ بالله ثم بك محرما.
أجيب: أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة، لقوله صلى الله عليه وسلم في "صحيح مسلم" وغيره: "من وجد ملجأ; فليعذ به"1 لكن لو قال: أعوذ بالله ثم بفلان. وهو ميت، فهذا شرك أكبر؛ لأنه لا يقدر على أن يعيذك.
وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق



1سبق تخريجه في المجلد الأول.



ج / 2 ص -222- فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.


بقوله صلى الله عليه وسلم "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"1 ثم قال رحمه الله: والاستعاذة لا تكون بمخلوق، فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق، وهو كلام الله، والكلام تابع للمتكلم به، إن كان مخلوقا; فهو مخلوق، وإن كان غير مخلوق; فهو غير مخلوق.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية البقرة في الأنداد: وقد سبق.
الثانية: أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر: لأن قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية22] نازلة في الأكبر; لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر; لأن الند يشمل النظير المساوي، على سبيل الإطلاق، أو في بعض الأمور.


الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك: لحديث ابن عمر رضي الله عنهما.



1سبق تخريجه في المجلد الأول.


ج / 2 ص -223- الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو و(ثم) في اللفظ.


الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا; فهو أكبر من اليمين الغموس: واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا، وقال بعض العلماء - وهو الصحيح -: أن يحلف بالله كاذبا ليقتطع بها مال امرئ مسلم.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ: لأن الواو تقتضي المساواة; فتكون شركا، وثم تقتضي الترتيب والتراخي; فلا تكون شركا.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 01-02-2015 11:06PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

ج / 2 ص -224- باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله

عن ابن عمر; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم،


مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد
أن الاقتناع بالحلف بالله من تعظيم الله; لأن الحالف أكّد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين، وهو تعظيم المحلوف به; فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله، وهذا ينافي كمال التوحيد.


والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين:
الأول: أن يكون ذلك من الناحية الشرعية; فإنه يجب الرضا بالحلف بالله، فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف، فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضى الحكم الشرعي.
الثاني: أن يكون ذلك من الناحية الحسية، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة; فإنك ترضى بيمينه، وإن كان غير ذلك; فلك أن ترفض الرضا بيمينه، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لحويِّصَة ومحيِّصَة: "تبرئكم يهودُ بخمسين يمينا. قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟"1؛ فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قوله في الحديث: "لا تحلفوا": "لا": ناهية، ولهذا جزم الفعل



1أخرجه: البخاري في (الأدب, باب إكرام الكبير, (4/117), ومسلم في (القسامة, باب القسامة), (3/1292- 1295); عن رافع بن خديج وسهل بن أبي حثمة.


ج / 2 ص -225- من حلف بالله; فليصدق، ومن حلف له بالله; فليرض،.....

بعدها بحذف النون.
و"آباؤكم": جمع أب، ويشمل الأب والجد، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم; لأنه شرك، وقد سبق بيانه1.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالله; فليصدق،

ومن حلف له بالله; فليرض" هنا أمران:
الأمر الأول: للحالف; فقد أُمِر أن يكون صادقا، والصدق: هو الإخبار بما يطابق الواقع، وضده الكذب، وهو: الإخبار بما يخالف الواقع.
فقوله: "من حلف بالله; فليصدق"2 ; أي: فليكن صادقا في يمينه، وهل يشترط أن يكون مطابقا للواقع أو يكفي الظن؟
الجواب: يكفي الظن; فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه; كقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما بين لابَتَيْهَا أهل بيت أفقر مني؛ فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.


الثاني: للمحلوف له; فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له.
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض; فإن الأمر الثاني يُنَزَّل على ما إذا كان الحالف صادقا; لأن الحديث جمع أمرين: أمرا موجها للحالف، وأمرا موجها للمحلوف له، فإذا كان الحالف صادقا; وجب على المحلوف له الرضا.
فإن قيل: إن كان صادقا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟
أجيب: أن اليمين تزيده توكيدا.



1ص 213).
2 ابن ماجه: الكفارات (2101).


ج / 2 ص -226- ومن لم يرض، فليس من الله" رواه ابن ماجه بسند حسن1.


فيه مسائل:

قوله: "ومن لم يرض; فليس من الله" أي: من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له; فليس من الله، وهذا تبرؤ منه؛ يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب، ولكن لا بد من ملاحظة ما سبق، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلا على أنه إذا كان الحالف غير ثقة، فلك أن ترفض الرضا به; لأنه غير ثقة، فلو أن أحدا حلف لك، وقال: والله، إن هذه الحقيبة من خشب، وهي من جلد; فيجوز أن لا ترضى به لأنك قاطع بكذبه، والشرع لا يأمر بشيء يخالف الحس والواقع، بل لا يأمر إلا بشيء يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن، وإن كان العقل لا يدرك أحيانا مدى حسن هذا الشيء الذي أمر به الشرع، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن; لأن الله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: من الآية50]، فإذا اشتبه عليك حُسْن شيء من أحكام الشرع; فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير، أما أن تتهم الشرع; فهذا لا يمكن، وما صح عن الله ورسوله; فهو حق وهو أحسن الأحكام.


فيه مسائل:


1أخرجه: ابن ماجه في (الكفارات, باب من حلف له بالله فليرض, 1/ 679). وقال في "الزوائد": "رجال إسناده ثقات". وحسنه الحافظ في "الفتح" (11/ 536), وحسنه أيضا الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. وصححه الشيخ سليمان رحمه الله في "التيسير" (ص 956) على شرط مسلم.

ج / 2 ص -227- الأولى: النهي عن الحلف بالآباء
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض.


الأولى: النهي عن الحلف بالآباء: لقوله: "لا تحلفوا بآبائكم" والنهي للتحريم.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى: لقوله: "ومن حلف له بالله; فليرض"، وسبق التفصيل في ذلك.
الثالثة: وعيد من لم يرض: لقوله: "ومن لم يرض; فليس من الله".
الرابعة - ولم يذكرها المؤلف -: أمر الحالف أن يَصْدُق لأن الصدق واجب في غير اليمين; فكيف باليمين؟!
وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم، وقال بعض العلماء: إنها اليمين الغموس.


وأما بالنسبة للمحلوف له;
فهل يلزمه أن يُصَدَّق أم لا؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس:
الأولى: أن يعلم كذبه; فلا أحد يقول: إنه يلزم تصديقه.
الثانية: أن يترجح كذبه; فكذلك لا يلزم تصديقه.
الثالثة: أن يتساوى الأمران; فهذا يجب تصديقه.
الرابعة: أن يترجح صدقه; فيجب أن يصدق.
الخامسة: أن يعلم صدقه; فيجب أن يصدقه.


وهذا في الأمور الحسية، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم; فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها; لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي، وهو واجب.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 01-02-2015 11:18PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول ما شاء الله وشئت

ج / 2 ص -228- باب: قول ما شاء الله وشئت


عن قتيلة: "أن يهوديا أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.


مناسبة الباب لكتاب التوحيد
أن قول: (ما شاء الله وشئت) من الشرك الأكبر، أو الأصغر; لأنه إن اعتقد أن المعطوف مساو لله; فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنه دونه لكن أشرك به في اللفظ; فهو أصغر، وقد ذكر بعض أهل العلم: أن من جملة ضوابط الشرك الأصغر؛ أن ما كان وسيلة للأكبر فهو أصغر.


قوله: "أن يهوديا": اليهودي: هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام، وسموا بذلك من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: من الآية 156]; أي: رجعنا، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب; فتكون التسمية من أجل النسب، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعا.


قوله: "إنكم تشركون": أي: تقعون في الشرك أيها المسلمون.
قوله: "ما شاء الله وشئت": الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساويا للمعطوف عليه، وهو الله عز وجل ؛ حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية.
قوله: "والكعبة": الشرك هنا أنه حلف بغير الله، ولم ينكر


ج / 2 ص -229- فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه1.


النبي صلى الله عليه وسلم ما قال اليهودي، بل أمر بتصحيح هذا الكلام; فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة; فيكون القسم بالله.
وأمرهم أن يقولوا: ما شاء الله، ثم شئت; فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق، وبذلك يكون الترتيب صحيحا، أما الأول; فلأن الحلف صار بالله، وأما الثاني; فلأنه جُعِل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله، وأنه لا مساواة بينهما.


ويستفاد من الحديث:

1- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه; لأن ما قاله حق.
2- مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق.
3- أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا: "ورب الكعبة"، ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله، ثم شئت".
إشكال وجوابه: وهو أن يقال: كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي؟
وجوابه: أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به.



1أخرجه: الإمام أحمد (6/371, 372), والنسائي في (الأيمان, باب الحلف بالكعبة), (7/6), والطحاوي في "المشكل" (1/91, 357), والحاكم (4/297) -وصححه ووافقه، الذهبي-, والبيهقي (3/216), والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 1694). وصححه الحافظ في "الإصابة" (4/389).


ج / 2 ص -230- وله أيضا عن ابن عباس; أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟! بل ما شاء الله وحده"1.


ولكن يقال: بأن الله يعلم; فكيف يقرهم؟ فيبقى الإشكال.
لكن يجاب: إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر; فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة، مع أنهم يشركون شركا أكبر ولا يرون عيبهم.
قوله: في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم".


الظاهر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما، وأنه جعل الأمر مفوضا لمشيئة الله ومشيئة رسوله.
قوله: "أجعلتني لله ندا"؟!.
الاستفهام للإنكار، وقد ضُمِّن معنى التعجب، ومن جعل للخالق ندا; فقد أتى شيئا عجابا.
والند: هو النظير والمساوي; أي: أجعلتني لله مساويا في هذا الأمر؟!
قوله: "بل ما شاء الله وحده" أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت؛ حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت.



1سبق (ص 29).


ج / 2 ص -231-

يستفاد من الحديث:
1- أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك، فإن كان يعتقد المساواة; فهو شرك أكبر، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك; فهو أصغر، وإذا كان هذا شركا; فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم؟! هذا أعظم; لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شيء من خصائص الربوبية، بل يلبس الدرع، ويحمل السلاح، ويجوع، ويتألم، ويمرض، ويعطش كبقية الناس، ولكن الله فضَّله على البشر بما أوحي إليه من هذا الشرع العظيم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: من الآية110] فهو بشر، وأكد هذه البشرية بقوله: (مثلكم)، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: من الآية110]، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه؛ أعطاه من الصبر العظيم، وأعطاه من الكرم ومن الجود، لكنها كلها في حدود البشرية، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية; فهذا أمر لا يمكن، ومن ادعى ذلك; فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله.


فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فننزله في منزلة هو ينكرها، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا؛ فنعطيه ما يجب له، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه، ولكننا لا ننزله منزلة الرب عز وجل.
2- إنكار المنكر، وإن كان في أمر يتعلق بالمنكِر; لقوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا"؟!، مع أنه فعل ذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام; فالواجب عليك الإنكار.


3- أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل ؛ أن تذكر ما يباح إذا


ج / 2 ص -232- ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها; قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود; قلت: إنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: ما شاء الله، وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله.


ذكرت ما يحرم; لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قوله: "ما شاء الله وشئت" أرشده إلى الجائز، وهو قوله: "بل ما شاء الله وحده".
قوله في حديث الطفيل: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود": أي: رؤيا في المنام.
وقوله: "كأن": اسمها الياء، وجملة "أتيت" خبرها.
وقوله: "على نفر": من الثلاثة إلى التسعة، واليهود أتباع موسى.
قوله: "لأنتم القوم": كلمة مدح; كقولك: هؤلاء هم الرجال.
وقوله: "عزير هو": رجل صالح، ادعى اليهود أنه ابن الله، وهذا من كذبهم، وهو كفر صريح، واليهود لهم مثالب كثيرة، لكن خُصَّت هذه; لأنها من أعظمها، وأشهرها عندهم.


قوله: "ما شاء الله، وشاء محمد": هذا شرك أصغر; لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مساوية لمشيئة الله، فانتقدوا عليهم تسوية مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم بمشيئة الله عز وجل باللفظ، مع عظم ما قاله هؤلاء اليهود في حق الله - جل وعلا -.
قوله: "تقولون: المسيح ابن الله": هو عيسى ابن مريم، وسمي


ج / 2 ص -233- قالوا: وإنكم لأنتم القوم؛ لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت; أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته; قال: هل أخبرت بها أحدا؟. قلت: نعم".



مسيحا بمعنى ماسح; فهو فعيل بمعنى فاعل; لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ بإذن الله; كالأكمه والأبرص.
والشيطان لعب بالنصارى، فقالوا: هو ابن الله; لأنه أتى بدون أب، كما في القرآن: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: من الآية91]، قالوا: هو جزء من الله; لأن الله أضافه إليه، والجزء هو الابن.


والروح على الراجح عند أهل السنة: ذات لطيفة تدخل الجسم، وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس، ولهذا يقبضها المَلَك عند الموت وتُكَفَّن ويصعد بها، ويراها الإنسان عند موته; فالصحيح أنها ذات، وإن كان بعض الناس يقول: إنها صفة، ولكنه ليس كذلك، والحياة صحيح أنها صفة لكن الروح ذات، إذًا نقول لهؤلاء النصارى: إن الله أضاف روح عيسى إليه، كما أضاف البيت والمساجد والناقة إليه وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفا وعظمة،

حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته:

لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله: "فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت": المقصود بهذه العبارة الإبهام; كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: من الآية78]، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة، وقد يكون للتحقير حسب السياق، وقد يراد به معنى آخر.
قوله: " هل أخبرت بها أحدا ؟": سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال; لأنه


ج / 2 ص -234- قال: فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد; فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا


لو قال: لم أخبر أحدا; فالمتوقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيقول له: لا تخبر أحدا، هذا هو الظاهر، ثم يبين له الحكم عليه الصلاة والسلام، لكن لما قال: إنه أخبر بها; صار لا بد من بيانها للناس عموما; لأن الشيء إذا انتشر يجب أن يعلن عنه، بخلاف ما إذا كان خاصا; فهذا يخبر به من وصله الخبر.
قوله: "فحمد الله": الحمد: وصف المحمود بالكمال، مع المحبة والتعظيم.
قوله: "وأثنى عليه": أي: كرر ذلك الوصف.
قوله: "أما بعد": سبق أنها بمعنى مهما يكن من شيء بعد; أي: بعد ما ذكرت; فكذا وكذا.


قوله: "يمنعني كذا وكذا": أي: يمنعه الحياء كما في رواية أخرى، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل، ولكن من أن ينهى عنها، دون أن يأمره الله بذلك، هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة: أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من الحق، ولكن الحياء من أن ينكر شيئا قد درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حُرِّمت في سورة المائدة; فالرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى؛ رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا بد من إنكارها؛ لدخول اللوم على المسلمين بالنطق بها.


ج / 2 ص -235- أن أنهاكم عنها; فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده"1.


فيه مسائل:

الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
قوله: "قولوا ما شاء الله وحده" نهاهم عن الممنوع، وبيَّن لهم الجائز.


فيه مسائل:

الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر: لقوله: "إنكم لتشركون".
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى: أي: إذا كان له هوى فهم



1أخرجه: ابن ماجه في (الكفارات, باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت), (1/685). وقال البوصيري: "رجال الإسناد ثقات على شرط البخاري". وهو عند ابن ماجه من طريق أبي عوانة اليشكري, وقد تابعه شعبة عند الدارمي, (2/295), والخطيب في "الموضِّح" (1/303), وحماد بن سلمة عند أحمد (5/ 72), والطبراني في "الكبير" (8214), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/ 626, 627), وزيد بن أبي أنيسة عند الطبراني في "الكبير" (8215). وخالف سفيان بن عيينة; فأخرجه أحمد (5/393), وابن ماجه (1/685) من طريقه; عن حذيفة بن اليمان. وكذا معمر بن راشد; فأخرجه الطحاوي في "المشكل" (1/ 90) من طريقه عن جابر بن سمرة رضي الله عنهم، وقد رجح الحافظ أن الحديث من رواية الطفيل. انظر: "فتح الباري" (11/ 540).


ج / 2 ص -236- الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله ندا" ؟!; فكيف بمن قال: " ما لي من ألوذ به سواك..."، والبيتين بعده؟


شيئا، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه; فاليهود - مثلا - أنكروا على المسلمين قولهم: "ما شاء الله وشئت"، وهم يقولون أعظم من هذا، يقولون: عزير ابن الله، ويصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب.
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه; فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل، كذلك أيضا بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها; فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعا لها، لا أن يُخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده، ولهذا يقولون: استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل; لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى; فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم "أجعلتني لله ندا" ؟!: هو قوله: "ما شاء الله وشئت"1.


وقوله: "فكيف بمن قال: ما لي من ألوذ به سواك والبيتين بعده..." يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة - القصيدة المشهورة -، يقول فيها:

يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم


1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371).

ج / 2 ص -237- الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: " يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.


إن لم تكن في معاوي آخذا بيدي فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
غاية الكفر والغلو; فلم يجعل لله شيئا، والنبي صلى الله عليه وسلم شرفه بكونه عبد الله ورسوله، لا لمجرد كونه محمد بن عبد الله.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر: لقوله: "يمنعني كذا وكذا"; لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شيء من إنكاره.


الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي: تؤخذ من حديث الطفيل، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة"1 وهذا موافق للواقع بالنسبة للوحي الذي أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر، فإذا نسبت هذا إلى بقية زمن الوحي، كان جزءا من ستة وأربعين جزءا; لأن الوحي; كان ثلاثا وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له.
والرؤيا الصالحة: هي التي تتضمن الصلاح، وتأتي منظمة، وليست بأضغاث أحلام.
أما أضغاث الأحلام; فإنها مشوشة غير منظمة، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني رأيت رأسي قد قطع، وإني جعلت



1أخرجه: البخاري في (التعبير, باب القيد في المنام, 4/ 303), ومسلم في (الرؤيا, 4/ 1373); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -238- السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.


أشتد وراءه سعيا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك"1، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان، قال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: من الآية 10]، ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى ما يكره أن يتفل عن يساره، أو ينفث ثلاث مرات، وأن يقول: "أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت. وأن يتحول إلى الجانب الآخر، وأن لا يخبر أحدا"2 وفي رواية: أمره أن يتوضأ، وأن يصلي.3


السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام: من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه، وهذا الحديث، وكذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها رؤيا حق"4 وأبو بكر رضي الله عنه أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن



1أخرجه: مسلم في (الرؤيا, باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام), (4/1776) من حديث جابر رضي الله عنه.
2حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, وفيه: "... وإذا رأى غير ذلك مما يكره; فإنما هي من الشيطان, ولا يذكرها لأحد; فإنها لا تضره", أخرجه: البخاري في (التعبير, باب الرؤيا من الله), (4/296). وحديث جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها; فليبصق عن يساره ثلاثا, وليستعذ من الشيطان ثلاثا, وليتحول عن جنبه الذي كان عليه , أخرجه: مسلم (4/ 1773).


3حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وفيه: "... فمن رأى شيئا يكرهه; فلا يقصه على أحد, وليقم فليصل", أخرجه: البخاري في (التعبير, باب القيد في المنام), (4/303).
4أخرجه: أحمد (4/ 43), وأبو داود في (الصلاة, باب كيف الأذان), (1/337), والترمذي أخرج آخره دون صفة الأذان (1/ 236)- وقال: "حسن صحيح", وابن ماجه في (الأذان, باب بدء الأذان). وقال النووي في "المجموع" (3/76): "رواه أبو داود بإسناد صحيح, وروى الترمذي بعضه بطريق أبي داود".


ج / 2 ص -239-


شماس; فقال للذي رآه: إنكم ستجدون درعي تحت بُرْمَة، وعندها فرس يستن، فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس1، فنفذ أبو بكر وصيته; لوجود القرائن التي تدل على صدقها، لكن لو دلت على ما يخالف الشريعة; فلا عبرة بها، ولا يلتفت إليها; لأنها ليست رؤيا صالحة.



1أورده الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/321), وقال: "رواه الطبراني, ورجاله رجال الصحيح".




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 01-02-2015 11:41PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من سب الدهر فقد آذى الله

ج / 2 ص -240- باب: من سب الدهر فقد آذى الله

السب: الشتم، والتقبيح، والذم، وما أشبه ذلك.
الدهر: هو الزمان والوقت.


وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللوم; فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك; لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: من الآية77].


الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقا; لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقا; فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلها يستحق أن يعبد; فإنه كافر.


الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده; فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين; لأن حقيقة سبه تعود إلى الله - سبحانه -; لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر، ويُكَوِّن فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلا، وليس هذا السب يُكَفِّر; لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.


ج / 2 ص -241- وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] الآية.


قوله: " فقد آذى الله": لا يلزم من الأذية الضرر; فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً} [الأحزاب:57]. وفي الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" 1 ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران: من الآية176]، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني" رواه مسلم2.
قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: من الآية24] المراد بذلك المشركون الموافقون للدُّهرية - بضم الدال على الصحيح عند النسبة; لأنه مما تُغيَّر فيه الحركة-، والمعنى: وما الحياة والوجود إلا هذا; فليس هناك آخرة، بل يموت بعض ويحيا آخرون، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا، ويقولون: إنها أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا شيء سوى هذا.
قوله: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] أي: ليس هلاكنا بأمر الله وقدره، بل بطول السنين لمن طالت مدته، والأمراض، والهموم، والغموم، لمن قصرت مدته; فالمهلك لهم هو الدهر.



1سيأتي (ص 247).
2أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب تحريم الظلم), (4/1994) من حديث أبي ذر جندب بن جنادة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -242-


قوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية: من الآية24] "ما": نافية، و"علم": مبتدأ خبره مقدم "لهم"، وأكد ب"من" فيكون للعموم: أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير، بل العلم واليقين بخلاف قولهم.
قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: من الآية24] "إن": هنا نافية لوقوع "إلا" بعدها; أي: ما هم إلا يظنون.
الظن هنا بمعنى الوهم; فليس ظنهم مبنيا على دليل يجعل الشيء مظنونا، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له; فلا حجة لهم إطلاقا، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم، وأيضا يستعمل بمعنى العلم واليقين; كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: من الآية46].


والرد على قولهم بما يلي:-
أولا: قولهم: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: من الآية24] وهذا يرده المنقول والمعقول:
أما المنقول; فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة، ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده.
وأما المعقول; فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه، والجهاد لإعلاء كلمة الله، مع ما في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك ترابا لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب، وحكمة الله تأبى هذا، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: من الآية85]; أي: الذي أنزل عليك القرآن، وفرض العمل به والدعوة إليه، لا بد أن يردك إلى معاد؛ تجازى فيه، ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة.
ثانيا: قولهم: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] أي: إلا مرور الزمن.


ج / 2 ص -243- وفي " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى:....


وهذا يرده المنقول والمحسوس:
فأما المنقول; فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإماتة بيد الله عز وجل، كما قال الله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يونس:56]، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية49].
وأما المحسوس; فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة; كنوح عليه السلام وغيره، ولم يهلكه الدهر، ونشاهد أطفالا يموتون في الشهر الأول من ولادتهم، وشبابا يموتون في قوة شبابهم; فليس الدهر هو الذي يميتهم.

مناسبة الآية للباب

أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر; فسوف يسب الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
قوله: "وفي "الصحيح" عن أبي هريرة... إلى آخره": هذا الحديث يسمى الحديث القدسي، أو الإلهي، أو الرباني، وهو كل ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب (1/80).
قوله: "قال الله تعالى": تعالى مشتق من العلو، وجاءت بهذه الصيغة؛ للدلالة على ترفعه - جل وعلا - عن كل نقص وسفل; فهو متعال


ج / 2 ص -244- يؤذيني ابن آدم"،....

ــ
بذاته وصفاته، وهي أبلغ من كلمة علا; لأنها تحمل معنى الترفع والتنزه عما يقوله المعتدون علوا كبيرا.
قوله: "يؤذيني ابن آدم": أي: يلحق بي الأذى; فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها; لأن الله أثبتها لنفسه، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق; بدليل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: من الآية11]، وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات؛ لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه; فليس فيه احتمال للتمثيل; إذ لو كان احتمال التمثيل جائزا في كلامه سبحانه، وكلام رسوله فيما وصف به نفسه; لكان احتمال الكفر جائزا في كلامه سبحانه، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.


قوله: "ابن آدم": شامل للذكور والإناث، وآدم هو أبو البشر، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة، وهي أن الآدميين نشأوا من قرد لا من طين، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة، وهذا القول لا شك أنه كفر، وتكذيب صريح للقرآن; فيجب علينا أن ننكره إنكارا بالغا، وأن لا نقره في كتب المدارس، فمن زعم هذه الفكرة يقال له: بل أنت قرد في صورة إنسان،


ومثلك كما قال الشاعر:

إذا ما ذكرنا آدما وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا

ج / 2 ص -245- يسب الدهر، وأنا الدهر؛...


وأجابه بعض العلماء بجواب; فقال: أنت الآن أقررت أنك ولد زنا، وإقرارك على نفسك مقبول، وعلى غيرك غير مقبول، ومثلك كما قال الشاعر:

كذلك إقرار الفتى لازم له وفي غيره لغو كما جاء شرعن
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا; فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب، والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه.
وأيضا مما يحذر عنه كلمة (فكر إسلامي); إذ معنى هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم، أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر، والإسلام شرع من عند الله وليس فكرا لمخلوق.
قوله: "يسب الدهر": الجملة تعليل للأذية، أو تفسير لها، أي: بكونه يسب الدهر، أي: يشتمه ويقبحه ويلومه وربما يلعنه - والعياذ بالله - يؤذي الله، والدهر: هو الزمن والوقت، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر.


قوله: "وأنا الدهر": أي: مدبر الدهر ومصرفه، لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: من الآية140]، ولقوله في الحديث: "أقلب الليل والنهار"، والليل والنهار هما الدهر. ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه، ومن قال ذلك; فقد جعل الخالق مخلوقا، والمقلِّب (بكسر اللام) مقلَّبا (بفتح اللام).
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعا في كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي اللغة؟


ج / 2 ص -246-


أجيب: إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام محذوف تقديره: وأنا مقلب الدهر; لأنه فسره بقوله: "أقلب الليل والنهار"، والليل والنهار هما الدهر، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول، المقلب هو المقلب، وبهذا عرف خطأ من قال: إن الدهر من أسماء الله، كابن حزم رحمه الله; فإنه قال: " إن الدهر من أسماء الله"، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث، وغفلة عن الأصل في أسماء الله.


فأما مدلول الحديث; فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله، وإنما أرادوا سب الزمن; فالدهر هو الزمن في مرادهم.
وأما الأصل في أسماء الله; فالأصل في أسماء الله أن تكون حسنى; أي: بالغة في الحسن أكمله، فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى، هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسما جامدا أبدا; لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن، لكن أسماء الله كلها حسنى; فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان.
والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن، وعلى هذا;


فينتفي أن يكون اسما لله تعالى لوجهين:
الأول: أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء.
الثاني: أن أسماء الله حسنى، والدهر اسم جامد، لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات، فلا يحمل المعنى الذي يوصف بأنه أحسن، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى، بل إنه الزمن، ولكن مقلب الزمن هو الله، ولهذا قال: "أقلب الليل والنهار".


ج / 2 ص -247- أقلب الليل والنهار"1.
وفي رواية: "لا تسبوا الدهر; فإن الله هو الدهر"2.

قوله: "أقلب الليل والنهار" أي: ذواتهما وما يحدث فيهما; فالليل والنهار يُقَلَّبان من طول إلى قصر إلى تساو، والحوادث تتقلب فيه في الساعة، وفي اليوم، وفي الأسبوع، وفي الشهر، وفي السنة، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وهذا أمر ظاهر، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر; لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا، ومجرد ظهور سلطان الله عز وجل وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحب هذا السلطان والقدرة، فيتضرع ويلجأ إليه.


قوله: وفي رواية: "لا تسبوا الدهر; فإن الله هو الدهر"3 وفائدة هذه الرواية: أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
قوله: "فإن الله هو الدهر"4 وفي نسخة: "فإن الدهر هو الله"5، والصواب: "فإن الله هو الدهر".
وقوله: "فإن الله هو الدهر"6 أي: فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه، وهذا تعليل للنهي، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة؛ لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المعلل حكما; فهذه ثلاث فوائد في قرن العلة بالحكم.



1أخرجه: البخاري في (التفسير, تفسير سورة الجاثية), (3/291), ومسلم في (الأدب, باب النهي عن سب الدهر), (4/1762).
2أخرجها: مسلم في الموضع السابق (4/1763).
3 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246), وأحمد (2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499).
4 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).
5 البخاري: الأدب (6182) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246 ,2247) , وأحمد (2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).
6 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).



ج / 2 ص -248- فيه مسائل:
الأولى.
النهي عن سب الدهر.
الثانية. تسميته أذى لله.
الثالثة. التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر".
الرابعة. أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر: لقوله: "لا تسبوا الدهر".
الثانية: تسميته أذى لله: تؤخذ من قوله: "يؤذيني ابن آدم".
الثالثة: التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر" فإذا تأملنا فيه؛ وجدنا أن معناه أن الله مقلب الدهر ومصرفه، وليس معناه أن الله هو الدهر، وقد سبق بيان ذلك.


الرابعة: أنه قد يكون سابا، ولو لم يقصده بقلبه: تؤخذ من قوله: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر" ولم يذكر قصدا، ولو عبر الشيخ بقوله: أنه قد يكون مؤذيا لله وإن لم يقصده; لكان أوضح وأصح; لأن الله صرح بقوله: "يسب الدهر"، والفعل لا يضاف إلا لمن قصده، وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل، منها: تفسير آية الجاثية، وقد سبق ذلك.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 01-02-2015 11:53PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد
المجلد الثالث

باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه

ج / 2 ص -249- باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه


قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ": أي: وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره.
قوله: "قاضي القضاة": قاضي: بمعنى حاكم، والقضاة; أي: الحكام، و "أل" للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحُكَّام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان; لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي; فهو لا يُلزِم، ولهذا قالوا: القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء; فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي; أي: يخبر عن حكم الله وشرعه، ويُلزِم الخصمين بما حكم به.


مناسبة الباب لكتاب التوحيد

أن من تسمى بهذا الاسم; فقد جعل نفسه شريكا مع الله فيما لا يستحقه إلا الله; لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة، أو حاكم الحكام، أو ملك الأملاك، إلا الله - سبحانه وتعالى-; فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويُرجَع إليه الأمر كله، كما ذكر الله ذلك في القرآن.


ج / 2 ص -250-


وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء كوني.
2- قضاء شرعي. والقضاء الكوني لا بد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله، وفيما كرهه، قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: من الآية 4]; فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله; لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لا بد أن يقع ولا معارض له إطلاقا.


وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي; فمثل قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23]، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه يتعلق فيما يحبه الله، وقد سبق الكلام على ذلك.


فإن قلت: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يقال: قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر، أو الشام، أو ما أشبه ذلك; فهل يجوز هذا؟
فالجواب: أن هذا جائز; لأنه مقيد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله عز وجل، على أنه لا ينبغي أيضا أن يتسمى الإنسان بذلك، أو يسمى به، وإن كان جائزا; لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها، فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس، والغرور، حتى لا يقبل الحق إذا


ج / 2 ص -251-


خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها، إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه; فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز، لا ينبغي أن يقبله اسما لنفسه، أو وصفا له، ولا أن يتسمى به.
فإذا قُيِّد بزمان أو مكان ونحوهما; قلنا: إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل.
لكن إن قُيد بفن من الفنون; هل يكون جائزا؟
مقتضى التقييد أن يكون جائزا، لكن إن قُيِّد بالفقه، بأن قيل: (عالم العلماء في الفقه)، وقلنا: إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"1 صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه; فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه.


وأما إن قُيد بقبيلة; فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف؛ أن لا يغتر، ويعجب بنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح: "قطعت عنق صاحبك"2.
وأما التسمي ب (شيخ الإسلام)، مثل أن يقال: شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام; فهذا لا يصح; إذ إن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف; لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قصد بهذا الوصف أنه جدد في الإسلام، وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه; فلا بأس بإطلاقه.


وأما بالنسبة للتسمي ب (الإمام); فهو أهون بكثير من التسمي ب (شيخ

1أخرجه: البخاري في (العلم, باب من يرد الله به خيرا), (1/42), ومسلم في (الزكاة, باب النهي عن المسألة), (2/718); من حديث معاوية رضي الله عنه.
2أخرجه: البخاري في (الأدب, باب ما يكره من التمادح), (4/102), ومسلم في (الزهد, باب النهي عن المدح), (4/2296); من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -252- في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله........


الإسلام); لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إمام المسجد إماما، ولو لم يكن عنده إلا اثنان.
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام، إلا على من كان قدوة وله أتباع; كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام; لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة; لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام، وهذا إمام، هان الإمام الحق في عينه،


قال الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ومن ذلك أيضا: (آية الله، حجة الله، حجة الإسلام); فإنها ألقاب حادثة، لا تنبغي؛ لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما آية الله، فإن أريد به المعنى الأعم; فلا مدح فيه؛ لأن كل شيء آية لله، كما قيل:

وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص; أي: أن هذا الرجل آية خارقة; فهذا في الغالب يكون مبالغا فيه، والعبارة السليمة أن يقال: عالم، مفتٍ، قاضٍ، حاكم، إمام، لمن كان مستحقا لذلك.


قوله: "في الصحيح" انظر الكلام عليها فيما سبق: (1/157).
قوله: "إن أخنع اسم": أي: أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ; لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة; فجعل مرتبته فوق


ج / 2 ص -253- رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله"1.


مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل، ولهذا عوقب بنقيض قصده; فصار أوضع اسم عند الله إذ قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأهين، ولهذا كان أحب اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل: عبد الله، وعبد الرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت، والسلطة، والتعظيم.
قوله: "لا مالك إلا الله": أي: لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى. وأيضا لا مَلِك إلا الله عز وجل ؛ ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين: "ملِكِ يوم الدين" و {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]; لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان; فهو - سبحانه - ملك مالك، ملك ذو سلطة وعظمة وقول نافذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته.


فالله له الخلق والملك والتدبير; فلا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مالك إلا الله، قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: من الآية3]; فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:86] فيها توكيد، وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: من الآية73]; ف "الذين": اسم موصول يشمل كل من يُدعى من دون الله، {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج: من الآية73] وهذا على سبيل المبالغة; وما كان على سبيل المبالغة; فلا مفهوم له كثرة أو قلة.



1أخرجه: البخاري في (الأدب, باب أبغض الأسماء إلى الله تعالى), (4/129), ومسلم في (الآداب,. باب تحريم التسمي بملك الأملاك), (3/1688).


ج / 2 ص -254- قال سفيان: " مثل شاهان شاه".
وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه"1.
قوله: " أخنع"، يعني: أوضع.


وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: من الآية1]، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: من الآية26]، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: من الآية31]، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} (المؤمنون:88، 89).


قوله: "قال سفيان (هو ابن عيينة): مثل شاهان شاه": وهذا باللغة الفارسية; فشاهان: جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك; أي: ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف.
قوله: وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" أغيظ: من الغيظ وهو الغضب; أي: إن أغضب شيء عند الله عز وجل وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سببا لغضب الله وخبيثا; فإن التسمي به من الكبائر.
وقوله: "أغيظ": فيه إثبات الغيظ لله عز وجل، فهي صفة تليق بالله عز وجل، كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب.



1أخرجه: مسلم في (الآداب, باب تحريم التسمي بملك الأملاك), (3/1688).



ج / 2 ص -255- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك
الثانية: أن ما في معناه مثله; كما قال سفيان
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك: وتؤخذ من قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن أخنع اسم عند الله عز وجل رجل تسمى ملك الأملاك"1 والمؤلف يقول: النهي عن التسمي...، والنهي شرعا لا يستفاد من الصيغة المعينة المعروفة فحسب، بل إذا ورد الذم عليه، أو سب فاعله، أو ما أشبه ذلك; فإنه يفيد النهي، وصيغة النهي هي المضارع المقرون ب "لا" الناهية، مثل: لا تفعل، ولكن إذا كان هناك ذم، أو وعيد، أو ما أشبه ذلك; فهو متضمن للنهي وزيادة.


الثانية: أن ما في معناه مثله كما قال سفيان: والذي في معناه: قاضي القضاة، وحاكم الحكام، وشاهان شاه في الفارسية.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه: أي: لم يقصد أنه ملك الأملاك أو قاضي القضاة; لعلمه أن هناك من هو أبلغ ملكا وأحكم قضاء. وإذا سمينا شخصا بقاضي القضاة، أو حاكم الحكام، وهو ليس كذلك، بل هو من أجهل القضاة، ومن أضعف الحكام; جمعنا بين أمرين: بين الكذب، والوقوع في اللفظ المنهي عنه، وأما إذا كان أعلم أهل زمانه، أو أعلم أهل مكانه، ويرجع القضاة إليه; فهذا وإن كان القول مطابقا للواقع لكنه منهي عنه، مع أن القلب لم يقصد معناه.



1 البخاري: الأدب (6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244).


ج / 2 ص -256- الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.


الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله - سبحانه -: يؤخذ من قوله: "لا مالك إلا الله"; فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلة، وهي: "لا مالك إلا الله"1 فكيف تقول: ملك الأملاك، ولا مالك إلا الله - عز وجل -؟!


الفرق بين ملك ومالك:
ليس كل ملك مالكا، وليس كل مالك ملكا; فقد يكون الإنسان ملكا، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكا، ويتصرف فيما يملكه فقط; فالملِكُ مَنْ ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكا مالكا، وقد لا يملك فيكون ملكا وليس بمالك، أما المالك; فهو الذي له التصرف بشيء معين; كمالك البيت، ومالك السيارة، وما أشبه ذلك; فهذا ليس بملك; يعني: ليس له سلطة عامة.


ويستفاد من الحديث أيضا:

1- إثبات صفة الغيظ لله عز وجل، وأنه يتفاضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغيظ"، وهو اسم تفضيل.
2- حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم; لأنه لما بين أن هذا أخنع اسم، وأغيظه، أشار إلى العلة، وهو: "لا مالك إلا الله"، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس؛ أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية، أو علل مرعية، قال ابن القيم:

العلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية، أو النظرية; فالأثرية ما كان من كتاب، أو سنة، أو إجماع، والنظرية: العقلية; أي: العلل المرعية التي يعتبرها الشرع.

1 مسلم: الآداب (2143) , وأحمد (2/315).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 12:17AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك

ج / 2 ص -257- باب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك


باب احترام أسماء الله... إلخ
أسماء الله عز وجل هي: التي سمى بها نفسه، أو سماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة، منها:
هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
وقلنا: باعتبار دلالتها على الذات مترادفة; لأنها تدل على ذات واحدة، وهو الله عز وجل.


وباعتبار دلالتها على المعنى، والصفة التي تحملها متباينة، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمنه الآخر من باب دلالة اللزوم; فمثلا: (الخلّاق) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم، لكنه بالالتزام، وعلى القدرة المستفادة من اسم القدير، لكن بالالتزام.


الثاني: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة (يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة)؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن; فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يسمى محمدا وهو من أشد الناس ذما، وقد يسمى عبد الله وهو من أفجر عباد الله.


أما أسماء الله عز وجل، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك; فإنها أسماء متضمنة للأوصاف.
الثالث: أسماء الله بعضها معلوم لنا، وبعضها غير معلوم، بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في دعاء الكرب: "أسألك اللهم بكل


ج / 2 ص -258-


اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي..."1 ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد.


الرابع: أسماء الله; هل هي محصورة بعدد معين؟
والجواب: غير محصورة، وقد سبق الكلام على ذلك، والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة"23.
الخامس: أن هذه التسعة والتسعين غير معينة، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين4، وهذا من حكمة إبهامها؛ لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية، ولهذا نظائر، منها: أن الله أخفى ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وساعة الإجابة في الليل; ليجتهد الناس في الطلب.
السادس: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين، الذي يترتب عليه دخول الجنة، ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع، ثم تكرر حتى تحفظ فقط،

ولكن معنى ذلك:
أولا: الإحاطة بها لفظا.
ثانيا: فهمها معنى؟
ثالثا: التعبد لله بمقتضاها.


ولذلك وجهان.
الوجه الأول: أن تدعو الله بها; لقوله تعالى: [وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى

1سبق (ص 186).
2 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860) , وأحمد (2/427, 2/499, 2/503 ,2/516).
3سبق (ص 186).
4وانظر تعيينها في: "القواعد المثلى" للشارح حفظه الله.


ج / 2 ص -259-


فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: من الآية180].بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب! اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.


الوجه الثاني: أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء; فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالبا لرحمة الله، ومقتضى الغفور المغفرة، إذن افعل ما يكون سببا في مغفرة ذنوبك.
هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك; فهو جدير لأن يكون ثمنا لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب; لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلا، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "لن يدخل الجنة أحد بعمله.


قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا; إلا أن يتغمدني الله برحمته"1.
فلا تغتر يا أخي بعملك، ولا تعجب فتقول: أنا عملت كذا وكذا، وسوف أدخل الجنة، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: من الآية17]، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا; فيجب أن نرى لله المنة والفضل علينا، لكن باعتبار الجزاء، قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60]; فنؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان.
السابع: أسماء الله عز وجل ودلالتها على الذات والصفة جميعا؛




1أخرجه: البخاري في (الرقاق, باب القصد والمداومة), (4/184), ومسلم في (المنافقين, باب لن يدخل أحد الجنة بعمله), (4/2169); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -260-

دلالة مطابقة، ودلالتها على الذات وحدها، أو على الصفة وحدها؛ دلالة تضمُّن، ودلالتها على أمر خارج؛ دلالة التزام.
مثال ذلك: (الخلاق) دل على الذات، وهو الرب عز وجل وعلى الصفة وهي الخلق جميعا دلالة مطابقة، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ودل على القدرة والعلم دلالة التزام.


الثامن: أسماء الله عز وجل لا يتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور؛ إذا كان الاسم متعديا: الإيمان بالاسم اسما لله، والإيمان بما تضمنه من صفة، وما تضمنه من أثر وحكم; فالعليم مثلا لا يتم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المرتب على ذلك، وهو أنه يعلم كل شيء، وإذا كان الاسم غير متعد; فنؤمن بأنه من أسماء الله، وبما يتضمنه من صفة.


التاسع: أن من أسماء الله ما يختص به; مثل الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يختص به، مثل: الرحيم، السميع، العليم، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2]، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: من الآية128].


قوله: "باب احترام أسماء الله": أي: وجوب احترام أسماء الله؛ لأن احترامها احترام لله عز وجل، ومن تعظيم الله عز وجل، فلا يسمى أحد باسم مختص بالله،

وأسماء الله تنقسم إلى قسمين:
الأول: ما لا يصح إلا لله; فهذا لا يسمى به غيره، وإن سمي وجب تغييره; مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك.


ج / 2 ص -261- عن أبي شريح; أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم "..


الثاني: ما يصح أن يسمى به غير الله; مثل: الرحيم، والسميع، والبصير، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض.
قوله: "عن أبي شريح": هو هانئ بن يزيد الكندي، جاء وافدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه.


وقوله: "يكنى أبا الحكم": أي: ينادى به والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال، وتكون للمدح كما في هذا الحديث، وتكون للذم كأبي جهل، وتكون لمصاحبة الشيء وملازمته كأبي هريرة، وتكون لمجرد العلمية كأبي بكر رضي الله عنه، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ليس له ولد.


قوله: "إن الله هو الحكم وإليه الحكم" "هو الحكم"; أي: المستحق أن يكون حاكما على عباده، حاكما بالفعل، يدل له قوله: "وإليه الحكم".
وقوله: "وإليه الحكم": الخبر فيه جار ومجرور مقدم، وتقديم الخبر يفيد الحصر، وعلى هذا يكون الحكم راجعا إلى الله وحده.


وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: كوني، وهذا لا راد له; فلا يستطيع أحد أن يرده، ومنه قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: من الآية80].


ج / 2 ص -262- فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء; أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله،.....


الثاني: شرعي، وينقسم الناس فيه إلى قسمين: مؤمن، وكافر; فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن، ومن لم يرض به ولم يحكم به؛ فهو كافر، ومنه قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: من الآية10] وأما قوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:8] وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: من الآية50]; فهو يشمل الكوني والشرعي، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي; لأنه في سياق الحكم الشرعي، والشرعي يكون تابعا للمحبة والرضا والكراهة والسخط، والكوني عام في كل شيء.


وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى: (الحكم).
وأما بالنسبة للعدل; فقد ورد عن بعض الصحابة أنه قال: "إن الله حكم عدل" ولا أعرف فيه حديثا مرفوعا، ولكن قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: من الآية50]، لا شك أنه متضمن للعدل، بل هو متضمن للعدل وزيادة.


قوله: "فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني": هذا بيان لسبب تسميته بأبي الحكم.
قوله: "ما أحسن هذا": الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم; لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيره.
قوله: "شريح، ومسلم، وعبد الله": الظاهر: أنه ليس له إلا الثلاثة; لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فلو كان عنده بنات لعدهن.


ج / 2 ص -263- قال: فمن أكبرهم؟. قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح" رواه أبو داود وغيره1.


فيه مسائل:

الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه.

قوله: "فأنت أبو شريح": غيّره النبي صلى الله عليه وسلم

لأمرين:
الأول: أن الحكم هو الله، فإذا قيل: يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله!
الثاني: أن هذا الاسم، الذي جعل كنية لهذا الرجل، لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم؛ فصار بذلك مطابقا لاسم الله، وليس لمجرد العلمية المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركا لله - سبحانه وتعالى - في ذلك، ولهذا كناه النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يكنى به.


فيه مسائل:

الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
قوله: "ولو لم يقصد معناه": هذا في النفس منه شيء; لأنه إذا لم يقصد معناه; فهو جائز، إلا إذا سمي بما لا يصح إلا لله، مثل: الله،



1 أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 227) وفي "الأدب المفرد" (811), وأبو داود في (الأدب, باب في تغيير الاسم القبيح), (5/240), والنسائي في (القضاء, باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم), (8/226), والدولابي في "الكنى" (1/74), والبيهقي (10/145); عن يزيد بن مقدام بن شريح, عن أبيه شريح, عن أبيه هانئ أبي شريح الخزاعي. وأخرجه: ابن سعد (6/ 49), والحاكم (4/ 279), من طريق قيس بن الربيع. وفي توثيقه خلاف, والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (8/ 237), وفي "تعليقه على المشكاة" (4766); وقال: "إسناده جيد".


ج / 2 ص -264- الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.


الرحمن، رب العالمين، وما أشبهه; فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان.
وأما ما لا يختص بالله; فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط؛ لأنه لا يكون مطابقا لاسم الله، ولذلك كان في الصحابة من اسمه "الحكم"1، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يقصد إلا العلمية، وفي الصحابة من اسمه "حكيم"2 وأقره النبي صلى الله عليه وسلم.


فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك: وقد سبق الكلام عليه
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية: تؤخذ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن أكبرهم؟ قال: شريح. قال: فأنت أبو شريح"3.
ولا يؤخذ من الحديث استحباب التكني; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكني ابتداء.


ويستفاد من الحديث ما يلي:
1- أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح، إذا أغلقوا بابا محرما؛ أن يبينوا للناس المباح، وقد سبق تقرير ذلك.
2- أن الحكم لله وحده; لقوله صلى الله عليه وسلم "وإليه الحكم".
أما الكوني فلا نزاع فيه؛ إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية.



1 كالحكم بن الحارث السلمي, والحكم بن سعيد بن العاص, والحكم بن عبد الله الثقفي, وغيرهم رضي الله عنهم. انظر: "الإصابة" (1/ 26- 32).
2 كحكيم بن حزام, وحكيم بن الحارث الطائفي, وحكيم بن طليق الأموي, وغيرهم رضي الله عنهم. انظر: "الإصابة" (1/ 32- 34).
3 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955).


ج / 2 ص -265-


وأما الشرعي; فهو محك الفتنة والامتحان والاختبار، فمن شرّع للناس شرعا سوى شرع الله، ورأى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد، أو أنه مساو لشرع الله، أو أنه يجوز ترك شرع الله إليه; فإنه كافر لأنه جعل نفسه ندا لله عز وجل، سواء في العبادات، أو المعاملات، والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]; فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله، ولا مساو لحكم الله; لأن أحسن اسم تفضيل: معناه لا يوجد شيء في درجته، ومن زعم ذلك; فقد كذّب الله عز وجل. وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: من الآية44]، وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره، وأنه كفر.


فإن قيل: قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: من الآية47].
قلنا: قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60، 61] وهذا دليل على كفرهم; لأنه قال: "يزعمون أنهم آمنوا"، وهذا إنكار لإيمانهم; فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق ولا حق.


فقوله صلى الله عليه وسلم "وإليه الحكم" يدل على أن من جعل الحكم لغير الله; فقد أشرك.
فائدة: يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاما يمشي عليه، ويستبدل به القرآن، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير


ج / 2 ص -266-


ما أنزل الله; فهذا قد يكون كفرا أو فسقا أو ظلما.
فيكون كفرا إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له. ويكون فسقا إذا كان لهوى في نفس الحاكم.
ويكون ظلما إذا أراد مضرة المحكوم عليه، وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية، وظهور الفسق في الثانية أبين من ظهوره في الثالثة.
3- تغيير الاسم إلى ما هو أحسن إذا تضمن أمرا لا ينبغي، كما غيّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء المباحة، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة، كما يتوهمه بعض العامة.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 01:22AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول

ج / 2 ص -267- باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول


هذه الترجمة فيها شيء من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن، أو هزل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معطوفا على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا: اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا صلى الله عليه وسلم; ف (أل) للجنس وليست للعهد.
قوله: "من هزل": سخر واستهزأ ورآه لعبا ليس جدا.


ومن هزل بالله، أو بآياته الكونية أو الشرعية، أو برسله، فهو كافر; لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة.
كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به؟! فالمؤمن بالشيء لا بد أن يعظمه، وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به.
والكفر كفران: كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة; فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط.
وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء، بل والهلاك وهو لا يشعر; فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل، لا يلقي لها بالا يهوي بها في النار.


فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج; فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية، بأن قال مثلا: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال: إن وجود البرد في أيام الصيف سفه; فهذا كفر مخرج عن الملة; لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة، وقد لا نستطيع بلوغها، بل لا نستطيع بلوغها.


ج / 2 ص -268-


ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين:
القول الأول: أنها لا تقبل، وهو المشهور عند الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال: إنه تاب أو إنه أخطأ; لأنهم يقولون: إن هذه الردة أمرها عظيم، وكبير، لا تنفع فيها التوبة.


وقال بعض أهل العلم: إنها تقبل؛ إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة; كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: من الآية53]، ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم. وهذا هو الصحيح، إلا أن سابَّ الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله; فإنها تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه؛ بأنه يغفر الذنوب جميعا،


أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يتعلق به أمران:
الأول: أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني: أمر شخصي؛ لكونه من المرسلين، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم، ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل; غسلناه، وكفناه، وصلينا عليه، ودفناه مع المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه: "الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول"، أو:


ج / 2 ص -269- وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] الآية.


"الصارم المسلول على شاتم الرسول"، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه; فإنه يقتل ولا يجلد.
فإن قيل: أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم، وقَبِل منه وأطلقه؟
أجيب: بلى، هذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد أسقط حقه، أما بعد موته; فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه صلى الله عليه وسلم.


فإن قيل: احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجبا للتوقف؟
أجيب: إنه لا يوجب التوقف; لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه.
فإن قيل: أليس الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمَّن سبه؟
أجيب: بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا؛ قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم; لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، قال ابن القيم: إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط.


قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [التوبة: من الآية65] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة.


ج / 2 ص -270-


قوله: "ليقولن": جواب القسم، قال ابن مالك:

واحذف لدى اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم1
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم، دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله: "ليقولن" ; أي: المسئولون.
قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] أي: ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللعب يقصد به الهزء، وأما الخوض; فهو كلام عائم لا زمام له. هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول; فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح.


وقوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: من الآية65] "إنما": أداة حصر; أي: ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب.
قوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65] الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلا للسخرية؟
قوله: "أبالله": أي: بذاته وصفاته.


قوله: "وآياته": جمع آية ويشمل: الآيات الشرعية; كالاستهزاء بالقرآن، بأن يقال: هذا أساطير الأولين -والعياذ بالله-، أو يستهزأ بشيء من الشرائع; كالصلاة والزكاة والصوم والحج.
والآيات الكونية; كأن يسخر بما قدّره الله تعالى، كيف يأتي هذا في



1 "ألفية ابن مالك" (ص 52).


ج / 2 ص -271-


هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: "ورسوله": المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: "لا تعتذروا": المراد بالنهي التيئيس; أي: انههم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم.
قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66] أي: بالاستهزاء، وهم لم يكونوا منافقين خالصين، بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف؛ ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: من الآية66] "نعف": ضمير الجمع للتعظيم; أي: الله عز وجل.


وقوله: {عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} قال بعض أهل العلم: هؤلاء حضروا، وصار عندهم كراهية لهذا الشيء، لكنهم داهنوا؛ فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم، وهداهم للإيمان، وتابوا.


قوله:" نُعَذِّبْ طَائِفَةً ": هذا جواب الشرط; أي: لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة; فلا بد أن نعذب الآخرين.
قوله:" بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ": الباء للسببية; أي: بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء، وعندهم جرم - والعياذ بالله -; فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يُعفى عنهم.

ويستفاد من الآيتين:


ج / 2 ص -272-

1- بيان علم الله عز وجل بما سيكون; لقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ} [التوبة: من الآية65] وهذا مستقبل; فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: من الآية123].
2- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله إليه حيث أمره أن يقول: "أبالله وآياته".


3- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر; بدليل الاستفهام والتوبيخ.
4- أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا; لقوله: "أبالله وآياته..."، وتقديم المتعلق يدل على الحصر، كأنه ما بقي إلا أن تستهزئوا بهؤلاء الذين ليسوا محلا للاستهزاء، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة.
5- أن المستهزئ بالله يكفر; لقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: من الآية66].


6- استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم، لكنه هنا ليس أهلا للرحمة.
7- قبول توبة المستهزئ بالله ; لقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ} وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عفي عنه، وهُدِيَ للإسلام، وتاب، وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح؛ أن المستهزئ بالله تقبل توبته، لكن لا بد من دليل بيّن على صدق توبته; لأن كفره من أشد الكفر، أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد.
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ


ج / 2 ص -273- عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة; دخل حديث بعضهم في بعض: "أنه قال رجل في غزوة تبوك:.......


عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية140] وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: الآية65، 66]، ولا يزيد على هذا أبدا، مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا.
قوله: "عن ابن عمر": هو عبد الله.


وقوله: "ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة": والثلاثة تابعيون; فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة.
قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض": أي: إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص، كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلونه في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون -مثلا-: دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول: حدثني بعضهم بكذا، وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك.
قوله: "في غزوة تبوك": تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حين طابت الثمار، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل: إنه لا يدرى أي الجيشين أكثر: الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟



ج / 2 ص -274- ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء; أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء (يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء)..........


مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن قوما من الروم، ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم ؛ إظهارا للقوة، وإيمانا بنصر الله عز وجل.
قوله: "ما رأينا": تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله: "مثل قرائنا": المفعول الأول، والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.


قوله: "أرغب بطونا": المفعول الثاني; أي: أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة; لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل.
قوله: "ولا أكذب ألسنا": الكذب: هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن: جمع لسان، والمراد: ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية; كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: من الآية4]; أي: بلغتهم.


قوله: "ولا أجبن عند اللقاء": الجبن: هو خَوَر في النفس، يمنع المرء من الإقدام على ما يكره; فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه1؛ لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه; فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد: ثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث




1 أخرجه: البخاري (في الجهاد, باب ما يتعوذ من الجبن), (2/312); من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.


ج / 2 ص -275- فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق; لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره".........


لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا، ولاسيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فإن الله وصفهم بالصدق في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8].
والمنافقون أكذب الناس; كما قال الله فيهم: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الحشر: من الآية11]، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق1، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: من الآية4]، فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته; لقالوا: عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا; إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا، ومن أجل أن تحمى دماؤهم وأموالهم وأعراضهم.


قوله: "كذبت": أي: أخبرت بخلاف الواقع، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز.
قوله: "ولكنك منافق": لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر; لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته.
فيكون طعنا في الله; لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه.


وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يُستدل على صلاحه أو فساده أو سوء

ـــ

1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب علامة المنافق), (1/27), ومسلم في (الإيمان, باب بيان خصال المنافق), (1/78); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -276- فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه،........


أخلاقه، أو صلاحها بالقرين.
وطعنا في الشريعة: لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة; فلا يوثق بهذه الشريعة.
قوله: "فوجد القرآن قد سبقه": أي: بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون، وبما يريدون، وبما يبيتون، قال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء: من الآية108].
قوله: "وقد ارتحل، وركب ناقته": الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير; لأن ركوب الناقة هو الارتحال.


قوله: "كأني أنظر إليه": كأن إذا دخلت على مشتق; فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد; فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى: كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به.
قوله: "بنسعة": هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: "والحجارة تنكب رجليه": أي: يمشي والحجارة تضرب رجليه، وكأنه - والله أعلم - يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال; لأنه يريد أن يعتذر.



ج / 2 ص -277- وهو يقول: {إنما كنا نخوض ونلعب}. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: من الآية65]; ما يلتفت إليه وما يزيده عليه"1.


فيه مسائل:

الأولى: وهي العظيمة; أن من هزل بهذا كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.


قوله: "وما يزيده عليه": أي: لا يزيده على ما ذكر من توبيخ؛ امتثالا لأمر الله عز وجل، وكفى بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا.


فيه مسائل:

الأولى - وهي العظيمة -: أن من هزل بهذا كافر: أي من هزل بالله وآياته ورسوله.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان: أي: سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ; فإنه يكفر كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله: النميمة: من



1 أخرجه: ابن جرير (10/ 119), وابن أبي حاتم; كما في "الصحيح المسند" لمقبل بن هادي (ص 77).


ج / 2 ص -278- الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله، وبين الغلظة على أعداء الله.


نَمَّ الحديث; أي: نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة نمام"1 وأخبر عن رجل يعذب في قبره; لأنه كان يمشي بالنميمة2.
وأما النصيحة لله ورسوله; فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله عز وجل، وإقامة حدوده، وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل؛ لأجل أن يقام عليه الحد، أو ما يجب أن يقام عليه، وليس قصده مجرد النميمة.


ومن ذلك: لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره، ويستهزئ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك; فليس هذا من النميمة، بل من النصيحة.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله:
العفو الذي يحبه الله: هو الذي فيه إصلاح; لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: من الآية40]; أي: كان عفوه مشتملا على الإصلاح، وقال بعضهم: أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر، والصواب أن المراد به أصلح في عفوه; أي: كان في عفوه إصلاح. فمن كان عفوه إفسادا لا إصلاحا; فإنه آثم بهذا العفو، ووجه ذلك من الآية ظاهر; لأن الله قال: {عَفَا وَأَصْلَحَ}، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم.


والنبي صلى الله عليه وسلم غَلَّظ على هذا الرجل لكونه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، ولا


1 أخرجه: البخاري (10/ 476- فتح), ومسلم (1/ 101).
2 أخرجه: البخاري (1/ 317- فتح), ومسلم (1/ 240).


ج / 2 ص -279- الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.


يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرق له، ولكل مقام مقال; فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله عز وجل الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: من الآية29]، وقال تعالى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة: من الآية73]، ذكرها الله في سورتين من القرآن؛ مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل: فالأصل في الاعتذار أن يقبل، لاسيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أن الاعتذار باطل; فإنه لا يقبل.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 01:32AM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}

ج / 2 ص -280- باب: قول الله تعالي: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50] الآية.


مناسبة الباب ل"كتاب التوحيد"
أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه؛ ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل، لكن لأنه أهل; ففيه نوع من التَّعلِّي والترفع في جانب العبودية.


وقد ذكر الشيخ فيه آيتين:
الآية الأولى: ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} الضمير يعود على الإنسان، والمراد به الجنس. وقيل: المراد به الكافر.
والظاهر أن المراد به الجنس; إلا أنه يمنع من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى قبلها: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ لا يَسْأَمُ الأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ

ج / 2 ص -281-


وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت:47، 48، 49]، هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة.
قوله: "منا": أضافه الله إليه; لوضوح كونها من الله، ولتمام منته بها.
قوله: {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي: أنه لم يذق الرحمة من أول أمره، بل أصيب بضراء; كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك، ثم أذاقه بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور بها أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع.
قوله: "مسته" وهو: أي: أصابته وأثرت فيه.


قوله: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله: "ليقولن" واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله:" وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ ".
قوله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} بعد أن انغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله، ثم إذا كشفها، وجد بعد ذلك لذة وسرورا يشكر الله على ذلك، أما هذا; فقد نسي الآخرة وكفر بها.


قوله: {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: من الآية50] (إن): شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن وقوعه; كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: من الآية65]، والمعنى: على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى. والحسنى: اسم تفضيل; أي: الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد.



ج / 2 ص -282- قال مجاهد: " هذا بعملي، وأنا محقوق به".
وقال ابن عباس: " يريد: من عندي".
وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية78]
قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب".


قوله: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} [فصلت: من الآية50] أي: فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره.
قول مجاهد: "هذا بعملي وأنا محقوق به": أي: هذا بكسبي، وأنا مستحق له.
قول ابن عباس: "يريد من عندي": أي: من حذقي وتصرفي، وليس من عند الله.


الآية الثانية: قوله تعالى: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية78] في القرآن آيتان: آية قال الله فيها: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: من الآية49]، الثانية: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} والظاهر من تفسير المؤلف أنه يريد الآية الثانية.


قوله: "على علم": في معناه أقوال:
الأول قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدا على الإنسان; أي: إنني عالم بوجوه المكاسب، ولا فضل لأحد علي فيما أوتيته، وإنما الفضل لي، وعليه يكون هذا كفرا بنعمة الله، وإعجابا بالنفس.

ج / 2 ص -283- وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل.
وهذا معنى قول مجاهد: " أوتيته على شرف"1.


الثاني قال آخرون: على علم من الله أني له أهل; فيكون بذلك مدلا على الله، وأنه أهل ومستحق لأن ينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله; أي: أوتيت هذا الشيء على علم من الله أني مستحق له وأهل له.
الثالث قول مجاهد: "أوتيته على شرف"، وهو من معنى القول الثاني،

فصار معنى الآية يدور على وجهين:
الوجه الأول: أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته.
الوجه الثاني: أنه أنكر أن يكون لله الفضل عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله; لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلا لهذه النعمة.


فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله عز وجل، والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله; فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كل ما نحصل عليه من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله; فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه، قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: من الآية53]، حتى ولو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك; فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله عز وجل ثم إن المهارة أو العلم قد لا يكون سببا لحصول الرزق; فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق، ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلا؟!


وشكر النعمة له ثلاثة أركان:
1- الاعتراف بها في القلب.



1 انظر: "تفسير ابن جرير" (10/ 107), و"الدر المنثور" (5/ 137).

ج / 2 ص -284- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى،....

2- الثناء على الله باللسان.
3- العمل بالجوارح بما يرضي المنعم.


فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه; فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله، أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى.
قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أن ثلاثة من بني إسرائيل": جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة، ليس المقصود منها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة، مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: من الآية111].


قوله: " من بني إسرائيل ": في محل نصب نعت ل "ثلاثة"، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والتسليم.
قوله: "أبرص": أي: في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرا إلى عدم انتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن، ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال تعالى: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي} [المائدة: من الآية110].


قوله: "أقرع": مَنْ ليس على رأسه شعر.
قوله: "أعمى": من فقد البصر.

ج / 2 ص -285- فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا: فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به"..........



قوله: "فأراد الله" وفي بعض النسخ: "أراد الله": فعلى إثبات الفاء يكون خبر (إن) محذوفا دل عليه السياق تقديره: إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم.
ولا يمكن أن يكون "أبرص وأقرع وأعمى" خبرا; لأنه بدل، وعلى حذف الفاء يكون الخبر جملة: "أراد الله"، والإرادة هنا كونية.


قوله: "يبتليهم": أي يختبرهم; كما قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: من الآية35]، وقال تعالى: [هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: من الآية40].
قوله: "ملكا": واحد الملائكة: وهم عَالَم غيبي، خلقهم الله من نور، وجعلهم قائمين بطاعة الله، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال، ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهو أحد أركان الإيمان الستة.


قال أهل اللغة: وأصل ال (ملك) مأخوذ من الأَلُوكَة، وهي الرسالة، وعلى هذا يكون أصله مَأْلكَ; فصار فيه إعلال قلبي، فصار مَلأَك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة، وحذفت الهمزة تخفيفا، فصار مَلَك؛ ولهذا في الجمع تأتي الهمزة: ملائكة.
قوله: "ويذهب": يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى.
قوله: "قذرني": أي: استقذرني وكرهوا مخالطتي من أجله.
وقوله: "به": الباء للسببية; أي: بسببه.



ج / 2 ص -286- قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك; قال: الإبل أو البقر (شك إسحاق). فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها".
قال: "فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس به،.........


قوله: "فمسحه": ليتبين أن لكل شيء سببا، وبرئ بإذن الله عز وجل "فذهب عنه قذره": بدأ بذهاب القذر قبل اللون الحسن والجلد الحسن; لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال: التخلية قبل التحلية.
قوله: "قال: الإبل أو البقر - شك إسحاق -": والظاهر: أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث.


قوله: "عشراء": قيل: هي الحامل مطلقا، وقال في "القاموس": هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله عز وجل وذللها، ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاه إياها.
قوله: "بارك الله لك فيها": يحتمل أن لفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء، وهو الأقرب; لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه خبر محض، كأنه قال: هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد); قد بارك الله لك فيها.
قوله: "فأتى الأقرع": وهو الرجل الثاني في الحديث.


قوله: "فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن"، ولم يكتف بمجرد الشعر، بل طلب شعرا حسنا.
قوله: "الذي قذرني الناس به": أي: القرع; لأنه إذا كان أقرع كرهه

ج / 2 ص -287- فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي شعرا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملا; قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. فمسحه، فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا،........


الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يُغَطُّون رءوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال: يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها؛ فيكرهه الناس مما بدا منها.
قوله: "فذهب عنه قذره": يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله عز وجل ؛ أن يستجاب للإنسان.
قوله: "البقر أو الإبل": الشك من إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطي البقر.


قوله: "فأتى الأعمى": هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله: "فأبصر به الناس": لم يطلب بصرا حسنا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرا يبصر به الناس فقط، مما يدل على قناعته بالكفاية.
قوله: "فرد الله إليه بصره": الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط.
قوله: "قال: الغنم": هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع; لأن السكينة في أصحاب الغنم.


قوله: "شاة والدا": قيل: إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملا، ولما يأتي من قوله: "فأنتج هذان وولد هذا"،

ج / 2 ص -288- فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم".
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، وابن سبيل،


والشيء قد يسمى بالاسم القريب; فقد يعبر عن الشيء حاصلا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول.
قوله: "فأُنتج هذان": بالضم، وفيه رواية بالفتح: "فأنتج"، وفي رواية: "فَنَتَج هذان". والأصل في اللغة في مادة (نتج): أنها مبنية للمفعول، والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر، و "أنتج"; أي: حصل لهما نتاج الإبل والبقر.
قوله: "وولد هذا": أي: صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى توليد النساء يقال له: القابلة، ومن تولى توليد غير النساء يقال له: منتج، أو ناتج، أو مولد.


قوله: "فكان لهذا واد من الإبل"1 مقتضى السياق أن يقول: فكان لذلك; لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز، وكذا العكس.
قوله: "في صورته وهيئته": الصورة في الجسم، والهيئة في الشكل واللباس، وهذا هو الفرق بينهما.
قوله: "رجل مسكين": خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: أنا رجل مسكين، والمسكين: الفقير، وسمي الفقير مسكينا; لأن الفقر أسكنه وأذله، والغني في الغالب يكون عنده قوة وحركة.
قوله: "وابن سبيل": أي: مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق،



1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3464) , ومسلم: الزهد والرقائق (2964).

ج / 2 ص -289- قد انقطعت بي الحبال في سفري; فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال; بعيرا أتبلغ به في سفري،........


ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبا، فكل شيء يلازم شيئا; فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة.
قوله: "انقطعت بي الحبال في سفري" الحبال الأسباب; فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ} [الحج: من الآية15]، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرِّشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر.


قوله: "فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك" "لا": نافية للجنس، والبلاغ بمعنى الوصول، ومنه تبليغ الرسالة; أي: إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى: لا شيء يوصلني إلى أهلي إلا بالله ثم بك; فالمسألة فيها ضرورة.
قوله: "أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن" السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء; لأن "سأل" تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول: سألته عن فلان; أي: استخبرته، وسألته مالا; أي: استجديته واستعطيته، وإنما قال: "أسألك بالذي أعطاك" ولم يقل: أسألك بالله; لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه; ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين; لأنه جمع بين أمرين: كونه مسكينا، وكونه ابن سبيل; ففيه سببان يقتضيان الإعطاء.
وقوله: "بعيرا": يدل على أن الأبرص أعطي الإبل، وتعبير إسحاق "الإبل أو البقر" من باب ورعه.


قوله: "أتبلغ به في سفري": أي: ليس أطيب الإبل، وإنما ما يوصلني إلى أهلي فقط.

ج / 2 ص -290- فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت".


قوله: "الحقوق كثيرة": أي: هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس حقك أنت فقط، وتناسى - والعياذ بالله - أن الله هو الذي مَنَّ عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال.
قوله: "كأني أعرفك": كأن هنا للتحقيق لا للتشبيه; لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق; فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى: أني أعرفك معرفة تامة.


قوله: "ألم تكن أبرص يقذرك الناس" ذَكَّرَه الملك بنعمة الله عليه، وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على "لم"; كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
قوله: "كابرا عن كابر": أنكر أن المال من الله، لكنه لم يستطع أن ينكر البرص. و "كابرا" منصوبة على نزع الخافض; أي: من كابر; أي: ممن يكبرني وهو الأب، عن كابر له وهو الجد، وقيل: المراد الكبر المعنوي; أي: إننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعا.


قوله: "إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت" "إن": شرطية ولها مقابل، يعني: وإن كنت صادقا فأبقى الله عليك النعمة. فإن قيل: كيف يأتي ب "إن" الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب؟

ج / 2 ص -291- قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت.


أجيب: إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى: إن كنت كما ذكرت عن نفسك; فأبقى الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبا وأنك لم ترثه كابرا عن كابر; فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل: "إلى ما أقول"; لأنه كان على ذلك بلا شك.


والتنزل مع الخصم يرد كثيرا في الأمور المتيقنة; كقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: من الآية59]، ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته.
قوله: "وأتى الأقرع في صورته" الفاعل المَلَك، وهنا قال: "في صورته" فقط وفي الأول قال: "في صورته وهيئته" فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا; فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقة، والهيئة تكون تصنعا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري: "في صورته وهيئته".


قوله: "فقال له مثل ما قال لهذا": المشار إليه الأبرص.
قوله: "فرد عليه": أي: الأقرع.
قوله: "مثل ما رد عليه هذا": أي: الأبرص. فكلا الرجلين - والعياذ بالله - غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر.
قوله: "فصيرك الله إلى ما كنت عليه" أي: ردك الله إلى ما كنت عليه من القرع الذي يقذرك الناس به والفقر.



ج / 2 ص -292- قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري; فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك; شاة أتبلغ بها في سفري. قال: قد كنت أعمى فرد الله عليّ بصري; فخذ ما شئت، فوالله; لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك; فإنما ابتليتم؛.......


قوله: "فرد الله عليّ بصري" اعترف بنعمة الله، وهذا أحد أركان الشكر والركن الثاني: العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث: الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله: "فوالله; لا أجهدك بشيء أخذته لله" الجهد: المشقة، والمعنى: لا أشق عليك بمنع ولا منة، واعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالا على الشكر بالقلب بالتضمن.


قوله: "خذ ما شئت ودع ما شئت" هذا من باب الشكر بالجوارح; فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر.
قوله: "لله": اللام للاختصاص، والمعنى: لأجل الله، وهذا ظاهر في إخلاصه لله; فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك.
قوله: "إنما ابتليتم": أي: اختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس; لأن قوله: "إنما ابتليتم" يدل على أن عنده علما بما جرى لصاحبيه، وغالبا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس.



ج / 2 ص -293- فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك". أخرجاه.1


قوله: "فقد رضي الله عنك": يعني: لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح.
قوله: "وسخط على صاحبيك" لأنهما كَفَرا نعمة الله - سبحانه -، وأنكرا أن يكون الله من عليهما بالشفاء والمال.
وفي هذا الحديث من العبر شيء كثير، منها:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص علينا أنباء بني إسرائيل؛ لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال: إن شَرْع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بخلافه، ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة.
2- بيان قدرة الله عز وجل بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح المَلَك لهم.


3- أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر; لقوله: "فأتى الأبرص في صورته" وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا -والله أعلم- ليس إليهم، وإنما يَتَشَكَّلون بأمر الله تعالى.
4- أن الملائكة أجسام، وليسوا أرواحا، أو معاني، أو قوى فقط.
5- حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه.


6- أن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله - أي بالمقضي -; لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا: أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا.



1 أخرجه: البخاري في (الأنبياء, باب حديث أبرص وأقرع وأعمى في بني إسرائيل), (2/494), ومسلم في (الزهد والرقاق), (4/ رقم (2964).

ج / 2 ص -294-


وللإنسان عند المصائب أربع مقامات:
جزع، وهو محرم.
صبر، وهو واجب.
رضا، وهو مستحب.
شكر، وهو أحسن وأطيب.
وهنا إشكال، وهو كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة، وهي لا تلائمه؟
أجيب: أن الإنسان إذا آمن بما يترتب على هذه المصيبة من الأجر العظيم؛ عرف أنها تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم "فمن رضي; فله الرضا، ومن سخط; فله السخط"1 فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله; فهذا يجب الرضا به لأن الله عز وجل حكيم، ففرق بين فعل الله والمقضي. والمقضي ينقسم إلى: مصائب لا يلزم الرضا بها، وإلى أحكام شرعية يجب الرضا بها.


7- جواز الدعاء المعلق; لقوله: "إن كنت كاذبا; فصيرك الله إلى ما كنت" وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:7]، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور:9]، وفي دعاء الاستخارة: "اللهم! إن كنت تعلم... إلخ".



1 سبق (ص 121).

ج / 2 ص -295-


8- جواز التنزل مع الخصم، فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم; لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله: إن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرا عن كابر.
وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضا قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: من الآية24]، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على هدى، وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل.


9- أن بركة الله لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
10- هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا; لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك: آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استجيب.


11- بيان أن شكر كل نعمة بحسبها; فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، والشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شيء.
ونظير هذا ما مر أن التوبة من كل ذنب بحسبه، لكن لا يستحق الإنسان وصف التوبة المطلق؛ إلا إذا تاب من جميع الذنوب.


12- جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل أن يأتي بصورة مسكين وهو غني، وما أشبه ذلك، إذا كان فيه مصلحة، وأراد أن يختبر إنسانا بمثل هذا; فله ذلك.
13- أن الابتلاء قد يكون عاما وظاهرا، يؤخذ من قوله: "فإنما ابتليتم"، وقصتهم مشهورة كما سبق.

ج / 2 ص -296-


14- فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه; لأن الأعمى كان زاهدا في الدنيا; فكان شاكرا لنعمة الله.
15- ثبوت الإرث في الأمم السابقة; لقوله: "ورثته كابرا عن كابر".
16- أن من صفات الله عز وجل الرضا، والسخط، والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة.
وإرادة الله نوعان: كونية، وشرعية.


والفرق بينهما: أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، فإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون.
وأما الشرعية: فإنه لا يلزم فيها وقوع المراد ويلزم أن يكون محبوبا لله، ولهذا نقول: الإرادة الشرعية بمعنى المحبة، والكونية بمعنى المشيئة.
فإن قيل: هل الله يريد الخير والشر كونا أو شرعا؟
أجيب: إن الخير إذا وقع; فهو مراد لله كونا وشرعا، وإذا لم يقع; فهو مراد لله شرعا فقط، وأما الشر فإذا وقع; فهو مراد لله كونا لا شرعا وإذا لم يقع; فهو غير مراد كونا ولا شرعا.


واعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله - سبحانه -; ولكن إلى مخلوقات الله; فكل فعل الله تعالى خير; لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخير بيديك والشر ليس إليك"1 وأما مخلوقات الله; ففيها خير وشر.
وإثبات صفة الرضا لله -سبحانه- لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة، بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضي عن شخص مثلا؛ فإن عاطفته قد تحمله على أن يرضى عنه في كل شيء، ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر:



1 رواه: مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ج / 2 ص -297-


وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق; فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق; فقد يخرجه عن الحكمة، فيتصرف بما لا يليق؛ لشدة غضبه.


ومن فسّر الرضا بالثواب أو إرادته; فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل: إن معنى "رضي"، أي: أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضى، ولو قالوا: لا يرضى لكفروا; لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أَوّلُوها تأويلا يستلزم جواز نفي الرضا; لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدا؛ ولهذا بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافا لمن قال: كل شيء في اللغة مجاز.


17- أن الصحبة تطلق على المشاكلة في شيء من الأشياء، ولا يلزم منها المقارنة; لقوله: "وسخط على صاحبيك"; فالصاحب هنا: من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس.


18- اختبار الله عز وجل بما أنعم عليهم به.
19 أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات.
20- أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئا لم يكن من أجل الاختبار; لقول الملك: إنه فقير وابن سبيل.
21- أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة; لقوله: "فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك".



ج / 2 ص -298- فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50].
الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: من الآية 78].
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.


فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية: وهي قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: من الآية50] وقد سبق أن الضمير في قوله: "أذقناه" يعود على الإنسان باعتبار الجنس.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} اللام للاستحقاق، والمعنى: إني حقيق به وجدير به.


الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة: وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا نعمة الله عز وجل، والأعمى اعترف بنعمة الله، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة; قال: "خذ ما شئت"; فدل هذا على جوده وإخلاصه; لأنه قال: "فوالله; لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل" بخلاف الأبرص والأقرع، حيث كانوا أشحاء بخلاء منكرين نعمة الله عز وجل.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 10:53AM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}

ج / 2 ص -299- باب: قول الله تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية190] الآية.


قوله: {فلما آتاهما} الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الأعراف: من الآية189].
قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}


فيها قولان:
الأول: أن المراد بالنفس الواحدة: العين الواحدة; أي: من شخص معين، وهو آدم عليه السلام، وقوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: حواء; لأن حواء خلقت من ضلع آدم.
الثاني: أن المراد بالنفس الجنس، وجعل من هذا الجنس زوجه، ولم يجعل زوجه من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس; كما في قوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: من الآية164]; أي: من جنسهم.


قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولا: لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقتضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيا: سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص، لا يوجد له نظير حتى بين الأم وابنها.


ج / 2 ص -300-


قوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.
قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها، وعبارة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: من الآية43]، وقال: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: من الآية23]، وقال تعالى: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: من الآية21]، كأن الاستحياء من ذكره بصريح اسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشيء باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قوله ( لماعز وقد أقرَّ عنده بالزنى: "أنِكْتَها"(1) لا يكني؛ لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليا، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات.


وتشبيه علو الرجل المرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل:1]، وعبر بقوله: "تغشاها" ولم يقل: غشيها; لأن تغشى أبلغ، وفيه شيء من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها ((2)، الجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، و "جهدها" هذا تغشي.
قوله: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} الحمل في أوله خفيف: نطفة، ثم علقة، ثم مضغة.


قوله: "فَمَرَّتْ بِهِ": المرور بالشيء تجاوزه من غير تعب ولا إعياء، والمعنى: تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.



(1) أخرجه: البخاري في (الحدود, باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست), (4/256).
(2) أخرجه: البخاري في (الغسل, باب إذا التقى الختانان), (1/111), ومسلم في (الحيض, باب نسخ الماء من الماء), (1/271).


ج / 2 ص -301-


قوله: "فلما أثقلت": الإثقال في آخر الحمل.
قوله: "دعوا الله"، ولم يقل: دعيا; لأن الفعل واوي; فعاد إلى أصله.
قوله: "الله ربهما": أتى بالألوهية والربوبية; لأن الدعاء يتعلق به جانبان:
الأول: جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع، والدعاء عبادة.
الثاني: جانب الربوبية; لأن في الدعاء تحصيلا للمطلوب، وهذا يكون متعلقا بالله من حيث الربوبية.


والظاهر أنهما قالا: اللهم ربنا، ويحتمل أن يكون بصيغة أخرى.
قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} أي: أعطيتنا.
وقوله: {صَالِحاً}; هل المراد صلاح البدن، أو المراد صلاح الدين، أي: لئن آتيتنا بشرا سويا، ليس فيه عاهة ولا نقص، أو صالحا بالدين; فيكون تقيا قائما بالواجبات؟
الجواب: يشمل الأمرين جميعا، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الأول، وهو الصلاح البدني، لكن لا مانع من أن يكون شاملا للأمرين جميعا.
قوله: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي: من القائمين بشكرك على هذا الولد الصالح. والجملة هنا جواب قسم وشرط، قسم متقدم، وشرط متأخر، والجواب فيه للقسم؛ ولهذا جاء مقرونا باللام: لنكونن.


قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} هنا حصل المطلوب، لكن لم يحصل الشكر الذي وعدا الله به، بل جعلا له شركاء فيما آتاهما.


ج / 2 ص -302-


وقوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية190] هذا جواب "لما". والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير، ومثل هذا لا يعرف أيصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح، الصلاح البدني.


فمعاهدة الإنسان ربه أن يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها; ففي سورة التوبة قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75، 76]، وفي هذه الآية قال تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} [الأعراف: من الآية189، 190] فكانا من المشركين لا من الشاكرين، وبهذا نعرف الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر; لأن النذر معاهدة مع الله عز وجل، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: "إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"1، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم النذر، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يميل إلى تحريم النذر2؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه، ونفى أنه يأتي بخير.


إذن ما الذي نستفيد من أمر نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: إنه لا يأتي بخير؟
الجواب; لا نستفيد إلا المشقة على أنفسنا، وإلزام أنفسنا بما نحن



1 أخرجه مسلم في (النذر, باب النهي عن النذر), (3/1261). وأخرج البخاري نحوه في (الإيمان, باب الوفاء بالنذر, 4/227) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2 انظر: "الاختيارات" (ص 328).


ج / 2 ص -303-


منه في عافية، ولهذا; فالقول بتحريم النذر قول قوي جدا، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها، ورأى أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصا مما نذروا.
فإن قيل: هذا الولد الذي آتاهما الله عز وجل كان واحدا; فكيف جعلا في هذا الولد الواحد شركا بل شركاء؟


فالجواب: أن نقول هذا على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يعتقدا أن الذي أتى بهذا الولد هو الولي الفلاني، والصالح الفلاني، ونحو ذلك، فهذا شرك أكبر؛ لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله.
ومن هذا أيضا ما يوجد عند بعض الأمم الإسلامية الآن; فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني، كما يزعمون أنه ولي الله -والله أعلم بولايته-، فتقول: يا سيدي فلان! ارزقني ولدا.


الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم، وإلى القوابل وما أشبه ذلك، فيقولون مثلا: سلم هذا الولد من الطلق; لأن القابلة امرأة متقنة جيدة; فهنا أضاف النعمة إلى غير الله، وهذا نوع من الشرك، ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر; لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب، وهو الله عز وجل.


الوجه الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية، بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالما بفضل الله ورحمته، ولكن يشرك من ناحية العبودية; فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15]؛


ج / 2 ص -304-


فكيف تجعل هذا الولد ندا لله في المحبة، وربما قدمت محبته على محبة الله، والله هو المتفضل عليك به؟!
وفي قوله: "فلما آتاهما" نقد لاذع؛ أن يجعلا في هذا الولد شريكا مع الله، مع أن الله هو المتفضل به، ثم قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] أي: ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها.
ومن تأمل الآية وجدها دالة على أن قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: من جنس واحد، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه، ويكون السياق فيها جاريا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن; كقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: من الآية164] أي: من جنسهم، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة.


أما على القول الثاني بأن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدم {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: من الآية189] حواء، فيكون معنى الآية خلقكم من آدم وحواء. فلما جامع آدم حواء حملت حملا خفيفا، فمرت به، فلما أثقلت دعوا -أي آدم وحواء- الله ربهما: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: من الآية189، 190] فأشرك آدم وحواء بالله، لكن قالوا: إنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة، {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وسنبين -إن شاء الله تعالى- وجه ضعفه وبطلانه.


وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى: {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: آدم وحواء، {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} انتقل من العين إلى النوع; أي: من آدم إلى النوع الذي هم بنوه، أي: فلما تغشى الإنسان الذي تسلسل من آدم وحواء


ج / 2 ص -305- قال ابن حزم: " اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ; كعبد عمرو، وعبد الكعبة وما أشبه ذلك،...


زوجته... إلى آخره، ولهذا قال تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: من الآية190] بالجمع ولم يقل عما يشركان، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: من الآية5] أي: جعلنا الشهب الخارجة منها رجوما للشياطين، وليست المصابيح نفسها، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون:12، 13] أي: جعلناه بالنوع، وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء، ثم صار الكلام من العين إلى النوع.
وهذا التفسير له وجه، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر.


وأما قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فجمع لأن المراد بالمثنى اثنان من هذا الجنس، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعا; كما في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات: من الآية9]، ولم يقل: اقتتلتا; لأن الطائفتين جماعة.
قوله: "اتفقوا": أي: أجمعوا، والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي تثبت بها الأحكام، والأدلة هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
قوله: "وما أشبه ذلك": مثل: عبد الحسين، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي.


وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم..."1


1 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب الحراسة في الغزو), (2/327); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -306- حاشا عبد المطلب".


الحديث; فهذا وصف وليس علما، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء، المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها، كقولك: عابد الدينار; فهو وصف، فلا يعارض الإجماع.
قوله: "حاشا عبد المطلب": حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها، وإلا جاز فيه النصب والجر.
وبالنسبة لعبد المطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه; فهو مختلف فيه، فقال بعض أهل العلم: لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول صلى الله عليه وسلم قال:

أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب1
فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل حراما; فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ، وهذا تقرير ابن حزم رحمه الله، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب; فلا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب"2 فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن له جدا اسمه عبد المطلب، ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه سمى عبد المطلب، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك، ولا أنه أقر أحدا على تسميته عبد المطلب، والكلام في الحكم لا في الإخبار، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنما بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد"3، ولا يجوز التسمي بعبد مناف.


وقد قال العلماء: إن حاكي الكفر ليس بكافر; فالرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم


1 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب من قاد دابة غيره في الجهاد, 2/ 322); من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
2 البخاري: المغازي (4316), ومسلم: الجهاد والسير (1776), والترمذي: الجهاد (1688), وأحمد (4/280 ,4/281 ,4/289 ,4/304).
3 أخرجه: البخاري في (الخمس, باب ومن الدليل على أن الخمس للإمام, 2/ 400); عن جبير بن مطعم رضي الله عنه.



ج / 2 ص -307- وعن ابن عباس في الآية; قال: "لما تغشاها آدم; حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أَيْلٍ، فيخرج من بطنك، فيشقه، ولأفعلن; يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا.
ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث; فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1") رواه ابن أبي حاتم2.

ـ
عن شيء قد وقع وانتهى ومضى; فالصواب أنه لا يجوز أن يعبد لغير الله مطلقا، لا بعبد المطلب ولا غيره، وعليه; فيكون التعبيد لغير الله من الشرك.
قوله: "إبليس": على وزن إفعيل، فقيل: من أبلس إذا يئس; لأنه يئس من رحمة الله تعالى.
قوله: "لتطيعاني": جملة قسمية; أي: والله لتطيعاني.
قوله: "أيل": هو ذكر الأوعال.
قوله: "سمياه عبد الحارث": اختار هذا الاسم; لأنه اسمه، فأراد أن يعبداه لنفسه.
قوله: "فخرج ميتا": لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة: "ولأفعلن"، أو لأنه قال: "ولأخرجنه ميتا".


1 سورة الأعراف آية: 190.
2 أخرجه: ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 275), وسعيد بن منصور (2/ 1387).


ج / 2 ص -308- وله بسند صحيح عن قتادة; قال: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته".
وله بسند صحيح عن مجاهد، في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً}1 قال: "أشفقا أن لا يكون إنسانا".
وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما2.


قوله: "شركاء في طاعته" أي: أطاعاه فيما أمرهما به، لا في العبادة، لكن عبدا الولد لغير الله، وفرق بين الطاعة والعبادة، فلو أن أحدا أطاع شخصا في معصية الله لم يجعله شريكا مع الله في العبادة، لكن أطاعه في معصية الله.
قوله: "أشفقا أن لا يكون إنسانا": أي: خاف آدم وحواء أن يكون حيوانا أو جنيا أو غير ذلك.


قوله: "وذكر معناه عن الحسن": لكن الصحيح أن الحسن -رحمه الله- قال: إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في "تفسيره" وقال: "أما نحن; فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته3" ا ه.


وهذه القصة باطلة من وجوه:
الوجه الأول: أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة: إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة.


1 سورة الأعراف آية: 189.
2 انظر: "تفسير ابن جرير" (9/98, 99), و"تفسير ابن كثير" (2/ 275).
3 (3/530).


ج / 2 ص -309-


الوجه الثاني: أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء; لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه، فإن قلنا: ماتا عليه; كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة:

إذا ما ذكرنا آدما وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية، وإن كان تابا من الشرك; فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا، ولم يذكر توبتهما، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها، كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه، وتابا من ذلك.
الوجه الثالث: أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء.


الوجه الرابع: أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة، فيعتذر بأكله من الشجرة وهو معصية1، ولو وقع منه الشرك; لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى.
الوجه الخامس: أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال: "أنا صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة"، وهذا لا يقوله من يريد الإغواء، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله، فإذا قال: "أنا صاحبكما الذي



1 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب قول الله تعالى: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا, (3/250), ومسلم في (الإيمان, باب أدنى أهل الجنة منزلة), (1/184); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -310- فيه مسائل:
الأولى:
تحريم كل اسم معبد لغير الله.


أخرجكما من الجنة"، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما، فلا يقبلان منه صرفا ولا عدلا.
الوجه السادس: أن في قوله في هذه القصة: "لأجعلن له قرني أيل": إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه; فهذا شرك في الربوبية؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله، أو لا يصدقا; فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه.
الوجه السابع: قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}1 بضمير الجمع، ولو كان آدم وحواء; لقال: عما يشركان.
فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال، والأنبياء منزهون عن الشرك، مبرءون منه باتفاق أهل العلم، وعلى هذا; فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذين أشركوا شركا حقيقيا، فإن منهم مشركا، ومنهم موحدا.

فيه مسائل:

الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله تؤخذ من الإجماع على ذلك، والإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين، والصحيح أنه ممكن، وأنه حجة إذا حصل; لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}2 و(إن) هذه شرطية، لا تدل



1 سورة الأعراف آية: 190.
2 سورة النساء آية: 59.


ج / 2 ص -311- الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.


على وقوع التنازع، بل إن فرض ووقع; فالمرد إلى الله ورسوله، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة. لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية; الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح; إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة، ولما قيل للإمام أحمد: إن فلانا يقول: أجمعوا على كذا; أنكر ذلك وقال: وما يدريه لعلهم اختلفوا، فمن ادعى الإجماع، فهو كاذب. ولعل الإمام أحمد قال ذلك; لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع، فيقولون: هذا إجماع المحققين، وما أشبه ذلك.


وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب، وأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أنا ابن عبد المطلب"1 أنه من قبيل الإخبار، وليس إقرارا ولا إنشاء، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبدا لغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا بني عبد مناف"2 وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار.


الثانية: تفسير الآية: يعني قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً}3 الآية، وسبق تفسيرها.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها: وهذا بناء على ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية،



1 سبق (ص 306).
2 حديث أبي هريرة رضي الله عنه, وفيه: "... يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار..." الحديث. أخرجه: البخاري في (الوصايا , باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب), (2/291), ومسلم في (الإيمان, باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين, (1/192).
3 سورة الأعراف آية: 190.



ج / 2 ص -312- الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.


والصواب: أن هذا الشرك حق حقيقة، وأنه شرك من إشراك بني آدم، لا من آدم وحواء، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ}1 فهذا الشرك الحقيقي الواقع من بني آدم.


الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: (صالحا) أي: بشرا سويا، وأتى المؤلف بالبنت دون الولد; لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم، قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}2 وإلا; فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضا، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثى، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها.


الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة: وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة; فالطاعة إذا كانت منسوبة لله; فلا فرق بينها وبين العبادة، فإن عبادة الله طاعته.
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله; فإنها غير العبادة، فنحن نطيع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن لا نعبده، والإنسان قد يطيع ملكا من ملوك الدنيا وهو يكرهه. فالشرك بالطاعة: أنني أطعته لا حبا وتعظيما وذلا كما أحب الله وأتذلل له وأعظمه، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط، هذا هو الفرق. وبناء على القصة; فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة.



1 سورة الأعراف آية: 191.
2 سورة آية: 58-59.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 12:10PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}

ج / 2 ص -313- باب: قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 الآية.



هذا الباب يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات;
لأن هذا الكتاب جامع لأنواع التوحيد الثلاثة: توحيد العبادة، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد الأسماء والصفات هو إفراد الله عز وجل بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة، بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل؛ لأنك إذا عطلت لم تثبت، وإن مثلت لم توحد، والتوحيد مركب من إثبات ونفي; أي: إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه، فمثلا إذا قلت: زيد قائم; لم توحده بالقيام; وإذا قلت: زيد غير قائم; لم تثبت له القيام، وإذا قلت: لا قائم إلا زيد; وحدته بالقيام وإذا قلت: لا إله إلا الله; وحدته بالألوهية، وإذا أثبت لله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد; فهذا هو توحيد الأسماء والصفات، وإن نفيتها عنه; فهذا تعطيل، وإن مثلت; فهذا إشراك.
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} طريق التوحيد هنا تقديم الخبر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر; ففي الآية توحيد الأسماء لله.
وقوله: (الحسنى): مؤنث أحسن; فهي اسم تفضيل، ومعنى الحسنى; أي: البالغة في الحسن أكمله; لأن اسم التفضيل يدل على هذا،



1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -314-


والتفضيل هنا مطلق;
لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقا مثل: زيد الأفضل، وقد يكون مقيدا مثل: زيد أفضل من عمرو. وهنا التفضيل مطلق; لأنه قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}1 فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه، ليس فيها نقص لا فرضا ولا احتمالا. وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمى به الله; لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد، مع أن الشيء لا يتضمن مدحا، والمتكلم والمريد يتضمنان مدحا من وجه، وغير مدح من وجه،
ولا يسمى الله بذلك;
فلا يسمى بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد، لكن يخبر بذلك عنه.


وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى:
الأول: هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف؟
الثاني: هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
الثالث: هل أسماء الله هي الله أو غيره؟
الرابع: أسماء الله توقيفية.
الخامس: أسماء الله غير محصورة بعدد معين.
السادس: أسماء الله إذا كانت متعدية; فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحيانا بالأثر، وإن كانت غير متعدية; فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة.


السابع: إحصاء أسماء الله معناه:
1- الإحاطة بها لفظا ومعنى.
2- دعاء الله بها; لقوله تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} وذلك بأن تجعلها



1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -315-
وسيلة لك عند الدعاء، فتقول: يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! وما أشبه ذلك.
3- أن تتعبد لله بمقتضاها، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته، وإذا علمت أنه غفور؛ تتعرض لمغفرته، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه، وإذا علمت أنه بصير اجتنبت الفعل الذي لا يرضاه.


قوله: (فادعوه بها): الدعاء هو السؤال، والدعاء قد يكون بلسان المقال، مثل: اللهم! اغفر لي يا غفور وهكذا، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له، ولهذا قال العلماء: إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة; لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه. والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها; لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها. وهذا خلافا لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر: إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه، ولا حاجة إليه.


أيريدون أن يعبدوا شيئا لا أسماء له ولا صفات؟! أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم؟! وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس: لا تبحثوا في الأسماء والصفات، مع أن الله أمرنا بدعائه بها. والأمر للوجوب، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله، ومعلوم أيضا أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني، بل لا بد أن لها معان، فلا بد أن نبحث فيها; لأن علمها ألفاظا مجردة لا فائدة فيه، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ; فإنه لا يحصل به كمال الفائدة.

واعلم أن دعاء الله بأسمائه له معنيان:
الأول: دعاء العبادة، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء،


ج / 2 ص -316-
ويطلق على الدعاء عبادة، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}1 ولم يقل: عن دعائي; فدل على أن الدعاء عبادة.
فمثلا: الرحيم يدل على الرحمة، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها. والغفور يدل على المغفرة، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله عز وجل بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك. والقريب: يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. والسميع: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى السمع، بحيث لا تسمع الله قولا يغضبه ولا يرضاه منك. والبصير: يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلا يكرهه منك.


الثاني: دعاء المسألة، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلا بها إلى الله تعالى.
مثلا: يا حي! يا قيوم! اغفر لي وارحمني، وقال صلى الله عليه وسلم "فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم"2 والإنسان إذا دعا وعلل; فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالبا أن يكون سببا للإجابة، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة; فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة.


قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ}3 (ذروا): اتركوا، (الذين): مفعول به، وجملة يلحدون صلة الموصول. ثم توعدهم


1 سورة غافر آية: 60.
2 أخرجه: البخاري, في (الأذان, باب الدعاء قبل السلام), (1/268), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب استحباب خفض الصوت بالذكر), (4/2078); من حديث أبي بكر رضي الله.
3 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -317-

بقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1 وهو الإلحاد; أي: سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماما، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله.
والمعنى: ذروهم; أي: لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم؛ فإنهم على ضلال وعدوان، وليس المعنى عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم; إذ لا يترك الظالم على ظلمه، ويحتمل أن المراد بقوله: (ذروا) تهديدا للملحدين.
والإلحاد: مأخوذ من اللحد، وهو الميل، لحد وألحد بمعنى مال، ومنه سمي الحفر بالقبر لحدا; لأنه مائل إلى جهة القبلة.


والإلحاد في أسماء الله الميل بها عما يجب فيها، وهو أنواع:
الأول: أن ينكر شيئا من الأسماء، أو مما دلت عليه من الصفات، أو الأحكام، ووجه كونه إلحادا أنه مال بها عما يجب لها; إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام.


الثاني: أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه; كقول الفلاسفة في الله: إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل، وهذا الكون معلول لها، وليس هناك إله. وبعضهم يسميه العقل الفعال; فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال، وكذلك النصارى يسمون الله أبا وهذا إلحاد.

الثالث: أن يجعلها دالة على التشبيه; فيقول: الله سميع بصير قدير، والإنسان سميع بصير قدير، اتفقت هذه الأسماء; فيلزم أن تتفق المسميات، ويكون الله -سبحانه وتعالى- مماثلا للخلق، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات.


ووجه الإلحاد: أن أسماءه دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق.


1 سورة الأعراف آية: 180.


ج / 2 ص -318-


الرابع: أن يشتق من هذه الأسماء أسماء للأصنام; كتسمية اللات من الإله أو من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، حتى يلقوا عليها شيئا من الألوهية؛ ليبرروا ما هم عليه.
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه; لوجوه ثلاثة:
1. أنه هو الذي نفاه الله في القرآن; فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}1.


2. أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه، واشتراك في المعنى من بعض الوجوه.
فمثلا: الخالق والمخلوق اشتركا في معنى الوجود، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل المعنى، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به.
3. أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيها، فيكون معنى بلا تشبيه; أي: بلا إثبات صفات على اصطلاحهم.
قوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}2 لم يقل سيجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، وهذا وعيد، وهو كقوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ}3 وليس المعنى أن الله عز وجل مشغول الآن، وسيخلفه الفراغ فيما بعد.


قوله: (يعملون): العمل يطلق على القول والفعل،قال تعالى:

1 سورة الشورى آية: 11.
2 سورة الأعراف آية: 180.
3 سورة الرحمن آية: 31.


ج / 2 ص -319- ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 "يشركون".
وعنه: " سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز"2.


{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُوَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}3 وهذا يكون في الأفعال والأقوال.
قول ابن عباس: "يشركون".


تفسير للإلحاد، ويتضمن الإشراك بها من جهتين:
1. أن يجعلوها دالة على المماثلة.
2. أو يشتقوا منها أسماء للأصنام; كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف، فمن جعلها دالة على المماثلة; فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلا، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه; فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله عز وجل.
وقوله: "وعنه": أي: ابن عباس.


قوله: "سموا اللات من الإله...": وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام.
تنبيه:
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي: (وعزالي); فما هو المقصود بها؟


1 سورة الأعراف آية: 180.
2 أخرجه: ابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" (3/ 149).
3 سورة آية: 7-8.


ج / 2 ص -320- وعن الأعمش: " يدخلون فيها ما ليس منها".


الجواب: المقصود أنها من التعزية; أي: أنها تطلب الصبر والتقوية، وليست تندب العزى التي هي الصنم; لأنها قد لا تعرف أن هناك صنما اسمه العزى، ولا يخطر ببالها هذا، وبعض الناس قال: يجب إنكارها، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى، وهذا شرك، ولكن نقول: لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار، لكنا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر، والثبات على هذه المصيبة.


قوله: "عن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها": هذا أحد أنواع الإلحاد، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، ومن زاد فيها فقد ألحد; لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع.


تتمة:
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}1 فقوله: {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} فيه تهديد; لأن المعنى سنعاقبهم، والجملة مؤكدة بإن.


* وآيات الله تنقسم إلى قسمين:
1. آيات كونية، وهي كل المخلوقات؛ من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك، قال الشاعر:

فواعجبا كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد


والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع:

1 سورة فصلت آية: 40.


ج / 2 ص -321-


1. اعتقاد أن أحدا سوى الله منفرد بها أو ببعضها.
2. اعتقاد أن أحدا مشارك لله فيها.
3. اعتقاد أن لله فيها معينا في إيجادها وخلقها وتدبيرها.
والدليل قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}1 ظهير; أي: معين.

وكل ما يخل بتوحيد الربوبية; فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية.
2. آيات شرعية، وهي ما جاءت به الرسل من الوحي كالقرآن، قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ}2.


والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع:
1. تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار.
2. مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام.
3. التحريف في الأخبار والأحكام.
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام.
ومنه ما يكون كفرا; كتكذيبها، فمن كذب شيئا مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به; فهو كافر.
ومنه ما يكون معصية من الكبائر; كقتل النفس والزنا.


ومنه ما يكون معصية من الصغائر; كالنظر لأجنبية لشهوة.
قال الله تعالى في الحرم: {يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}3 فسمى الله المعاصي والظلم إلحادا; لأنها ميل



1 سورة سبأ آية: 22.
2 سورة العنكبوت آية: 49.
3 سورة الحج آية: 25.


ج / 2 ص -322- فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.

عما يجب أن يكون عليه الإنسان; إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى، ومن خالف; فقد ألحد.


فيه مسائل:

الأولى:
إثبات الأسماء: يعني لله تعالى، وتؤخذ من قوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ} وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء.
وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى.
الثانية: كونها حسنى: أي: بلغت في الحسن أكمله; لأن "حسنى" مؤنث أحسن، وهي اسم تفضيل.
الثالثة: الأمر بدعائه بها: والدعاء نوعان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة، وكلاهما مأمور فيه أن يدعى الله بهذه الأسماء الحسنى، وسبق تفصيل ذلك1.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين: أي: ترك


1 انظر: (ص 315).


ج / 2 ص -323- الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.


سبيلهم، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم، والآية تتضمن أيضا التهديد.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها: وقد سبق بيان أنواعه.
السادسة: وعيد من ألحد وتؤخذ من قوله تعالى: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.


1 سورة الأعراف آية: 180.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 12:26PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لايقال: السلام علي الله

ج / 2 ص -324- باب: لايقال: السلام علي الله

هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي، وهو محتمل للكراهة والتحريم، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك.


والسلام له عدة معان:
1. التحية; كما يقال: سلم على فلان; أي: حياه بالسلام.
2. السلامة من النقص والآفات; كقولنا: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته".
3. السلام: اسم من أسماء الله تعالى، قال تعالى: {الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ}1.
قوله: "لا يقال السلام على الله": أي: لا تقل: السلام عليك يا رب; لما يلي:
أ. أن مثل هذا الدعاء يوهم النقص في حقه، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك; إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلا أن يتصف به، والله -سبحانه- منزه عن صفات النقص.


ب. إذا دعوت الله أن يسلم نفسه; فقد خالفت الحقيقة; لأن الله يدعى ولا يدعى له، فهو غني عنا، لكن يثنى عليه بصفات الكمال مثل غفور، سميع، عليم...

1 سورة الحشر آية: 23.

ج / 2 ص -325-


ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة;
لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسماءه حسنى، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}1 وقوله تعالى: {لَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ(}2 والمثل الأعلى: الوصف الأكمل، فإذا قلنا: السلام على الله أوهم ذلك أن الله -سبحانه- قد يلحقه النقص، وهذا ينافي كمال صفاته.


ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة;
لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله، المتضمنة لصفاته، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص، وهذا يتضمن كمالها; إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها، فإنك لو قلت: زيد فاضل أثبت له الفضل، وجاز أن يلحقه نقص، وإذا قلت: زيد فاضل ولم يسلك شيئا من طرق السفول; فالآن أثبت له الفضل المطلق في هذه الصفة. والرب -سبحانه وتعالى- يتصف بصفات الكمال، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص.


والسلام اسم ثبوتي سلبي. فسلبي: أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه. وثبوتي: أي يراد به ثبوت هذا الاسم له، والصفة التي تضمنها وهي السلامة.



1 سورة النحل آية: 60.
2 سورة الروم آية: 27.

ج / 2 ص -326- في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة; قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان......


قوله: "في الصحيح": هذا أعم من أن يكون ثابتا في "الصحيحين"، أو أحدهما، أو غيرهما، وانظر: باب تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله (1/157)، وهذا الحديث المذكور في "الصحيحين".
قوله: "كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة": الغالب أن المعية مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لا تكون إلا في الفرائض; لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة; كالاستسقاء.


قوله: "قلنا: السلام على الله من عباده": أي: يطلبون السلامة لله من الآفات، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات، أو أن اسم السلام على الله من عباده; لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعنى الدعاء،

وله معنيان:
1. اسم السلام عليك; أي: عليك بركاته باسمه.
2. السلامة من الله عليك; فهو سلام بمعنى تسليم، ككلام بمعنى تكليم.
قوله: "السلام على فلان وفلان": أي: جبريل وميكائيل، وكلمة فلان يكنى بها عن الشخص، وهي مصروفة; لأنها ليست علما ولا صفة; كصفوان في قوله تعالى: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ}1 وقد جاء في



1 سورة البقرة آية: 264.

ج / 2 ص -327- فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا: السلام على الله ; فإن الله هو السلام"1.


فيه مسائل:

الأولى: تفسير السلام.
ـــــ
لفظ آخر: "السلام على جبريل وميكال"2، كانوا يقولون هكذا في السلام.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقولوا: السلام على الله; فإن الله هو السلام"3 وهذا نهي تحريم، والسلام لا يحتاج إلى سلام، هو نفسه عز وجل سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب.


وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت: "عليه السلام"4.

فيه مسائل:

الأولى:
تفسير السلام: فبالنسبة لكونه اسما من أسماء الله معناه السالم من كل نقص وعيب، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان:


1 أخرجه: البخاري في (الأذان, باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد, 1/269). وأخرجه أيضا; في (الأذان, باب التشهد في الآخرة, 1/268), ومسلم في (الصلاة, باب التشهد في الصلاة بلفظ: "إن الله هو السلام, فإذا صلى أحدكم; فليقل: التحيات لله...", 1/301).


2 أخرجه: البخاري في (الأذان, باب التشهد في الآخرة, 1/268).
3 البخاري: الأذان (835), ومسلم: الصلاة (402), والنسائي: التطبيق (1168, 1169) والسهو (1298), وأبو داود: الصلاة (968), وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899), وأحمد (1/431 ,1/464) , والدارمي: الصلاة (1340).


4 حديث عائشة رضي الله عنها; قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل يقرأ عليك السلام. قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته. أخرجه: البخاري في (بدء الخلق, باب ذكر الملائكة, 11/33), ومسلم في (الاستئذان باب تسليم الرجال على النساء, 4/1895).

ج / 2 ص -328- الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله

الأول: تقدير مضاف; أي: اسم السلام عليك; أي: اسم الله الذي هو السلام عليك.
الثاني: أن السلام بمعنى التسليم اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، أي: تخبر خبرا يراد به الدعاء; أي: أسأل الله أن يسلمك تسليما.
الثانية: أنه تحية: وسبق ذلك.
الثالثة: أنها لا تصلح لله: وإذا كانت لا تصلح له كانت حراما.
الرابعة: العلة في ذلك: وهي أن الله هو السلام، وقد سبق بيانها.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله: وتؤخذ من تكملة الحديث: "فإذا صلى أحدكم، فليقل: التحيات لله...".


وفيه حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم من وجهين:
الأول: أنه حينما نهاهم علل النهي.

وفي ذلك فوائد:
1. طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة.
2. بيان سمو الشريعة الإسلامية، وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة; لأن العلة حكمة

ج / 2 ص -329-
ـ
3. القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة.
الثاني: أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم; فيؤخذ منه أن المتكلم إذا ذكر ما ينهى عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها.


ويستفاد من الحديث:
أنه لا يجوز الإقرار على المحرم ; لقوله: "لا تقولوا: السلام على الله"، وهذا واجب على كل مسلم، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية؛ لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز، ويرون أنه جائز، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}1.


1 سورة آل عمران آية: 187.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 12:36PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت

ج / 2 ص -330- باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت

في الصحيح عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:.....


قوله: "باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت": عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله، وذلك من صفات الكمال.
قوله: "اللهم!"; معناه: يا الله! لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا النداء، وعوض عنها الميم، وجعل العوض في الآخر تيمنا بالابتداء بذكر الله.
قوله: "اغفر لي": المغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه; لأنها مشتقة من المغفر، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق، ويدل له قول الله عز وجل للعبد المؤمن حينما يخلو به، ويقرره بذنوبه يوم القيامة: "قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم"1
قوله: "إن شئت": أي: إن شئت أن تغفر لي فاغفر، وإن شئت فلا تغفر.


قوله: "في الصحيح": سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، والمراد هنا الحديث الصحيح; لأن الحديث في "الصحيحين" كليهما.


1 أخرجه البخاري في (التفسير, باب وكان عرشه على الماء, 4680), ومسلم في (التوبة, باب توبة القاتل, 2768); عن ابن عمر رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -331- "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة; فإن الله لا مكره له"1.

ــــ
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم": لا: ناهية بدليل جزم الفعل بعدها.
قوله: "اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني": ففي الجملة الأولى: "اغفر لي" النجاة من المكروه، وفي الثانية: "ارحمني" الوصول إلى المطلوب; فيكون هذا الدعاء شاملا لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه.
قوله: "ليعزم المسألة": اللام لام الأمر، ومعنى عزم المسألة: أن لا يكون في تردد، بل يعزم بدون تردد ولا تعليق.


و"المسألة": السؤال; أي: ليعزم في سؤاله فلا يكون مترددا بقوله: إن شئت.
قوله: "فإن الله لا مكره له": تعليل للنهي عن قول: "اللهم! اغفر لي إن شئت، اللهم! ارحمني إن شئت"; أي: لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله; لأن الأمر كله لله وحده.


والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة:
الأول: أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول: أنا لا أكرهك، إن شئت فاغفر، وإن شئت فلا تغفر.
الثاني: أن قول القائل: "إن شئت" كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله، فقد لا يشاؤه لكونه عظيما عنده، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس -والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة-: أعطني مليون



1 أخرجه: البخاري في (الدعوات, باب ليعزم المسألة, 4/ 160), ومسلم في (الذكر والدعاء, باب العزم بالدعاء, 4/ 2063).


ج / 2 ص -332- ولمسلم: "وليعظم الرغبة; فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"1.

ــ
ريال إن شئت، فإنك إذا قلت له ذلك; ربما يكون الشيء عظيما يتثاقله، فقولك: إن شئت; لأجل أن تهون عليه المسألة; فالله عز وجل لا يحتاج أن تقول له: إن شئت; لأنه -سبحانه وتعالى- لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "وليعظم الرغبة; فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".


"وليعظم الرغبة"; أي: ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل: هذا كثير لا أسأل الله إياه، ولهذا قال: "فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"; أي: لا يكون الشيء عظيما عنده حتى يمنعه ويبخل به - سبحانه وتعالى- كل شيء يعطيه، فإنه ليس عظيما عنده; فالله عز وجل يبعث الخلق بكلمة واحدة، وهذا أمر عظيم، لكنه يسير عليه، قال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}2 وليس بعظيم; فكل ما يعطيه الله عز وجل لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه; أي: لا يكون الشيء عظيما عنده حتى لا يعطيه، بل كل شيء عنده هين.


الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله، كأنه يقول: إن شئت فافعل، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني، ولهذا قال: "وليعظم الرغبة"; أي: يسأل برغبة عظيمة، والتعليق ينافي ذلك; لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بأنه مستغن عنه، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الافتقار، وأن الله قادر على أن يعطيه ما سأل، وأن الله ليس يعظم عليه شيء، بل هو هين عليه، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة، بل يجزم فيقول: اللهم! اغفر لي،



1 انظر الموضع السابق (ص 331).
2 سورة التغابن آية: 7.


ج / 2 ص -333-


اللهم! ارحمني، اللهم! وفقني، وما أشبه ذلك، وهل يجزم بالإجابة؟
الجواب: إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله; فهذا يجب أن تجزم بأن الله قادر على ذلك، قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}1. أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع، أو عدم توافر الأسباب; فإنك قد تتردد في الإجابة، ومع ذلك ينبغي أن لحسن الظن بالله; لأن الله عز وجل قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}2 فالذي وفقك لدعائه أولا سيمن عليك بالإجابة آخرا، لا سيما إذا أتى الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم.


ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعا أو قدرا; فشرعا كأن يقول: اللهم! اجعلني نبيا. وقدرا بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين، وهذا أمر لا يمكن; فالاعتداء بالدعاء مانع من إجابته، وهو محرم، لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}3 وهو أشبه ما يكون بالاستهزاء بالله -سبحانه-.


مناسبة الباب للتوحيد

من وجهين:
1. من جهة الربوبية، فإن من أتى بما يشعر بأن الله له مكره لم يقم بتمام ربوبيته تعالى; لأن من تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل إنه لا يسأل عما يفعل; كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}4 وكذلك فيه نقص من ناحية الربوبية من جهة أخرى، وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها; فكان فيه قدح في جوده وكرمه.
2. من ناحية العبد; فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في



1 سورة غافر آية: 60.
2 سورة غافر آية: 60.
3 سورة الأعراف آية: 55.
4 سورة الأنبياء آية: 23.


ج / 2 ص -334-


توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في الباب الذي يتعلق بالأسماء والصفات.


فإن قلت: ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: "اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم; فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري; فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري; فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به"1 وكذا ما ورد في الحديث المشهور: "اللهم! أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي"2 ؟


فالجواب: أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت: فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا خير لي أو شر، والله يعلم; فأقول: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فاقدره لي; فالتعليق فيه لأمر مجهول عندي، لا أعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر; لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أو شر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص: أطال الله بقاءك; لأن طول البقاء لا يعلم; فقد يكون خيرا، وقد يكون شرا، ولكن يقال: أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرا بكل حال، وعلى هذا; فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث: "اللهم! أحيني ما كانت



1 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب قول الله تعالى: قل هو القادر , 4/382); من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2 أخرجه: البخاري في (المرضى, باب تمني المريض الموت, 4/30); من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.



ج / 2 ص -335- فيه مسائل:
الأولى:
النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.

ــ
الحياة خيرا لي"؛ لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقا بالمشيئة، والنهي إنما هو عما كان معلقا بالمشيئة. لكن لو قال: اللهم! اغفر لي إن أردت، وليس إن شئت; فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعنى المشيئة; فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرا بالحكم.


فيه مسائل:

الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء: والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمى استثناء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير: "حجي واشترطي; فإن لك على ربك ما استثنيت"1 ووجهه أنك إذا قلت: أكرم زيدا إن أكرمك; فهو كقولك: أكرم زيدا إلا ألا يكرمك; فهو بمعنى الاستثناء في الحقيقة.

الثانية: بيان العلة في ذلك:

وقد سبق أنها ثلاث علل:
1. أنها تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك.

1 أخرجه البخاري في (النكاح, باب الأكفاء في الدين, 3/360), ومسلم في (الحج, باب جواز اشتراط المحرم, 2/868). وقوله صلى الله عليه وسلم: فإن لك على ربك ما استثنيت, أخرجه: النسائي في (المناسك, باب كيف يقول إذا اشترط, 5/168), والدارمي (2/ 34- 35), وأبو نعيم (9/224). وهو صحيح كما في "الإرواء" (4/186).


ج / 2 ص -336- الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة).
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.

ـ
2. أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله، قد يثقل عليه، ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك.
3. أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله، وهذا غير لائق، وليس من الأدب.
الثالثة: قوله: "ليعزم المسألة": تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تتردد.
الرابعة: إعظام الرغبة: لقوله صلى الله عليه وسلم: "وليعظم الرغبة" أي: ليسأل ما بدا له، فلا شيء عزيز أو ممتنع على الله.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر: يستفاد من قوله: "فإن الله لا يتعاظمه شيء، أو لا مكره له"1 وقوله: "وليعظم الرغبة"، وفي هذا حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا قرنه بعلته.


وفي ذكر علة الحكم فوائد:
الأولى: بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شيء تحكم به إلا وله علة وحكمة.
الثانية: زيادة طمأنينة الإنسان; لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال: "أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم فنهى عنه"2.



1 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
2 أخرجه: الإمام أحمد (1/ 175, 176), وأبو داود في (البيوع, باب في التمر بالتمر, 3/654- 657), والترمذي في (البيوع, باب في النهي عن المحاقلة, 4/221)- وقال: "حسن صحيح"-, والنسائي في (البيوع, باب اشتراء التمر بالرطب, 7/269), وابن ماجه في (التجارات, باب بيع الرطب بالتمر, 2/761), ومالك في "الموطأ" في (البيوع, باب ما يكره من بيع التمر, 2/624), والشافعي في "الرسالة" (907), وكذا أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/38) وصححه من حديث سعد بن أبي وقاص.


ج / 2 ص -337-


"والرجل الذي قال: إن امرأتي ولدت غلاما أسود -لم يقل صلى الله عليه وسلم الولد لك-، بل قال: "هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر قال: هل فيها من أورق"1 -الأورق: الأشهب الذي بين البياض والسواد-؟ "قال: نعم. قال: من أين؟ قال: لعله نزعة عرق، قال: لعل ابنك نزعه عرق"2 فاطمأن، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع; فقرن الحكم بالعلة يوجب الطمأنينة، ومحبة الشريعة، والرغبة فيها.


الثالثة: القياس، إذا كانت المسألة في حكم من الأحكام، فيلحق بها ما شاركها في العلة.



1 البخاري: الطلاق (5305), ومسلم: اللعان (1500), والترمذي: الولاء والهبة (2128), والنسائي: الطلاق (3478 ,3479) , وأبو داود: الطلاق (2260) , وابن ماجه: النكاح (2002) , وأحمد (2/233 ,2/239 ,2/279 ,2/409).
2 أخرجه: البخاري في (الطلاق, باب إذا عرض بنفي الولد, 3/413), ومسلم في (اللعان, 2/1137); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 12:46PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يقول: عبدي وأمتي

ج / 2 ص -338- باب: لا يقول: عبدي وأمتي


في الصحيح عن أبي هريرة; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،......

هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك، وسيأتي التفصيل فيه.
قوله: "في الصحيح": سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في "الصحيحين"; فيكون المراد بقوله "في الصحيح"; أي: في الحديث الصحيح، ولعله أراد "صحيح البخاري"; لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم; فيختلف عنه.
قوله صلى الله عليه وسلم "لا يقل": الجملة نهي. "عبدي"; أي: للغلام. و"أمتي"; أي: للجارية.


والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول: عبد فلان أو أمة فلان; فهذا جائز، قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}1 وقال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة"2.
1. الثاني: أن يضيفه إلى نفسه، وله صورتان:


1 سورة النور آية: 32.
2 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب ليس على المسلم في عبده صدقة, 1/ 454), ومسلم في (الزكاة, باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه, 2/ 675); من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -339-


الأولى: أن يكون بصيغة الخبر، مثل: أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة; فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة; فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا; فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك.
الثانية: أن يكون بصيغة النداء، فيقول السيد: يا عبدي! هات كذا; فهذا منهي عنه.


وقد اختلف العلماء في النهي: هل هو للكراهة أو التحريم; والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك... إلخ": أي: لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده، حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظما.
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب; مثل: أطعم ربك، وضئ ربك; فيكره ذلك للنهي عنه;

لأن فيه محذورين:

1. من جهة الصيغة: أنه يوهم معنى فاسدا بالنسبة لكلمة رب; لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو سبحانه يطعم ولا يطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الأدب في اللفظ.
2. من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل; لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد أو الأمة مربوبا.


القسم الثاني: أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب; فهذا لا بأس به;


ج / 2 ص -340-


كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة: "أن تلد الأمة ربها"1 وأما لفظ: "ربتها"2 فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث، فلا اشتراك مع الله في اللفظ; لأن الله لا يقال له إلا رب، وفي حديث الضالة -وهو متفق عليه-: "حتى يجدها ربها"3، وقال بعض أهل العلم: إن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل; فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق; لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ}4 وقال في الناس: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} ليس جميعهم: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}5 وعلى هذا; فيجوز أن تقول: أطعم الرقيق ربه، ونحوه...


القسم الثالث: أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بأن يقول العبد: هذا ربي; فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل: إن هذا جائز; لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}6 أي: سيدي، ولأن المحذور من قوله: (ربي) هو إذلال العبد، وهذا منتف; لأنه هو بنفسه يقول: هذا ربي.
القسم الرابع: أن يضاف إلى الاسم الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام; فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.



1 أخرجه البخاري في (الإيمان, باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم, 1/33), ومسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/39).
2 أخرجه البخاري في (التفسير, باب إن الله عنده علم الساعة , 3/275), ومسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/36).
3 أخرجه: البخاري في (المساقاة, باب شرب الناس والدواب من الأنهار, 2/167), ومسلم في (اللقطة, 3/1346); من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
4 سورة الحج آية: 18.
5 سورة الحج آية: 18.
6 سورة يوسف آية: 23.


ج / 2 ص -341- وليقل: سيدي ومولاي."1....


قوله: "وليقل: سيدي ومولاي": المتوقع أن يقول: وليقل سيدك ومولاك; لأن مقتضى الحال أن يرشد إلى ما يكون بدلا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، وليقل: "سيدي ومولاي"; ففهم المؤلف رحمه الله -كما سيأتي في المسائل- أن فيه إشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهي أن يقول للعبد: أطعم ربك; فالعبد من باب أولى أن ينهى عن قول: أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول: سيدي ومولاي.


وأما إذا قلنا بأن "أطعم ربك" خاص بمن يخاطب العبد؛ لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه: أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال; فإنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجه الخطاب لمن يخاطب العبد، وجه الخطاب إلى العبد نفسه، فقال: "وليقل: سيدي ومولاي"، أي بدلا عن قوله: أطعمت ربي، وضأت ربي.


قوله: "سيدي": السيادة في الأصل علو المنزلة; لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان، منها: المالك، والزوج، والشريف المطاع.
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم، وليست على وجه الإطلاق؛ فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: "السيد الله"2 وأما السيد مضافة; فإنها تكون لغير الله، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}



1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249).
2 أخرجه: أحمد (4/24, 35), والبخاري في "الأدب المفرد" (211), وأبو داود في (الأدب, باب في كراهة التمادح, 5/154), والنسائي في "عمل اليوم والليلة"; كما في "تحفة الأشراف" (4/360), وابن السني (389), والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 22); من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. وقال ابن مفلح في "الآداب" (3/464): "إسناده جيد", وقال الحافظ في "الفتح" (5/179): "رجاله ثقات", وقد صححه غير واحد, وصححه صاحب "عون المعبود" (4/402).
3 سورة يوسف آية: 25.


ج / 2 ص -342-


وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"1، والفقهاء يقولون: إذا قال السيد لعبده; أي: سيد العبد لعبده.
تنبيه: اشتهر عند بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلا: هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق; لأن السادة هم الرجال، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}2 وقال: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}3 وقال صلى الله عليه وسلم "إن النساء عوان عندكم"4 أي: بمنزلة الأسير، وقال في الرجل: "راع في أهله ومسئول عن رعيته"5، فالصواب أن يقال للواحدة امرأة، وللجماعة منهن نساء.


قوله: "ومولاي": أي: وليقل مولاي،

والولاية تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية مطلقة، وهذه لله عز وجل، لا تصلح لغيره; كالسيادة المطلقة.
وولاية الله نوعان:
النوع الأول: عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال الله تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ}6 فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة.



1 سبق (1/269).
2 سورة يوسف آية: 25.
3 سورة النساء آية: 34.
4 أخرجه: الإمام أحمد (5/72), والترمذي في (الرضاع, باب في حق المرأة على زوجها, 4/143, 144)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في (النكاح: باب حق المرأة على زوجها, 1/594), والنسائي في "الكبرى" في (كتاب عشرة النساء); من حديث عمرو بن الأحوص الجشمي رضي الله عنه.
5 أخرجه: البخاري في (الجمعة, باب الجمعة في القرى, 1/285), ومسلم في (الإمارة, باب فضيلة الإمام العادل, 3/1459); من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
6 سورة الأنعام آية: 62.


ج / 2 ص -343-


النوع الثاني: خاصة بالمؤمنين، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ}1 وهذه ولاية خاصة، ومقتضى السياق أن يقال: وليس مولى الكافرين، لكن قال: {لا مَوْلَى لَهُمْ} أي: لا هو مولى للكافرين، ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرءون منهم.


القسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة; فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها: الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}2 وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه: "من كنت مولاه; فعلي مولاه"3 وقال صلى الله عليه وسلم "إنما الولاء لمن أعتق"4 ويقال للسلطان ولي الأمر، وللعتيق مولى فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكا بقوله: مولاي; لأن المراد



1 سورة محمد آية: 11.
2 سورة التحريم آية: 4.
3 أخرجه: الإمام أحمد (1/ 84, 118, 119, 152), وابن حبان (ص 544); عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (5/368, 370), وابن ماجه في (المقدمة, فضل علي ابن أبي طالب, 1/43); عن البراء بن عازب. وفيه علي بن زيد, وهو ضعيف; كما في "الزوائد". وأخرجه: أحمد (4/638), والترمذي في "المناقب" (مناقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه, 9/300)- وقال: "حسن, صحيح, غريب"-, والنسائي في "الخصائص" (ص 21), والحاكم (3/110), والدولابي في "الكنى" (2/61); عن زيد بن أرقم. وأخرجه: أحمد (5/347), والنسائي في "الخصائص" (ص 21) ; عن بريدة. وانظر: "مجمع الزوائد (9/103). وإسناده صحيح. وانظر: "فيض القدير" (6/218).
4 أخرجه: البخاري في (المكاتب, باب استعانة المكاتب, 2/225), ومسلم في (العتق, باب إنما الولاء لمن أعتق, 2/1141); من حديث عائشة.


ج / 2 ص -344- ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي......


بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها; كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}1.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"2 هذا خطاب للسيد أن لا يقول: عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته; لأننا جميعا عباد الله، ونساؤنا إماء الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله"3 فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال: عبدي وأمتي فقد تشبه بالله عز وجل، ولو من حيث ظاهر اللفظ; لأن الله عز وجل يخاطب عباده بقوله: عبدي، كما في الحديث: "عبدي استطعمتك فلم تطعمني..."4 وما أشبه ذلك.


وإن كان السيد يريد بقوله: "عبدي"; أي: مملوكي; فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك.5
وقوله: "وأمتي": الأمة; الأنثى من المملوكات، وتسمى الجارية.
والعلة من النهي: أن فيه إشعارا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد، والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم، ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الأدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلا.



1 سورة النساء آية: 59.
2 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).
3 أخرجه: البخاري في (الجمعة, باب حدثنا عبد الله بن محمد, 1/286), ومسلم في (الصلاة, باب خروج النساء, 1/327); عن ابن عمر رضي الله عنهما.
4 أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب فضل عيادة المريض, 4/1990); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
5 انظر: (ص 338).


ج / 2 ص -345- وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي"1.


قوله: "وليقل: فتاي وفتاتي": مثله جاريتي وغلامي; فلا بأس به.


وفي هذا الحديث من الفوائد:
1- حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ حيث إنه إذا نهى عن شيء فتح للناس ما يباح لهم، فقال: "لا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي"2 وهذه كما هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم فهي طريقة القرآن أيضا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا}3، وهكذا ينبغي أيضا لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس بابا محرما، أن يفتحوا لهم الباب المباح، حتى لا يضيقوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم; لأن في ذلك

فائدتين عظيمتين:
الأولى: تسهيل ترك المحرم على هؤلاء; لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلا عنه هان عليهم تركه.
الثانية: بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس; فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن لا يتكلموا بشيء، أو لا يفعلوا شيئا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية.


2- أن الأمر يأتي للإباحة; لقوله: "وليقل: سيدي ومولاي"، وقد قال العلماء: إن الأمر إذا أتى في مقابلة شيء ممنوع صار للإباحة، وهنا جاء الأمر في مقابلة شيء ممنوع، ومثله قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}4.



1 أخرجه: البخاري في (العتق, باب كراهة التطاول على الرقيق, 2/221), ومسلم في (الأدب, باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة, 4/1765).
2 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316 ,2/423 ,2/444 ,2/463 ,2/484 ,2/491 ,2/496 ,2/508).
3 سورة البقرة آية: 104.
4 سورة المائدة آية: 2.



ج / 2 ص -346- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد، حتى في الألفاظ.


فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: "عبدي وأمتي": تؤخذ من قوله: "ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"1 وقد سبق بيان ذلك.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك: تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك.
الثالثة: تعليم الأول (وهو السيد) قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني (وهو العبد) قول: سيدي، ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ: وقد سبق ذلك.
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود.



1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 12:57PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يرد من سأل بالله

ج / 2 ص -347- باب: لا يرد من سأل بالله

ـ
قوله: "باب لا يرد": "لا": نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم.
قوله: "من سأل بالله": أي: من سأل غيره بالله.


والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول: أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك: "أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا"1.
الثاني: السؤال بشرع الله عز وجل أي: يسأل سؤالا يبيحه الشرع; كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك.
وحكم رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسئول والسائل،


وهنا عدة مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
وهذه المسألة لم يتطرق إليها المؤلف رحمه الله; فنقول
أولا: السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى



1 سبق (ص 289).


ج / 2 ص -348-

ــ
ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته; فلا، يقول لأحد: ناولنيه، بل ينزل ويأخذه1. والمعنى يقتضيه; لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد; لأن من أذل وجهه لأحد; فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه إذا سأله اضطر إلى أن يجيبه، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ازهد فيما عند الناس يحبك الناس"2 فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة. فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسأل من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة: "إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله"، ولكن فيما قالوه نظر; فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من السؤال، وقال: "إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه



1 أخرجه مسلم في (الزكاة, باب كراهة المسألة للناس, 2/721); عن عوف بن مالك رضي الله عنه.
2 أخرجه ابن ماجه في (الزهد, باب الزهد في الدنيا, 2/1374). وقال في "الزوائد": "في إسناده خالد بن عمرو وهو ضعيف متفق على ضعفه, واتهم بالوضع, وأورد له العقيلي هذا الحديث, وقال: ليس له أصل من حديث الثوري". وأخرجه: الحاكم (4/313). وقال: "صحيح الإسناد", ونازعه الذهبي; فقال: "خالد وضاع". وأخرجه: أبو نعيم في "الحلية" (3/253, 7/ 136), والعقيلي في "الضعفاء" 2/11), من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه. والحديث حسنه النووي في "الرياض" (473), وفي "الأربعين النووية" (حديث رقم 31). وصححه الألباني في "الصحيحة" (944), وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 157): "وقد حسن بعض مشايخنا إسناده, وفيه بعد; لأن من رواته خالد بن عمرو, وخالد هذا قد ترك واتهم". وضعفه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 272).




ج / 2 ص -349- عن ابن عمر رضي الله عنهما; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من سأل بالله، فأعطوه،....


مزعة لحم"1، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة.
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن; فهذه مكروهة، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
وأما إجابة السائل; فهو موضوع بابنا هذا، ولا يخلو السائل من أحد أمرين:
الأول: أن يسأل سؤالا مجردا; كأن يقول مثلا: يا فلان! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه; كالفقير يسأل شيئا من الزكاة.
الثاني: أن يسأل بالله; فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا; لأنه سأل بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا العظيم، لكن لو سأل إثما، أو كان في إجابته ضرر على المسئول; فإنه لا يجاب.


مثال الأول: أن يسألك بالله نقودا؛ ليشتري بها محرما كالخمر.
ومثال الثاني: أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك، وما تفعله مع أهلك; فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسئول.


قوله: صلى الله عليه وسلم "من سأل بالله": "من": شرطية للعموم.
قوله: "فأعطوه": الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسئول; لأن في إعطائه إجابة لحاجته، وتعظيما لله عز وجل



1 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب من سأل الناس تكثرا, 1/457), ومسلم في (الزكاة, باب كراهة المسألة, 1/720), عن ابن عمر رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -350- ومن استعاذ بالله; فأعيذوه، ومن دعاكم; فأجيبوه 1،.......


الذي سأل به. ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى: "أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا".2
قوله: "ومن استعاذ بالله فأعيذوه" أي قال: أعوذ بالله منك; فإنه يجب عليك أن تعيذه; لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله منك" قال لها: "لقد عذت بعظيم -أو معاذ-، الحقي بأهلك"3. لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه; فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال: أعوذ بالله منك. وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك; فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعاذته. وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه -وإن لم يقل أستعيذ بالله-; فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم: لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم; فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه; فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج، بخلاف من انتهك حرمة الحرم بأن فعل الجناية في نفس الحرم; فإن الحرم لا يعيذه لأنه انتهك حرمة الحرم.


قوله: "ومن دعاكم فأجيبوه": "مَنْ": شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا الدعوة للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء.



1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).
2 سبق (ص 289).
3 أخرجه: البخاري في (الطلاق, باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق, 3/401); عن أبي أسيد رضي الله عنه.


ج / 2 ص -351-


وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية. وجمهور أهل العلم على أنها مستحبة إلا دعوة العرس; فإنها واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم فيها: "شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها، ومن لم يجب; فقد عصى الله ورسوله"1.
وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب;

فإنه يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن.
2- ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنه إزالته;

وجب عليه الحضور لسببين:
- إجابة الدعوة.
- وتغيير المنكر.
وإن كان لا يمكنه إزالته حرم عليه الحضور; لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم; فهو إثم.
3- أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة; لقوله صلى الله عليه وسلم "حق المسلم على المسلم ست..."2، وذكر منها: "إذا دعاك فأجبه"3 قالوا: وهذا مقيد للعموم الوارد.
4- أن لا يكون كسبه حراما; لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعاما

ـ
1 أخرجه: البخاري في (النكاح, باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله, 3/381), ومسلم في (النكاح, باب الأمر بإجابة الداعي, 2/1055); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 مسلم: السلام (2162) , والترمذي: الأدب (2737) , والنسائي: الجنائز (1938) , وأحمد (2/372 ,2/412).
3 أخرجه: مسلم في (السلام, باب من حق المسلم للمسلم, 4/1705); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -352-


حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم.
وقال آخرون: ما كان محرما لكسبه; فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه; كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما لأهله1، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر2، وأجاب دعوة اليهودي3، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا، ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: "هو لها صدقة ولنا منها هدية"4.


وعلى القول الأول; فإن الكراهة تقوى وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل.
5- أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب، أو ما هو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة.
6- أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم.



1 أخرجه: البخاري في (البيوع, باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة, 2/79), ومسلم في (المساقاة, باب الرهن, 3/1226); عن عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه: البخاري في (الهبة, باب قبول الهدية من المشركين, 2/241), ومسلم في (السلام, باب السم, 4/1721); عن أنس رضي الله عنه.
3 أخرجه: الإمام أحمد في "المسند" (3/210, 211, 252, 270, 289), وفي "الزهد" وانظر: "الإرواء" (1/71).
4 أخرجه البخاري في (الزكاة, باب إذا تحولت الصدقة, 1/463), ومسلم في (العتق, باب إنما الولاء لمن أعتق, 2/1144).


ج / 2 ص -353- ومن صنع إليكم معروفا; فكافئوه،......


مسألة: هل إجابة الدعوة حق لله أو للآدمي؟
الجواب: حق للآدمي، ولهذا لو طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل; فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله، وقيام بحق أخيك، لكن لصاحبها أن يسقطها، كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منك وخجلا من غير اقتناع; فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة.


مسألة: هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة؟
الجواب: البطاقات ترسل إلى الناس، ولا يدرى لمن ذهبت إليه; فيمكن أن نقول: إنها تشبه دعوة الجفلى، فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه; فإن لها حكم الدعوة بالمشافهة.


قوله: "من صنع إليكم معروفا؛ فكافئوه": المعروف: الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها; فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عمله زائدا عن الواجب عليه; فكافئه، وهكذا، لكن إذا كان كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته; فلا يمكن أن تكافئه; كالملك والرئيس... مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعى له; لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه، فتكون مسيئا له، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن تكافئه لإحسانه.


وللمكافأة فائدتان:
1- تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف.
2- أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له بصنع المعروف إليه، لأن من صنع إليك معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت


ج / 2 ص -354- فإن لم تجدوا ما تكافئونه; فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح1.


فيه مسائل:

الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.


إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى"2 واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروف; لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله عز وجل، لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أعطاك أكثر مما أعطيته; فهذا لا يريد مكافأة، ولكن يدعى له; لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لم تجدوا ما تكافئونه; فادعوا له"3 وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني; فإنه يدعو له. ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة; لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولأن به سرور صانع المعروف.


قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه": "تروا"; بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا; أي: حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنك قد كافأتموه، ثم أمسكوا.


فيه مسائل:

الأولى:
إعاذة من استعاذ بالله: وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شيء واجب فعلا أو تركا; فإنه لا يعاذ.



1 سبق (1/121).
2 أخرجه: البخاري في (الزكاة, باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى, 3/345- فتح), ومسلم في (الزكاة, باب بيان أفضل الصدقة, 2/717); عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
3 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68).


ج / 2 ص -355- الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: " حتى تروا أنكم قد كافأتموه".


الثانية: إعطاء من سأل بالله: وسبق التفصيل فيه.
الثالثة: إجابة الدعوة: وسبق كذلك التفصيل فيها.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة: أي: على صنيعة من صنع إليك معروفا، وسبق التفصيل في ذلك.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه: وسبق أنه مكافأة في ذلك، وفيما إذا كان الصانع لا يكافأ مثله عادة.
السادسة: قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه": أي: أنه لا يقصر في الدعاء، بل يدعو له حتى يعلم أو يغلب على ظنه أنه قد كافأه. وفيه مسائل أخرى، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 01:04PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة

ج / 2 ص -356- باب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة


عن جابر; قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" رواه أبو داود 1.


مناسبة هذا الباب للتوحيد
أن فيه تعظيم وجه الله عز وجل بحيث لا يسأل به إلا الجنة.
قوله: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة"2 اختلف في المراد بذلك على قولين:
القول الأول: أن المراد: لا تسألوا أحدا من المخلوقين بوجه الله، فإذا أردت أن تسأل أحدا من المخلوقين; فلا تسأله بوجه الله; لأنه لا



1 أخرجه: أبو داود في (الزكاة, باب كراهية المسألة بوجه الله, 2/309), وابن منده في "الرد على الجهمية" (ص 98) , والبيهقي في " سننه " (4/199) وفي " الأسماء والصفات " (ص 306), والخطيب في "الموضح" (1/352, 353)! عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وقال المنذري في "مختصر السنن" (2/253): "وسليمان بن قرم تكلم فيه غير واحد". والحديث ضعفه عبد الحق وابن القطان ; كما في "الفيض" (6/451) , والمناوي في "التيسير" (2/505). لكن يشهد لعموم النهي حديث أبي موسى رضي الله عنه, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ملعون من سأل بوجه الله, وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا. أخرجه: الطبراني; كما في "المجمع" (3/103), وحسنه العراقي; كما في "الفيض" (6/4), و "التيسير" (2/478) للمناوي.
2 أبو داود: الزكاة (1671).


ج / 2 ص -357-

ــ
يسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذا لا يسألون بوجه الله مطلقا، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث، ولذلك ذكره بعد: "باب لا يرد من سأل بالله".
القول الثاني: أنك إذا سألت الله، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها; فلا حرج أن تسأل بوجه الله، وإن سألت شيئا من أمور الدنيا; فلا تسأله بوجه الله; لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا. فأمور الآخرة تسأل بوجه الله; كقولك مثلا: أسألك بوجهك أن تنجيني من النار، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ}1 قال: أعوذ بوجهك، {مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}2 قال: أعوذ بوجهك، {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}3 قال: "هذه أهون أو أيسر"45.


ولو قيل: إنه يشمل المعنيين جميعا، لكان له وجه.
وقوله: "بوجه الله": فيه إثبات الوجه لله عز وجل وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف، فالقرآن في قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ}6 وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ}7 والآيات كثيرة. والسنة كما في الحديث السابق: "أعوذ بوجهك".8
واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه: هل هو وجه حقيقي، أو أنه وجه يعبر به عن الذات، وليس لله وجه بل له ذات، أو أنه يعبر به عن الشيء الذي يراد به وجهه، وليس هو الوجه الحقيقي، أو أنه يعبر به عن الجهة، أو أنه يعبر به عن الثواب؟



1 سورة الأنعام آية: 65.
2 سورة الأنعام آية: 65.
3 سورة الأنعام آية: 65.
4 البخاري: تفسير القرآن (4628) والاعتصام بالكتاب والسنة (7313) والتوحيد (7406), والترمذي: تفسير القرآن (3065) , وأحمد (3/309).
5 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب قول الله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه , 4/385); عن جابر رضي الله عنه.
6 سورة القصص آية: 88.
7 سورة الرعد آية: 22.
8 سبق (ص 145).


ج / 2 ص -358- ..


فيه خلاف، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فقالوا: إنه وجه حقيقي; لأن الله تعالى قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}1 ولما أراد غير ذاته; قال: " {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}2 ف (ذي) صفة لرب وليست صفة لاسم، و (ذو) صفة لوجه وليست صفة لرب، فإذا كان الوجه موصوفا بالجلال والإكرام; فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها; لأن الوجه غير الذات..


وقال أهل التعطيل: إن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب، قالوا: ولو أثبتنا لله وجها حقيقيا للزم أن يكون جسما، والأجسام متماثلة، ويلزم من ذلك إثبات المثل لله عز وجل، والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}3 وإثبات المثل تكذيب للقرآن، وأنتم يا أهل السنة تقولون: إن من اعتقد أن لله مثيلا فيما يختص به فهو كافر;

فنقول لهم:
أولا: ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه; أتعنون به المركب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر؟ إن أردتم ذلك; فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه، ولا يمكن أن يكون كذلك، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال; فلا محذور في ذلك، والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}4 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "الصمد: الذي لا جوف له" 5.
ثانيا: قولكم: إن الأجسام متماثلة، قضية من أكذب القضايا; فهل



1 سورة الرحمن آية: 27.
2 سورة الرحمن آية: 78.
3 سورة الشورى آية: 11.
4 سورة آية: 1-2.
5 أخرجه: ابن جرير (30/ 742).


ج / 2 ص -359-


جسم الدب مثل جسم النملة؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك. فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة، وهي استلزام مماثلة الله لخلقه. ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه; فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توأمين، بل قالوا: إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر.


ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أولى من التعبير بنفي المشابهة; لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه آخر; فنفي مطلق المشابهة لا يصح، وقد تقدم.
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم على صورته"1 ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين، فيجاب عنه: بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب عز وجل بإجماع المسلمين والعقلاء، لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي -موضع القدمين- كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة; فما ظنك برب العالمين؟ فلا أحد يحيط به وصفا ولا تخييلا، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعا،


وإنما يراد به أحد معنيين:
الأول: أن الله خلق آدم على صورة، اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه، وعلى هذا; فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضى من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب.
الثاني: أن الله خلق آدم على صورة الله عز وجل، ولا يلزم من


ـ
1 أخرجه: البخاري في (الاستئذان, باب بدء السلام, 4/135), ومسلم في (البر, باب النهي عن ضرب الوجه, 4/2017).



ج / 2 ص -360- فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.

ـ
ذلك المماثلة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أضوإ كوكب في السماء"1 ولا يلزم أن يكون على صورة نفس القمر; لأن القمر أكبر من أهل الجنة، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعا، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث. وقال بعض أهل العلم: على صورته; أي: صورة آدم; أي: أن الله خلق آدم أول أمره على هذه الصورة، وليس كبنيه يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة. لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل، وقال: هذا تأويل الجهمية، ولأنه يفقد الحديث معناه، وأيضا يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ: "على صورة الرحمن".


فيه مسائل:

الأولى:
النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب: تؤخذ من حديث الباب، وهذا الحديث ضعَّفه بعض أهل العلم، لكن على تقدير صحته؛ فإنه من الأدب أن لا تسأل بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة: الفوز بالجنة، أو النجاة من النار.
الثانية: إثبات صفة الوجه: وقد سبق الكلام عليه



1 أخرجه: البخاري في (بدء الخلق, باب ما جاء في صفة الجنة, 2/ 432), ومسلم في (الجنة ونعيمها, باب أول زمرة تدخل الجنة, 4/ 2179); عن أبي هريرة رضي الله عنه.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 01:20PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في ال (لو)

ج / 2 ص -361- باب: ما جاء في ال (لو)

ــ
قوله: في "اللو": دخلت "أل" على "لو" وهي لا تدخل إلا على الأسماء، قال ابن مالك:

بالجر والتنوين والندا وأل ومسند للاسم تمييز حصل1
لأن المقصود بها اللفظ; أي: باب ما جاء في هذا اللفظ. والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشيء;

لأن "لو" تستعمل على عدة أوجه:
الوجه الأول: أن تستعمل في الاعتراض على الشرع، وهذا محرم، قال الله تعالى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}2 في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلا اعترض المنافقون على تشريع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا، فرأينا خير من شرع محمد، وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر.


الثاني: أن تستعمل في الاعتراض على القدر، وهذا محرم أيضا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا}3 أي: لو أنهم بقوا ما قتلوا; فهم يعترضون على قدر الله.



1 "ألفية ابن مالك" (ص 3).
2 سورة آل عمران آية: 168.
3 سورة آل عمران آية: 156.


ج / 2 ص -362-


الثالث: أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضا; لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه; لأن الندم يكسب النفس حزنا وانقباضا، والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط، قال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا; فإن لو تفتح عمل الشيطان"1.


مثال ذلك: رجل حرص أن يشتري شيئا يظن أن فيه ربحا فخسر، فقال: لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة; فهذا ندم وتحسر، ويقع كثيرا، وقد نهي عنه.
الرابع: أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية; كقول المشركين: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا}2 وقولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ}3 وهذا باطل.


الخامس:
أن تستعمل في التمني، وحكمه حسب المتمنى: إن كان خيرا فخير، وإن كان شرا فشر، وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم: "لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان"4 فهذا تمنى خيرا، وقال الثاني: "لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان"5 فهذا تمنى شرا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول: "فهو بنيته، فأجرهما سواء"6 وقال في الثاني: "فهو بنيته، فوزرهما سواء"7.
السادس: أن تستعمل في الخبر المحض. وهذا جائز، مثل: لو



1 يأتي (ص 440).
2 سورة الأنعام آية: 148.
3 سورة الزخرف آية: 20.
4 الترمذي: الزهد (2325) , وابن ماجه: الزهد (4228).
5 الترمذي: الزهد (2325) , وابن ماجه: الزهد (4228).
6 الترمذي: الزهد (2325).
7 أخرجه: الإمام أحمد (4/230, 231), والترمذي في (الزهد, باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر, 7/81)- وقال: "حسن صحيح"- , وابن ماجه في (الزهد, باب النية, 2/1413); عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري رضي الله عنه.



ج / 2 ص -363- وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}1.


حضرت الدرس لاستفدت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم"2 فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدي ولأحل، وهذا هو الظاهر لي. وبعضهم قال: إنه من باب التمني، كأنه قال: ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدي. لكن الظاهر: أنه خبر لما رأى من أصحابه، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتمنى شيئا قدر الله خلافه.


وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الآية الأولى قوله تعالى: (يقولون): الضمير للمنافقين.
قوله: "مَا قُتِلْنَا": أي: ما قتل بعضنا; لأنهم لم يقتلوا كلهم، ولأن المقتول لا يقول.
قوله: "لو كان لنا من الأمر" (لو): شرطية، وفعل الشرط: (كان)، وجوابه: {مَا قُتِلْنَا}3 ولم يقترن الجواب باللام; لأن الأفصح إذا كان الجواب منفيا عدم الاقتران، فقولك: لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك: لو جاء زيد لما جاء عمرو، وقد ورد قليلا اقترانها مع النفي; كقول الشاعر:

ولو نعطى الخيار لما افترقنا ولكن لا خيار مع الليالي


1 سورة آل عمران آية: 154.
2 أخرجه: البخاري في (الحج, باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف, 1/506), ومسلم في (الحج, باب بيان وجوه الإحرام, 2/885); عن جابر رضي الله عنه.
3 سورة آل عمران آية: 154.


ج / 2 ص -364- وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}1.


قوله: "ها هنا": أي: في أحد.
قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}2 هذا رد عليهم; فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم.
وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}3 هذا من الاعتراض على الشرع; لأنهم عتبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حيث خرج بدون موافقتهم، ويمكن أن يكون اعتراضا على القدر أيضا; أي: لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا فنقتل.
قوله: (وقعدوا): الواو إما أن تكون عاطفة، والجملة معطوفة على (قالوا)،


ويكون وصف هؤلاء بأمرين:
1- بالاعتراض على القدر بقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}4.
2- وبالجبن عن تنفيذ الشرع "الجهاد" بقولهم: (وقعدوا).
أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير "قد"; أي: والحال أنهم قد قعدوا; ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس، لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين، وعلى قضاء الله وقدره.


قوله: (لإخوانهم): قيل: في النسب لا في الدين، وقيل: في الدين ظاهرا; لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام، ولو قيل: إنه شامل للأمرين; لكان صحيحا.
قوله: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} هذا غير صحيح، ولهذا رد الله عليهم بقوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين َ}5 وإن كنتم قاعدين; فلا تستطيعون أيضا أن تدرءوا عن أنفسكم الموت



1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 168.
5 سورة آل عمران آية: 168.


ج / 2 ص -365- وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ؛.......


فهذه الآية والتي قبلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوما بشرع الله.


مناسبة الباب للتوحيد
أن من جملة أقسام (لو) الاعتراض على القدر ومن اعترض على القدر; فإنه لم يرض بالله ربا، ومن لم يرض بالله ربا; فإنه لم يحقق توحيد الربوبية. والواجب أن ترضى بالله ربا، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله ربا تمام الرضا، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم "عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر; فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر; فكان خيرا له"1 ومهما كان; فالأمر سيكون على ما كان، فلو خرجت مثلا في سفر ثم أصبت في حادث; فلا تقل: لو أني ما خرجت من السفر ما أصبت; لأن هذا مقدر لا بد منه.
قوله: "وفي الصحيح": أي: "صحيح مسلم"، وانظر ما سبق في: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله (1/157). والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة، وأتى بما هو مناسب للباب، والمحذوف قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"2.



1 أخرجه: مسلم في (الزهد, باب المؤمن أمره كله خير, 4/ 2295); عن صهيب بن سنان رضي الله عنه.
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).


ج / 2 ص -366-


شرح الحديث:
قوله: "القوي": أي: في إيمانه وما يقتضيه إيمانه، ففي إيمانه; يعني: ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك، وفيما يقتضيه; يعني: العمل الصالح: من الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحزم في العبادات وما أشبه ذلك.


وهل يدخل في ذلك قوة البدن؟
الجواب: لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه، أو يزيد ما يقتضيه; لأن "القوي" وصف عائد على موصوف وهو المؤمن; فالمراد: القوي في إيمانه أو ما يقتضيه، ولا شك أن قوة البدن نعمة، إن استعملت في الخير فخير، وإن استعملت في الشر فشر.


قوله: "خير وأحب إلى الله": خير في تأثيره وآثاره; فهو ينفع ويقتدى به، وأحب إلى الله باعتبار الثواب.
قوله: "من المؤمن الضعيف": وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه، لا في قوة البدن.
قوله: "وفي كل خير": أي: في كل من القوي والضعيف خير، وهذا النوع من التذييل يسمى عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف.
فإن قيل: إن الخيرية معلومة في قوله: "خير وأحب"; لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف ؟
فالجواب: أنه قد يخرج عن الأصل; كما في قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً}1 مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم. كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة: "خير وأحب" صار في



1 سورة الفرقان آية: 24.


ج / 2 ص -367- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك 1،..........

نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه، فإذا قيل: "وفي كل خير" رفع من شأنه، ونظيره قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}2.
قوله: "احرص على ما ينفعك": الحرص: بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا.


وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات:
1- نافعة، وهذه مأمور بها.
2- ضارة، وهذه محذر منها.
3- فيها نفع وضرر.
4- لا نفع فيها ولا ضرر، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي، فتأخذ حكم الغاية; لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.


فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر; إما لذاته أو لغيره، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث؛ لأجل إدخال السرور على غيره، فيكون نفعا، ولا يمكن أن تجد شيئا من الأمور والحوادث ليس فيها نفع ولا ضرر; إما ذاتي، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السبر والتقسيم. والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر، قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر; فليقل خيرا أو ليصمت"3.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سورة الحديد آية: 10.
3 أخرجه: البخاري في (الأدب, باب حق الضيف, 4/116), ومسلم في (الإيمان, باب الحث على إكرام الجار, 1/68); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -368- واستعن بالله،....


واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جدا; لأن من القوة الحرص على ما ينفع. و"ما": اسم موصول بفعل (ينفع)، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم فاعل، كأنه قال: احرص على النافع، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بالحرص على النافع، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع; لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة، وهذه الزيادة لا بد أن نحرص عليها; لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف، فإذا قلت: أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره; فنقدم الأنفع على النافع لوجهين:
1- أنه مشتمل على النفع وزيادة.


2- أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته.
ويؤخذ من الحديث وجوب الابتعاد عن الضار; لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك"1.
قوله: "واستعن بالله": الواو تقتضي الجمع; فتكون الاستعانة مقرونة بالحرص، والحرص سابق على الفعل; فلا بد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله.
والاستعانة: طلب العون بلسان المقال; كقولك: "اللهم أعني"، أو: "لا حول ولا قوة إلا بالله" عند شروعك بالفعل أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك عز وجل أن يعينك على هذا الفعل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة. أو طلب



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).


ج / 2 ص -369- ولا تعجزن،...


العون بهما جميعا، والغالب أن من استعان بلسان المقال; فقد استعان بلسان الحال.
ولو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلا; فهذا جائز، ولكن لا تشعر نفسك أنها كاستعانتك بالخالق، وإنما عليك أن تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة; فإنك تستعين على حمله باليد الأخرى، وعلى هذا; فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك، فلا تنافي قوله صلى الله عليه وسلم "استعن بالله".


قوله: "ولا تعجزن": فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، و"لا": ناهية، والمعنى: لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة، وليس المعنى: لا يصيبك عجز; لأن العجز عن الشيء غير التعاجز; فالعجز بغير اختيار الإنسان; ولا طاقة له به، فلا يتوجه عليه نهي، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صل قائما، فإن لم تستطع; فقاعدا، فإن لم تستطع; فعلى جنب"1 فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل، اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعدم التكاسل؛ لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه، وهذا خلاف ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دمت عرفت أن هذا نافع، فلا تدعه، لأنك إذا عجزت نفسك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل -ولا سيما النافع- ثم أتاه الشيطان



1 أخرجه: البخاري في (تقصير الصلاة, باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب, 1/348); عن عمران بن حصين رضي الله عنه.


ج / 2 ص -370- وإن أصابك شيء; فلا تقل: لو أني فعلت كذا، لكان كذا وكذا،


فثبطه؟! لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار; فيجب عليه الرجوع عنه; لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
وذكر في ترجمة الكسائي أنه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه، فوجد نملة تحمل طعاما تريد أن تصعد به حائطا، كلما صعدت قليلا سقطت، وهكذا حتى صعدت; فأخذ درسا من ذلك، فكابد حتى صار إماما في النحو.
قوله: "إن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا"1 هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود.


فالمرتبة الأولى: الحرص على ما ينفع.
والمرتبة الثانية: الاستعانة بالله.
والمرتبة الثالثة: المضي في الأمر، والاستمرار فيه، وعدم التعاجز. وهذه المراتب إليك.
المرتبة الرابعة: إذا حصل خلاف المقصود; فهذه ليست إليك، وإنما هي بقدر الله، ولهذا قال: "وإن أصابك..."; ففوض الأمر إلى الله تعالى.
قوله: "وإن أصابك شيء": أي: مما لا تحبه ولا تريده، ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع.


فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه، لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يقول: لو لم أفعل ما حصل كذا.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79).


ج / 2 ص -371- ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل;....

الثانية: أن يقول: لو فعلت كذا، لأمر لم يفعله لكان كذا.
مثال الأول قول القائل: لو لم أسافر ما فاتني الربح.
ومثال الثاني أن يقول: لو سافرت لربحت.


وذكر النبي صلى الله عليه وسلم الثاني دون الأول; لأن هذا الإنسان عامل فاعل; فهو يقول: لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل، وكان موقفه سلبيا من الأعمال.
قوله: "كذا": كناية عن مبهم، وهي مفعول لفعلت.
قوله: "لكان كذا": فاعل كان، والجملة جواب لو.
قوله: "قدر الله": خبر لمبتدأ محذوف; أي: هذا قدر الله.


وقدر بمعنى مقدور; لأن قدر الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله، وهو المراد هنا; لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه، فقدر الله أي مقدوره، ولا مقدر إلا بتقدير; لأن المفعول نتيجة الفعل.


والمعنى: إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلي، أما الذي إلي فقد بذلت ما أراه نافعا كما أمرت، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله عز وجل، وأن الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي; فإنه لا يلام على شيء، ويفوض الأمر إلى الله.
قوله: "وما شاء فعل": جملة مصدرة ب "ما" الشرطية، و"شاء": فعل الشرط، وجوابه: "فعل"; أي: ما شاء الله أن يفعله فعله; لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}1 وقد سبق ذكر قاعدة، وهي أن كل



1 سورة الرعد آية: 41.


ج / 2 ص -372- فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"1.


فعل لله تعالى معلق بالمشيئة; فإنه مقرون بالحكمة، وليس شيء من فعله معلقا بالمشيئة المجردة، لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا لحكمة، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء، ولهذا كان المسلمون يقولون: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.


وأما الإرادة ووقوع المراد; ففيه تفصيل:
فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، وهي التي بمعنى المحبة، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}2 بمعنى يحب، ولو كانت بمعنى يشاء لتاب الله على جميع الناس.
والإرادة الكونية يلزم منها وقوع المراد; كما قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}3.
قوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان": "لو": اسم إن قصد لفظها; أي: فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان.


وعمله: ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن; فإن الشيطان يحب ذلك، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}4 حتى في المنام يريه أحلاما مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره، وحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حال تشوش الفكر; فقال صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"5 فإذا رضي الإنسان بالله ربا، وقال: هذا قضاء الله وقدره، وأنه لا بد أن يقع; اطمأنت نفسه وانشرح صدره.



1 أخرجه: مسلم في (القدر, باب في الأمر بالقوة وترك العجز, 4/2052); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة النساء آية: 27.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 سورة المجادلة آية: 10.
5 أخرجه: مسلم في (المساجد, 1/393).


ج / 2 ص -373-


ويستفاد من الحديث:
1- إثبات المحبة لله عز وجل لقوله: "خير وأحب".
2- اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه; لقوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"1.
3- زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن القوة زيادة والضعف نقص، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة.
وقال بعض أهل السنة: يزيد ولا ينقص; لأن النقص لم يرد في القرآن، قال تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً}2 وقال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ}3.


والراجح القول الأول;
لأنه من لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد، وعلى هذا يكون القرآن دالا على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن"4 يعني: النساء.


والإيمان يزيد بالكمية والكيفية; فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}5.
والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر; زاد يقينه، ولهذا قال أهل العلم: إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهذا دليل



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سورة المدثر آية: 31.
3 سورة الفتح آية: 4.
4 أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب نقصان الإيمان, 1/86); عن ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه: البخاري (304), ومسلم (80); عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
5 سورة البقرة آية: 260.


ج / 2 ص -374-


على تفاوت القلوب بالتصديق، وأما الأعمال; فظاهر، فمن صلى أربع ركعات أزيد ممن صلى ركعتين.
4- أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير; لقوله: "وفي كل خير".
5- أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها; لقوله: "احرص على ما ينفعك"1 فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فهو عبادة، وإن كان ذلك النافع أمرا دنيويا.
6- أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع; لقوله: "احرص على ما ينفعك"2.


7- أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة; لقوله: "ولا تعجزن".
8- أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر; لقوله: "ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"3 وأما الذي يمكنك; فليس لك أن تحتج بالقدر.
وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى آدم عليهما الصلاة والسلام; وقال له: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة; فقال: أتلومني على شيء قد كتبه الله علي";4 فهذا احتجاج بالقدر.


فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون هذا الحديث; لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم، إن أمكن تكذيبه كذبوه، وإلا حرفوه، ولكن هذا الحديث ثابت في "الصحيحين" وغيرهما.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
4 أخرجه: البخاري في (القدر, باب تحاج آدم وموسى, 4/212), ومسلم في (القدر, باب حجاج آدم وموسى, 4/2044); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -375-

ـ
على المصائب لا على المعائب; فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج، بل احتج بالخروج نفسه.
معناه: أن فعلك صار سببا لخروجنا، وإلا; فإن موسى عليه الصلاة والسلام أبعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه، واجتباه ربه وهداه، وهذا ينطبق على الحديث.


وذهب ابن القيم رحمه الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضى وتاب من فعله، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية، ويستمروا عليها; فالمشركون لما قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا}1 كذبهم الله; لأنهم لا يحتجون على شيء مضى ويقولون: تبنا إلى الله; ولكن يحتجون على البقاء في الشرك.
9- أن للشيطان تأثيرا على بني آدم; لقوله: "فإن لو تفتح عمل الشيطان"2 وهذا لا شك فيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"3.


فقال بعض أهل العلم: إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب، فتجري في العروق.
وظاهر الحديث: أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهذا ليس ببعيد على قدرة الله عز وجل، كما أن الروح تجري مجرى الدم،



1 سورة الأنعام آية: 148.
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
3 أخرجه: البخاري في (الاعتكاف, باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه, 2/68), ومسلم في (السلام, باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة, 4/1712); عن صفية بنت حيي رضي الله عنها.



ج / 2 ص -376- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير الآيتين في آل عمران.


وهي جسم، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء.
ومن نعمة الله أن للشيطان ما يضاده، وهي لمة الملك; فإن للشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان، فهما دائما يتصارعان، نفس مطمئنة، ونفس أمارة بالسوء، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعا.
10- حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم حين قرن النهي عن قول "لو" ببيان علته; لتتبين حكمة الشريعة، ويزداد المؤمن إيمانا وامتثالا.


فيه مسائل:

الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران: وهما:
الأولى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}1.
الثانية: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}2 أي: ما أخرجنا وما قتلنا، ولكن الله تعالى أبطل ذلك بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}3 والآية الأخرى: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}4 فأبطل الله دعواهم هذه بقوله: {فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}5 أي: إن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل; فادرءوا عن أنفسكم الموت، فإنهم لن يسلموا من الموت، بل لا بد أن يموتوا، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد; لكانوا على ضلال مبين.



1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 168.
5 سورة آل عمران آية: 168.


ج / 2 ص -377- الثانية: النهي الصريح عن قول (لو) إذا أصابك شيء
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.


الثانية: النهي الصريح عن قول "لو" إذا أصابك شيء: لقول الرسول صلى الله عليه وسلم "فإن أصابك شيء; فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا"1.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان: فالنهي عن قول "لو" علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن: يعني قوله: "ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل"2.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله: لقوله صلى الله عليه وسلم "احرص على ما ينفعك واستعن بالله"3.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز: لقوله: "ولا تعجزن"، فإن قال قائل: العجز ليس باختيار الإنسان، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز; فكيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر لا قدرة للإنسان عليه؟
أجيب: بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشيء; لأنه هو الذي في مقدور الإنسان.



1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79).
2 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).
3 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366، 2/370).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 01:29PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: النهي عن سب الريح

ج / 2 ص -378- باب: النهي عن سب الريح


المؤلف رحمه الله أطلق النهي ولم يفصح: هل المراد به التحريم أو الكراهة، وسيتبين إن شاء الله من الحديث.
قوله: "الريح": الهواء الذي يصرفه الله عز وجل، وجمعه رياح.
وأصولها أربعة: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، وما بينهما يسمى النكباء; لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال أو الجنوب أو الشرق أو الغرب. وتصريفها من آيات الله عز وجل فأحيانا تكون شديدة تقلع الأشجار، وتهدم البيوت، وتدفن الزروع، ويحصل معها فيضانات عظيمة، وأحيانا تكون هادئة، وأحيانا تكون باردة، وأحيانا حارة، وأحيانا عالية، وأحيانا نازلة; كل هذا بقضاء الله وقدره.


ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، ولو اجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، ولكن الله عز وجل بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلى ما يريد; فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح؟
الجواب: لا; لأن هذه الريح مسخرة مدبرة، وكما أن الشمس أحيانا تضر بإحراقها بعض الأشجار، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها; فكذلك الريح، ولهذا قال: "لا تسبوا الريح".




ج / 2 ص -379- عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الريح; فإذا رأيتم ما تكرهون; فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح.....


قوله: "لا تسبوا الريح": "لا": ناهية، والفعل مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، والريح مفعول به. والسب: الشتم، والعيب، والقدح، واللعن، وما أشبه ذلك، وإنما نهى عن سبها; لأن سب المخلوق سب لخالقه، فلو وجدت قصرا مبنيا وفيه عيب، فسببته; فهذا السب ينصب على من بناه، وكذلك سب الريح; لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله عز وجل. ولكن إذا كانت الريح مزعجة; فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقال حينئذ في قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك... إلخ".


قوله: "من خير هذه الريح": الريح نفسها فيها خير وشر; فقد تكون عاصفة تقلع الأشجار، وتهدم الديار، وتفيض البحار والأنهار، وقد تكون هادئة تبرد الجو وتكسب النشاط.
قوله: "وخير ما فيها": أي: ما تحمله; لأنها قد تحمل خيرا; كتلقيح الثمار، وقد تحمل رائحة طيبة الشم، وقد تحمل شرا; كإزالة لقاح الثمار، وأمراض تضر الإنسان والبهائم.


قوله: "وخير ما أمرت به": مثل إثارة السحاب، وسوقه إلى حيث شاء الله.
قوله: "ونعوذ بك": أي: نعتصم ونلجأ.
قوله: "من شر هذه الريح": أي: شرها بنفسها; كقلع الأشجار، ودفن الزروع، وهدم البيوت.


ج / 2 ص -380- وشر ما فيها، وشر ما أمرت به" صححه الترمذي1.


فيه مسائل:

الأولى:
النهي عن سب الريح.


قوله: "وشر ما فيها": أي: ما تحمله من الأشياء الضارة، كالأنتان، والقاذورات، والأوبئة، وغيرها.
قوله: "وشر ما أمرت به": كالإهلاك والتدمير، قال تعالى في ريح عاد: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}2 وتيبيس الأرض من الأمطار، ودفن الزروع، وطمس الآثار والطرق; فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة قد نعجز عن إدراكها.
وقوله: "ما أمرت به": هذا الأمر حقيقي; أي: يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف، وكل شيء من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله، قال الله تعالى للأرض والسماء: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}3 "وقال للقلم: اكتب قال: ربي وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة"4.


فيه مسائل:

الأولى: النهي عن سب الريح: وهذا النهي للتحريم; لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها.



1 أخرجه: أحمد (5/123), والترمذي في (الفتن, باب ما جاء في النهي عن سب الريح, 7/33)- وقال: "حسن صحيح" -, والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (933, 934), وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (299), والطحاوي في "المشكل" (1/398). وأخرجه: النسائي (935, 936, 937), والخرائطي في (مكارم الأخلاق" (ص 83), والطحاوي في "المشكل" (1/398); عن أبي بن كعب موقوفا. والحديث له شاهد مرفوع عن أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما.
2 سورة الأحقاف آية: 25.
3 سورة فصلت آية: 11.
4 سيأتي تخريجه (ص 422).


ج / 2 ص -381- الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.

ـــ
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره: أي: منها، وهو أن يقول: "اللهم إني أسألك من خيرها..." الحديث، مع فعل الأسباب الحسية أيضا; كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة: لقوله: "ما أمرت به".
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر: لقوله: "خير ما أمرت به، وشر ما أمرت به".


والحاصل: أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره، وأن لا يسبه، وأن يكون مستسلما لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلما لأمره الشرعي; لأن هذه المخلوقات لا تملك أن تفعل شيئا إلا بأمر الله -سبحانه وتعالى-.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 01:41PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}

ج / 2 ص -382- باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1 الآية.

ــ
ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
الأولى: قوله تعالى: "يظنون": الضمير يعود على المنافقين، والأصل في الظن: أنه الاحتمال الراجح، وقد يطلق على اليقين; كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ}2 أي: يتيقنون، وضد الراجح المرجوح، ويسمى وهما.
قوله: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} عطف بيان لقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ}.
و (الجاهلية): الحال الجاهلية، والمعنى: يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته، فهو ظن باطل مبني على الجهل.


والظن بالله عز وجل على نوعين
الأول: أن يظن بالله خيرا.
الثاني: أن يظن بالله شرا.

والأول له متعلقان:
1- متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون; فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله -سبحانه وتعالى- في هذا الكون، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة، قد تصل العقول إليها



1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة البقرة آية: 46.


ج / 2 ص -383-


وقد لا تصل، وبهذا تتبين عظمة الله وحكمته في تقديره; فلا يظن أن الله إذا فعل شيئا في الكون فعله لإرادة سيئة، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله، أما المتعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير; فهذا واقع; كما قال تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}1.


2- متعلق بالنسبة لما يفعله بك;
فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص، فإذا فعلت ذلك; فعليك أن تظن أن الله يقبل منك، ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب; فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه. وأما إن كان الإنسان مفرطا في الواجبات فاعلا للمحرمات، وظن بالله ظنا حسنا; فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة، بل هو من سوء الظن بالله; إذ إن حكمة الله تأبى مثل ذلك.


النوع الثاني: وهو أن يظن بالله سوء، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلما أو نحو ذلك; فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق.


قوله: {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}2 مرادهم بذلك أمران:
الأول: رفع اللوم عن أنفسهم.
الثاني: الاعتراض على القدر.
وقوله: (لنا): خبر مقدم.



1 سورة الأحزاب آية: 17.
2 سورة آل عمران آية: 154.


ج / 2 ص -384-


قوله: "من شيء": مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد.
قوله: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1 أي: فإذا كان كذلك; فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره، فالله عز وجل يفعل ما يشاء من النصر والخذلان.
وقوله: "إن الأمر" واحد الأمور لا واحد الأوامر; أي: الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله -سبحانه-; فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله.


قوله: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ}2 أي: ما لا يظهرون لك، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق; فيخفي في نفسه ما لا يبديه لغيره; لأنه يرى من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان.
قوله: {مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}3 أي: في أحد، والمراد بمن "قتل": من استشهد من المسلمين في أحد; لأن عبد الله بن أبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد، وقال: إن محمدا يعصيني ويطيع الصغار والشبان.


قوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}4 هذا رد لقولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له; لأنه إذا كتب القتل على أحد; لم ينفعه تحصنه في بيته، بل لا بد أن يخرج إلى مكان موته.


والكتابة قسمان:
1- كتابة شرعية، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب، مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}5 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}6.



1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة النساء آية: 103.
6 سورة البقرة آية: 183.


ج / 2 ص -385-


2- كتابة كونية، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية، ومثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}1 وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}2.
قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ}3 أي: يختبر ما في صدوركم من الإيمان بقضاء الله وقدره والإيمان بحكمته، فيختبر ما في قلب العبد بما يقدره عليه من الأمور المكروهة; حتى يتبين من استسلم لقضاء الله وقدره وحكمته ممن لم يكن كذلك.


قوله: {وليمحص ما في قلوبكم}4 أي: إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر; صار في ذلك تمحيص لما في القلب; أي: تطهير له وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي.
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول صلى الله عليه وسلم حين قيل له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}5 خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا، {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}67.




1 سورة الأنبياء آية: 105.
2 سورة المجادلة آية: 21.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.
5 سورة آل عمران آية: 173.
6 سورة آل عمران آية: 174.


7 حديث عائشة رضي الله عنها: الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم قالت لعروة: "يا ابن أختي! كان أبواك منهم, الزبير وأبو بكر, لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد, وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا, قال: من يذهب في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون رجلا. قال: كان فيهم أبو بكر والزبير".


أخرجه: البخاري في (المغازي, باب الذين استجابوا لله والرسول , 3/110). ولم يخرجه البخاري في التفسير في هذا الباب المشار إليه, بل ساقه ابن حجر في "الفتح" لكون البخاري لم يسق حديثا في الباب كله, وأشار ابن حجر إلى أن الحديث تقدم في (المغازي- الفتح, 8/76, ط الريان), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب من فضائل طلحة والزبير, 4/1880). وأما خروجهم إلى حمراء الأسد; فقد أخرجه النسائي, وابن أبي حاتم, والطبراني; عن ابن عباس كما في "الدر المنثور" (2/101). وقال السيوطي: "بسند صحيح".




ج / 2 ص -386- وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}1 الآية.
قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}2 جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور; أي: بصاحبة الصدور، والمراد بها القلوب; كما قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}3 فالله لا يخفى عليه شيء، فيعلم ما في قلب العبد، وما ليس في قلبه متى يكون وكيف يكون.
الآية الثانية: قوله تعالى: (الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ) المراد بهم: المنافقون والمشركون، قال تعالى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}4 أي: ظن العيب، وهو كقوله فيما سبق: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ومنه ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمهما الله: أنهم يظنون أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم سيضمحل، وأنه لا يمكن أن يعود، وما أشبه ذلك.


قوله: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}5 أي: أن السوء محيط بهم جميعا من كل جانب، كما تحيط الدائرة بما في جوفها، وكذلك تدور عليهم دوائر السوء، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلى عن رسوله وأن أمره سيضمحل; فإن الواقع خلاف ظنهم، ودائرة السوء راجعة عليهم.
قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}6 الغضب من صفات الله الفعلية التي



1 سورة الفتح آية: 6.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة الحج آية: 46.
4 سورة الفتح آية: 6.
5 سورة الفتح آية: 6.
6 سورة الفتح آية: 6.


ج / 2 ص -387-


تتعلق بمشيئته ويترتب عليه الانتقام، وأهل التعطيل قالوا: إن الله لا يغضب حقيقة: فمنهم من قال: المراد بغضبه الانتقام. ومنهم من قال: المراد إرادة الانتقام. قالوا: لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم"1.
فيجاب عن ذلك: بأن هذا هو غضب الإنسان، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}2 ويدل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}3.
ف "آسفونا": بمعنى أغضبونا {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فجعل الانتقام مرتبا على الغضب، فدل على أنه غيره.


وقوله: "ولعنهم": اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
قوله: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}4 أي: هيأها لهم وجعلها سكنا لهم ومستقرا.
قوله: {وَسَاءَتْ مَصِيراً}5 أي: مرجعا يصار إليه.
و "مصيرا": تمييز، والفاعل مستتر; أي: ساءت النار مصيرا يصيرون إليه.




1 أخرجه: الإمام أحمد (3/19, 61), والترمذي في (الفتن, باب ما جاء مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن إلى يوم القيامة, 6/351), وقال: "حسن صحيح".
2 سورة الشورى آية: 11.
3 سورة الزخرف آية: 55.
4 سورة الفتح آية: 6.
5 سورة الفتح آية: 6.


ج / 2 ص -388- قال ابن القيم في الآية الأولى: " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته.



قوله: "قال ابن القيم": هو محمد ابن قيم الجوزية، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية الكبار الملازمين له رحمهما الله، وقد ذكره في "زاد المعاد" عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها.
قوله: "في الآية الأولى": يعني قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}1 فسر بأن الله لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل; أي: يزول، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، يؤخذ هذا التفسير من قولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}2 ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره الله على الدين كله. ففسر بما يكون طعنا في الربوبية وطعنا في الأسماء والصفات; فالطعن في القدر طعن في ربوبية الله عز وجل ؛ لأن من تمام ربوبيته عز وجل أن نؤمن بأن كل ما جرى في الكون فإنه بقضاء الله وقدره، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله، وسوف يضمحل أمره; لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله، فمعنى ذلك أن إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام عبث وسفه، فما الفائدة من أن يرسل رسول ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسى؟ فهذا بعيد. ولا سيما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو خاتم النبيين; فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقى إلى يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون


ـــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.


ج / 2 ص -389- ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح.


والمشركون في سورة الفتح".

وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور:
الأول: أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق; فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح، قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً}1.
الثاني: أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره; لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته.


الثالث: أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليه الحمد; لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعبا وسفها، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئا أو يشرعه إلا لحكمة، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافا كبيرا بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله -سبحانه وتعالى-.


ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة، قالوا: لأنه لا يسأل عما يفعل، وهذا من أعظم سوء الظن بالله; لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيها; فما بالك بالخالق الحكيم؟!
قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا}2 فالظن بأنها خلقت باطلا لا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ}3


ـ
1 سورة الفتح آية: 12.
2 سورة ص آية: 27.
3 سورة الدخان آية: 38.


ج / 2 ص -390- وإنما كان هذا ظن السوء; لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة; فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.

ــــــ
خلقناهما إلا بالحق}1 الذي هو ضد الباطل، وهؤلاء قالوا: إن الله تعالى خلقهما باطلا لغير حكمة، قال الله: {ذالك ظن الذين كفروا }2 أي: الذين يظنون أن الله خلقهما باطلا وعبثا سفها ولعبا.
والمعتزلة على العكس من ذلك، يقولون: لا يقدر إلا لحكمة، ويفرضون على الله ما يشاءون، وقد ذكر صاحب "مختصر التحرير الفتوحي" رحمه الله: أن في المسألة قولين في المذهب. ولكن الصواب بلا ريب أنه لا يفعل شيئا ولا يقدره على عبده ولا يشرع شيئا إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر.


قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}3 "ويل": مبتدأ، وساغ الابتداء بالنكرة: للتعظيم، وخبر المبتدأ: "للذين كفروا"، والجار والمجرور "من النار" بيان لويل، وفي هذا دليل على أن كلمة "ويل" كلمة وعيد وليست كما قيل: واد في جهنم، ولهذا نقول: ويل لك من البرد، ويل لك من فلان، ويقول المتوجع: ويلاه، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد.


ـ
1 سورة الدخان آية: 38 - 39.
2 سورة ص آية: 27.
3 سورة ص آية: 27.


ج / 2 ص -391- وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.

ــــــــ
قوله: "وأكثر الناس": أي: من بني آدم لا من المؤمنين.
وقوله {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}1 أي: العيب فيما يختص بهم، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم.
قوله: "فيما يفعله بغيرهم": كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائما; فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقتضي ذلك.
قوله: "ولا يسلم من ذلك": أي: من الظن السوء.
قوله: "إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده": صدق رحمه الله، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله عز وجل وما له من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفة تحريف وتأويل.


ولهذا حُجب المحرِّفون والمؤوّلون عن معرفة أسماء الله وصفاته; فتجد قلوبهم مظلمة غالبا، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل، أما من أبقى أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه، وسلك في ذلك مذهب السلف، فإن قلبه لا يرد عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين; لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دل ظاهرهما على التمثيل والتشبيه، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه،




1 سورة الفتح آية: 6.


ج / 2 ص -392-


ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل.
أما كون كل معطل ممثلا، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل، فلما ظن هذا الظن السيئ بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها; فمثل أولا، وعطل ثانيا، ثم إنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفا من تشبيهه بالموجود; فقد شبهه بالمعدوم، وأما كون كل ممثل معطلا; فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق.


وعلى هذا; فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جرى عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، وعرف موجب حكمة الله; أي: مقتضى حكمة الله; لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء.


وقوله: "موجب": موجب; بالفتح: هو المسبب الناتج عن السبب بمعنى المقتضى، وبالكسر: السبب الذي يقتضي الشيء بمعنى المقتضي، والمراد هنا الأول. فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة; فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبدا، ولاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين، وفي هزيمتهم في أحد; فإن في ذلك حكما عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة; فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه، بل كل ما يجريه الله في الكون; كمنع الإنبات والفقر; فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده; لأنه عز وجل أكرم الأكرمين، وعلى هذا فقس.



ج / 2 ص -393- فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت; لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك; هل أنت سالم؟



قوله: "اللبيب": على وزن فعيل، ومعناه: ذو اللب، وهو العقل.
قوله: "بهذا": المشار إليه هو الظن بالله عز وجل ؛ ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق، لا ظن السوء وظن الجاهلية.
قوله: "وليتب إلى الله": أي: يرجع إليه; لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة.


قوله: "وليستغفره": أي: يطلب منه المغفرة، واللام في قوله: "فليتب" وقوله: "وليستغفره" للأمر.
قوله: "تعنتا على القدر وملامة له": أي: إذا قدر الله شيئا لا يلائمه تجده يقول: ينبغي أن ننتصر، ينبغي أن يأتي المطر، ينبغي أن لا نصاب بالجوائح، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا.


قوله: "فمستقل ومستكثر": "مستقل": مبتدأ، خبره محذوف. و"مستكثر": مبتدأ خبره محذوف، والتقدير: فمن الناس مستقل، ومنهم مستكثر، ونظير ذلك قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ}1 ف"سعيد" مبتدأ خبره محذوف تقديره: ومنهم سعيد، ولا يقال بأن "سعيد" معطوف على شقي; لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد.


قوله: "وفتش نفسك: هل أنت سالم": وهذا ينبغي أن يكون في

1 سورة هود آية: 105.


ج / 2 ص -394- فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا


فيه مسائل:

الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.

ـ
جميع المسائل مما أوجبه الله، فتش عن نفسك: هل أنت سالم من التقصير فيه؟ ومما حرمه الله عليك: هل أنت سالم من الوقوع فيه؟
قوله: "فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة": "تنج" الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو، "تنج" الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو.
وقوله: "من ذي عظيمة": أي: من ذي بلية عظيمة.
قوله: "وإلا; فإني لا إخالك ناجيا": التقدير; أي: وإلا تنج من هذه البلية; فإني لا أخالك ناجيا. ومعنى أخالك: أظنك، وهي تنصب مفعولين: الأول هنا الكاف، والثاني ناجيا.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير آية آل عمران: وهي قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}1 وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثانية: تفسير آية الفتح: وهي قوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}2 وقد سبق، والضمير فيها للمنافقين.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر: أي: ظن السوء،



1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة الفتح آية: 6.


ج / 2 ص -395- الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
ـ

والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمه الله، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه: أي: لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء، وأما الرب; فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.

ولا تظن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل


مناسبة الباب للتوحيد

إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات; لأن الله قال في الأسماء: {وَلِلَّهِ {الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}1 فإذا ظن بالله ظن السوء; لم تكن الأسماء حسنى، وقال في الصفات: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}2 وإذا ظن بالله ظن السوء، لم يكن له المثل الأعلى.



1 سورة الأعراف آية: 180.
2 سورة النحل آية: 60.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 02:08PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في منكري القدر

ج / 2 ص -396- باب: ما جاء في منكري القدر


قوله: "منكري": أصله منكرين -جمع مذكر سالم-; فحذفت النون للإضافة كما يحذف التنوين أيضا، قال الشاعر:
فأين تراني لا تحل جواري

كأني تنوين وأنت إضافة
وقيل: (مكاني) بدل (جواري).
قوله: "القدر": هو تقدير الله عز وجل للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه.
قال بعض أهل العلم: القدر سر الله عز وجل في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه، سواء كان خيرا أو شرا.


والقدر يطلق على معنيين:
الأول: التقدير; أي: إرادة الله عز وجل الشيء.
الثاني: المقدر; أي: ما قدره الله عز وجل.
والتقدير يكون مصاحبا للفعل وسابقا له ; فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو الذي قدره الله عز وجل في الأزل.
مثال ذلك: خلق الجنين في بطن الأم، فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل; أي; تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه.


ج / 2 ص -397-


والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصا وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات; لأنه من صفات الكمال لله عز وجل. والناس في القدر ثلاث طوائف:
الأولى: الجبرية الجهمية، أثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا: ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه; فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منه ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارا وبين أن يلقى من السطح مكرها.


الطائفة الثانية: القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق، ونفى غلاتهم علم الله به قبل وقوعه; فأكل العبد وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم.


استدل الأولون الجبرية: بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}1 والعبد وفعله من الأشياء. وبقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}2 وبقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}3 فنفى الله الرمي عن نبيه حين رمى وأثبته لنفسه. وبقوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}4 ولهم شبه أخرى تركناها خوف الإطالة.


والرد على شبهاتهم بما يلي:
أما قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}5 فاستدلالهم بها معارض


1 سورةالزمر آية: 62.
2 سورة الصافات آية: 96.
3 سورة الأنفال آية: 17.
4 سورة الأنعام آية: 148.
5 سورة الزمر آية: 62.


ج / 2 ص -398-


بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإثابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة.


وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}1 فهو حجة عليهم; لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه; فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله عز وجل فكان الحاصل بهما مخلوقا لله.
وأما قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}2 فهو حجة عليهم;

لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم لكن الرمي في الآية له معنيان:
أحدهما: حذف المرمي، وهو فعل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أضافه الله إليه.
والثاني: إيصال المرمي إلى أعين الكفار الذين رماهم النبي صلى الله عليه وسلم بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله; إذ ليس بمقدور النبي صلى الله عليه وسلم أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم.
وأما قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}3 فلعمر الله; إنه لحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذين احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}4 وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به.


ثم نقول: القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته.



1 سورة الصافات آية: 96.
2 سورة الأنفال آية: 17.
3 سورة الأنعام آية: 148.
4 سورة الأنعام آية: 148.


ج / 2 ص -399-


فمن أدلة الكتاب: قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}1 فأثبت للعبد إرادة. وقال تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}2.
وقال: {إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}3.
وقال: {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}4 فأثبت للعبد إرادة قولا وفعلا وعملا.
ومن أدلة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه; فاجتنبوه، وما أمرتكم به; فأتوا منه ما استطعتم"6 ولهذا إذا أكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه; لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارا.


وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر; فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم.
وأما دلالة العقل على بطلانه; فلأنه لو كان العبد مجبرا على عمله; لكانت عقوبة العاصي ظلما ومثوبة الطائع عبثا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل; لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة.
وأما دلالة الحس على بطلانه; فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله




1 سورة آل عمران آية: 152.
2 سورة آل عمران آية: 167.
3 سورة النمل آية: 88.
4 سورة المنافقون آية: 11.
5 رواه: البخاري (1), ومسلم (1907).
6 رواه: البخاري (7288), ومسلم (1337).


ج / 2 ص -400-


باختياره; كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره; كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك.
واستدل الطائفة الثانية (القدرية) بقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ}1 فأثبت للعبد إرادة، وبقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}2 ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك.


والرد عليهم من وجوه:
الأول: أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان: نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله; كقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}3 وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً}4 وكقوله تعالى في العمل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}5.


والنوع الثاني: مطلق; كقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}6 وقوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}7 وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ}8 إلى قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}9 وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم.



1 سورة آل عمران آية: 152.
2 سورة فصلت آية: 46.
3 سورة آية: 28-29.
4 سورة آية: 29-30.
5 سورة البقرة آية: 253.
6 سورة البقرة آية: 223.
7 سورة الكهف آية: 29.
8 سورة الإسراء آية: 18.
9 سورة الإسراء آية: 19.


ج / 2 ص -401-

ـ
الثاني: أن إثبات استقلال العبد بعمله مع كونه مملوكا لله تعالى يقتضي إثبات شيء في ملك الله لا يريده الله، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم القدرية مجوس هذه الأمة1.
الثالث: أن نقول لهم: هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد؟ فسيقول غير الغلاة منهم: نعم، نقر بذلك، فنقول: هل وقع فعلهم على وفق علم الله أو على خلافه؟ فإن قالوا: على وفقه، قلنا: إذن قد أراده، وإن قالوا: على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خصموا، وإن أنكروه، كفروا.


وهاتان الطائفتان -الجبرية والقدرية- ضالتان طريق الحق؛ لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر; فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر.


ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم:
الطائفة الثالثة: أهل السنة والجماعة، الطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة; فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارا وقدرة; فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم; فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى، لا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله عز وجل، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى; كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ



1 أخرجه: أحمد (2/ 86)، وأبو داود (4691)، وهو مشهور عند أهل العلم، لكن فيه ضعف.


ج / 2 ص -402-


الْعَالَمِينَ}1، فإذا شاء العبد شيئا وفعله; علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة.
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول; فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة القدر. وأدلتهم على إثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاة مشيئة العبد وقدرته.


وبهذا نعرف أن كلا من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد; فهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
حكاية: مما يحكى أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزليا أيضا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فقال عبد الجبار على الفور: سبحان من تنزه عن الفحشاء! فقال أبو إسحاق فورا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء! فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده: أيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق: أيعصى ربنا قهرا؟ فقال له عبد الجبار: أرأيت إن منعني الهدى وقضى علي بالردى; أحسن إلي أم أساء؟ فقال له أبو إسحاق: إن كان منعك ما هو لك; فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له; فيختص برحمته من يشاء. فانصرف الحاضرون وهم يقولون: والله; ليس عن هذا جواب. ا ه.


وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أهل السنة والجماعة

1 سورة التكوير، آية: 28-29.


ج / 2 ص -403-


وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في "العقيدة الواسطية"; فلتراجع هناك.


مراتب القدر:

وهي أربع يجب الإيمان بها كلها:
المرتبة الأولى: العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلا، فعلم ما كان وما يكون; فكل شيء معلوم لله، سواء كان دقيقا أم جليلا من أفعاله أو أفعال خلقه. وأدلة ذلك في الكتاب كثيرة منها: قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}1 فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر; فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى. ولاحظ سعة علم الله عز وجل وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق; فهذه ظلمات متعددة: ظلمة الطبقة الأرضية، وظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة المطر، وظلمة الأمواج، وظلمة الليل; فكل هذا داخل في قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ}2 ثم جاء العموم المطلق: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}3 ولا كتابة إلا بعد علم. ففي هذه الآية إثبات العلم وإثبات الكتابة.
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}4 ففي الآية أيضا إثبات العلم وإثبات الكتابة.



1 سورة الأنعام آية: 59.
2 سورة الأنعام آية: 59.
3 سورة الأنعام آية: 59.
4 سورة الحج آية: 70.


ج / 2 ص -404-

المرتبة الثانية: الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان.
المرتبة الثالثة: المشيئة، وهي عامة، ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته; فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبدا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله المخلوق، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1 وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}2 وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ}3 الآية.


المرتبة الرابعة: الخلق; فما من شيء في السماوات والأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}4 وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله; لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو وصفاته مخلوقان،

ولأن فعله ناتج عن أمرين:
1- إرادة جازمة.
2- قدرة تامة.
والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة التامة ولهذا قيل لأعرابي: بم عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم، وصرف الهمم.


والعبد يتعلق بفعله شيئان:
1- خلق، وهذا يتعلق بالله.
2- مباشرة، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}5 وقال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ



1 سورة يس آية: 82.
2 سورة الأنعام آية: 112.
3 سورة البقرة آية: 253.
4 سورة الزمر آية: 62.
5 سورة الواقعة آية: 24.


ج / 2 ص -405-

ـــ
تَعْمَلُونَ}1، ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثابته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع،

وقد جمعت في بيت:

علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وهناك تقديرات أخرى نسبية: منها: تقدير عمري: حين يبلغ الجنين في بطن أمه أربعة أشهر يرسل إليه الملك; فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. ومنها: التقدير الحولي، وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال الله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}2 ومنها التقدير اليومي: كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}3 فهو كل يوم يغني فقيرا، ويفقر غنيا، ويوجد معدوما، ويعدم موجودا، ويبسط الرزق ويقدره، وينشئ السحاب والمطر، وغير ذلك.


فإن قيل: هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره؟
الجواب: لا ينافيه; لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله; كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له: إن في الشام طاعونا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم: نرجع. فعزم على الرجوع، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، فقال: يا أمير المؤمنين! أفرارا من قدر الله؟ فأجاب



1 سورة النحل آية: 32.
2 سورة الدخان آية: 4.
3 سورة الرحمن آية: 29.


ج / 2 ص -406-


عمر: "نفر من قدر الله إلى قدر الله"1.
يعني: أن مضينا في السفر بقدر الله ورجوعنا بقدر الله، ثم ضرب له مثلا، قال: أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديا له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة; أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله.
وقال أيضا: "أرأيت لو رعى الجدبة وترك الخصبة; أكنت معجزه؟ قال: نعم. قال: فسر إذن" ومعنى معجزه: ناسبا إياه إلى العجز. فالإنسان وإن كان يفعل; فإنما يفعل بقدر الله.


فإن قيل: إذا تقرر ذلك; لزم أن يكون العاصي معذورا بمعصيته; لأنه عصى بقدر الله؟
أجيب: إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر. أما بطلانه بالشرع: فقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}2 فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}3 ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، وقال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ}4 وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله، وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}5 فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل; لأن القدر باق حتى مع إرسال



1 أخرجه: البخاري في (الطب, باب ما يذكر في الطاعون, 4/41), ومسلم في (السلام, باب الطاعون والطيرة, 4/ 1740); عن ابن عباس رضي الله عنه.
2 سورة الأنعام آية: 148.
3 سورة الأنعام آية: 148.
4 سورة الأنعام آية: 148.
5 سورة النساء آية: 165.


ج / 2 ص -407-


الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله.
وأما بطلانه بالنظر; فنقول: لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبها كذا وكذا، ووظيفة أخرى أقل منها; فإنك سوف تطلب الأعلى، فإن لم يكن; طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شيء منها; فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها مع أول الناس. وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه في كل يوم خمس مرات، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة; فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة; فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة؟!


مثال آخر: رجل قال: عسى ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج; فنقول: تزوج حتى يأتيك. فقال: لا; فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج; فإن الله بمشيئته قد يرزقه الولد المطلوب. وكذلك من يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك; فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك.


فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة جامعة مانعة نافعة: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار. قالوا: يا رسول الله! أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: اعملوا; فكل ميسر لما خلق له"12 فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا كلمة واحدة، فقال: "اعملوا..."، وهذا فعل أمر، "فكل ميسر لما خلق له".


وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة منها:


1 البخاري: تفسير القرآن (4945) , ومسلم: القدر (2647) , والترمذي: القدر (2136) وتفسير القرآن (3344) , وأبو داود: السنة (4694) , وأحمد (1/82 ,1/129 ,1/132 ,1/140 ,1/157).
2 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب فأما من أعطى واتقى , 3/ 324), ومسلم في (القدر, باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه, 4/ 2039-2040); عن علي رضي الله عنه.


ج / 2 ص -408- وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده; لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله; ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر" ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم:.......


1- أنه من تمام توحيد الربوبية.
2- أنه يوجب صدق الاعتماد على الله عز وجل لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله.
3- أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك; اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة.
4- منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملا يشكر عليه; لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}1 أي: فرح بطر وإعجاب بالنفس.


5- عدم حزنه على ما أصابه; لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة.
6- أن الإنسان يفعل الأسباب; لأنه يؤمن بحكمة الله عز وجل وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها.
قوله: "والذي نفس ابن عمر بيده": الصيغة هنا قسم، جوابه: جملة "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله; ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر": وابن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه- ذكر حكمهم



1 سورة الحديد، آية: 22-23.


ج / 2 ص -409- "الإيمان أن تؤمن بالله......


بالنسبة لقبول عملهم، ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابا على ما نقل إليه من أن أناسا من البصرة يقولون: إن الله عز وجل لم يقدر فعل العبد، وإن الأمر أنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه; فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله: "ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر"، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر; لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}1 ثم استدل ابن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"2 فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة; فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ; كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً}3.


ووجه استدلال ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان مبنيا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان; سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئا واحدا من هذه الأركان الستة; صار كافرا، وإذا كان كافرا; فإن الله لا يقبل منه.


قوله: "أن تؤمن بالله": والإيمان بالله عز وجل يتضمن أربعة أمور:
1- الإيمان بوجوده.
2- وبربوبيته.
3- وبألوهيته.
4- وبأسمائه وصفاته.
فمن أنكر وجود الله; فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل



1 سورة التوبة آية: 54.
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).
3 سورة آية: 150-151.


ج / 2 ص -410- وملائكته وكتبه.....


شيء، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أنكر أن يكون مختضا بها; فهو غير مؤمن بالله.
قوله: "وملائكته":


والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور:
1- الإيمان بوجودهم.
2- الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم.
3- الإيمان بأفعالهم.
4- الإيمان بصفاتهم.
فمِمّن علمنا صفاته جبريل عليه السلام، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح، قد سد الأفق; كما أخبرنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدا; فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي أحيانا بصورة بشر; فأتى مرة بصورة دحية الكلبي، وأتى مرة بصورة رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يرى عليه أثر سفر، ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم جلسة المتعلم المتأدب1.
قوله: "وكتبه": أي: الكتب التي أنزلها على رسله.


والإيمان بالكتاب يتضمن ما يلي:
1- الإيمان بأنها حق من عند الله.
2- تصديق أخبارها.
3- التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلى هذا، فلا يلزمنا أن نلتزم بأحكام الكتب السابقة; لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن. وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن; لأن القرآن فيه أشياء منسوخة.



1 أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب بيان الإيمان, 1/ 36); عن ابن عمر, عن أبيه رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -411- ورسله......


4- الإيمان بما علمناه معينا منها، مثل: التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى.
5- الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب; كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ}1 وقال عيسى: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}2 وقال عن يحيى كذلك3.


تنبيه:

الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان; فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب.
قوله: "ورسله": هم الذين أوحى الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق؛ ليبلغوا شريعة الله.


والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي:
1- أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون.
2- أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام; ما لم تنسخ.
3- أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه; فنؤمن بهم على سبيل الإجمال، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله -سبحانه وتعالى- أرسل لكل أمة رسولا تقوم به الحجة عليهم; كما قال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}4.


والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورون; لأنهم يقولون:


1 سورة الحديد آية: 25.
2 سورة مريم آية: 30.
3 كما في قوله تعالى: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا [مريم: 12].
4 سورة النساء آية: 165.


ج / 2 ص -412- واليوم الآخر 1...


يا ربنا! ما أرسلت إلينا رسولا; كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى}2 فلا بد من رسول يهدي به الله الخلق.
فإن قيل: قوله تعالى: {عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ}3 يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول; فهل قامت عليهم الحجة؟
الجواب: إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة; لأن فيها بقايا; كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه"; "إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم; إلا بقايا من أهل الكتاب"4 وكما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا}5.


قوله: "واليوم الآخر": أي: اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبرى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في "العقيدة الواسطية"، وهو كتاب مختصر; لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه.
وعلى هذا; فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر.
والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة




1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).
2 سورة طه آية: 134.
3 سورة المائدة آية: 119.
4 أخرجه: مسلم في (الجنة, باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة, 4/ 2197); من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.
5 سورة هود آية: 116.


ج / 2 ص -413- وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم1.


عراة غرلا بهما من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيها من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم; كل هذا من الإيمان باليوم الآخر. ومنه ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به.
"قوله: "وتؤمن بالقدر خيره وشره": هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف; لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه.


والإيمان بالقدر هو أن تؤمن بتقدير الله عز وجل للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله عز وجل قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم; فالعلم سابق على الكتابة، ثم إنه ليس كل معلوم لله -سبحانه وتعالى- مكتوبا; لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله عز وجل ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنها مكتوبة.


وهذا القدر، قال بعض العلماء: إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يطلع الله عليه أحدا; لا ملكا مقربا، ولا نبيا مرسلا; إلا ما أوحاه الله عز وجل إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا; فإنه سر مكتوم، قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً}2 الآية، وإذا قلنا: إنه سر مكتوم; فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته; لأننا نقول لهذا الذي عصى الله عز وجل وقال: هذا مقدر



1 أخرجه: مسلم (في الإيمان, باب بيان الإيمان والإسلام, 1/36).
2 سورة لقمان آية: 34.


ج / 2 ص -414-

ــ
علي: ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت; أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك؟
قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}1 فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين.


وقوله: "خيره وشره": الخير: ما يلائم العبد، والشر: ما لا يلائمه. ومعلوم أن المقدورات خير وشر; فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغنى خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا.
وإذا كان القدر من الله; فكيف يقال: الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله؟
فالجواب: أن الشر لا ينسب إلى الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك"2، فلا ينسب إليه الشر لا فعلا ولا تقديرا ولا حكما، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}3 تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجى به من العاقبة الحميدة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي:
ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار; فالكي شر، لكن




1 سورة الصف آية: 5.
2 أخرجه: مسلم برقم (771).
3 سورة الروم آية: 41.


ج / 2 ص -415-


الفعل خير; لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شرا محضا، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر; صار ذلك شرا بالنسبة له، وقد يكون خيرا له من وجه آخر، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به، فيكون خيرا، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}1.


وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه; فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله. وكم من إنسان أذنب ذنبا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرا منه قبلها; لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها; فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}2 فقال تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}3.


والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالهم بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم; حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم -صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه-، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدا، وصارت حالهم أيضا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ



1 سورة البقرة آية: 66.
2 سورة الأعراف آية: 23.
3 سورة طه آية: 122.


ج / 2 ص -416-


الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}1 فهذه آيات عظيمة تتلى في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه، وهذا شيء عظيم.
وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن هاهنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله -سبحانه وتعالى-; فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه; فهو خير، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "الخير بيديك، والشر ليس إليك"2 ولم يقل: والشر بيديك; فلا ينسب الشر إلى الله أبدا، فضلا عن أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء; فالله لا يريد بقضاء الشر شرا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية; فهذا في المقضي، ومع ذلك; فهو وإن كان شرا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرا محضا، حتى المقضي وإن كان شرا ليس شرا محضا، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر.


ولنضرب لذلك مثلا: الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي


1 سورة التوبة آية: 118.
2 أخرجه: مسلم في (صلاة المسافرين, 771).


ج / 2 ص -417-


النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1 والرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيرا كثيرا; فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذه إذا كان يعقبه الصلاح، ولهذا قال: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وكم من أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله عز وجل واشتغلوا بالمال، فإذا أصيبوا بفقر; رجعوا إلى الله، وعرفوا أنهم ضالون; فهذا الشر صار خيرا باعتبار آخر.


كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له; فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضا خير في غير السارق; فإن فيه ردعا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضا حفظ للأموال; لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده; امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس،


ولهذا قال بعض الزنادقة:

يد بخمس مئين عسجدا وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستجير بمولانا من النار


لكنه أجيب في الرد عليه ردا مفحما; فقيل فيه:

قل للمعري عار أيما عاري جهل الفتى وهو من ثوب التقى عاري
يد بخمس مئين عسجدا وديت لكنها قطعت في ربع دينار
حماية النفس أغلاها وأرخصها حماية المال فافهم حكمة الباري


1 سورة الروم آية: 41.


ج / 2 ص -418- وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك،.....


· قوله في حديث عبادة "أنه قال لابنه: يا بني!... إلخ: أفاد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال: "يا بني!"، وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر.


قوله: "لن تجد طعم الإيمان": هذا يفيد أن للإيمان طعما كما جاءت به السنة وطعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة; فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتى بعدها طعام آخر أزالها، لكن طعم الإيمان يبقى مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله عز وجل فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة; فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم.


قوله: "حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك": قد تقول: ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل; لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلا بد أن نعرف معنى هذه العبارة;

فتحمل هذه العبارة على أحد معنيين أو عليهما جميعا:
الأول: أن المعنى "ما أصابك"; أي: ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة; لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب.
الثاني: ما أصابك; فلا تفكر أن يكود مخطئا لك، فلا تقل: لو أنني فعلت كذا ما حصل كذا; لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك; فكل التقديرات التي تقدرها وتقول: لو أني فعلت كذا ما حصل


ج / 2 ص -419- وما أخطأك لم يكن ليصيبك،.....


كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئا، وأيا كان; فالمعنى صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلا بد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبا للإنسان; فإنه لن يمنعه شيء، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت طعم الإيمان; لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لا بد أن يقع على ما وقع عليه، ولا يمكن أن يتغير أبدا.


مثال ذلك: رجل خرج بأولاده للنزهة، فدب بعض الأولاد إلى بِركة عميقة، فسقط، فغرق، فمات، فلا يقول: لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لا بد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير; فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضى، ويعرف أنه لا مفر، وأن كل التقديرات والتخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان; فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضى ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعنى في قوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}1.
فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك; ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة; فتجده يعمل أعمالا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله عز وجل مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره.


وقوله: "وما أخطأك لم يكن ليصيبك": نقول فيه مثل الأول; يعني: ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدا سمع بموسم تجارة في بلد


1 سورة آية: 22-23.


ج / 2 ص -420- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم،...


ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات; نقول له: ما أخطأك من هذا الربح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك مهما كان ومهما عملت، أو نقول: لم يكن ليصيبك; لأن الأمر لا بد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان.


ثم استدل لما يقول بقوله: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول ما خلق الله القلم ". القلم بالرفع، وروي بالنصب. فعلى رواية الرفع يكون المعنى: أن أول ما خلق الله هو القلم، لكن ليس من كل المخلوقات، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وأما على رواية النصب; فيكون المعنى: أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه له; يعني: خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلى هذا المعنى لا إشكال فيه، لكن على المعنى الأول الذي هو الرفع: هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟


الجواب: لا; لأننا لو قلنا: إن القلم أول المخلوقات، وإنه أمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء، وأن أول بدء خلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله عز وجل لأن الله عز وجل لم يزل ولا يزال خالقا، وعلى هذا; فيكون: إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن.


قال أهل العلم: وتأويله: إن المعنى: أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من المخلوقات; كالسماوات والأرض... فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته:


ج / 2 ص -421- فقال له: اكتب. فقال: رب! وماذا أكتب؟..

ــــــ

والناس مختلفون في القلم الذي كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده قولان عند أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه قبل الكتابة كان ذا أركان
قوله: "فقال له: اكتب": القائل هو الله عز وجل يخاطب القلم، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة فصلت: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً}1 أي: لا بد أن تنقادا لأمر الله طوعا أو كرها; فكان الجواب: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}2 فقد خاطب الله السماوات والأرض وأجابتا ودل قوله: "طائعين" على أن لها إرادة وأنها تطيع; فكل شيء أمام الله; فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل.


قوله: "قال: ربي وماذا أكتب؟": "ماذا": اسم استفهام مفعوله مقدم، و"أكتب": فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، هذا إذا ألغيت "ذا"، أما إذا لم تلغ; فنقول: "ما": اسم استفهام مبتدأ، و"ذا": خبره; أي; ما الذي أكتب؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره: ما الذي أكتبه؟
وفي هذا دليل على أن الأمر المجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا; فإننا نقول: إذا كان الأمر مجملا; فإن طلب استبانته لا يكون معصية; فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله -سبحانه



1 سورة آية: 9-11.
2 سورة فصلت آية: 11.


ج / 2 ص -422- قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"1. يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"2.


وتعالى-، ومع ذلك قال: "رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، فكتب المقادير.
فإن قيل: هل القلم يعلم الغيب؟
فالجواب: لا، لكن الله أمره، ولا بد أن يمتثل لأمر الله، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادا بالنسبة لمفهومنا، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه; لأن الله إذا أراد شيئا قال له: كن; فيكون على حسب مراد الله.
و"كل": من صيغ العموم; فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين.


وقوله: "حتى تقوم الساعة": الساعة هي القيامة، وأطلق عليها لفظ الساعة; لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة; يعني: الساعة المعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور.
قوله: "يا بني! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا": أي: الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء.
قوله: "فليس مني": تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه كافر، والرسول صلى الله عليه وسلم بريء من كل كافر.



1 سنن الترمذي: كتاب القدر (2155) وكتاب تفسير القرآن (3319) , وسنن أبي داود: كتاب السنة (4700).
2 أخرجه: أبو داود في (السنة, باب في القدر, 4/76) وفيه حبيش بن شريح, وهو مقبول. ومن طريق آخر أخرجه: الترمذي في (القدر, 6/325), والطيالسي (557) , وابن أبي عاصم في "السنة" (105). وفيه عبد الواحد بن سليم. ومن طريق آخر أخرجه: ابن أبي عاصم (104) في "السنة" و "الأوائل" (2). وفيه بقية بن الوليد ومعاوية بن سليم. ومن طريق آخر أخرجه: أحمد (5/317), وابن أبي عاصم (107), والآجري (ص 177, 178). وفيه أيوب بن زياد الحمصي. وأخرجه أيضا: ابن أبي عاصم في "السنة" (103). وفيه ابن لهيعة. والحديث صححه الألباني; كما في "تعليقه على المشكاة" (1/34).


ج / 2 ص -423-


ويستفاد من هذا الحديث:
1- ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله: "يا بني!".
2- أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها، وذلك أنه لم يقل: إن الله كتب... وسكت، ولكنه أسند إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمثلا: إذا أردت أن تقول لابنك: سم الله على الأكل، وأحمد الله إذا فرغت; فإنك إذا قلت ذلك يحصل به المقصود، لكن إذا قلت: سم الله على الأكل، وأحمد الله إذا فرغت; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتسمية عند الأكل، وقال: "إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها، ويشرب الشربة ويحمده عليها"1.


إذا فعلت ذلك استفدت فائدتين:
الأولى: أن تعود ابنك على اتباع الأدلة.
الثانية: أن تربيه على محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، وهذه في الحقيقة كثيرا ما يغفل عنها; فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة.


ـ
1 أخرجه: مسلم في (الذكر والدعاء, باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب, 4/2095); عن أنه رضي الله عنه.


ج / 2 ص -424- وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة"1.

ـ
قوله: "وفي رواية لأحمد: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب...": هذه الرواية تفيد أمرا زائدا على ما سبق، وهو قوله: "فجرى في تلك الساعة"; فإنه صريح في أن القلم امتثل، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالا لأمر الله تعالى; فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله - سبحانه وتعالى- كل شيء إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}2 وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}3 أي: من قبل أن نبرأ الخليقة، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}4.


قوله: "إلى يوم القيامة": هو يوم البعث، وسمي يوم القيامة; لقيام أمور ثلاثة فيه:
الأول: قيام الناس من قبورهم لرب العالمين; كما قال تعالى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}5.
الثاني: قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم; لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}6.



1 أخرجه: الإمام أحمد (5/317), وابن أبي عاصم (107). وفيه أيوب بن زياد الحمصي, لم يوثقه غير ابن حبان; كما في "تعجيل المنفعة" (ص 79).
2 سورة الحج آية: 70.
3 سورة الحديد آية: 22.
4 سورةالحديد آية: 22.
5 سورة آية: 5-6.
6 سورة غافر آية: 51.


ج / 2 ص -425- وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار".

ــــــ
الثالث: قيام العدل; لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}1.
قوله: "وفي رواية لابن وهب": ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث.
قوله: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار": في هذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم الإيمان إلا به، وأما من لم يؤمن به; فإنه يحرق بالنار.
وقوله: "أحرقه الله بالنار": بعد قوله: "فمن لم يؤمن" يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار;

لأن لدينا ثلاث مقامات:
الأول: الإيمان والجزم بالقدر بمراتبه الأربع.
الثاني: إنكار ذلك.
وهذان واضحان; لأن الأول إيمان والثاني كفر.
الثالث: الشك والتردد.
فهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال: "فمن لم يؤمن"، ودخل في هذا النفي من أنكر ومن شك.


وفي قوله: "أحرقه الله بالنار" دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون لها بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة



1 سورة الأنبياء آية: 47.


ج / 2 ص -426- وفي " المسند " و"السنن" عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر; فحدثني بشيء، لعل الله أن يذهبه من قلبي......


أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما1 يعني: فحما أسود، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}2 وفي قوله تعالى {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}3.
قوله: "في نفسي شيء من القدر": لم يفصح عن هذا الشيء، لكن لعله لما حدثت بدعة القدر، وهي أول البدع حدوثا صار الناس يتشككون فيها ويتكلمون فيها، وإلا; فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق، ولا سيما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر، فغضب النبي عليه الصلاة السلام من ذلك، وأمرهم بأن لا يتنازعوا وأن لا يختلفوا، فكف الناس عن هذا4 حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشبه، فلهذا يقول ابن الديلمي: "في نفسي شيء من القدر...".


قوله: "فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبي": أي: يذهب هذا

1 أخرجه: البخاري في (الرقاق, باب صفة الجنة والنار, 1/20), ومسلم في (الإيمان, باب معرفة طريق الرؤية, 1/ 167- 171).
2 سورة الحج آية: 22.
3 سورة النساء آية: 56.
4 حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه; قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القدر; فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب, فقال: بهذا أمرتم, أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض؟! بهذا هلكت الأمم قبلكم". أخرجه: ابن ماجه في (المقدمة, باب في القدر, 1/33)- قال في "الزوائد": "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات"-, واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1119). وأخرجه: أيضا أحمد في "المسند"- تحقيق شاكر- طريق حماد (6846), ومن طريق أبي معاوية (6668), ومن طريق أنس بن عياض عن أبي حازم (6702). وقال أحمد شاكر: "إسناد صحيح".



ج / 2 ص -427- فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا; ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا; لكنت من أهل النار.....


الشيء، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضي الله عنهم; كأبي بن كعب; فلكل داء طبيب.
قوله: "لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر": هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر; لأن الذي لا تقبل منه النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
قوله: "حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك": قد سبق الكلام على هذه الجملة.


قوله: "ولو مت على غير هذا; لكنت من أهل النار": "مت" بالضم; لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخرى بالكسر "مت "; كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}1، في إحدى القراءتين، وهي على هذه القراءة من مات يميت بالياء.
قوله: "على غير هذا; لكنت من أهل النار": جزم أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار; لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها. وهل هذا الدواء يفيد؟


الجواب: نعم يفيد، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا; فلا بد أن يرتدع، ولا بد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.



1 سورة آل عمران آية: 158.


ج / 2 ص -428- قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت; فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"1 حديث صحيح رواه الحاكم في " صحيحه" 2.


وقوله: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت; فكلهم حدثني بمثل ذلك": المشار إليه الإيمان بالقدر، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وهؤلاء العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن.
فأبي بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى "إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة "لم يكن..." البينة، وقال: "إن الله أمرني أن أقرأها عليك"، فقال: يا رسول الله! سماني الله لك. قال: "نعم".


فبكى رضي الله عنه" بكاء فرح أن الله عز وجل سماه باسمه لنبيه، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة3. وأما عبد الله بن مسعود; فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل; فليقرأه على قراءة ابن أم عبد"4. وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب



1 أبو داود: السنة (4699) , وابن ماجه: المقدمة (77) , وأحمد (5/182 ,5/185 ,5/189).
2 أخرجه: أحمد (5/185, 189), وأبو داود في (السنة, باب في القدر, 5/75), وابن ماجه في (المقدمة, باب في القدر, 1/29), وعبد الله ابن الإمام أحمد في "السنة" (ص 107), وابن أبي عاصم في "السنة" (245), والطبراني في "الكبير" (4940), وابن حبان (1817), والخطيب في "الموضح" (1/184). وأخرجه من طريق آخر: الآجري في "الشريعة" (ص 187). وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/198): "رواه الطبراني بإسنادين, ورجال هذه الطريق ثقات".


3 أخرجه: البخاري في (مناقب الأنصار, باب مناقب أبي بن كعب, 3/44), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب من فضائل أبي, 4/1914); عن أنه رضي الله عنه.
4 أخرجه: أحمد (1/7), وابن ماجه في (المقدمة, فضل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه; 1/49); عن أبي بكر وعمر. وأخرجه: أحمد (1/26, 38), وابن سعد (2/432, 7/35), والحاكم (3/318) -وصححه على شرط الشيخين, ووافقه الذهبي-; عن عمر رضي الله عنه. وأحمد (1/445, 454), وابن سعد, والطيالسي (2/15), والطبراني, والبزار; كما في "مجمع الزوائد" (9/287); عن ابن مسعود. وقال الهيثمي: "وفيه عاصم بن أبي النجود, وهو على ضعفه حسن الحديث, وبقية رجال أحمد رجال الصحيح, ورجال الطبراني رجال الصحيح, عدا فرات بن محبوب وهو ثقة". والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/360); عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -429-



القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه1. وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي أسر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء المنافقين2.
والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع.
مسألة: الإيمان بالقدر هل هو متعلق بتوحيد الربوبية، أو بالألوهية، أو بالأسماء والصفات؟
الجواب: تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالألوهية والأسماء والصفات، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضا ظاهر; لأن الألوهية بالنسبة لله يسمى توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمى توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد; فلها تعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة.
مسألة: هل اختلف الناس في القدر؟


1 أخرجه: البخاري في (التفسير, باب لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم , 3/240).
2 أخرجه: البخاري في (فضائل الصحابة, باب مناقب عمار وحذيفة, 3/30); عن أبي الدرداء رضي الله عنه.




ج / 2 ص -430- فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان.
الثالثه: إحباط عمل من لم يؤمن به.


الجواب: نعم، اختلفوا فيه على ثلاث فرق، وقد سبق1.


فيه مسائل:

الأولى:
بيان فرض الإيمان بالقدر دليله قوله: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"2.
الثانية: بيان كيفية الإيمان: أي: بالقدر وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر; لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارا في بيت واحد، وهو قوله:

علم كتابة مولانا مشيئته وخلقه وهو إيجاد وتكوين
والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر.


الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به: تؤخذ من قول ابن عمر: "لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" ويتفرع منه ما ذكرناه سابقا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر; لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل.



1 انظر: (ص 397).
2 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51).


ج / 2 ص -431- الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة.


الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به: أي: بالقدر، وهو كذلك; لقول عبادة بن الصامت لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان... إلخ. وقد سبق أن الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة الإنسان بما قضاه الله عز وجل ويستريح لأنه علم أن هذا أمر لا بد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدا، "ولا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا; لأن لو تفتح عمل الشيطان"12 ولا ترفع شيئا وقع مهما قلت.


الخامسة: ذكر أول ما خلق الله: ظاهر كلام المؤلف: الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله، لأنه ثبت في "صحيح البخاري": "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شيء"34 وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق تحمل على أنه أول ما خلق بالنسبة لما يتعلق بهذا العالم المشاهد; فهو قبل خلق السماوات والأرض، فتكون أوليته نسبية.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام


ـ
1 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 سبق (ص 372).
3 البخاري: التوحيد (7418) , وأحمد (4/431).
4 أخرجه: البخاري في (التوحيد, باب وكان عرشه على الماء, 4/ 387); عن عمران بن حصين رضي الله عنه.


ج / 2 ص -432- السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.


الساعة: لقوله في الحديث: "فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة". وفيه أيضا من الفوائد: توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأنه يعقل أمر الله; لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال: "ماذا أكتب؟".

السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به: لقوله: "من مات على غير هذا; فليس مني"، وهذه البراءة مطلقة; لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرا مخرجا عن الملة.


الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء: لأن ابن الديلمي يقول: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت" بعد أن أتى أبي بن كعب; فدل هذا على أن من عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم. وفيه أيضا مسألة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم للتثبت; لأن ابن الديلمي سأل عدة علماء، أما سؤال أكثر من عالم لتتبع الرخص; فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود; فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنا وكثر الزنى في أشرافهم; غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وزنا منهم رجل بامرأة قالوا: اذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئا آخر; لأجل أن يتتبعوا الرخص.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا


ج / 2 ص -433-


الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط: لقول ابن الديلمي: "كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم"، وهذا مزيل للشبهة، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله; زالت الشبهة تماما، لكن تزول عن المؤمن، أما غير المؤمن; فلا تنفعه; فالله عز وجل يقول: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}1 وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}2 لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله; كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}3 ولهذا لما "قالت عائشة للمرأة: كان يصيبنا ذلك -تعني الحيض-; فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"4 لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يؤمن، ولهذا يذكر الله عز وجل إحياء الموتى ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك; فقال في أدلة العقل: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ}5 فهذه دلالة عقلية; فالعقل يؤمن إيمانا كاملا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى. وذكر أدلة حسية، منها قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى}6.
فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتطمئن الموافق.



1 سورة يونس آية: 101.
2 سورة آية: 96-97.
3 سورة الأحزاب آية: 36.
4 أخرجه: البخاري في (الحيض, باب لا تقضي الحائض الصلاة, 1/ 120), ومسلم في (الحيض, باب وجوب قضاء الصوم على الحائض, 1/ 265).
5 سورة الروم آية: 27.
6 سورة فصلت آية: 39.


ج / 2 ص -434-


وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة; فلا مانع أيضا أن تأتي به للاستدلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث إن أبا المعالي الجويني -غفر الله لنا وله- كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال له الهمداني: "دعنا من ذكر العرش; فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو". فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني.
فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية. وأشدها إقناعا للمؤمن هو الدليل السمعي; لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقا.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 08:09PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في المصورين

ج / 2 ص -435- باب: ما جاء في المصورين

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي;.....


قوله: "باب ما جاء في المصورين ": يعني: من الوعيد الشديد.
ومناسبة هذا الباب للتوحيدأن في التصوير خلقا وإبداعا يكون به المصور مشاركا لله في ذلك الخلق والإبداع.
قوله في الحديث: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي": ينتهي سند هذا الحديث إلى الله عز وجل ويسمى حديثا قدسيا، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب.


قوله: "ومن أظلم": "من": اسم استفهام والمراد به النفي; أي: لا أحد أظلم، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفهام كان أبلغ من النفي المحض; لأنه يكون مشربا معنى التحدي والتعجيز.
فإن قيل: كيف يجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ}1 وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}2 وغير ذلك من النصوص؟


فالجواب من وجهين:
الأول: أن المعنى أنها مشتركة في الأظلمية، أي أنها في مستوى واحد في كونها في قمة الظلم.

1 سورة البقرة آية: 114.
2 سورة الأنعام آية: 21.


ج / 2 ص -436- فليخلقوا ذرة،.......

ــ
الثانية: أن الأظلمية نسبية، أي أنه لا أحد أظلم من هذا في نوع هذا العمل لا في كل شيء، فيقال مثلا: من أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله، ومن أظلم في منع حق ممن منع مساجد الله، ومن أظلم في افتراء الكذب ممن افترى على الله كذبا.


قوله: "يخلق": حال من فاعل ذهب; أي: ممن ذهب خالقا. والخلق في اللغة: التقدير، قال الشاعر:

ولأنت تفري ما خلقت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
تفري; أي: تفعل، ما خلقت; أي: ما قدرت. ويطلق الخلق على الفعل بعد التقدير، وهذا هو الغالب، والخلق بالنسبة للإنسان يكون بعد تأمل ونظر وتقدير، وأما بالنسبة للخالق; فإنه لا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه، فالخلق بالنسبة للمصور يكون بمعنى الصنع بعد النظر والتأمل.
قوله: "يخلق كخلقي": فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله، وقد سبق الكلام على هذا والجواب عنه في أول الكتاب.
قوله: "فليخلقوا ذرة": اللام للأمر، والمراد به التحدي والتعجيز، وهذا من باب التحدي في الأمور الكونية، وقوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}1 من باب التحدي في الأمور الشرعية.


والذرة: واحدة الذر، وهي النمل الصغار، وأما من قال: بأن الذرة هي ما تتكون منها القنبلة الذرية فقد أخطأ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الصحابة بلغة العرب وهم لا يعرفون القنبلة الذرية، وذكر الله الذرة لأن فيها روحا، وهي من أصغر الحيوانات.



1 سورة الطور آية: 34.


ج / 2 ص -437- أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"12 أخرجاه.


قوله: "أو ليخلقوا حبة": "أو" للتنويع; أي: انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع من الشعير وغيره وليس لها روح.
قوله: "أو ليخلقوا شعيرة": يحتمل أن المراد شجرة الشعير، فيكون في الأول ذكر التحدي بأصل الزرع وهي الحبة، ويحتمل أن المراد الحبة من الشعير ويكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام; لأن حبة الشعير أخص من الحب. أو تكون "أو" شكا من الراوي. فالله تحدى الخلق إلى يوم القيامة أن يخلقوا ذرة أو يخلقوا حبة أو شعيرة.
فإن قيل: يوجد رز أمريكي مصنوع.


أجيب: إن هذا المصنوع لا ينبت كالطبيعي، ولعل هذا هو السر في قوله: "أو ليخلقوا حبة"، ثم قال: "أو ليخلقوا شعيرة"; لأن الحبة إذا غرست في الأرض فلقها الله، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}3 وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}4 أي: اجتمعوا لخلقه متعاونين عليه وقد هيئوا كل ما عندهم، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}5.


قال العلماء: لو أن الذباب وقع على هذه الأصنام فامتص شيئا من طيبها ما استطاعوا أن يستنقذوه منه، فيكون الذباب غالبا لها، {ضَعُفَ الطَّالِبُ} أي: العابد والمعبود، {وَالْمَطْلُوبُ} أي: الذباب.



1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
2 أخرجه: البخاري في (اللباس, باب نقض الصور, 4/ 82), ومسلم في (اللباس والزينة, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1671).
3 سورة الأنعام آية: 95.
4 سورة الحج آية: 73.
5 سورة الحج آية: 73.


ج / 2 ص -438-


ويستفاد من هذا الحديث،
وهو ما ساقه المؤلف من أجله: تحريم التصوير لأن المصور ذهب يخلق كخلق الله ليكون مضاهيا لله في صنعه،


والتصوير له أحوال:
الحال الأولى:
أن يصور الإنسان ما له ظل كما يقولون; أي: ما له جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها; فهذا أجمع العلماء فيما أعلم على تحريمه، فإن قلت: إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله، ولكن صور عبثا; يعني: صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئا على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله، بل قصده العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به ;

فهل يدخل في الحديث؟
فالجواب: نعم، يدخل في الحديث; لأنه خلق كخلق الله، ولأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد، وهذا هو سر المسألة، فمتى حصلت المضاهاة ثبت حكمها، ولهذا لو أن إنسانا لبس لبسا يختص بالكفار ثم قال: أنا لا أقصد التشبه بهم; نقول: التشبه منك بهم حاصل أردته أم لم ترده، وكذلك لو أن أحدا تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك وقال: ما أردت التشبه; قلنا له: قد حصل التشبه، سواء أردته أم لم ترده.


الحال الثانية:

أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط فهذا محرم لعموم الحديث، ويدل عليه حديث النمرقة حيث "أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته، فلما أراد أن يدخل رأى نمرقة فيها تصاوير، فوقف وتأثر، وعرفت الكراهة في وجهه، فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أذنبت يا رسول الله; فقال:


ج / 2 ص -439-


إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم"1 فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم، وقوله في "صحيح البخاري": "إلا رقما في ثوب2 "، إن صحت الرواية هذه; فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها.


الحال الثالثة:

أن تلتقط الصور التقاطا بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط; فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين:
فالقول الأول: أنه تصوير، وإذا كان كذلك; فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويرا; إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة، ونحن متفقون على أن هذه صورة; فحركته تعتبر تصويرا، فيكون داخلا في العموم.
القول الثاني: أنها ليست بتصوير; لأن التصوير فعل المصور، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة، والتصوير من صنع الله. ويوضح ذلك لو أدخلت كتابا في آلة التصوير، ثم خرج من هذه الآلة; فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك، بدليل أنه قد يشغلها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقا أو أعمى في ظلمة، وهذا القول أقرب; لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعا ولا مخططا، ولكن يبقى النظر: هل يحل هذا الفعل أو لا؟
والجواب: إذا كان لغرض محرم صار حراما، وإذا كان لغرض مباح


ـ
1 أخرجه: البخاري في (اللباس, باب من كره القعود على الصور, 4/82), ومسلم في (اللباس, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1669); عن عائشة رضي الله عنها.
2 أخرجه: البخاري في الموضع السابق, ومسلم في الموضع السابق (3/1665).


ج / 2 ص -440- .


صار مباحا; لأن الوسائل لها أحكام المقاصد، وعلى هذا; فلو أن شخصا صور إنسانا لما يسمونه بالذكرى، سواء كانت هذه الذكرى للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه; فإن ذلك محرم ولا يجوز لما فيه من اقتناء الصور; لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك.


وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه; فهذا يكون مباحا، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلى هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره، وقال: صورني، فصوره; فإن هذا المصور لا نقول: إنه داخل في الحديث; أي: حديث الوعيد على التصوير، أما إذا قال: صورني لغرض آخر غير مباح; صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان.


الحال الرابعة:

أن يكون التصوير لما لا روح فيه وهذا على نوعين:
النوع الأول: أن يكون مما يصنعه الآدمي; فهذا لا بأس به بالاتفاق; لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة; مثل أن يصور الإنسان سيارته; فهذا يجوز; لأن صنع الأصل جائز، فالصورة التي هي فرع من باب أولى.


النوع الثاني: ما لا يصنعه الآدمي وإنما يخلقه الله، فهذا نوعان: نوع نام، ونوع غير نام، فغير النامي; كالجبال، والأودية، والبحار، والأنهار; فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق، أما النوع الذي ينمو; فاختلف في ذلك أهل العلم، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره لما سيأتي في الأحاديث.


ج / 2 ص -441-


وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره، واستدل بأن هذا من خلق الله عز وجل والحديث عام: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"1 ولأن الله عز وجل تحدى هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة2 والحبة أو الشعيرة ليس فيها روح، لكن لا شك أنها نامية، وعلى هذا; فيكون تصويرها حراما، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمه الله - أعلم التابعين بالتفسير-، وقال: إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار، لكن جمهور أهل العلم على الجواز،

وهذا الحديث هل يؤيد رأي الجمهور أو يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله؟

الجواب: يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله أمران:
أولا: العموم في قوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي"3.
ثانيا: قوله: "أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"، وهذه ليست ذات روح; فظاهر الحديث هذا مع مجاهد ومن يرى رأيه، ولكن الجمهور أجابوا عنه بالأحاديث التالية، وهي أن قوله: "أحيوا ما خلقتهم4 "، وقوله: "كلف أن ينفخ فيها الروح5 " يدل على أن المراد تصوير ما فيه روح، وأما قوله: "أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة"; فذكر على سبيل التحدي; أي: أن أولئك المصورين عاجزون حتى عن خلق ما لا روح فيه.


ـــ
1 البخاري: اللباس (5953) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 , 259 , 391 , 451 , 527).
2 سبق (ص 437).
3 البخاري: اللباس (5953) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
4 سبق تخريجه.
5 سيأتي (ص 446).


ج / 2 ص -442- ولهما عن عائشة رضي الله عنها; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله"1.



قوله: "أشد": كلمة أشد اسم تفضيل بمعنى أعظم وأقوى.
قوله: "الناس": للعموم، والمراد الذين يعذبون.
وقوله: "عذابا": تمييز مبين للمراد بالأشد; لأن التمييز كما قال ابن مالك:

اسم بمعنى من مبين نكرة ينصب تمييزا بما قد فسره2
والعذاب يطلق على العقاب ويطلق على ما يؤلم ويؤذي وإن لم يكن عقابا; فمن الأول قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}3 أي: العقوبة والنكال; لأنه يدخل النار والعياذ بالله; كما قال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ}4 ومن الثاني قول النبي عليه الصلاة والسلام: "السفر قطعة من العذاب"5 وقوله: "الميت يعذب بالنياحة عليه"6.


قوله: "يوم القيامة": هو اليوم الذي يبعث فيه الناس، وسبق وجه تسميته بذلك. وقوله: "أشد" مبتدأ، و"الذين يضاهئون" خبره، ومعنى يضاهئون; أي: يشابهون.
"بخلق الله"; أي: بمخلوقات الله -سبحانه وتعالى-. والذين



1 أخرجه: البخاري في (اللباس, باب ما وطئ من التصاوير, 4/82), ومسلم في (اللباس, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1668).
2 "ألفية ابن مالك" (ص 31).
3 سورة غافر آية: 46.
4 سورة هود آية: 98.
5 أخرجه: البخاري في (العمرة, باب السفر قطعة من العذاب, 1/545), ومسلم في (الإمارة, باب السفر قطعة من العذاب, 3/1526); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


6 أخرجه: البخاري في (الجنائز, باب ليس منا من شق الجيوب, 1/398), ومسلم في (الإيمان, باب تحريم ضرب الخدود, 1/ 99); عن عمر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -443-


يضاهئون بخلق الله هم المصورون; فهم يضاهئون بخلق الله سواء كانت هذه المضاهاة جسمية أو وصفية; فالجسمية أن يصنع صورة بجسمها، والوصفية أن يصنع صورة ملونة; لأن التلوين والتخطيط باليد وصف للخلق، وإن كان الإنسان ما خلق الورقة ولا صنعها لكن وضع فيها هذا التلوين الذي يكون وصفا لخلق الله عز وجل.


هذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون، وأنهم أشد الناس عذابا، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله عز وجل وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله; فذلك شيء آخر، فمن صنع شيئا ليعبد من دون الله; فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتى بخشبة وقال: اعبدوها; فقد دخل في التحريم; لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}1 لأنه أعان على الإثم والعدوان.


وقوله: "يضاهئون": هل الفعل يشعر بالنية بمعنى أنه لا بد أن يقصد المضاهاة، أو نقول: المضاهاة حاصلة سواء كانت بنية أو بغير نيه؟
الجواب: الثاني; لأن المضاهاة حصلت سواء نوى أم لم ينو; لأن العلة هي المشابهة، وليست العلة قصد المشابهة، فلو جاء رجل وقال: أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله، أنا أصور هذا للذكرى مثلا وما أشبه ذلك; نقول: هذا حرام; لأنه متى حصلت المشابهة ثبت الحكم; لأن الحكم يدور مع علته كما قلنا فيمن لبس لباسا خاصا بالكفار: إنه يحرم عليه هذا اللباس، ولو قال: إنه لم يقصد المشابهة; نقول: لكن حصل التشبه; فالحكم المقرون بعلة لا يشترط فيه القصد، فمتى وجدت العلة ثبت الحكم.


ــــــ
1 سورة المائدة آية: 2.


ج / 2 ص -444-


فيستفاد من الحديث:
1- تحريم التصوير، وأنه من الكبائر لثبوت الوعيد عليه، وأن الحكمة من تحريمه المضاهاة بخلق الله عز وجل.
2- وجوب احترام جانب الربوبية وأن لا يطمع أحد في أن يخلق كخلق الله عز وجل لقوله: "يضاهئون بخلق الله"، ومن أجل هذا حرم الكبر; لأن فيه منازعة للرب عز وجل وحرم التعاظم على الخلق; لأن فيه منازعة للرب -سبحانه وتعالى-، وكذلك هذا الذي يصنع ما يصنع فيضاهي خلق الله فيه منازعة لله عز وجل في ربوبيته في أفعاله ومخلوقاته ومصنوعاته; فيستفاد من هذا الحديث وجوب احترام جانب الربوبية.


قوله: "أشد الناس عذابا": فيه إشكال; لأن فيهم من هو أشد من المصورين ذنبا; كالمشركين والكفار، فيلزم أن يكونوا أشد عذابا،

وقد أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أن الحديث على تقدير "من"; أي: من أشد الناس عذابا بدليل أنه قد جاء ما يؤيده بلفظ: "إن من أشد الناس عذابا".
الثاني: أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم، بل يشاركهم غيرهم، قال تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}1 ولكن يشكل على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط; فكيف يسوى مع من هو خارج عن الإسلام ومستكبر؟!
الثالث: أن الأشدية نسبية، يعني أن الذين يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذابا الذين يضاهئون بخلق الله، وهذا أقرب.



1 سورة غافر آية: 46.


ج / 2 ص -445- ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم"1.


الرابع: أن هذا من باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه، ولم أر من قال بهذا، ولو قيل بهذا; لسلمنا من هذه الإيرادات، وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله".
قوله: "ولهما": أي: للبخاري ومسلم.


قوله: " كل مصور في النار": "كل": من أعظم ألفاظ العموم، وأصلها من الإكليل، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه الكلالة في الميراث للحواشي التي تحيط بالإنسان. فيشمل من صور الإنسان أو الحيوان أو الأشجار أو البحار، لكن قوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفسا" يدل على أن المراد صورة ذوات النفوس; أي: ما فيه روح.


قوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفس": الحديث في "مسلم" وليس في "الصحيحين"، لكنه بلفظ "يجعل" بالبناء للفاعل، وعلى هذا تكون "نفسا" بالنصب، وتمامه: فتعذبه في جهنم.
قوله: "يعذب بها": كيفية التعذيب ستأتي في الحديث الذي بعده أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.


وقوله: "كل مصور في النار": أي: كائن في النار. وهذه الكينونة



1 أخرجه: البخاري (5963), ومسلم (2110).


ج / 2 ص -446- ولهما عنه مرفوعا: "من صور صورة في الدنيا; كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ" 1.
ولمسلم عن أبي الهياج; قال: قال لي علي:....


عند المعتزلة والخوارج كينونة خلود; لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار، وعند المرجئة أن المراد بالمصور الكافر; لأن المؤمن عندهم لا يدخل النار أبدا، وعند أهل السنة والجماعة أنه مستحق لدخول النار وقد يدخلها وقد لا يدخلها، وإن دخلها لم يخلد فيها.


وقوله: "بكل صورة صورها": يقتضي أنه لو صور في اليوم عشر صور ولو من نسخة واحدة; فإنه يجعل له في النار عشر صور يقال له: انفخ فيها الروح، وظاهر الحديث أنه يبقى في النار معذبا حتى تنتهي هذه الصور.
قوله: "كلف": أي: ألزم، والمكلف له هو الله عز وجل.


قوله: "وليس بنافخ": أي: كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه، وعذب بهذا العذاب ليذوق جزاء ما عمل، وبهذا تزداد حسرته وأسفه، حيث إنه عذب بما كان في الدنيا يراه راحة له; إما باكتساب، أو إرضاء صاحب، أو إبداع صنعة.
قوله: "عن أبي الهياج": هو من التابعين.



1 أخرجه: البخاري في (اللباس, باب من لعن المصور, 4/83), ومسلم في اللباس, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1671).


ج / 2 ص -447- "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة;


قوله: "قال لي علي": هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: "ألا أبعثك": البعث: الإرسال بأمر مهم; كالدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}1.
قوله: "على ما بعثني": يحتمل أن تكون "على" على ظاهرها للاستعلاء; لأن المبعوث يمشي على ما بعث عليه، كأنه طريق له، وهذا هو الأولى; لأن ما وافق ظاهر اللفظ من المعاني فهو أولى بالاعتبار، ويحتمل أن "على" بمعنى الباء; أي: بما بعثني عليه. وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا إلى اليمن بعد قسمة غنائم حنين، وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة في حجة الوداع2.


قوله: "أن لا تدع": "أن": مصدرية، "لا": نافية، "تدع": منصوب بأن المصدرية وهي بدل بعض من كل من "ما" في قوله: "على ما بعثني"; لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب بأكثر من ذلك، لكن هذا مما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم.


قوله: "صورة": نكرة في سياق النفي فتعم. وجمهور أهل العلم: أن المحرم هو صور الحيوان فقط; لما ورد في "السنن" من حديث جبريل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فمر برأس التمثال يقطع، فيصير كهيئة الشجرة"3 وسبق بيان ذلك قريبا.


ـ
1 سورة النحل آية: 36.
2 أخرجه: البخاري في (المغازي, باب بعث علي بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن, 3/162), ومسلم في (الحج, باب بيان وجوه الإحرام, 2/883).
3 أخرجه: أحمد (2/305), وأبو داود في (اللباس, باب في الصور, 4/388), والترمذي في (الأدب, باب ما جاء أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة, 8/35)- وقال: "حسن صحيح"-.


ج / 2 ص -448- إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا; إلا سويته"1.


قوله: "إلا طمستها": إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون آخر يزيل معالمها، وإن كانت تمثالا فإنه يقطع رأسه، كما في حديث جبريل السابق، وإن كانت محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه; فالطمس يختلف، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أو لا.
قوله: "ولا قبرا مشرفا": أي: عاليا.


قوله: "إلا سويته" له معنيان: الأول: أي سويته بما حوله من القبور. الثاني: جعلته حسنا على ما تقتضيه الشريعة، قال تعالى: {الذي خلق فسوى}2 أي: سوى خلقه أحسن ما يكون، وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان.


والإشراف له وجوه:
الأول: أن يكون مشرفا بكبر الأعلام التي توضع عليه، وتسمى عند الناس (نصائل) أو (نصائب)، ونصائب أصح لغة من نصائل.
الثاني: أن يبني عليه، وهذا من كبائر الذنوب; لأن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن المتخذين عليها المساجد والسرج"3.
الثالث: أن تشرف بالتلوين، وذلك بأن يوضع على أعلامها ألوان مزخرفة.
الرابع: أن يرفع تراب القبر عما حوله فيكون بينا ظاهرا. فكل شيء مشرف; أي: ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوى بغيره، لئلا



1 أخرجه: مسلم في (الجنائز, دار الأمر بتسوية القبر, 2/ 666).
2 سورة الأعلى آية: 2.
3 سبق (1/428).


ج / 2 ص -449-


يؤدى ذلك إلى الغلو في القبور والشرك. ومناسبة ذكر القبر المشرف مع الصور:
أن كلا منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك، فإن أصل الشرك في قوم نوح أنهم صوروا صور رجال صالحين، فلما طال عليهم الأمد عبدوها، وكذلك القبور المشرفة قد يزداد فيها الغلو حتى تجعل أوثانا تعبد من دون الله، وهذا ما وقع في بعض البلاد الإسلامية، وقد أطال الشارح رحمه الله في هذا الباب في البناء على القبور، وذلك لأن فتنتها في البلاد الإسلامية قديمة وباقية، ما عدا بلادنا ولله الحمد; فإنها سالمة من ذلك، نسأل الله أن يديم عليها وأن يحمي بلاد المسلمين من شرها.


عقوبة المصور ما يلي:
1- أنه أشد الناس عذابا أو من أشدهم عذابا.
2- أن الله يجعل له في كل صورة نفسا يعذب بها في نار جهنم.
3- أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ.
4- أنه في النار.
5- أنه ملعون; كما في حديث أبي جحيفة في "البخاري" وغيره.


فائدتان:

الأولى:
"كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" يقتضي أن المراد التصوير تصوير الجسم كاملا وعلى هذا; فلو صور الرأس وحده بلا جسم أو الجسم وحده بلا رأس فالظاهر الجواز، ويؤيده ما سبق في الحديث: "مر برأس التمثال فليقطع"، ولم يقل: فليكسر، لكن تصوير


ج / 2 ص -450-


الرأس وحده عندي فيه تردد، أما بقية الجسم بلا رأس; فهو كالشجرة لا تردد فيه عندي.
الثانية: تؤخذ من حديث علي رضي الله عنه وهو قوله: "أن لا تدع صورة إلا طمستها" أنه لا يجوز اقتناء الصور، وهذا محل تفصيل;


فإن اقتناء الصور على أقسام:
القسم الأول: أن يقتنيها لتعظيم المصور; لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أبوه أو نحو ذلك; فهذا حرام بلا شك، ولا تدخل الملائكة بيتا فيه هذه الصورة; لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الربوبية، وتعظيم ذوي العبادة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية.


القسم الثاني: اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها; فهذا حرام أيضا; لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق.
القسم الثالث: أن يقتنيها للذكرى حنانا أو تلطفا، كالذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر فهذا أيضا حرام للحوق الوعيد به في قوله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة"1.


القسم الرابع: أن يقتني الصور لا لرغبة فيها إطلاقا، ولكنها تأتي تبعا لغيرها; كالتي تكون في المجلات والصحف ولا يقصدها المقتني، وإنما يقصد ما في هذه المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك; فالظاهر أن هذا لا بأس به; لأن الصور فيها غير مقصودة، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة; فهو أولى.



1 أخرجه: البخاري في (اللباس, باب من لم يدخل بيتا فيه صورة, 4/83), ومسلم في (اللباس, باب تحريم تصوير صورة الحيوان, 3/1669); عن عائشة رضي الله عنها.



ج / 2 ص -451- فيه مسائل:
الأولى:
التغليظ الشديد في المصورين.


القسم الخامس: أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل، أو مفترشة، أو موطوءة; فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة لأن في ذلك امتهانا للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية؟
الجواب: نقول: لا يلحق بذلك، بل لباس ما فيه الصور محرم على الصغار والكبار، ولا يلحق بالمفروش ونحوه; لظهور الفرق بينهما، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بتحريم لباس ما فيه صورة، سواء كان قميصا أو سراويل أم عمامة أم غيرها. وقد ظهر أخيرا ما يسمى بالحفائظ; وهي خرقة تلف على الفرجين للأطفال والحائض لئلا يتسرب النجس إلى الجسم أو الملابس; فهل تلحق بما يلبس أو بما يمتهن؟ هي إلى الثاني أقرب، لكن لما كان امتهانا خفيا وليس كالمفترش والموطوء صار استحباب التحرز منها أولى.


القسم السادس: أن يلجأ إلى اقتنائها إلجاء; كالصور التي تكون في بطاقة إثبات الشخصية والشهادات والدراهم فلا إثم فيه لعدم إمكان التحرز منه، وقد قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}1.


فيه مسائل:

الأولى:
التغليظ الشديد في المصورين تؤخذ من قوله: "أشد الناس عذابا..." الحديث.



1 سورة الحج آية: 78.


ج / 2 ص -452- الثانية: التنبيه على العلة، وهي ترك الأدب مع الله; لقوله: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم; لقوله: " فليخلقوا ذرة أو شعيرة".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.


الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله، تؤخذ من قوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي": فمن ذهب يخلق كخلق الله; فهو مسيء للأدب مع الله عز وجل لمحاولته أن يخلق مثل خلق الله تعالى، كما أن من ضاده في شرعه فقد أساء الأدب معه.


الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم; لقوله: "فليخلقوا ذرة أو شعيرة": لأن الله خلق أكبر من ذلك وهم عجزوا عن خلق الذرة أو الشعيرة.
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا: لقوله: "أشد الناس عذابا..." الحديث.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم: لقوله: "يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم".
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح: لقوله: "كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ"، وهذا نوع من التعذيب من أشق العقوبات.


ج / 2 ص -453- السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.


السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت: لقوله: "أن لا تدع صورة إلا طمستها": ويؤخذ من حديث الباب أيضا: الجمع بين فتنة التماثيل وفتنة القبور; لقوله: "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"; لأن في كل منهما وسيلة إلى الشرك. ويؤخذ منه أيضا: إثبات العذاب يوم القيامة، وأن الجزاء من جنس العمل; لأنه يجعل له بكل صورة صورها نفس فتعذبه في جهنم.
ويؤخذ منه: وقوع التكليف في الآخرة بما لا يطاق على وجه العقوبة.




المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 08:25PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في كثرة الحلف

ج / 2 ص -454- باب: ما جاء في كثرة الحلف


وقول الله تعالى:
{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1.


الحلف: هو اليمين والقسم، وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بأحد حروف القسم، وهي: الباء، والواو، والتاء.


ومناسبة الباب لكتاب التوحيد

أن كثرة الحلف بالله يدل على أنه ليس في قلب الحالف من تعظيم الله ما يقتضي هيبة الحلف بالله، وتعظيم الله تعالى من تمام التوحيد.
قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}2 هذه الآية ذكرها الله في سياق كفارة اليمين، وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط; فالابتداء الحلف، والانتهاء الكفارة، والوسط الحنث، وهو أن يفعل ما حلف على تركه، أو يترك ما حلف على فعله، وعلى هذا كل يمين على شيء ماض فلا حنث فيه، وما لا حنث فيه فلا كفارة فيه، لكن إن كان صادقا; فقد بر، وإلا; فهو آثم; لأن الكفارة لا تكون إلا على شيء مستقبل.
وهل يجوز أن يحلف على ما في ظنه؟



1 سورة المائدة آية: 89.
2 سورة المائدة آية: 89.


ج / 2 ص -455-


الجواب: نعم، ولذلك أدلة كثيرة، منها قول المجامع في نهار رمضان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: والله; ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني. لكن إن حلفت على مستقبل بناء على غلبة الظن ولم يحصل; فقيل: تلزمك كفارة، وقيل: لا تلزمك، وهو الصحيح، كما لو حلفت على ماض.


مثاله: فلو قلت: والله; ليقدمن زيد غدا. بناء على ظنك، فلم يقدم; الصحيح أنه لا كفارة عليك; لأنك حلفت على ما في قلبك وهو حاصل، كأنك تقول: والله; إن هذا هو ظني، لكن هل يجوز لك أن تحلف على ما في ظنك؟ سبق ذلك قريبا.


إذن قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1 بعد أن ذكر اليمين والكفارة والحنث; فما المراد بحفظ اليمين: هل هو الابتداء أو الانتهاء أو الوسط; أي: هل المراد: لا تكثروا الحلف بالله؟ أو المراد: إذا حلفتم فلا تحنثوا; أو المراد: إذا حلفتم فحنثتم فلا تتركوا الكفارة؟
الجواب: المراد كلها; فتشمل أحوال اليمين الثلاثة، ولهذا جاء المؤلف بها في هذا الباب; لأن من معنى حفظ اليمين عدم كثرة الحلف، وإليك قاعدة مهمة في هذا، وهي أن النص من قرآن أو سنة إذا كان يحتمل عدة معاني لا ينافي بعضها بعضا ولا مرجح لأحدها; وجب حمله على المعاني كلها. والمراد بعدم كثرة الحلف: ما كان معقودا ومقصودا، أما ما يجري على اللسان بلا قصد، مثل: لا والله; وبلى والله; في عرض الحديث، فلا مؤاخذة فيه، لقوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}2 وكذلك من حفظ اليمين عدم الحنث فيها، وهذا فيه تفصيل; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة: "إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها; فكفر عن يمينك، وائت الذي هو



1 سورة المائدة آية: 89.
2 سورة المائدة آية: 89.


ج / 2 ص -456-


خير"1، فحفظ اليمين في الحنث أن لا يحنث إلا إذا كان خيرا، وإلا; فالأحسن حفظ اليمين وعدم الحنث.
مثال ذلك: رجل قال: والله; لا أكلم فلانا. وهو من المؤمنين الذين يحرم هجرهم; فهذا يجب أن يحنث في يمينه ويكلمه وعليه الكفارة.
مثال آخر: رجل قال: والله; لأعينن فلانا على شيء محرم. فهذا يجب الحنث فيه والكفارة ولا يعينه; لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}2 وإذا كان الأمر متساويا والحنث وعدمه سواء في الإثم; فالأفضل حفظ اليمين. كذلك من حفظ اليمين إخراج الكفارة بعد الحنث، والكفارة واجبة فورا; لأن الأصل في الواجبات هو الفورية، وهو قيام بما تقتضيه اليمين.
والكفارة: إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، وهذا على سبيل التخيير، فمن لم يجد; فصيام ثلاثة أيام، وفي قراءة ابن مسعود متتابعة3.


فحفظ اليمين له ثلاثة معان:
1- حفظها ابتداء، وذلك بعدم كثرة الحلف، وليعلم أن كثرة الحلف تضعف الثقة بالشخص وتوجب الشك في أخباره.


1 أخرجه: البخاري في (الأيمان, باب قول الله تعالى: لا يؤاخدكم الله باللغو في أيمانكم, 4/214), ومسلم في (الأيمان, باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير, 3/1274); عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
2 سورة المائدة آية: 2.
3 أخرجها: ابن جرير, (7/ 31/ رقم 12503), وعبد الرزاق (16102), والبيهقي (10/60). وإسنادها صحيح; كما في "الإرواء" (8/203).


ج / 2 ص -457- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: "الحلف منفقة للسلعة،.......

2- حفظها وسطا، وذلك بعدم الحنث فيها، إلا ما استثني كما سبق.
3- حفظها انتهاء في إخراج الكفارة بعد الحنث.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك معنى رابع، وهو أن لا يحلف بغير الله; لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمى القسم بغير الله حلفا.
قوله: "الحلف": المراد به الحلف الكاذب; كما بينته رواية أحمد: "اليمين الكاذبة1 "، أما الصادقة; فليس فيها عقوبة، لكن لا يكثر منها كما سبق.
قوله: "منفقة للسلعة": أي: ترويج للسلعة، مأخوذ من النفاق وهو مضي الشيء ونفاذه، والحلف على السلعة قد يكون حلفا على ذاتها أو نوعها أو وصفها أو قيمتها.


الذات: كأن يحلف أنها من المصنع الفلاني المشهور بالجودة وليست منه.
النوع: كأن يحلف أنها من الحديد، وهي من الخشب.
الصفة: كأن يحلف أنها طيبة، وهي رديئة.
القيمة: كأن يحلف أن قيمتها بعشرة، وهي بثمانية.



1 أخرجه: أحمد في "المسند" (2/ 235- 243, 413).


ج / 2 ص -458- ممحقة للكسب"1 أخرجاه.
وعن سلمان; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله......


قوله:"ممحقة للكسب": أي: متلفة له، والإتلاف يشمل الإتلاف الحسي بأن يسلط الله على ماله شيئا يتلفه من حريق أو نهب أو مرض يلحق صاحب المال فيتلفه في العلاج، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به لا دينا ولا دنيا، وكم من إنسان عنده مال قليل، لكن نفعه الله به ونفع غيره ومن وراءه، وكم من إنسان عنده أموال لكن لم ينتفع بها صار -والعياذ بالله- بخيلا يعيش عيشة الفقراء وهو غني; لأن البركة قد محقت.
قوله: "ثلاثة": مبتدأ، وسوغ الابتداء بها أنها أفادت التقسيم.


قوله: "لا يكلمهم الله": التكليم: هو إسماع القول، وأما ما يقدره الإنسان في نفسه; فلا يسمى كلاما على سبيل الإطلاق، وإن كان يسمى قولا بالتقييد بالنفس; كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ}2 وقال عمر رضي الله عنه -في قصة السقيفة-: "زورت في نفسي كلاما"3 أي: قدرته. فالكلام عند الإطلاق لا يكون إلا بحرف وصوت مسموع. واختلف الناس في كلام الله إلى ثمانية أقوال كما ذكره ابن القيم في "الصواعق المرسلة".



1 أخرجه: البخاري في (البيوع, باب يمحق الله الربا, 2/ 84), ومسلم في (المساقاة, باب النهي عن الحلف في البيع, 3/1228).
2 سورة المجادلة آية: 8.
3 أخرجه: البخاري في (الحدود, باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت, 4/ 258).


ج / 2 ص -459-


لكن إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأخذنا منهما عقيدتنا صافية، وقطعنا النظر عن هذه المجادلات لأنه ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا; علمنا أن كلام الله حقيقي يسمع، ولكن الصوت ليس كأصوات المخلوقين، أما ما يسمع من كلام الله; فلا شك أنه بحرف يفهمها المخاطب; إذ لو كان يتكلم بحروف لا تشبه الحروف التي يتكلم بها المخاطب لم يفهم كلامه أبدا، فالحروف التي تسمع هي حروف اللغة التي يخاطب الله بها من يخاطبه، والله عز وجل يخاطب كل أحد بلغته. ونفي الكلام هنا دليل على إثبات أصله، لأنه لما نفاه عن قوم دل على ثبوته لغيرهم. وبهذه الطريقة استدل بعض أهل العلم على إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين بقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}1 فما حجب الفجار عن رؤيته إلا ورآه الأبرار; إذ لو امتنعت الرؤية مطلقا لكان الفجار والأبرار سواء فيها، كذلك هنا لو انتفى كلام الله عز وجل عن كل أحد; فلا وجه للتخصيص بنفي الكلام عن هؤلاء. ولا يلزم من كلامه -سبحانه- أن يكون له آلة كالآدمي; كاللسان، والأسنان، والحلق، وما أشبه ذلك، كما لا يلزم من سماع الله أن يكون له أذن; فالأرض مثلا تسمع وتحدث وليس لها لسان ولا آذان، قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}2 وكذا الجلد ينطق يوم القيامة، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3 وكذا الأيدي والأرجل، قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}4 فالأيدي والأرجل والألسن والجلود والسمع والأبصار ليس لها لسان ولا شفتان، هذا هو المعلوم لنا.



1 سورة المطففين آية: 15.
2 سورة آية: 4-5.
3 سورة فصلت آية: 20.
4 سورة النور آية: 24.


ج / 2 ص -460- ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر،


فإن قيل: إن الله يكلم من هو أعظم منهم جرما وهم أهل النار؟
فالجواب: أن المراد بنفي الكلام هنا كلام الرضا، أما كلام الغضب والتوبيخ; فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه.
وقوله: "ولا يزكيهم": التزكية: بمعنى التوثيق والتعديل; فيوم القيامة لا يوثقهم، ولا يعدلهم، ولا يشهد عليهم بالإيمان; لما فعلوه من هذه الأفعال الخبيثة.
وقوله: "ولهم عذاب أليم": "عذاب": عقوبة، و"أليم"; أي: شديد موجع مؤلم.
وقوله: "أشيمط": هو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبر سنه، وكبير السن قد بردت شهوته، وليس فيه ما يدعوه إلى الزنى، ولكنه زنا مما دل على خبث في إرادته; ولأنه عادة قد بلغ أشده واستوى وعرف الحكمة، وملكه عقله أكثر من هواه; فالزنى منه غريب; إذ ليس عن شهوة ملحة، ولكن عن سوء نية وقصد وضعف إيمان بالله، فصار السبب المقتضي لزناه ضعيفا، والحكمة التي نالها ببلوغ الأشد كبيرة، وكأن تقادم سنه يستلزم أن يغلب جانب العقل، ولكنه خالف مقتضى ذلك، ولهذا صغره تحقيرا لشأنه، فقال: "أشيمط" تصغير أشمط.


قوله: "زان": صفة لأشيمط، وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة، والحركة التي على النون ليست حركة إعراب.
والزنى: فعل الفاحشة في قبل أو دبر، وقد نهى الله عنه وبين أنه فاحشة; فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}1.
قوله: "عائل مستكبر": أي: فقير، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً



1 سورة الإسراء آية: 32.


ج / 2 ص -461- ورجل جعل الله بضاعته; لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه (2 رواه الطبراني بسند صحيح.

ــ
فَأَغْنَى}1 ؛ فالمقابلة هنا في قوله: "فأغنى" بينت أن معنى عائلا: فقيرا.
والاستكبار:

الترفع والتعاظم، وهو نوعان:
- استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به.
- واستكبار على الخلق باحتقارهم واستذلالهم; كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الكبر بطر الحق وغمط الناس"3.
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف، فيكون استكباره دليلا على ضعف إيمانه وخبث طويته، ولذلك كانت عقوبته أشد.


قوله: "ورجل جعل الله بضاعته; لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه": أي: جعل الحلف بالله بضاعة له، وإنما ساغ التأويل هنا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي فسره بذلك، حيث قال: "لا يشتري إلا بيمينه..."، وإذا كان المتكلم هو الذي أخرج كلامه عن ظاهره; فهو أعلم بمراده، وهذا كما في الحديث القدسي: "عبدي! استطعمتك فلم تطعمني، استسقيتك فلم تسقني"4 فبينه الله عز وجل بقوله: "عبدي فلان جاع فلم تطعمه، استسقاك فلم تسقه".
فقوله: "لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" استئنافية



1 سورة الضحى آية: 8.
2 أخرجه: الطبراني في "الكبير" (6111), و "الصغير" (2/21), و"الأوسط"; كما في "المجمع". وقال المنذري في "الترغيب" (2/587), والهيثمي في "المجمع" (4/78): "ورواته محتج بهم في الصحيح".
3 أخرجه: مسلم في (الإيمان, باب تحريم الكبر, 1/93); عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4 مسلم: البر والصلة والآداب (2569).
5 سبق (ص 344).


ج / 2 ص -462-


تفسيرية; لقوله: "جعل الله بضاعته"، ومعناها: أنه كلما اشترى حلف، وكلما باع حلف طلبا للكسب، واستحق هذه العقوبة; لأنه إن كان صادقا; فكثرة إيمانه تشعر باستخفافه واستهانته باليمين ومخالفته قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1 وإن كان كاذبا جمع بين أربعة أمور محذورة:
1- استهانته باليمين ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين.
2- كذبه.
3- أكله المال بالباطل.


4- أن يمينه يمين غموس، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان"2.
وكل ما في هذا الحديث يجب الحذر منه والبعد عنه، لأن هذا ما يريده النبي صلى الله عليه وسلم من الإخبار به، وإلا; فما الفائدة من سماعنا له إذا لم تظهر مقتضيات النصوص على معتقداتنا وأقوالنا وأفعالنا؟ فنحن والجاهل سواء; بل نحن أعظم، ولذلك لا ينبغي أن تمر علينا بلا فائدة فنعرف معناها فقط، بل يجب أن نعرف معناها ونعمل بمقتضاها، ثم يجب علينا أيضا بوصفنا ممن آتاهم الله العلم أن نحذر الناس منها لنكون وارثين للرسول صلى الله عليه وسلم فالنبي صلى الله عليه وسلم كان عالما عاملا داعيا، أما طالب العلم; فإنه ليس وارثا للرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقوم بما قام به من العمل



1 سورة المائدة آية: 89.
2 أخرجه: البخاري في (الأيمان, باب قول الله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا, 4/ 22), ومسلم في (الأيمان, باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة, 1/ 122); عن ابن مسعود رضي الله عنه.


ج / 2 ص -463- وفي " الصحيح " عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني،....


والدعوة، فعلينا أن نحذر إخواننا المسلمين من هذا العمل الكثير بين الناس، وهو جعل الله بضاعة لهم; لا يبيعون إلا بأيمانهم، ولا يشترون إلا بأيمانهم.


مناسبة الحديث للباب

أن من جعل الله بضاعته; فإن الغالب أنه يكثر الحلف بالله عز وجل.
قوله: "وفي الصحيح": أي: "الصحيحين"، وانظر كلامنا: في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله1.
قوله: "خير أمتي قرني": "خير": مبتدأ، و"قرني": خبر. وفي لفظ لهما: "خيركم قرني2 "، وفي حديث ابن مسعود عند البخاري: "خير الناس قرني"، وهذا هو المراد; إذ المراد بالخيرية هنا الخيرية المضافة إلى الناس عموما وليس للأمة فقط، ولهذا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت من خير قرون بني آدم"3 وعليه; فالخيرية في القرن الأول خيرية عامة على جميع الناس وليس على هذه الأمة فقط.
وأما قوله: "خير أمتي": فإنه يقال: إن الخيرية إذا كانت مضافة إلى




1 (ص 1/157).
2 أخرجه: البخاري في (الشهادات, باب لا يشهد على شهادة جور, 2/251), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم, 4/1963).
3 أخرجه: البخاري في (المناقب, باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم, 2/517); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -464-


عموم الناس دخل فيها هذه الأمة، لكن إذا خصصناها بهذه الأمة خرج بقية الناس، والأخذ بالعموم الداخل فيه الخاص أولى، وقد يقال: إن معنى اللفظين واحد، فإن هذه الأمة خير الأمم، فإذا كان الصحابة خير قرونها لزم أن يكونوا خير الناس. والقرن مأخوذ من الاقتران، والمراد: الطائفة المقترنون بشيء من الأشياء; كالملة، أو السن، أو ما أشبه ذلك. فمن العلماء عرفه: بالطائفة كما سبق، ومنهم من عرفه بالزمن، وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوال: فمنهم من حده بأربعين، ومنهم من حده بثمانين، ومنهم من حده بمئة، ومنهم من حده بمئة وعشرين سنة.


فعلى الأول يكون معنى: "خير أمتي قرني": خير أمتي الصحابة، سواء بلغوا مئة سنة أم لا، والمعروف أن آخر من مات من الصحابة مات سنة مئة وعشرة أو مئة وعشرين، فإذا قلنا: مئة وعشرين; فهذه المدة زائدة على المئة، وإذا اعتبرناها من البعثة تكون مئة وثلاثا وثلاثين سنة; لأن التقويم مبتدأ من الهجرة، والهجرة كانت بعد البعثة بثلاث عشرة سنة، وهذا القرن الأول، أما التابعون; فإن آخرهم مات سنة مائة وثمانين، فيكون بينهم وبين الصحابة ستون سنة، وأما تابعو التابعين; فإن آخرهم مات سنة مئتين وعشرين، وهذا منتهى القرن الثالث. فقرن الصحابة إن ابتدأته من البعثة صار ثلاثا وثلاثين ومئة سنة، وإن ابتدأته من الهجرة صار عشرين ومئة سنة. وقرن التابعين ستون سنة. وقرن تابعي التابعين أربعون سنه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القرن معتبر بمعظم الناس، فإذا كان معظم الناس الصحابة; فالقرن قرنهم، وإذا كان معظم الناس التابعين; فالقرن قرنهم، وهكذا.



ج / 2 ص -465- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟، ثم إن بعدكم قوم....


قوله: "أمتي": المراد أمة الإجابة; لأن أمة الدعوة إذا لم يؤمنوا فليس فيهم خير.
قوله: "فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا": وإذا كان عمران لا يدري; فالأصل أنه ذكر مرتين، فتكون القرون المفضلة ثلاثة، وهذا هو المشهور.
قوله: "ثم إن بعدكم قوم": وفي رواية البخاري: "ثم إن بعدكم قوما" بنصب "قوما"، وهذا لا إشكال فيه، لكن في هذه الرواية برفع "قوم1 " فيه إشكال; لأن "قوم" اسم إن،


وقد اختلف العلماء في هذا:
فقيل على لغة ربيعة: الذين لا يقفون على المنصوب بالألف، فلم يثبت الكاتب الألف، فصارت "قوم". وهذا جواب ليس بسديد; لأن الرواية ليست مكتوبة فقط، بل تكتب وتقرأ باللفظ عند أخذ التلاميذ الرواية من المشايخ، ولأن هذا ليس محل وقف.
وقيل: إن "إن" اسمها ضمير الشأن محذوف، إلحاقا لها بإن المخففة; لأن "إن" المخففة تعمل بضمير الشأن، قال الشاعر:
وإن مالك كانت كرام المعادن
فإن المشددة هنا حملت على إن المخففة، فاسمها ضمير الشأن محذوف، وعليه يكون "بعدكم": خبر مقدم، و"قوم": مبتدأ مؤخر، والجملة خبر "إن".




1 انظر: "فتح الباري" (7/ 7).


ج / 2 ص -466- يشهدون ولا يستشهدون،.......

ــ
وقيل: "إن" هنا بمعنى نعم; فيكون المعنى: ثم نعم بعدكم قوم، وهذا فيه تكلف.
والظاهر: القول الثاني إن صحت الرواية.
قوله: "يشهدون": أي: يخبرون عما علموه مما شاهدوه أو سمعوه أو لمسوه أو شموه; لأن الشهادة إخبار الإنسان بما يعلم، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}1 ولا يشترط أن تكون بلفظ أشهد على الصحيح، وقد قيل للإمام أحمد: إن فلانا يقول: "إن العشرة في الجنة ولا أشهد". فقال: إن قاله; فقد شهد.


قوله: "ولا يستشهدون": اختلف العلماء في معنى ذلك: فقيل: "لا يستشهدون"; أي: لا يطلب منهم تحمل الشهادة، فيكون المراد الذين يشهدون بغير علم فهم شهداء زور. وقيل: لا يطلب منهم أداء الشهادة; فيكون المراد أداء الشهادة قبل أن يدعى لأدائها فيكون ذلك دليلا على تسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها.


ولكن هذا القول يشكل عليه حديث زيد بن خالد الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها"23 فهذا ترغيب في أداء الشهادة قبل أن يسألها بدليل قوله: "ألا أخبركم بخير الشهداء"، وظاهره: أنه معارض لحديث عمران; فجمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له.
وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد: من يشهد بشيء من


ـــ
1 سورة الزخرف آية: 86.
2 مسلم: الأقضية (1719) , والترمذي: الشهادات (2295) , وأبو داود: الأقضية (3596), وابن ماجه: الأحكام (2364) , وأحمد (4/115 ,4/116 ,4/117 ,5/192 ,5/193) , ومالك: الأقضية (1426).
3 أخرجه: مسلم في (الأقضية, باب خير الشهود, 3/ 1344).


ج / 2 ص -467- ويخونون ولا يؤتمنون،.....


حقوق الله تعالى; لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها، فيكون المراد بهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوهم. وجمع بعضهم: بأن المراد بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة، فكأنه لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها. وبعض العلماء رجح حديث عمران; لأنه في "الصحيحين" على حديث زيد بن خالد; لأنه في "مسلم". ولكن إذا أمكن الجمع; فلا يجوز الترجيح لأن مقتضاه إلغاء أحد النصين، والجمع هنا ممكن كما تقدم.


قوله: "يخونون ولا يؤتمنون": هذا هو الوصف الثاني لهم; أي: أنهم أهل خيانة وليسوا أهل أمانة، فلا يأتمنهم الناس، وليس المعنى أنه تقع منهم الخيانة بعد الائتمان حتى يقال: لماذا لم يقل: يؤتمنون ويخونون؟ فكأن الخيانة طبيعة لهم; فلخيانتهم لا يؤتمنون.


الخيانة: الغدر والخداع في موضع الائتمان، وهي من الصفات المذمومة بكل حال. وأما المكر والخديعة; فهي مذمومة في حال دون حال، فقد تكون محمودة إذا كانت في مقاتلة عدو ماكر خادع لدلالتها على القوة والإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر، ولهذا يوصف الله -سبحانه وتعالى- بالمكر والخداع في الحال التي يكون فيها مدحا، قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}1 وقال تعالى {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ}2 وأما الخيانة; فلا يوصف الله بها أبدا; لأنها ذم بكل حال، ولهذا كان قول العامة: خان الله من خان، حراما; لأنهم وصفوا الله بما لا يصح أن يوصف به، قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ}3 ولم يقل: فخانهم.



1 سورة الأنفال آية: 30.
2 سورة النساء آية: 142.
3 سورة الأنفال آية: 71.


ج / 2 ص -468- وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"1.


قوله: "ولا يؤتمنون": أي: ليسوا أهلا للأمانة; فلا يؤتمنون على الدماء، ولا الأموال، ولا الأعراض، ولا أي شيء، والظاهر أن هذا في القرن الرابع; فما بالك بالقرن الخامس عشر؟! وفي حديث آخر: "ويفشو بينهم الكذب".2
قوله: "وينذرون ولا يوفون": هذا هو الوصف الثالث لهم. النذر: إلزام الإنسان نفسه بالشيء وقد يكون للآدمي، وهذا بمعنى العهد الذي يوقعه الإنسان بينه وبين غيره، وقد يكون لله; كنذر العبادة يجب الوفاء به، فهم ينذرون لله ولا يوفون له، ويعاهدون المخلوق ولا يوفون له، وهذا من صفات النفاق.
قوله: "ويظهر فيهم السمن": هذا هو الوصف الرابع لهم. "السمن": كثرة الشحم واللحم، وهذا الحديث مشكل; لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان; فكيف يكون صفة ذم؟!


قال أهل العلم: المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها. أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه; فلا يذم عليه، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلا أو قصيرا أو أسود أو أبيض، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه.



1 أخرجه: البخاري في (الشهادات, باب لا يشهد على شهادة جور, 2/251), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم, 4/1962).
2 أخرجه: أحمد (1/18), والترمذي في (الفتن, باب ما جاء في لزوم الجماعة, 6/333)- وقال: "حسن, صحيح, غريب"-, وابن ماجه في (الأحكام, باب كراهية الشهادة لمن لم يستشهد, 2/791); عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.


ج / 2 ص -469- وفيه عن ابن مسعود; أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"1.


قوله: "وفيه": أي: "في الصحيح"، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة من المؤلف رحمه الله في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله. انظر: (1/157).
قوله: "خير الناس": دليل على أن قرنه خير الناس; فصحابته صلى الله عليه وسلم أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ثم يجيء قوم": أي: بعد القرون الثلاثة.


قوله: "تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته":
يحتمل ذلك وجهين:
الأول: أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين; فتارة تسبق الشهادة، وتارة تسبق اليمين.
الثاني: أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين; حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهما متسابقتان.
والمعنيان لا يتنافيان; فيحمل عليهما الحديث جميعا.
وقوله: "ثم يجيء قوم": يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذا الوصف; لأنه لم يقل: ثم يكون الناس، والفرق واضح. وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس، لا من حيث الأفراد; فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة، أما فضل الصحبة; فلا




1 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 , 417 , 434, 438, 442 , 267 , 276 , 277).


ج / 2 ص -470- "قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار"1.

ــ
يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة; فقد يكون فيمن بعد الصحابة من هو أكثر من بعضهم علما وعبادة.
تنبيه: ساق المؤلف رحمه الله الحديث في بعض النسخ بتكرار قوله: "ثم الذين يلونهم" ثلاث مرات، وهو في "الصحيحين" بتكرارها مرتين.
قوله: "وقال إبراهيم": هو إبراهيم النخعي، من التابعين ومن فقهائهم.
قوله: "كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار": في نسخة: "على الشهادة والعهد"، والظاهر أن الذي يضربهم ولي أمرهم.


وقوله: "على الشهادة": أي: يضربوننا عليها إن شهدنا زورا، أو إذا شهدنا ولم نقم بأدائها، ويحتمل أن المراد بذلك ضربهم على المبادرة بالشهادة والعهد، وبه فسره ابن عبد البر.
وقوله: "والعهد": أي: إذا تعاهدوا يضربونهم على الوفاء بالعهد.
قوله: "ونحن صغار": الجملة حالية، وإنما يضربونهم وهم صغار للتأديب.
ويستفاد من كلام إبراهيم أن الصبي تقبل منه الشهادة لأن قوله: "ونحن صغار"; أي: لم يبلغوا، وهذا محل خلاف بين أهل العلم. فقال



1 أخرجه: البخاري في (الشهادات, باب لا يشهد على جور, 2/251), وأيضا أخرجه في (فضائل الصحابة, 3651, وفي الرقاق, 6429, وفي الأيمان, 6658), ومسلم في (فضائل الصحابة, باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم, 4/1692, 1693).



ج / 2 ص -471- فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه.


بعضهم: يشترط لأداء الشهادة أن يكون بالغا، فإذا تحمل وهو صغير، لم تقبل منه حتى يبلغ. وقال بعضهم: شهادة الصغار بعضهم على بعض مقبولة تحملا وأداء; لأن البالغ يندر أن يوجد بين الصغار. وقال بعضهم: تقبل شهادة الصغار بعضهم على بعض إن شهدوا في الحال; لأنه بعد التفرق يحتمل النسيان أو التلقين، ولا يسع العمل إلا بهذا، وإلا; لضاعت حقوق كثيرة بين الصبيان.
ويستفاد من هذا الأثر جواز ضرب الصبي على الأخلاق إذا لم يتأدب إلا بالضرب.


فيه مسائل:

الأولى:
الوصية بحفظ الأيمان: تؤخذ من قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1 والأمر وصية.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة: تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم "الحلف منفقة للسلعة..." إلخ.
الثالثة: الوعيد الشديد لمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه تؤخذ



1 سورة المائدة آية: 89.


ج / 2 ص -472- الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.


من قوله صلى الله عليه وسلم "ورجل جعل الله بضاعته; لا يشتري إلا بيمينه..." إلخ في ضمن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي تؤخذ من حديث سلمان، حيث ذكر الأشيمط الزاني والعائل المستكبر، وغلظ في عقوبتهم; لأن الداعي إلى فعل المعصية المذكورة ضعيف عندهما.


الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون لقوله صلى الله عليه وسلم "ورجل جعل الله بضاعته; لا يشتري إلا بيمينه...". ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل النبي صلى الله عليه وسلم حلف ولم يستحلف في مواضع عديدة، بل أمره الله - سبحانه- أن يحلف في ثلاثة مواضع من القرآن بدون أن يستحلف: في قوله: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي}1 [يونس: 53] وفي قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}2 [التغابن: 7] وفي قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}3 [سبأ: 3].
وعليه; فإن الحلف إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة; فإنه جائز، بل قد يكون مندوبا إليه; كحلف النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المخزومية، حيث قال: "وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"4 فقد وقع موقعا عظيما من هؤلاء القوم الذين أهمهم شأن المخزومية وممن يأتي بعدهم.



1 سورة يونس آية: 53.
2 سورة التغابن آية: 7.
3 سورة سبأ آية: 3.
4 أخرجه: البخاري في (الحدود, باب كراهة الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان, 4/248), ومسلم في (الحدود, باب قطع السارق الشريف, 3/1315); عن عائشة رضي الله عنها.


ج / 2 ص -473- السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.

ــ
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم: تؤخذ من قوله: "خير الناس قرني..."، وقوله: "أو الأربعة" بناء على ثبوت ذكر الرابع، وأكثر الروايات وأثبتها على حذفه.
قوله: "وذكر ما يحدث": لو جعلت هذه المسألة مستقلة; لكان أبين وأوضح; لأن الإخبار عن شيء مستقبل ووقوعه كما أخبر دليل على رسالته صلى الله عليه وسلم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون تؤخذ من حديث عمران، وكذا ذم الذين يخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، والذين يتعاطون أسباب السمن ويغفلون عن سمن القلب بالإيمان والعلم.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد تؤخذ من قول إبراهيم النخعي: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد" فيؤخذ منه تعظيم شأن العهد والشهادة وضرب الصغار على ذلك، ويؤخذ منه أيضا عناية السلف بتربية أولادهم، وأن من منهجهم الضرب على تحقيق ذلك استنادا إلى إرشاد نبيهم صلى الله عليه وسلم حيث أمر بضرب من بلغ عشر سنين على الصلاة،


لكن يشترط لجواز الضرب:
الأول: أن يكون الصغير قابلا للتأديب; فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب.


ج / 2 ص -474-


الثاني: أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه.
الثالث: أن لا يسرف في ذلك كمية أو كيفية أو نوعا أو موضعا أو غير ذلك.
الرابع: أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه.
الخامس: أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه، فإن قصد الانتقام; لم يكن مؤدبا، بل منتصر.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979




ام عادل السلفية 02-02-2015 08:45PM

بسم الله الرحمن الرحيم




القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم

ج / 2 ص -475- باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم
وقوله تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}1 الآية.

ـ
قوله: "ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم": الذمة: العهد، وسمي بذلك; لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته.
والله له عهد على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وللعباد عهد على الله، هو: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}2 فهذا عهد الله عليهم، ثم قال: {لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}3 [المائدة: 12] وهذا عهدهم على الله.


وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}4 [البقرة: 40] وللنبي صلى الله عليه وسلم عهد على الأمة، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئا. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على ما هو خير5. والمراد بالعهد هنا: ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة في صلح الحديبية.



1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة المائدة آية: 12.
3 سورة المائدة آية: 12.
4 سورة البقرة آية: 40.
5 أخرجه: مسلم (1844) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -476-


قوله تعالى: "وأوفوا": أمر من الرباعي من أوفى يوفي، والإيفاء إعطاء الشيء تاما، ومنه إيفاء المكيال والميزان.
قوله: "بعهد الله": يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله; أي: بعهدكم الله، أو بعهد الله إياكم; لأن الفعل إذا كان على وزن فاعل اقتضى المشاركة من الجانبين غالبا، مثل: قاتل ودافع.
قوله: {إِذَا عَاهَدْتُمْ} فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء; أي: إذا صدر منكم العهد; فإنه لا يليق بكم أن تدعوا الوفاء، ثم أكد ذلك بقوله: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}1 نقض الشيء هو حل إحكامه، وشبه العهد بالعقدة، لأنه عقد بين المتعاهدين.


قوله: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} توكيد الشيء بمعنى تثبيته، والتوكيد مصدر وكد، يقال: وكد الأمر وأكده تأكيدا وتوكيدا، والواو أفصح من الهمزة.
قوله: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}2 الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ على نقض العهد واليمين. ووجه جعل الله كفيلا: أن الإنسان إذا عاهد غيره قال: أعاهدك بالله، أي أنه جعل الله عليه كفيلا.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}3 ختم الله الآية بالعلم تهديدا عن نقض العهد; لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعل; فإنه لا ينقض العهد.
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جدا; لأن الله قال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}4 وقال: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}5.


والعهد: الذمة.


1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة النحل آية: 91.
3 سورة النحل آية: 91.
4 سورة النحل آية: 91.
5 سورة النحل آية: 91.


ج / 2 ص -477- وعن بريدة; قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية; أوصاه بتقوى الله،.......


ومناسبة الباب للتوحيد
أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له، وهذا مخل بالتوحيد.
قوله: "إذا أمر": أي: جعله أميرا، والأمير في صدر الإسلام يتولى التنفيذ والحكم والفتوى والإمامة.
قوله: "أو سرية": هذه ليست للشك، بل للتنويع; فإن الجيش ما زاد على أربعمائة رجل والسرية ما دون ذلك.


والسرايا ثلاثة أقسام:
أ- قسم ينفذ من البلد، وهذا ظاهر، ويقسم ما غنمه، كقسمة ما غنم الجيش.
ب- قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم.
ج- قسم ينفذ في الرجعة، وذلك بعد رجوع الجيش.
وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة; فلسرية الابتداء الربع بعد الخمس; لأن الجيش وراءها، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس; لأن الجيش قد ذهب عنها; فالخطر عليها أشد. وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام: إن شاء أعطى وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة.


قوله: "أوصاه": الوصية: العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به.
قوله: "بتقوى الله": التقوى: هي امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه


ج / 2 ص -478- وبمن معه من المسلمين خيرا1، فقال:
"اغزوا باسم الله.....


على علم وبصيرة، وهي مأخوذة من الوقاية، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، وقال بعضهم: التقوى: أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك ما نهى عنه الله على نور من الله تخشى عقاب الله.


وقال بعضهم:

خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واعمل كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
وهذه التعريفات كلها تؤدي معنى واحدا. وكانت الوصية بالتقوى لأمير الجيش; لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفع يخشى منه أن يجانب الصواب من أجله، ولأن تقواه سبب لتقوى من تحت ولايته.


قوله: "وبمن معه من المسلمين خيرا": أي: أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيرا في أمور الدنيا والآخرة; فيسلك بهم الأسهل، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل، ويمنع عنهم الظلم، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة.
ويستفاد من هذا الحديث: أنه يجب على من تولى أمرا من أمور المسلمين أن يسلك بهم الأخير، بخلاف عمل الإنسان بنفسه; فإنه لا يلزم إلا بالواجب.
قوله: "اغزوا باسم الله": يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائما



1 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2612) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439).


ج / 2 ص -479- في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.


مستعينين بالله، ويحتمل أنه أراد أن يفتتح الغزو باسم الله. والأول أظهر، والثاني أيضا محتمل، لأن بعث الجيوش من الأمور ذات البال، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله; فهو أبتر.
قوله: "في سبيل الله": متعلق ب "اغزوا"، وهو تنبيه من الرسول صلى الله عليه وسلم على حسن النية والقصد; لأن الغزاة لهم أغراض، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدى الحسنيين ما كان خالصا لله، وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليرى مكانه أو لطلب دنيا. فإن قاتل لأجل الوطن: فمن قاتل لأنه وطن إسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه; فهذه نية إسلامية صحيحة، وإن كان للقومية أو الوطنية فقط; فهو حمية وليس في سبيل الله.


وقوله: "في سبيل الله": تشمل النية والعمل; فالنية سبقت. والعمل: أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته، فيكون حسبما رسمه الشارع.
قوله: "قاتلوا من كفر بالله": "قاتلوا": فعل أمر وهو للوجوب، أي: يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}1 وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ}2 فإذا قاتلنا الذين يلوننا، فأسلموا، نقاتل من وراءهم، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها.
و"من": اسم موصول، وصلته "كفر"، واسم الموصول وصلته يفيد العلية; أي: لكفره، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار. والكفر مداره على أمرين الجحود، والاستكبار.




1 سورة التحريم آية: 9.
2 سورة التوبة آية: 123.


ج / 2 ص -480- اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا،.......

أي: الاستكبار عن طاعته، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديقه.
قوله: "اغزوا": تأكيد، وأتى بها ثانوية كأنه يقول: لا تحقروا الغزو واغزوا بجد.
قوله: "ولا تغلوا": الغلول: أن يكتم شيئا من الغنيمة فيختص به، وهو من كبائر الذنوب، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1 أي: معذبا به; فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا، قال أهل العلم: يعزر الغال بإحراق رحله كله، إلا المصحف لحرمته، والسلاح لفائدته، وما فيه روح; لأنه لا يجوز تعذيبه بالنار.
قوله: "ولا تغدروا": الغدر: الخيانة، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهذا إذا عاهدنا; فإنه يحرم الغدر، أما الغدر بلا عهد; فلنا ذلك لأن الحرب خدعة، وقد ذكر أن "علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه، فلما أقبل الرجل على علي صاح به علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده، فقتله علي رضي الله عنه".


وليعلم أن لنا مع المشركين ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن لا يكون بيننا وبينهم عهد; فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية، بشرط قدرتنا على ذلك.
الحال الثانية: أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه; فهنا يجب الوفاء لهم بعهدهم; لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}2 وقوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ}3.



1 سورة آل عمران آية: 161.
2 سورة التوبة آية: 7.
3 سورة التوبة آية: 4.


ج / 2 ص -481- ولا تمثلوا،......


الحال الثالثة: أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه; فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا وبينهم; لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}1.
قوله: "ولا تمثلوا": التمثيل: التشويه بقطع بعض الأعضاء كالأنف واللسان وغيرهما، وذلك عند أسرهم; لأنه لا حاجة إليه; لأنه انتقام في غير محله، واختلف العلماء فيما لو كانوا يفعلون بنا ذلك.


فقيل: لا يمثل بهم للعموم، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن شيئا، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم; فقد يكون لا يرضى بما فعل قومه; فكيف نمثل به؟!
وقيل: نمثل بهم كما مثلوا بنا; لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر، وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}2.
وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا; فقد يفسر هذا بأنه ضعف، وإذا مثلنا بهم في هذه الحال; عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية.
والظاهر القول الثاني.


فإن قيل: قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضى بالتمثيل؟ فيقال: إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع، ولهذا كان الله عز وجل يخاطب اليهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بأمور جرت في عهد موسى، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}3 وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}4 وما أشبه ذلك.



1 سورة الأنفال آية: 58.
2 سورة البقرة آية: 194.
3 سورة البقرة آية: 72.
4 سورة البقرة آية: 93.


ج / 2 ص -482- ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك......


قوله: "ولا تقتلوا وليدا": أي: لا تقتلوا صغيرا; لأنه لا يقاتل، ولأنه ربما يسلم وورد في أحاديث أخرى: أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فإن ولا امرأة1 إلا أن يقاتلوا، أو يحرضوا على القتال، أو يكون لهم رأي في الحرب، كما قتل دريد بن الصمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه2.


واستدل بهذا الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا، ولكنه لحماية الإسلام، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا، ورجح شيخ الإسلام هذا القول، وله رسالة في ذلك اسمها "قتال الكفار".
قوله: "وإذا لقيت عدوك": أي: قابلته أو وجدته، وبدأ بذكر العداوة تهييجا لقتالهم; لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك; فإن ذلك يدعوك



1 حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة; فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان". أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب قتل الصبيان, 2/362), ومسلم في (الجهاد, باب تحريم قتل النساء, 3/1364). وحديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: انطلقوا باسم الله, وبالله, وعلى ملة رسول الله, ولا تقتلوا شيخا فانيا, ولا طفلا, ولا صغيرا, ولا امرأة...". أخرجه: أبو داود في (الجهاد, باب في دعاء المشركين, 3/86). وقال الشوكاني في "النيل" (7/246): "وحديث أنس في إسناده خالد الفِزْر, وليس بذلك". وحديث ابن عباس رضي الله عنهما, وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تغدروا, ولا تغلوا, ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع أخرجه: أحمد (1/300), والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/225). وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/103): "وفي إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة, وهو ضعيف".


2 أخرجه: البخاري في (المغازي, باب غزوة أوطاس, 3/156).


ج / 2 ص -483- من المشركين; فادعهم إلى ثلاث خصال (أو: خلال)، فأيتهن ما أجابوك; فاقبل منهم، وكف عنهم:
ثم ادعهم إلى الإسلام،......


إلى قتالهم، ولهذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}1 وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخرى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ}2 لكن خص في هذه الآية باليهود والنصارى; لأن المقام يقتضيه. والعدو ضد الولي، والولي من يتولى أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك، والعدو يخذلك ويبتعد عنك ويعتدي عليك ما أمكنه.
قوله: "من المشركين": يدخل فيه كل الكفار، حتى اليهود والنصارى.
قوله: "خصال أو خلال": بمعنى واحد، وعليه; ف "أو" للشك في اللفظ، والمعنى لا يتغير.


قوله: "فأيتهن ما أجابوك": "أيتهن": اسم شرط مبتدأ، "ما": زائدة، وهي تزاد بالشرط تأكيدا للعموم، كقوله تعالى: {أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}3 والكاف مفعول به، والعائد إلى اسمها الشرط محذوف، والتقدير: فأيتهن ما أجابوك إليه; فاقبل منهم وكف عنهم فلا تقاتلهم.


قوله: "ثم ادعهم": "ثم": زائدة; كما في رواية أبي داود، ولأنه ليس لها معنى، ويمكن أن يقال: إنها ليست من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بل من كلام الراوي على تقدير ثم قال ادعهم.
وقوله: "إلى الإسلام": أي: المتضمن للإيمان; لأنه إذا أفرد شمل



1 سورة الممتحنة آية: 1.
2 سورة المائدة آية: 51.
3 سورة الإسراء آية: 110.


ج / 2 ص -484- فإن أجابوك، فأقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين،.......


الإيمان، وإذا اجتمعا; افترقا، كما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما في حديث جبريل.
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال قال صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان"1 فإن أجابوا للإسلام; فهذا ما يريده المسلمون، فلا يحل لنا أن نقاتلهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "فأقبل منهم".


قوله: "ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين": هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية، فإذا أسلموا; طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله; لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم; كما قال تعالى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ}2 وهذا أصل في توطين البوادي.


وقوله: "إلى دار المهاجرين": يحتمل أن المراد بها العين; أي: المدينة النبوية، ويحتمل أن المراد بها الجنس; أي: الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام، سواء كانت المدينة أو غيرها. ويقوي الاحتمال الثاني -وهو أن المراد بها الجنس-: أنه لو كان المراد المدينة; لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعبر عنها باسمها ولا يأتي بالوصف العام، ويقوي



1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب أمور الإيمان, 1/20)- ولفظه: "الإيمان بضع وستون شعبة, الحياء شعبة من الإيمان"-, ومسلم في (الإيمان, باب بيان عدد شعب الإيمان, 1/63); عن أبي هريرة رضي الله عنه.
2 سورة التوبة آية: 97.



ج / 2 ص -485- وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك; فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها; فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين"1.


الاحتمال الأول: أن دار المهاجرين الأولى هي المدينة، والظاهر الاحتمال الثاني.
قوله: "فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين": وهذا تمام العدل، ولا يقال: إن الحق لصاحب البلد الأصلي; فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة.
قوله: "ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين": يعني: إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين; فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء. والغنيمة: ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به. والفيء: ما يصرف لبيت المال; كخمس خمس الغنيمة، والجزية، والخراج، وغيرها.


وقوله: "إلا أن يجاهدوا مع المسلمين": يفيد أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم. وأما الفيء; فاختلف أهل العلم في ذلك: فعند الإمام أحمد: لهم حق في الفيء مطلقا، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا. وقيل: لا حق لهم في الفيء، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء، فهو عائد على الغنيمة; إذ ليس من في البلد مستعدا للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله.


فإذا أسلموا; فلهم ثلاث مراتب:
1- التحول إلى دار المهاجرين، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين

1 مسلم: الجهاد والسير (1731), والترمذي: السير (1617), وأبو داود: الجهاد (2612), وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358).


ج / 2 ص -486- "فإن هم أبوا; فاسألهم الجزية،........
2- البقاء في أماكنهم مع الجهاد; فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة، وفي الفيء الخلاف.
3- البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد; فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء.
قوله: "فإن هم أبوا": "هم" عند البصريين: توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط، والتقدير: فإن أبوا هم، وعند الكوفيين: مبتدأ خبره الجملة بعده. والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة: أن نتبع الأسهل، والأسهل هنا إعراب الكوفيين.


قوله: "فاسألهم الجزية": سؤال عطاء لا سؤال استفهام، والفرق بين سؤال الاستفهام وسؤال العطاء: أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني ب "عن"، قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}1 وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية; كقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ}2 وأما سؤال الإعطاء; فيتعدى إليه بنفسه; كقولك: سألت زيدا كتابا.


قوله: "الجزية" فعلة من جزى يجزي، وظاهر فيها أنها مكافأة على شيء، وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضا عن حمايته وإقامته بدارنا. والذمي معصوم ماله ودمه وذريته مقابل الجزية، قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}3 أي: يسلموها بأيديهم، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو ابنه، بل لا بد أن يأتي بها هو.


وقيل: "عن يد": عن قوة منكم، والصحيح أنها شاملة للمعنيين. وقيل: "عن يد": أن يعطيك إياها فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك، وهذا لا حاجة إليه.


1 سورة الأعراف آية: 187.
2 سورة المائدة آية: 4.
3 سورة التوبة آية: 29.


ج / 2 ص -487- فإن هم أجابوك; فاقبل منهم وكف عنهم.
فإن هم أبوا; فاستعن بالله، وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك; فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون......


قوله: {وَهُمْ صَاغِرُونَ}1 أي: يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند إعطائها، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم وموكب ونحو ذلك، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عند تسلمها منهم.
قوله: "فاستعن بالله وقاتلهم": بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بطلب العون من الله; لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه; فإنك مخذول، والجملة جواب الشرط.


قوله: "وإدا حاصرت أهل حصن، فأرادوك": الحصر: التضييق; أي: طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يخرجون من حصنهم ولا يدخل عليهم أحد. والحصن: كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها.
قوله: "أرادوك": أي: طلبوك، وضمن الإرادة معنى الطلب، وإلا; فإن الأصل أن تتعدى ب "من"; فيقال: أرادوا منك.


قوله: "فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه": الذمة: العهد، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون: نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله; فإنه لا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، وعلل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: "فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون...".


1 سورة التوبة آية: 29.


ج / 2 ص -488- من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله; فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك،


قوله: "أن تخفروا": بضم التاء وكسر الفاء: من أخفر الرباعي; أي: غدر، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعنى أجار والمتعين الأول.
وقوله: "أن تخفروا": "أن"; بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع "أهون" على أنها خبر، وأن وما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم "إن"، والتقدير: فإن إفخاركم ذممكم، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه، ولهذا قدرتها بما سبق.


قوله: "أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه": لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم، وقوله: "أهون" من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعنى; لأن قوله: "أهون" يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهون، والأمر ليس كذلك; لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين; كله ليس بهين، بل هو صعب، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته.


فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء، بل يعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك.
قوله: "وإذا حاصرت": أي: ضربت حصارا يمنعهم من الخروج من مكانهم. "أهل الحصن": أهل بلد أو مكان يتحصنون به. "فأرادوك": طلبوا منك. "حكم الله"; أي: شرع الله.


قوله: "ولكن أنزلهم على حكمك": فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله; فإنهم لا يجابون; فإنا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا؟


ج / 2 ص -489- فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" رواه مسلم1.


ولهذا قال: "أنزلهم على حكمك"، ولم يقل: وحكم أصحابك كما قال في الذمة; لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير، وأما الذمة والعهد; فهي من الجميع، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد
وقوله: "لا تدري": أي: لا تعلم "أتصيب فيهم حكم الله أم لا"، وذلك لأن الإنسان قد يخطئ حكم الله تعالى.


وهذه المسألة اختلف فيها العلماء:
فقيل: إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله لأن قائد الجيش وإن اجتهد; فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا؟ فليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: بل ينزلون على حكم الله، والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقط; لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم; إذ من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يغير الله هذا الحكم، وإذا كان كذلك; فلا تنزلهم على حكم الله; لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه؟
أما بعد انقطاع الوحي; فينزلون على حكم الله، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صوابا إذا لم يتبين خطؤه; لأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، وقد قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}2 وهذا أصح; لأنه يحكم للمجتهد بإصابته الحكم ظاهرا شرعا وإن كان قد يخطئ، وإن حصل الاحتراز بأن يقول: ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله; فهو أولى; لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحا أن هذا حكم الله بحسب فهمنا، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه.



1 أخرجه: مسلم في (الجهاد, باب تأمير الإمام الأمراء, 3/1356).
2 سورة التغابن آية: 16.


ج / 2 ص -490-


واخترنا هذه العبارة، لأنه قد يتغير الاجتهاد، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم; فيقول الكفار: إن أحكام المسلمين متناقضة.


ويستفاد من هذا الحديث ما يلي:
1- تحريم التمثيل، والغلول، والغدر، وقتل الوليد وقد سبق الكلام عليه.
2- يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا
3- لا يجوز القتال قبل الدعوة لأنه جعل القتال آخر مرحلة. وأما ما ورد في "الصحيح" أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون1 فقد أجيب: أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة، ويرجع فيها للمصلحة.
4- جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى والمجوس لأن أهل الكتاب نص القرآن على أخذها منهم، والمجوس وردت به السنة، وأما ما عدا هؤلاء;

فاختلف أهل العلم:
فقيل: لا تأخذ من غير هؤلاء، وقيل: لا تؤخذ من مشركي العرب; لأن فيها إذلالا. والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار; لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "من كفر بالله"، ولم يقل: اليهود والنصارى.
5- الإشارة إلى أن القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في



1 أخرجه: البخاري في (العتق, باب من ملك من العرب رقيقا, 2/218), ومسلم في (الجهاد, باب جواز الإغارة على الكفار, 3/1356); من حديث ابن عمر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -491-


الإسلام، ولو كان كذلك ما شرعت الجزية; لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس..."1 الحديث; فهو عام مخصوص بأدلة الجزية.
6- عظم العهود، ولا سيما إذا كانت عهدا لله ورسوله.
7- جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش.
8- أنه لا يجوز أن ينزلهم على حكم الله; إما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو مطلقا حسب الخلاف السابق.
9- أن المجتهد قد يصيب وقد يخطئ لقوله صلى الله عليه وسلم "فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب; فله أجران، وإن أخطأ; فله أجر واحد"2 وعليه;

فهل نقول: إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب. وقيل: ليس كل مجتهد مصيبا.
وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول; حذرا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث



1 أخرجه: البخاري في (الإيمان, باب فإن تابوا وأقاموا الصلاة, 1/24), ومسلم في (الإيمان, باب من قاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, 1/95); من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2 أخرجه: البخاري في (الاعتصام, باب أجر الحاكم إذا اجتهد, 4/372), ومسلم في (الأقضية, باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد, 3/1342); عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.


ج / 2 ص -492-


موافقته للحق; فإنه يخطئ ويصيب، ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم "فاجتهد فأصاب، واجتهد فأخطأ"; فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين، لأنه لا يمكن أن يكون مصيبا والسلف غير مصيبين، سواء في علم الأصول أو الفروع.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام، ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع; لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة; فكل الدين أصول; لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة; فهذه عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها. والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف; فليس بمقبول مطلقا.


10- أن باب الاجتهاد باق لقوله: "لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟"، وبهذا يتبين ضعف قول من قال، إن باب الاجتهاد قد أنسد، والواجب التقليد للأئمة، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذه منهما، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثا في هذا الحكم حتى


ج / 2 ص -493-


يتثبت لأن هذا الحكم قد يكون منسوخا أو مقيدا أو عاما وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول: لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلا للاجتهاد; فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: إن باب الاجتهاد مفتوح، لا يجوز أبدا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم; لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم; فهذا أيضا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة; فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون: كذا وكذا، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادره قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها؟!
11- فيه إثبات الحكم لله عز وجل

وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
أ- حكم كوني، وهو ما يتعلق بالكون، ولا يمكن لأحد أن يخالفه، ومنه قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي}1.
ب- حكم شرعي، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ}2.



1 سورة يوسف آية: 80.
2 سورة الممتحنة آية: 10.


ج / 2 ص -494- فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.


فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين لو قال: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين; لكان أوضح; لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها، وليس كذلك; فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين. والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين محرمة، وجعل ذمة المحاصرين -بكسر الصاد- ذمة جائزة.


الثانية:
الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا: لقوله: "ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك..." إلخ، وهذه قاعدة مهمة، وتقال على وجه آخر هو: ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لا بد من ارتكاب إحداهما وقد دل عليها الشرع، قال تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}1 ; فسب آلهة المشركين مطلوب، لكن إذا تضمن سب الله عز وجل صار منهيا عنه; لأن مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم، وإن كان في هذا السكوت شيء من المفسدة، ولكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم، وأيضا العقل دل عليها.


وفيه قاعدة مقابلة، وهي: ترك أدنى المصلحتين لنيل أعلاهما، إذا كان لا بد من ترك إحداهما فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعا; فخذ بأعلاهما، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما; فخذ بأدناهما.



1 سورة الأنعام آية: 108.


ج / 2 ص -495- الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.


الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله": يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه.
الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله": يستفاد منها وجوب قتال الكفار، وأن علة قتالهم الكفر، وليس المعنى أنه لا يقاتل إلا من كفر، بل الكفر سبب للقتال; فمن منع الزكاة يقاتل، وإذا ترك أهل بلد صلاة العيد قوتلوا، وكذا الأذان والإقامة، مع أنهم لا يكفرون بذلك. وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله; قوتلت، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر.
الخامسة: قوله: "استعن بالله وقاتلهم": يفيد وجوب الاستعانة بالله، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته.
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء وفيه فرقان:
1- أن حكم الله مصيب بلا شك، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب.
2- تنزيل أهل الحصن على حكم الله ممنوع إما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم فقط أو مطلقا، وأما على حكم العلماء ونحوه; فهو جائز.


فائدة:
لا ينبغي أن يقال لمفت: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا; فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام، ولا يقول


ج / 2 ص -496- السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟
ـ

مفت: حكم الإسلام كذا; لأنه قد يخطئ، ولكن يقيد; فيقول: حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح; فلا بأس.
مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟ وهذا ليس خاصا بالصحابة، بل حتى من بعدهم; فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 08:56PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في الإقسام على الله

ج / 2 ص -497- باب: ما جاء في الإقسام على الله


الإقسام: مصدر أقسم يقسم إذا حلف. والحلف له عدة أسماء، هي: يمين، وألية، وحلف، وقسم، وكلها بمعنى واحد، قال تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}1 وقال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}2 ; أي: يحلفون، وقال: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}3 وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ}4 وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}5.


واختلف أهل العلم في "لا" في قوله: "لا أقسم" ; فقيل: إنها نافية على الأصل، وإن معنى الكلام: لا أقسم بهذا الشيء على المقسم به; لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، وهذا فيه تكلف; لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي. وقيل: إن "لا" زائدة، والتقدير أقسم. وقيل: إن "لا" للتنبيه، وهذا بمعنى الثاني; لأنها من حيث الإعراب زائدة. وقيل: إنها نافية لشيء مقدر; أي: لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث، وهذا كما في قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}6 فيه شيء من التكلف، والصواب أنها زائدة للتنبيه.


والإقسام على الله:
أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله; ليفعلن الله كذا، أو والله; لا يفعل الله كذا.


والقسم على الله ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يقسم بما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات; فهذا لا



1 سورة الواقعة آية: 75.
2 سورة البقرة آية: 226.
3 سورة البقرة آية: 225.
4 سورة التوبة آية: 62.
5 سورة النور آية: 53.
6 سورة القيامة آية: 1.


ج / 2 ص -498-


بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله، مثل: والله; ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة، ومثل: والله; لا يغفر الله لمن أشرك به.
الثاني: أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه; فهذا جائز لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما، ""حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع، وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي فقال الرسول صلى الله عليه وسلم يا أنس! كتاب الله القصاص" يعني: السن بالسن. قال: والله; لا تكسر ثنية الربيع"، وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك.


فلما عرفوا أنه مصمم ألقى الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا; فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"1 فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه أقسم على الله أن لا تكسر ثنية الربيع; فألقى الله العفو في قلوب هؤلاء الذين صمموا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم على القصاص; فعفوا وأخذوا الأرش.


فثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه شهادة بأن الرجل من عباد الله، وأن الله أبر قسمه ولين له هذه القلوب، وكيف لا وهو الذي قال: بأنه يجد ريح الجنة دون أحد، ولما استشهد وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو



1 أخرجه: البخاري في (الصلح, باب الصلح في الدية, 2/269), ومسلم في (القسامة, باب إثبات القصاص في الأسنان, 3/1302); عن أنس رضي الله عنه.


ج / 2 ص -499- عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان،....


طعنة برمح، ولم يعرفه إلا أخته ببنانه1 وهي الربيع هذه، رضي الله عن الجميع وعنا معهم.
ويدل أيضا لهذا القسم قوله صلى الله عليه وسلم "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره"2.
القسم الثالث: أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى; فهذا محرم، وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المقسم، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله.


مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد
أن من تأَلَّى على الله عز وجل فقد أساء الأدب معه وتحجر فضله وأساء الظن به، وكل هذا ينافي كمال التوحيد، وربما ينافي أصل التوحيد; فالتالي على من هو عظيم يعتبر تنقصا في حقه.
قوله: "قال رجل"- يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره-: "والله; لا يغفر الله لفلان": هذا يدل على



1 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب قول الله- عز وجل-: من المؤمنين رجال صدقوا , 6/21), ومسلم في (الإمارة, باب ثبوت الجنة للشهيد, 3/1512).
2 أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب فضل الضعفاء والخاملين, 4/2024); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


ج / 2 ص -500- فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألَّى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني


اليأس من روح الله، واحتقار عباد الله عند هذا القائل، وإعجابه بنفسه. والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند الحرب، وفيه وقاية وستر.


قوله: "من ذا الذي يتأبى علي أن لا أغفر لفلان"1 "من": اسم استفهام مبتدأ، "ذا": ملغاة، "الذي": اسم موصول خبر مبتدأ، "يتألى": يحلف; أي: من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي، والاستفهام للإنكار. والحديث ورد مبسوطا في حديث أبي هريرة2 أن هذا الرجل كان عابدا وله صاحب مسرف على نفسه، وكان يراه على المعصية، فيقول: أقصر. فوجده يوما على ذنب، فقال: أقصر. فقال: خلني وربي; أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله; لا يغفر الله لك.


وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن ظن بالله ورجاء له، ولعله كان يفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه; لأنه قال: خلني وربي، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحا ثم غلبته عليه نفسه مرة أخرى; فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة; لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود، وليس من شروط التوبة أن لا يعود.


وهذا الرجل الذي قد غفر الله له; إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له، أما لو كان شركا ومات بدون توبة; فإنه لا يغفر له; لأن الله يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}3.



1 مسلم: البر والصلة والآداب (2621).
2 سيأتي (ص502).
3 سورة النساء آية: 116.


ج / 2 ص -501- قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم1.

ـ
قوله: "وأحبطت عملك": ظاهر الإضافة في الحديث: أن الله أحبط عمله كله; لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عاما. ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم -حسب فهمنا والعلم عند الله-: أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإذلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركنا عظيما من أركان العبادة; لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع; فلا بد أن تكون عبدا لله عز وجل بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، لأنه قد يصعب عليهم أن يرجعوا عن رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبدا فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعا كاملا حتى تحقق العبودية.


ويحتمل معنى "أحبطت عملك"; أي: عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل، وهذا أهون; لأن العمل إذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال: اذهبوا به إلى النار.


ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله صلى الله عليه وسلم في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة: "فإنا آخذوها وشطر ماله عزمه من عزمات ربنا"2 فقوله: "وشطر ماله"; هل المراد جميع ماله،



1 أخرجه: مسلم في (البر والصلة, باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله, 4/2023).
2 أخرجه: أحمد في "المسند" (5/2, 4), وأبو داود في (الزكاة, باب زكاة السائمة, 2/233), والنسائي في (الزكاة, باب عقوبة مانع الزكاة, 5/15), والدارمي في (الزكاة, باب ليس في عوامل الإبل صدقة, 1/396), والحاكم في (الزكاة, 1/398)- وصححه على شرطهما, ووافقه الذهبي-. وقال ابن قدامة في "المغني" (4/7): "وسئل -أي أحمد- عن إسناده; فقال: هو عندي صالح الإسناد).


ج / 2 ص -502- وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته"1.


أو ماله الذي منع زكاته؟ يحتمل الأمرين; فمثلا: إذا كان عنده عشرون من الإبل، فزكاتها أربع شياه، فمنع الزكاة; فهل نأخذ عشرا من الإبل فقط مع الزكاة، أو إذا كان عنده أموال أخرى من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة؟ اختلف في ذلك: فقيل: نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة. وقيل: نأخذ نصف جميع المال. والراجح أنه راجع إلى رأي الإمام حسب المصلحة، فإن كان أخذ نصف المال كله أبلغ في الردع; أخذ نصف المال كله، وإلا; أخذ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة.
قوله: "تكلم بكلمة": يعني قوله: والله; لا يغفر الله لك.


قوله: "أوبقت": أي: أهلكت، ومنه حديث: "اجتنبوا السبع الموبقات"2 أي: المهلكات.
قوله: "دنياه وآخرته": لأن من حبط عمله; فقد خسر الدنيا والآخرة.



1 أخرجه: ابن المبارك في "الزهد" (900), وأحمد (2/323), وأبو داود في (الأدب, باب في النهي عن البغي, 5/207), والبغوي في "شرح السنة" (14/384, 385), وابن أبي الدنيا في "حسن الظن بالله" (45). وفي "شرح الطحاوية" (2/436): "وإسناده حسن".
2 سبق (1/505).



ج / 2 ص -503- فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.


أما كونها وأبقت آخرته; فالأمر ظاهر; لأنه من أهل النار والعياذ بالله، وأما كونها وأبقت دنياه; فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملا صالحا، وإلا; فهي خسارة، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْر ٍالاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}1، وقال: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}2، فمن لم يوفق للإيمان والعمل الصالح; فقد خسر دنياه حقيقة; لأن مآلها للفناء، وكل شيء فإن فكأنه لم يوجد، واعتبر هذا بما حصل لك مما سبق من عمرك تجده مَرّ عليك وكأنه لم يكن، وهذا من حكمة الله عز وجل لئلا يركن إلى الدنيا.


وقوله: "قال أبو هريرة": يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله.


فيه مسائل:

الأولى:
التحذير من التألي على الله لقوله: "من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان"3 وكونه أحبط عمله بذلك.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك: هاتان المسألتان اللتان ذكرهما



1 سورة آية: 1-3.
2 سورة الزمر آية: 15.
3 مسلم: البر والصلة والآداب (2621).


ج / 2 ص -504- الرابعة: فيه شاهد لقوله: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة..." إلى آخره.


المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتألي والمغفرة للمسرف على نفسه، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"1 ويقصد بهما تقريب الجنة أو النار، والشراك: سير النعل الذي يكون بين الإبهام والأصابع.


الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة..." إلى آخره: يشير المؤلف إلى حديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يرى أن تبلغ حيث بلغت يهوي بها في النار سبعين خريفا"2 أو "أبعد مما بين المشرق والمغرب3 "، وهذا فيه الحذر من مزلة اللسان فقد يسبب الهلاك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "من يضمن لي ما بين لَحْيَيه وما بين رجليه أضمن له الجنة"4 وقال لمعاذ: "كف عليك هذا -يعني لسانه-. قلت: يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم؟!"5.



1 البخاري: الرقاق (6488) , وأحمد (1/387 ,1/413 ,1/442).
2 أخرجه: أحمد (2/ 297, 355), والترمذي في (الزهد, باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس, 7/76)- وقال: "حسن غريب", وابن ماجه في (الفتن, باب كف اللسان في الفتنة, 2/1313); عن أبي هريرة رضي الله عنه.


3 حديث أبي هريرة, ولفظه عند مسلم: "إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب". أخرجه: البخاري في (الرقاق, باب حفظ اللسان, 4/186), ومسلم في (الزهد, باب التكلم بكلمة يهوي بها في النار, 4/2290).
4 أخرجه: البخاري في الموضع السابق (4/186); عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
5 أخرجه: البخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 73), والحاكم (4/286, 287)- وصححه على شرطهما, ووافقه الذهبي-; عن عبادة بن الصامت. وأخرجه: أحمد (5/231), والترمذي في (الإيمان, باب ما جاء في حرمة الصلاة, 7/270)- وقال: "حسن صحيح"-, وابن ماجه في (الفتن, باب كف اللسان في الفتنة, 2/1314), والجصاص في "أحكام القرآن" (3/353); من طريق أبي وائل, عن معاذ. وأخرجه: أحمد (5/233), والطيالسي (560), والنسائي في "الكبرى"; كما في "تحفة الأشراف" (8/410); من طريق الحكم بن عتيبة, عن عروة بن النزال, عن معاذ. وأخرجه: أحمد (5/236); من طريق شهر بن حوشب, عن عبد الرحمن بن غنم, عن معاذ. وانظر: "جامع العلوم والحكم" شرح حديث (رقم 29), و "الترغيب" للمنذري (3/529).



ج / 2 ص -505- الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.


ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدى به; كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله; فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه: فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله: "قد غفرت له". ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشيء هو من أكره الأمور إليه، مثل الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}1.


1 سورة البقرة آية: 216.





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979





ام عادل السلفية 02-02-2015 09:03PM

بسم الله الرحمن الرحيم






القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: لا يستشفع بالله على خلقه

ج / 2 ص -506- باب: لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال،.......


استشفع بالشيء; أي: جعله شافعا له، والشفاعة في الأصل: جعل الفرد شفعا، وهي التوسط للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه.
مناسبة الباب لكتاب التوحيدأن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله عز وجل لأنه جعل مرتبة الله أدنى من مرتبة المشفوع إليه; إذ لو كان أعلى مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده، بل يأمره أمرا والله عز وجل لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد; لأنه أَجَلّ وأعظم من أن يكون شافعا، ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الأعرابي، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد.
قوله: "أعرابي": واحد الأعراب، وهم سكان البادية، والغالب على الأعراب الجفاء; لأنهم أحرى أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله.



قوله: "نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال" "نهكت"; أي: ضعفت. و"جاع العيال، وهلكت الأموال"; أي: من قلة المطر والخصب، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيما إذا لم يكن هناك خصب، وجاع العيال لقلة العيش، وهلكت الأموال; لأنها لم تجد ما ترعاه.


ج / 2 ص -507- فاستسق لنا ربك; فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله! سبحان الله!.....


قوله: "فاستسق لنا ربك": أي: اطلب من الله أن يسقينا، وهذا لا بأس به; لأن طلب الدعاء ممن ترجى إجابته من وسائل إجابة الدعاء.
قوله: "نستشفع بالله عليك": أي: نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا، وهذا يقتضي أنه جعل مرتبة الله في مرتبة أدنى من مرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم.


قوله: "ونستشفع بك على الله": أي: نطلب منك أن تكون شافعا لنا عند الله، فتدعو الله لنا، وهذا صحيح.
قوله: "سبحان الله! سبحان الله": قاله صلى الله عليه وسلم استعظاما لهذا القول، وإنكارا له، وتنزيها لله عز وجل عما لا يليق به من جعله شافعا بين الخلق وبين الرسول صلى الله عليه وسلم. و"سبحان": اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح يسبح تسبيحا، وإذا جاءت الكلمة بمعنى المصدر وليس فيها حروفه; فهي اسم مصدر، مثل: كلام اسم مصدر كَلّم والمصدر تكليم، ومثل: سلام اسم مصدر سَلّم والمصدر تسليم. و"سبحان": مفعول مطلق، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضا، فلا يأتي مع الفعل، فلا تقول: سبحت الله سبحانا إلا نادرا في الشعر ونحوه. والتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به من نقص، أو عيب، أو مماثلة للمخلوق، أو ما أشبه ذلك.


وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب; لأن مماثلة الناقص نقص، بل مقارنة الكامل بالناقص تجعله ناقصا; كما قال الشاعر:

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا


ج / 2 ص -508- فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال: " ويحك!.....

ـــ

قوله: "فما زال": إذا دخلت "ما" على زال الذي مضارعها يزال; صار النفي إثباتا مفيدا للاستمرار; كقوله تعالى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ}1 الآية، وكقوله تعالى في المضارع: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ}2. وجملة "يسبح": خبر زال.


قوله: "حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه": أي: عرف أثره في وجوه أصحابه، وأنهم تأثروا بذلك; لأنهم عرفوا أنه صلى الله عليه وسلم لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من التنقص لله تعالى; فسبح النبي صلى الله عليه وسلم ربه تنزيها له عما توهمه هذه الكلمة، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في السفر إذا هبطوا واديا سبحوا; تنزيها لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم، وإذا علوا نشزا كبروا; تعظيما لله عز وجل3 وأن الله تعالى هو الذي له الكبرياء في السماوات والأرض.


قوله: "ويحك": ويح: منصوب بعامل محذوف، تقديره: ألزمك الله ويحك. وتارة تضاف; فيقال: ويحك، وتارة تقطع عن الإضافة; فيقال: ويحا لك، وتارة ترفع على أنها مبتدأ; فيقال: ويحه أو ويح له. وهي وويل وويس كلها متقاربة في المعنى. ولكن بعض علماء اللغة قال: إن ويح كلمة ترحم، وويل كلمة وعيد. فمعنى ويحك: إني أترحم لك وأحن عليك. ومنهم من قال: كل هذه الكلمات تدل على


1 سورة الأنبياء آية: 15.
2 سورة آية: 118-119.
3 أخرجه: البخاري في (الجهاد, باب التسبيح إذا هبط واديا, وباب التكبير إذا علا شرفا, 2/257); عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.


ج / 2 ص -509- أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه..."" وذكر الحديث. رواه أبو داود1.


التحذير. فعلى معنى أن ويح بمعنى الترحم يكون قوله صلى الله عليه وسلم ترحما لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام، كأنه لم يعرف قدر الله.
قوله: "أتدري ما الله": المراد بالاستفهام التعظيم; أي: شأن الله عظيم، ويحتمل أن المعنى: لا تدري ما الله، بل أنت جاهل به; فيكون المراد بالاستفهام النفي.


وقوله: "ما الله": جملة استفهامية معلقة ل "تدري" عن العمل، لأن درى تنصب مفعولين، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدري.
قوله: "إن شأن الله أعظم من ذلك": أي: إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا اللفظ.


قوله: "إنه لا يستشفع بالله على أحد": أي: لا يطلب منه أن يكون شفيعا إلى أحد، وذلك لكمال عظمته وكبريائه، وهذا الحديث فيه ضعف، ولكن معناه صحيح، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول: نستشفع بالله عليك.


1 أخرجه: البخاري في "التاريخ الكبير" (2/224), وأبو داود في (السنة, باب في الجهمية, 5/94), وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص 24) و "النقض على المريسي" (ص 89, 105), وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 103), وابن أبي عاصم في "السنة" (575), ومحمد بن أبي شيبة في "العرش" (11), والطبراني في "الكبير" (1547), والدارقطني في "الضعفاء" (38, 39), والبيهقي في "الأسماء" (417, 418), والبغوي في "شرح السنة" (1/175, 176), والمزي في "تهذيب الكمال" (1/ 184, 185), والذهبي في "العلو" (ص 37- 39). والحديث استغربه ابن كثير في "تفسيره" (1/ 310). وفي الحديث عنعنة ابن إسحاق, وجهالة جبير بن محمد; فإنه لم يوثقه غير ابن حبان, وللحافظ ابن عساكر جزء سماه: "بيان وجوه التخليط في حديث الأطيط".


ج / 2 ص -510- فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.


فإن قيل: أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سأل بالله فأعطوه"1 وهذا دليل على جواز السؤال بالله; إذ لو لم يكن السؤال بالله جائزا لم يكن إعطاء السائل واجبا؟
والجواب أن يقال: إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المسئول به أدنى من مرتبة المسئول بخلاف الاستشفاع، بل يدل على أن مرتبة المسئول به عظيمة، بحيث إذا سئل به أعطى. على أن بعض العلماء قال: "من سألكم بالله"; أي: من سألكم سؤالا بمقتضى شريعة الله فأعطوه، وليس المعنى من قال: أسألك بالله. والمعنى الأول أصح، وقد ورد مثله في قول الملك: "أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن" 2.


فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: "نستشفع بالله عليك": تؤخذ من قوله: "سبحان الله! أتدري ما الله"، وقوله: "إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه"3.
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة:


1 سبق (ص349).
2 سبق تخريجه (ص289).
3 أبو داود: السنة (4726).


ج / 2 ص -511- الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله!).
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.


تؤخذ من قوله: "فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه"1 وكونه يكرر سبحان الله هذا يدل على أنه تغير حتى عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة، وهذا دليل على أن هذه الكلمة كلمة عظيمة منكرة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله": لأنه قال: لا يستشفع بالله على أحد; فأنكر عليه ذلك، وسكت عن قوله: "نستشفع بك على الله"، وهذا يدل على جواز ذلك، وهنا قاعدة وهي: إذا جاء في النصوص ذكر أشياء، فأنكر بعضها وسكت عن بعض; دل على أن ما لم ينكر فهو حق، مثال ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}2 ; فأنكر قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}3 وسكت عن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}4 فدل على أنها حق، ومثلها عدد أصحاب الكهف، حيث قال عن قول: {ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ}5 وسكت عن قول: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}6.


الرابعة: التنبيه على تفسير "سبحان الله!": لأن قوله: "إن شأن الله أعظم" دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء: وهذا في حال حياته، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه; لأنه صلى الله عليه وسلم انقطع عمله بنفسه وعبادته، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله


1 أبو داود: السنة (4726).
2 سورة الأعراف آية: 28.
3 سورة الأعراف آية: 28.
4 سورة الأعراف آية: 28.
5 سورة الكهف آية: 22.
6 سورة الكهف آية: 22.


ج / 2 ص -512-


عنه استسقى بالعباس، فقال: "اللهم! إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا". وتوسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم كان بطلبهم الدعاء منه، ولهذا جاء في بعض الروايات: أن عمر كان يأمر العباس فيقوم فيدعو.


وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي، فقال: السلام عليكم يا رسول الله! سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}1، وإني قد جئت مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي، ثم أنشأ يقول:

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف، قال العتبي: فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال: يا عتبي! بشر الأعرابي أن الله قد غفر له.
فهذه الرواية باطلة لا صحة لها; لأن صاحبها مجهول، وكذلك من رواها عنه مجهولون، ولا يمكن أن تصح; لأن الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} ولم يقل: إذا ظلموا، و"إذ" لما مضى بخلاف "إذا"، والصحابة رضي الله عنهم لما لحقهم الجدب في زمن عمر لم يستسقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم وإنما استسقوا بالعباس بن عبد المطلب بدعائه وهو حاضر فيهم2.


1 سورة النساء آية: 64.
2 أخرجه: البخاري في (الاستسقاء, باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء, 1/318); عن أنس رضي الله عنه.


ج / 2 ص -513-


ومن فوائد الحديث:
1- أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه; لقوله: "نهكت الأنفس".

2- الترحم على المذنب إذا قلنا: إن "ويح" للترحم.



المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 09:13PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

ج / 2 ص -514- باب: ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك

عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله.......


مناسبة الباب للتوحيد
لما تكلم المؤلف رحمه الله فيما مضى من كتابه على إثبات التوحيد، وعلى ذكر ما ينافيه أو ينافي كماله; ذكر ما يحمي هذا التوحيد، وأن الواجب سد طرق الشرك من كل وجه حتى في الألفاظ ليكون خالصا من كل شائبة.
قوله: "انطلقت في وفد بني عامر": الظاهر أن هذا الوفد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع; لأن الوفود كثرت في ذلك العام، ولذلك يسمى عام الوفود.


قوله: "أنت سيدنا": السيد: ذو السؤدد والشرف، والسؤدد معناه: العظمة والفخر وما أشبهه. وسيد: صفة مشبهة على وزن فيعل; لأن الياء الأولى زائدة.
قوله: "السيد الله": لم يقل صلى الله عليه وسلم سيدكم كما هو المتوقع،

حيث إنه رد على قولهم سيدنا لوجهين:


ج / 2 ص -515- تبارك وتعالى"..


الوجه الأول: إرادة العموم المستفاد من (أل); لأن (أل) للعموم، والمعنى: أن الذي له السيادة المطلقة هو الله عز وجل ولكن السيد المضاف يكون سيدا باعتبار المضاف إليه، مثل: سيد بني فلان، سيد البشر، وما أشبه ذلك.

الوجه الثاني: لئلا يتوهم أنه من جنس المضاف إليه; لأن سيد كل شيء من جنسه. والسيد من أسماء الله تعالى، وهي من معاني الصمد; كما فسر ابن عباس الصمد بأنه الكامل في علمه وحلمه وسؤدده1 وما أشبه ذلك. ولم ينههم صلى الله عليه وسلم عن قولهم: "أنت سيدنا"، بل أذن لهم بذلك; فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان فيترقوا من السيادة الخاصة إلى السيادة العامة المطلقة; لأن سيدنا سيادة خاصة مضافة، و"السيد" سيادة عامة مطلقة غير مضافة.


قوله: "تبارك": قال العلماء: معنى تبارك; أي: كثرت بركاته وخيراته، ولهذا يقولون: إن هذا الفعل لا يوصف به إلا الله; فلا يقال: تبارك فلان; لأن هذا الوصف خاص بالله. وقول العامة: (أنت تباركت علينا) لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله عز وجل وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان إذا كان أهلا لذلك، قال أسيد بن حضير حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر".2



1 أخرجه: ابن جرير (30/ 744). وأورده السيوطي في "الدر المنثور" وعزاه لابن المنذر, وابن أبي حاتم, وأبي الشيخ في "العظمة", والبيهقي في "الأسماء والصفات".
2 أخرجه: البخاري في (التيمم, باب حدثنا عبد الله بن يوسف, 1/125), ومسلم في (الحيض, باب التيمم, 1/279); عن عائشة رضي الله عنها.


ج / 2 ص -516- قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد1.


قوله: "وأفضلنا": أي: فضلك أفضل من فضلنا.
قوله: "وأعظمنا طَولا": أي: أعظمنا شرفا وغنى، والطول: الغنى، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ}2 ويكون بمعنى العظمة، قال تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}3 ; أي: ذي العظمة والغنى.


قوله: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم": الأمر للإباحة والإذن كما سبق.
وقوله: "قولوا بقولكم": يعني: قولهم: أنت سيدنا أو أنت أفضلنا، وما أشبه ذلك.
وقوله: "أو بعض قولكم": يحتمل أن يكون شكا من الراوي، وأن يكون من لفظ الحديث; أي: اقتصروا على بعضه.


قوله: "ولا يستجرينكم الشيطان": استجراه بمعنى: جذبه وجعله يجري معه; أي: لا يستميلنكم الشيطان ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولا منكرا; فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يفعل، ونهاهم عن الأمر الذي لا ينبغي أن يفعل; حماية للتوحيد من النقص أو النقض. وقال في النهاية: "لا يستجرينكم الشيطان"; أي: لا يستغلبنكم فيتخذكم جريا; أي: رسولا ووكيلا.



1 سبق (ص341).
2 سورة النساء آية: 25.
3 سورة غافر آية: 3.


ج / 2 ص -517-


وعلى التفسيرين، فمراد النبي صلى الله عليه وسلم حماية التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك، والحماية من المنكر تعظم كلما كان المنكر أعظم وأكبر أو كان الداعي إليه في النفوس أشد. ولهذا تجد أن باب الشرك حماه النبي عليه الصلاة والسلام حماية بالغة حتى سد كل طريق يمكن أن يكون ذريعة إليه; لأنه أعظم الذنوب، وأيضا باب الزنا حمي حماية عظيمة، حتى منعت المرأة من التبرج وكشف الوجه وخلوتها بالرجل بلا محرم وما أشبه ذلك; لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الزنا; لأن النفوس تطلبه، وفي باب الربا أيضا حمي الربا بحماية عظيمة، حتى إن الرجل ليعطي الرجل صاعا طيبا من البر بصاعين قيمتهما واحدة، ويكون ذلك ربا محرما، مع أنه ليس فيه ظلم. فالشرك قد يكون من الأمور التي لا تدعو إليه النفوس كثيرا لكنه أعظم الظلم; فالشيطان يحرص على أن يوصل ابن آدم إلى الشرك بكل وسيلة; فحماه النبي صلى الله عليه وسلم حماية تامة محكمة حتى لا يدخل الإنسان فيه من حيث لا يشعر، وهذا هو معنى الباب الذي ذكره المؤلف.


تنبيه:
جرى شراح هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن قول سيدنا; فحاولوا الجمع بين هذا الحديث وبين قوله صلى الله عليه وسلم "أنا سيد ولد آدم"1 وقوله: "قوموا إلى سيدكم"2 وقوله في الرقيق: "

وليقل سيدي ومولاي"3 بواحد من ثلاثة أوجه:
الأول: أن النهي على سبيل الكراهة والأدب، والإباحة على سبيل الجواز.



1 سبق (1/269).
2 أخرجه: (البخاري في المغازي , باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب, 3/119); عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3 سبق (ص341).


ج / 2 ص -518-


الثاني: أن النهي حيث يخشى منه المفسدة، وهي التدرج إلى الغلو والإباحة إذا لم يكن هناك محذور.
الثالث: أن النهي بالخطاب; أي: أن تخاطب الغير بقولك: أنت سيدي أو سيدنا، بخلاف الغائب; لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو وترفع، ثم إن فيه شيئا آخر، وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له بخلاف ما إذا جاء من الغير، مثل: "قوموا إلى سيدكم"، أو على سبيل الغيبة; كقول العبد: قال سيدي ونحو ذلك، لكن هذا يرد عليه إباحته صلى الله عليه وسلم للرقيق أن يقول لمالكه: سيدي.


والذي يظهر لي أن لا تعارض أصلا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم أن يقولوا بقولهم، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان بالغلو مثل (السيد); لأن السيد المطلق هو الله تعالى، وعلى هذا; فيجوز أن يقال: سيدنا وسيد بني فلان ونحوه، ولكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلا لذلك، أما إذا لم يكن أهلا كما لو كان فاسقا أو زنديقا; فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلى منه مرتبة أو جاها، وقد جاء في الحديث: "ولا تقولوا للمنافق سيد; فإنكم إذا قلتم ذلك أغضبتم الله"1 فإذا كان أهلا لذلك وليس هناك محذور; فلا بأس به، وأما إن خشي المحذور أو كان غير أهل; فلا يجوز. والمحذور: هو الخشية من الغلو فيه.



1 أخرجه: أحمد (5/ 346), والبخاري في "الأدب المفرد" (760), وأبو داود في (الأدب, باب لا يقول المملوك ربي وربتي, 5/ 257), والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (244), وابن السني في "عمل اليوم والليلة", والحاكم (4/ 311)- وقال: "صحيح الإسناد, ولم يخرجاه"-; عن بريدة رضي الله عنه. وقال النووي في "الرياض" (1728): "رواه أبو داود بإسناد صحيح


ج / 2 ص -519- وعن أنس رضي الله عنه "أن ناسا قالوا: يا رسول الله! يا خيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فقال: يا أيها الناس! قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله،....


قوله: "قالوا: يا رسول الله!": هذا النداء موافق لقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}1 أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا; فتقولوا: يا محمد! ولكن قولوا: يا رسول الله! أو: يا نبي الله! وفي الآية معنى آخر: أي إذا دعاكم الرسول; فلا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضا إن شئتم أجبتم وإن شئتم أبيتم; فهو كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}2 وعلى المعنى الأول تكون "دعاء" مضافة إلى المفعول، وعلى الثاني تكون مضافة إلى الفاعل.
قوله: "يا خيرنا": هذا صحيح; فهو خيرهم نسبا ومقاما وحالا.


قوله: "وابن خيرنا": أي: في النسب لا في المقام والحال. وكذلك يقال في قوله: "وابن سيدنا".
قوله: "قولوا بقولكم": سبق القول فيه.
قوله: "ولا يستهوينكم الشيطان": أي: لا يستميلنكم الشيطان فتهووه وتتبعوا طرقه حتى تبلغوا الغلو، ونظيره قوله تعالى: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ}3.
قوله: "أنا محمد عبد الله ورسوله": محمد اسمه العلم، وعبد الله ورسوله وصفان له. وهذان الوصفان أحسن وأبلغ وصف يتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم ولذلك وصفه الله تعالى بالعبودية في أعظم المقامات; فوصفه بها في مقام إنزال القرآن عليه، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ

ـ

1 سورة النور آية: 63.
2 سورة الأنفال آية: 24.
3 سورة الأنعام آية: 71.


ج / 2 ص -520-


عَلَى عَبْدِهِ } ووصفه بها في مقام الإسراء، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}1 ووصفه بها في مقام المعراج، قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}2 ووصفه بها في مقام الدفاع عنه والتحدي، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا}3.
وكذلك بالنسبة للأنبياء، كقوله تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}4 وهذه العبودية خاصة، وهي أعلى أنواع الخاصة. والعبودية لله من أجل أوصاف الإنسان; لأن الإنسان إما أن يعبد الله أو الشيطان، قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}5 قال ابن القيم:

هربوا من الرق الذي خلقوا له فبلوا برق النفس والشيطان
وقال الشاعر:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
"ورسوله": أي: المرسل من عنده إلى جميع الناس، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}6.


ورسول الله صلى الله عليه وسلم في قمة الطبقات الصالحة، قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}7 والنبيون فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو أفضلهم، ومن عبارة المؤلف رحمه الله في الرسول صلى الله عليه وسلم "عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب".



1 سورة الإسراء آية: 1.
2 سورة النجم آية: 10.
3 سورة البقرة آية: 23.
4 سورة الإسراء آية: 3.
5 سورة آية: 60-61.
6 سورة الأعراف آية: 158.
7 سورة النساء آية: 69.


ج / 2 ص -521- ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل"1 رواه النسائي بسند جيد2.


وقد تطرف في الرسول صلى الله عليه وسلم طائفتان:
- طائفة غلت فيه حتى عبدته، وأعدته للسراء والضراء، وصارت تعبده وتدعوه من دون الله.
- وطائفة كذبته، وزعمت أنه كذاب، ساحر، شاعر، مجنون، كاهن، ونحو ذلك.
وفي قوله: "عبد الله ورسوله" رد على الطائفتين.


قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي"3 "ما": نافية، و"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أحب; أي: ما أحب رفعتكم إياي فوق منزلتي; لا في الألفاظ، ولا في الألقاب، ولا في الأحوال.
قوله: "التي أنزلني الله": يستفاد منه أن الله تعالى هو الذي يجعل الفضل في عباده، وينزلهم منازلهم.



1 أحمد (3/249).
2 أخرجه: أحمد (3/ 241), والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (249, 250), وابن حبان (6707), وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 252); عن أنس رضي الله عنه. وقال ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (ص 246): "إسناده صحيح على شرط مسلم".
3 أحمد (3/153).



ج / 2 ص -522- فيه مسائل:
الأولى:
تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: " أنت سيدنا".
الثالثة: قوله: "لا يستجرينكم الشيطان"1 مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي".

ـ
فيه مسائل:
الأولى:
تحذير الناس من الغلو تؤخذ من قوله: "ولا يستجرينكم الشيطان"، ووجهه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا من استجراء الشيطان، والإنسان يجب عليه أن يحذر كل ما كان من طرق الشيطان.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا: وتؤخذ من قوله: "السيد الله"; فينبغي أن يقول من قيل له ذلك: "السيد الله".


الثالثة: قوله: "لا يستجرينكم الشيطان" مع أنهم لم يقولوا إلا الحق: ظاهر كلام المؤلف أن هذا من استجراء الشيطان; فهذه الكلمة يحتمل أن معناها أن ما قلتم من استجراء الشيطان. ويحتمل أن المعنى: قولوا بهذا القول، ولكن إياكم أن تغلوا، فإن هذا من استجراء الشيطان، وهذا ظاهر الحديث كما سبق.
الرابعة: قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي"2 أي: إني أكره أن ترفعوني فوق منزلتي، وهي العبودية والرسالة; ففيها تواضعه صلى الله عليه وسلم.



1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 أحمد (3/153).





المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979






ام عادل السلفية 02-02-2015 09:29PM

بسم الله الرحمن الرحيم





القول المفيد على كتاب التوحيد

باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}

ج / 2 ص -523- باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1 الآية


قوله: "وَمَا قَدَرُوا": الضمير يعود على المشركين، و"قدروا": عظموا; أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته.
قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}2 يحتمل أن تكون الواو للحال; أي: ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال. ويحتمل أن تكون للاستئناف; لبيان عظمة الله عز وجل وهذا أقوى; لأنه يعم هذه الحال وغيرها. والقبضة: هي ما يقبض باليد، وليس المراد بها الملك كما قيل، نعم، لو قال: والأرض في قبضته; لكان تفسيرها بالملك محتملا.


قوله: "جميعا": حال من الأرض، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها، الأرض كلها جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه، قال الله عز وجل {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}3.
قوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}4 هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال: "وتعالى"; أي: ترفع.



1 سورة الزمر آية: 67.
2 سورة الزمر آية: 67.
3 سورة الأنبياء آية: 104.
4 سورة يونس آية: 18.


ج / 2 ص -524- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم......


{عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: عن كل شرك يشركونه به، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس.
قوله: "حبر": الحَبْر: هو العالم الكثير العلم، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف، ولهذا كان العالم أحيانا يسمى بالحبر وأحيانا بالبحر.
قوله: "إنا نجد": أي: في التوراة.
قوله: "فضحك النبي صلى الله عليه وسلم": ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكارا; لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه، لكنه قال: "تصديقا لقول الحبر"; فكانت إقرارا لا غير، ويدل لذلك قوله: ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}1 الآية; فهذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله، فضحكه واستشهاده تقرير لقول الحبر، وسبب الضحك هو سروره، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه; لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن; فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يسر به، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله، لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء، أرأيت أسامة بن زيد وأباه زيد بن حارثة؟ هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم شك في أن أسامة ابن لزيد؟



1 سورة الزمر آية: 16.


ج / 2 ص -525-


الجواب: ليس عنده في ذلك شك، ولما مر بهما مجزز المدلجي -وهو من أهل القيافة- وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما، فنظر إلى أقدامهما، فقالت: إن هذه الأقدام بعضها من بعض، فسر النبي صلى الله عليه وسلم سرورا عظيما حتى دخل على عائشة مسرورا تبرق أسارير وجهه، وقال: "ألم تري إلى مجزز المدلجي نظر إلى أسامة بن زيد وإلى زيد فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض1 "; فالمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل تبرق أسارير وجهه; لأن في ذلك تأييدا للحق، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض، لكن الأمر ليس كما قالوا، بل هم كاذبون في ذلك، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوى; فلعل المخالف في اللون نزعه عرق.


قوله: "أصبع": واحدة الأصابع، وهي مثلثة الأول والثالث; ففيها تسع لغات، والعاشر أصبوع، وفي هذا يقول الناظم:

وهمز أنملة ثلث وثالثة التسع في أصبع واختم بأصبوع
قوله: "أنا الملك": هذه الجملة تفيد الحصر، لأنها اسمية معرفة الجزئين; ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}2 وكل الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلا، وبهذا يظهر ملكوت الله عز وجل في ذلك اليوم ظهورا بينا،



1 أخرجه: البخاري في (الفرائض, باب القائف, 4/244), ومسلم في (الرضاع, باب العمل بإلحاق القائف الولد, 2/1081); عن عائشة رضي الله عنها.
2 سورة غافر آية: 16.


ج / 2 ص -526- حتى بدت نواجذه; تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1") الآية.2


لأنه -سبحانه- ينادي: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد، فيجيب نفسه: {الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}3.
وقوله: "الملك": أي: ذو السلطان، وليس مجرد المتصرف، بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو، وأما "المالك" فدون ذلك، ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك، وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}4 فيها قراءتان: "ملك، ومالك"; ليتبين بذلك أنه ملك مالك. فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدبير والملك، بخلاف غيره، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكا لا يملك التصرف، ومنهم المالك وليس بملك.


قوله: "حتى بدت نواجذه": أي: ظهرت، ونواجذ: جمع ناجذ، وهو أقصى الأضراس. وهذا الضحك من النبي صلى الله عليه وسلم تقرير لقول الحبر، ولهذا قال ابن مسعود: "تصديقا لقول الحبر"، ولو كان منكرا ما ضحك الرسول صلى الله عليه وسلم ولا استشهد بالآية، ولقال له: كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذي يزني لا يرجم، ولكنه ضحك تصديقا لقول الحبر وسرورا بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم.


قوله: ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ}5 الآية: هذا معنى الآية التي لا تحتمل غيره، وأن السماوات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه; أي: يده تبارك وتعالى; لأن ذلك



1 سورة الزمر آية: 67.
2 أخرجه: البخاري في (تفسير سورة الزمر, باب قول الله تعالى: وما قدروا الله حق قدره, 3/285, وفي التوحيد, (7414, 7415, 7451, 7513), ومسلم في (صفات المنافقين, باب صفة القيامة, 4/2147).
3 سورة آية: 16.
4 سورة الفاتحة آية: 4.
5 سورة الزمر آية: 67.


ج / 2 ص -527-


تفسيره صلى الله عليه وسلم وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة. وأما تفسير أهل التحريف، فيقول بعضهم: "قبصته"; أي: في قبضته وملكه وتصرفه، وهو خطأ; لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله. وقول بعضهم: "السماوات مطويات"; أي: تالفة وهالكة; كما تقول: انطوى ذكر فلان، أي: زال ذكره.
و"بيمينه"، أي: بقسمه، لأنه قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}1 فجعلوا المراد باليمين القسم... إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف، وهذا لظنهم الفاسد بالله، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل، فصاروا ينكرون ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته رسوله وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججا. فيقال لهم: هل أنتم أعلم بالله من الله؟ إن قالوا: نعم كفروا، وإن قالوا: لا، قلنا: هل أنتم أفصح في التعبير عن المعاني من الله؟ إن قالوا: نعم، كفروا وإن قالوا: لا، خصموا، وقلنا لهم: إن الله بين ذلك أبلغ بيان بأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية، وهل أنتم أنصح من الرسول صلى الله عليه وسلم لعباد الله؟ فسيقولون: لا فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام، وأصدقه، وأبينه، وأعلم بما يقول، لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه، ولسنا بمذنبين، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقته التي أراده الله بها.


ومن فوائد الحديث:
إثبات الأصابع لله-عز وجل- لإقراره صلى الله عليه وسلم هذا الحبر على ما قال.



1 سورة آية: 26-27.


ج / 2 ص -528-


والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله عز وجل كاليد، وليس المراد بقوله: "على إصبع" سهولة التصرف في السماوات والأرض، كما يقوله أهل التحريف، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ والتقسيم، ولأنه صلى الله عليه وسلم أثبت ذلك بإقراره، ولقوله صلى الله عليه وسلم "إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن"12 وقوله: "بين أصبعين" لا يلزم من البينية المماسة، ألا ترى قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}3 والسحاب لا يمسك الأرض ولا السماء وهو بينهما، وتقول: عنيزة بين الزلفي والرس، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما، وتقول: شعبان بين ذي القعدة وجمادى، ولا يلزم أن يكون مواليا له، فتبين أن البينية لا تستلزم الاتصال في الزمان أو المكان، وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الله -سبحانه وتعالى- يكون قبل وجه المصلي4 ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلي إليها، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه، ومثال ذلك: الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب، فإن من الممكن أن تكون قبل وجهك وهي في العلو.


فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال، وأن من قال: إن طريقتهم أعلم وأحكم، فقد ضل. ومن المشهور عندهم قولهم: طريقة



1 مسلم: القدر (2654) , وأحمد (2/168 ,2/173).
2 أخرجه: مسلم في (القدر, باب كل شيء بقدر, 4/2545), عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما, وتمامه: "كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم! مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك".
3 سورة البقرة آية: 164.
4 أخرجه: البخاري في (الصلاة, باب حك البزاق باليد في المسجد, 1/ 149); عن ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه: مسلم في (الزهد, باب حديث جابر الطويل, 4/ 2303); عن جابر رضي الله عنه.


ج / 2 ص -529-


السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر، فهو:
أولا: فيه تناقض، لأنهم قالوا: طريقة السلف أسلم، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم وأحكم، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم، فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب.
ثانيا: أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل؟
ثالثا: يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; لأن طريقة السلف هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.


رابعا: أنها قد تصل إلى الكفر; لأنها تستلزم تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم وتسفيهه; فتجهيله ضد العلم، وتسفيهه ضد الحكمة، وهذا خطر عظيم. فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معنى صحيحا; لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها; فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذي ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "هلك المتنطعون1 "، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمنى أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال، ويقول بعضهم: ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور. وهذا من شدة ما وجدوا من الشك



1 أخرجه: مسلم في (العلم, باب هلك المتنطعون, 4/ 2055); عن ابن مسعود رضي الله عنه.


ج / 2 ص -530-


والقلق والحيرة، ولا تظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبدا، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة، وإلا ابتلي بالشك والقلق والحيرة، وقد قال بعضهم: أكثر الناس شكا عند الموت أهل الكلام، وما بالك -والعياذ بالله- بالشك عند الموت، يختم للإنسان بضد الإيمان.
لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهولة وبما جرى عليه السلف، ونقول كما قال الرازي وهو من علمائهم ورؤسائهم: رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن: أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}2 {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً}3 ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، لأنه أقر قبل هذا الكلام، فقال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن 4.


والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل اعتمادا على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالا مبينا، فالصحابة رضي الله عنهم هل ناقشوا الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا؟ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به أنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته، لكن يعلمون أن الله لا مثل له، فيجمعون بين الإثبات وبين النفي.


إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه إثبات الأصابع لله عز وجل أن نقر به ونقبله، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معنى فنكون



1 سورة طه آية: 5.
2 سورة الشورى آية: 11.
3 سورة طه آية: 110.
4 انظر: أول الجزء الأول (ص 21).


ج / 2 ص -531- وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله"1.



بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، بل نقرؤه ونقول: المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة، ولكن لا يجوز أبدا أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا: إنه مثل أصابعنا، بل نقول: الله أعلم بكيفية هذه الأصابع، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة. فكذلك لا نعلم كيفية صفاته، بل نكل علمها إلى الله -سبحانه وتعالى-.
قوله: "ثم يهزهن": أي: هزا حقيقيا، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها، فصار المنبر يتحرك ويهتز2؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى.


فإن قلت: هل نفعل بأيدينا كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه; فليس كل من شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل; فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول: يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعنى إلى غير الحقيقة; فحينئذ نفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلو قال قائل: إن الله سميع بصير، لكن قال: سميع بلا سمع وبصير بلا بصر، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ قوله



1 أخرج هذه الرواية: مسلم في (صفات المنافقين: باب صفة القيامة, 4/ 2147).
2 أخرجه: أحمد ومسلم بمعناه.


ج / 2 ص -532- وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع"1 أخرجاه.


تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}2 وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك3 فهذا الإنسان الذي يقول: إن الله سميع بلا سمع بصير بلا بصر نقول له هكذا. وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول: إن الله لا يقبض السماوات بيمينه، وأن معنى قبضته، أي: في تصرفه، فهذا نقول له كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم. فالمقام ليس بالأمر بالسهل، بل هو أمر صعب ودقيق للغاية، فإنه يخشى من أن يقع أحد في محذور كان بإمكانك أن تمسك عنه، وهذا هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع تصرفاته إذا تأملتها، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضررا، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفا من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثا4.


قوله: "والماء والثرى على إصبع": هذا لا ينافي قوله: "الأرضين على أصبع"; لأنه يقال: "الماء والثرى على إصبع"; أي: الأرض كلها على إصبع، ويراد بالإصبع الجنس، وإلا لتناقض مع معنى الحديث الذي قبله:



1 أخرجها: البخاري في (التفسير, باب وما قدروا الله حق قدره , 3/283).
2 سورة النساء آية: 58.
3 أخرجه: أبو داود في (السنة, باب في الجهمية, 5/96, 97), وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 42, 43), والحاكم (1/24)- وقال: "صحيح, ولم يخرجاه, وقد احتج مسلم بحرملة بن عمران وأبي يونس, والباقون متفق عليهم", ووافقه الذهبي على شرط مسلم, والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 179), وابن حبان (1732- موارد). وأورده السيوطي في "الدر المنثور", (2/175), وعزاه أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم; عن أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر: "تحفة الأشراف" (11/95) (رقم 15467), و "جامع الأصول" (7/53).


4 أخرجه: البخاري في (الحج, باب فضل مكة وبنيانها, 1/488), ومسلم في (الحج, باب نقض الكعبة, 2/968); عن عائشة رضي الله عنها.


ج / 2 ص -533- ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع،.....


"الشجر على إصبع والماء على إصبع والثرى على إصبع" إذ النكرة إذا كررت بلفظ النكرة; فالثاني غير الأول غالبا، وإذا كررت بلفظ المعرفة; فالثاني هو الأول غالبا، فيقال: الماء والثرى كناية عن الأرض كلها، أو إن الماء والثرى على إصبع وسكت عن الباقي، إما اختصارا أو اقتصارا.
قوله: "ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "يطوي الله السماوات...": سبق معنى هذا الحديث، وأن المراد بالطي الطي الحقيقي.


قوله: "ثم يقول: أنا الملك": يقول ذلك ثناء على نفسه - سبحانه-، وتنبيها على عظمته الكاملة وعلى ملكه الكامل، وهو السلطان، فهو مالك ذو سلطان، وهذه الجملة كلا جزأيها معرفة، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة، فإن ذلك من طرق الحصر، أي: أنا الذي لي الملكية المطلقة والسلطان التام لا ينازعني فيهما أحد.


قوله: "أين الجبارون؟": الاستفهام للتحدي، فيقول: أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والتجبر والتكبر على عباد الله؟ وفي ذلك الوقت يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم.
قوله: "يطوي الأرضين السبع": أشار الله في القرآن إلى أن الأرضين سبع، ولم يرد العدد صريحا في القرآن، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}1 والمماثلة هنا لا تصح إلا في العدد، لأن الكيفية تتعذر المماثلة فيها، وأما السنة، فقد صرحت بعدة أحاديث بأنها سبع.



1 سورة الطلاق آية: 12.


ج / 2 ص -534- ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"1.


قوله: "ثم يأخذهن بشماله": كلمة (شمال) اختلف فيها الرواة، فمنهم من أثبتها، ومنهم من أسقطها، وقد حكموا على من أثبتها بالشذوذ; لأنه خالف ثقتين في روايتها عن ابن عمر. ومنهم من قال: إن ناقلها ثقة، ولكنه قالها من تصرفه2. وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في "صحيح مسلم": أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين"3 وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال.


ولكن إذا كانت لفظة "شمال" محفوظة، فهي عندي لا تنافي "كلتا يديه يمين"، لأن المعنى أن اليد الأخرى ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليد اليمنى، فقال: "كلتا يديه يمين"، أي: ليس فيها نقص، ويؤيد هذا قوله في حديث آدم: "اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة"4 فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال، يعني: النقص في هذه اليد دون



1 أخرجه: مسلم في (صفات المنافقين, باب صفة القيامة, 4/ 2148).
2 قال البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 324): "ذكر الشمال فيه تفرد به عمر بن حمزة عن سالم, وقد روى هذا الحديث نافع وعبيد الله بن مقسم عن ابن عمر, ولم يذكرا فيه الشمال, ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم; فلم يذكر أحد منهم الشمال, وروي ذكر الشمال في حديث آخر غير هذه القصة إلا أنه ضعيف بمرة, تفرد بأحدهما جعفر بن الزبير, وبالآخر يزيد الرقاشي, وهما متروكان, وكيف يصح ذلك وصح عن النبي صلى الله عليه وسلمأنه سمى كلما يديه يمين؟! وكأن من قال ذلك أرسله من لفظه على ما وقع له, أو على عادة العرب في ذكر الشمال في مقابلة اليمين". وانظر أيضا: "التذكرة" للقرطبي (ص 216), "فتح الباري" (13/396), "الأنوار البهية" (1/235).


3 أخرجه: مسلم في (الإمارة, باب فضيلة الإمام العادل, 3/1458); عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
4 أخرجه: الترمذي مطولا في (التفسير, باب الأمر بالكتابة والشهود, 9/88)- وقال: "حسن غريب"-, والحاكم مختصرا (4/263)- وصححه, ووافقه الذهبي-, وابن أبي عاصم في "السنة" (204, 205). وصححه الألباني; كما في تعليقه على "المشكاة" (3/1322).


ج / 2 ص -535- وروي عن ابن عباس، قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم"1.


الأخرى، قال: "كلتا يديه يمين"، ويؤيده أيضا قوله: "المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن"2 فإن المقصود بيان فضلهم ومرتبتهم، وأنهم على يمين الرحمن -سبحانه- وعلى كل، فإن يديه -سبحانه- اثنتان بلا شك، وكل واحدة غير الأخرى، وإذا وصفنا اليد الأخرى بالشمال، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمنى، بل كلتا يديه يمين. والواجب علينا أن نقول: إن ثبتت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نؤمن بها ولا منافاة بينها وبين قوله: "كلتا يديه يمين" كما سبق، وإن لم تثبت، فلن نقول بها.


قوله: "في كف الرحمن": هكذا ساقه المؤلف والذي في ابن جرير: "في يد الله" ففيما ساقه المؤلف إثبات الكف لله تعالى إن كان السياق محفوظا وإلا ففيه إثبات اليد. أما الكف فقد ثبت في أحاديث أخرى صحيحة.
قوله: "إلا كخردلة": هي حبة نبات صغيرة جدا، يضرب بها المثل في الصغر والقلة، وهذا يدل على عظمته -سبحانه-، وأنه - سبحانه- لا يحيط به شيء، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأفهام.



1 أخرجه: ابن جرير (24/17). وفي إسناده عمرو بن مالك النكري. قال ابن حجر في "تهذيب التهذيب" (8/96): "ذكره ابن حبان في الثقات, وقال: مات سنة تسع وعشرين ومائة, وقال: يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه, يخطئ ويغرب". وقال الشيخ سليمان بن عبد الله; كما في "إبطال التنديد" (ص 170); "وهذا الإسناد في نقدي صحيح".


2 الترمذي: الحدود (1461) , وأبو داود: الجهاد (2713) , والدارمي: السير (2490).


ج / 2 ص -536- وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس".
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين.....

ـ
قوله: "قال ابن جرير ": هو المفسر المشهور رحمه الله، وله تفسير أثري يعتمد فيه على الآثار، لكن آفته أنه لم يمحص هذه الآثار، وأتى بالصحيح والضعيف وما دون الضعيف أيضا، وكأنه رحمه الله أراد أن يقيد هذا وجعل الحكم بالصحة والضعف موكولا إلى القارئ، وربما كأن يريد أن يرجع إليه مرة ثانية ويمحصه، ولكن لم يتيسر ذلك.


قوله: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس" الكرسي: موضع قدمي الله تعالى، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما، والدراهم: جمع درهم، وهو النقد من الفضة، والترس: شيء من جلد أو خشب يحمل عند القتال يتقى به السيف والرمح ونحوهما.


قوله: "ما الكرسي في العرش": أي: بالنسبة إليه، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوى عليه الرحمن ولا يقدر قدره إلا الله عز وجل والمراد بالحلقة حلقة الدرع، وهي صغيرة وليست بشيء بالنسبة إلى فلاة الأرض.
وهذا الحديث يدل على عظمته عز وجل فيكون مناسبا لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب.


ج / 2 ص -537- ظهري فلاة من الأرض"1.
وعن ابن مسعود، قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين


قوله: "وعن ابن مسعود...": هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون له حكم الرفع، لأن ابن مسعود رضي الله عنه لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات.
قوله: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام"2 وعلى هذا تكون المسافة بين السماء الدنيا والماء أربعة آلاف سنة، وفي حديث آخر: "إن كثف كل سماء خمسمائة عام3 "، وعلى هذا يكون بين السماء الدنيا والماء سبعة آلاف وخمسمائة عام، وإن صح الحديث، فمعناه أن علو الله



1 أخرجه: ابن جرير (3/7, 8). وقال الشيخ سليمان بن عبد الله; كما في "إبطال التنديد" (ص 170): "رواه أصبغ بن الفرج بهذا الطريق واللفظ, وهو مرسل, وعبد الرحمن بن زيد ضعيف". وأخرجه: محمد بن أبي شيبة في "العرش" (58). وفي إسناده إسماعيل بن مسلم المكي; كما في "السلسلة" (109), وهو متروك. وفيه أيضا: المختار بن غسان, مجهول لا يعرف بجرح ولا تعديل. انظر: "التهذيب" (10/ 68). وأخرجه: البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 404- 405). وفيه يحيى بن سعيد: قال ابن حبان في "المجروحين" 31/129): "يروي المقلوبات والملزقات, لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد". وفيه أيضا ابن جريج, وهو مدلس, وقد عنعنه. وأخرجه أيضا من طريق آخر, وفيه: إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني, كذبه أبو حاتم وأبو زرعة; كما في "الميزان" (1/72- 73). وأخرجه: ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (1/309, 310). وفيه مجهول, وضعيفان.


2 الترمذي: صفة الجنة (2540) , وأحمد (3/75).
3 هذا اللفظ قطعة من حديث الأوعال; كما هو في "المسند" (1/206), و"المستدرك " (2/412), وغيرهما. وانظر تخريج حديث الأوعال بكامله: (ص 544) مع بيان ضعفه.


ج / 2 ص -538- السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء،.....


- عز وجل- بعيد جدا. فإن قيل: يرد على هذا ما ذكره المعاصرون اليوم من أن بيننا وبين بعض النجوم والمجرات مسافات عظيمة؟ يقال في الجواب: إنه إذا صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا نضرب بما عارضها عرض الحائط، لكن إذا قدر أننا رأينا الشيء بأعيننا، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد أمرين:
الأول: محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع.


الثاني: إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث; لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئا حسيا واقعا أبدا، كما قال شيخ الإسلام في كتابه "العقل والنقل": "لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبدا; لأن تعارضهما يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين، وهذا مستحيل، فإن ظن التعارض بينهما، فإما أن لا يكون تعارض ويكون الخطأ من الفهم، وإما أن يكون أحدهما ظنيا والآخر قطعيا".


فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفا لظاهر شيء من الكتاب أو السنة، فإن ظاهر الكتاب يئول حتى يكون مطابقا للواقع، مثال ذلك قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}1 وقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً}2 أي: في السماوات.
والآية الثانية أشد إشكالا من الآية الأولى; لأن الآية الأولى يمكن أن نقول: المراد بالسماء العلو، ولكن الآية الثانية هي المشكلة جدا،



1 سورة الفرقان آية: 61.
2 سورة نوح آية: 16.


ج / 2 ص -539- والله فوق العرش،.....


والمعلوم بالحس المشاهد أن القمر ليس في السماء. نفسها، بل هو في فلك بين السماء والأرض.
والجواب أن يقال: إن كان القرآن يدل على أن القمر مرصع في السماء كما يرصع المسمار في الخشبة دلالة قطعية، فإن قولهم: إننا وصلنا القمر ليس صحيحا، بل وصلوا جرما في الجو ظنوه القمر.
لكن القرآن ليس صريحا في ذلك، وليست دلالته قطعية في أن القمر مرصع في السماء، فآية الفرقان قال الله فيها: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً}1 فيمكن أن يكون المراد بالسماء العلو، كقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}2 والماء ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض، كما قال الله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}3 وهذا التأويل للآية قريب.


وأما قوله: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً}4 فيمكن فيها التأويل أيضا بأن يقال: المراد لقوله: "فيهن": في جهتهن، وجهة السماوات العلو، وحينئذ يمكن الجمع بين الآيات والواقع.
قوله: "والله فوق العرش": هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علوا ذاتيا،


وعلو الله ينقسم إلى قسمين:
أ- علو الصفة، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام، والمراد به كمال صفات الله، كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}5.
ب- علو الذات، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام، فيقولون: كل العلو الوارد المضاف إلى الله المراد به علو الصفة، فيقولون في



1 سورة الفرقان آية: 61.
2 سورة الرعد آية: 17.
3 سورة البقرة آية: 164.
4 سورة نوح آية: 16.
5 سورة النحل آية: 60.


ج / 2 ص -540- لا يخفى عليه شيء من أعمالكم."1 أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله. ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: " وله طرق "2.

ـ
قوله صلى الله عليه وسلم "والله فوق العرش" أي، في القوة والسيطرة والسلطان، وليس فوقه بذاته. ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل في الصفات.


والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين:
أ- من قال: إن الله بذاته في كل مكان، وهذا لا شك ضلال مقتض للكفر.
ب- من قال: إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا: صفوا العدم، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف. ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر.
قوله: "لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح المرئي منها والمسموع، وذلك لعموم علمه وسعته، وإنما أتى بذلك بعد ذكر علوه ليبين أن علوه لا يمنع علمه بأعمالنا، وهو إشارة واضحة إلى علو ذاته تبارك وتعالى.




1 الترمذي: صفة الجنة (2540) , وأحمد (3/75).
2 أخرجه: الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص 26) وفي "النقض على المريسي" (ص 73, 90, 105), وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 1051, 106, 376, 377), والطبراني في "الكبير" (8987), والبيهقي في "الأسماء" (ص 401), والخطيب في "الموضح" (2/47). وقد صححه ابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 100), والذهبي في "العلو" (ص 64). وقال الهيثمي (1/68) بعدما عزاه للطبراني: "رجاله رجال الصحيح".


ج / 2 ص -541- وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟...


قوله: "العباس": يقال: العباس، وعباس، (أل) هنا لا تفيد التعريف، لأن عباس معرفة لكونه علما، لكنها للمح الأصل، كما يقال: الفضل لفضله، والعباس لعبوسه على الأعداء، قال ابن مالك:

وبعض الأعلام عليه دخلا للمح ما قد كان عنه نقلا1
قوله: "هل تدرون": "هل": استفهامية يراد بها أمران:
أ- التشويق لما سيذكر.


ب- التنبيه إلى ما سيلقيه عليهم. وهذا كقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}2 هذا تنبيه وتشويق إلى شيء من آيات الله الكونية.
وقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}3 هذا تنبيه وتشويق على شيء من آيات الله الشرعية وهو الإيمان والعمل الصالح.
وقوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}4 تنبيه وتحذير.
وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً}5 تنبيه وتحذير، واختلاف هذه المعاني بحسب القرائن والسياق، وإلا، فالأصل في الاستفهام أنه طلب العلم بالشيء.
قوله: "كم": استفهامية.



1 "ألفية ابن مالك" (ص 15).
2 سورة الغاشية آية: 1.
3 سورة الصف آية: 10.
4 سورة الكهف آية: 103.
5 سورة المائدة آية: 60.


ج / 2 ص -542- قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك،......


قوله: "قلنا: الله ورسوله أعلم": جاء العطف بالواو، لأن علم الرسول من علم الله، فهو الذي يعلمه بما لا يدركه البشر. وكذلك في المسائل الشرعية يقال: الله ورسوله أعلم، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بشرع الله، وعلمه به من علم الله، وما قاله صلى الله عليه وسلم في الشرع فهو كقول الله، وليست هذا كقوله: "ما شاء الله وشئت1 "، لأن هذا في باب القدر والمشيئة، ولا يمكن أن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم مشاركا لله في ذلك، بل يقال: ما شاء الله، ثم يعطف ب (ثم)، والضابط في ذلك أن الأمور الشرعية يصح فيها العطف بالواو، وأما الكونية، فلا. ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب على بعض الأعمال: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}2 بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم وتعذر رؤيته، فالله يرى، ولكن رسوله لا يرى، فلا تجوز كتابته لأنه كذب عليه صلى الله عليه وسلم.


قوله: "خمسمائة سنة": الميم الثانية في خمسمائة مكسورة والألف لا ينطق بها.
قوله: "وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض"3 وذلك خمسمائة سنة.
قوله: "والله تعالى فوق ذلك": هذا دليل على العلو العظيم لله عز وجل وأنه -سبحانه- فوق كل شيء ولا يحيط به شيء من مخلوقاته،



1 سبق (1/ 58).
2 سورة التوبة آية: 105.
3 الترمذي: تفسير القرآن (3320) , وأبو داود: السنة (4723) , وأحمد (1/206).


ج / 2 ص -543-


لا السماوات ولا غيرها، وعليه، فإنه -سبحانه- لا يوصف بأنه في جهة تحيط به، لأن ما فوق السماوات والعرش عدم، ليس هناك شيء حتى يقال: إن الله أحاط به شيء من مخلوقاته. ولهذا جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون: لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقا، وينكرون العلو ظنا منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر. وليس كذلك" لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه، ما ثم إلا الله، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبدا. فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل، أما إطلاق لفظها نفيا وإثباتا فلا نقول به، لأنه لم يرد أن الله في جهة، ولا أنه ليس في جهة، ولكن نفصل، فنقول: إن الله في جهة العلو، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للجارية: "أين الله؟". وأين يستفهم بها عن المكان، فقالت: في السماء. فأثبتت ذلك، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وقال: "أعتقها، فإنها مؤمنة1 ".



وأهل التحريف يقولون: "أين" بمعنى "من"، أي: من الله، قالت: في السماء، أي: هو من في السماء، وينكرون العلو. وقد رد عليهم ابن القيم رحمه الله في كتبه ومنها "النونية" وقال لهم: اللغة العربية لا تأتي فيها "أين" بمعنى "من"، وفرق بين "أين" و"من". فالجهة لله ليست جهة سفل، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلا وسمعا، وليست جهة علو تحيط به، لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو موضع قدميه، فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته؟! فهو في جهة علو لا تحيط به، ولا يمكن أن يقال: إن شيئا يحيط به، لأننا نقول: إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله -سبحانه-، ولهذا قال: "والله تعالى فوق ذلك".



1 أخرجه: مسلم في (المساجد, باب تحريم الكلام في الصلاة, 1/382); عن معاوية بن الحكم رضي الله عنه.


ج / 2 ص -544- وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره 1.


قوله: "وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم"2 وقوله: "أعمال" إن قرنت بالأقوال صار المراد بها: أعمال الجوارح، والأقوال للسان، وإن أفردت شملت أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأعمال القلوب، وهي هنا مفردة، فتشمل كل ما يتعلق باللسان أو القلب أو الجوارح، بل أبلغ من ذلك أنه لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم في المستقبل، فهو يعلم ما يكون فضلا عما كان، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}3 أي: ما يستقبلونه وما مضى عليهم، ولما قال فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى}4 أي: ما شأنها؟ قال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ}5 أي: محفوظة، {لا يَضِلُّ رَبِّي} لا يجهل، {وَلا يَنْسَى} لا يذهل عما مضى -سبحانه وتعالى-.



1 أخرجه: أحمد (1/ 206, 207), وأبو داود في (السنة, باب في الجهمية, 5/ 93), والترمذي في (تفسير القرآن, سورة الحاقة, 9/ 60)- وقال: "حسن غريب"-, وابن ماجه في (المقدمة, باب فيما أنكرت الجهمية, 1/ 96), وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (ص 24): وفي "النقض على المريسي" (ص 90), وابن أبي عاصم في "السنة" (577), وابن خزيمة في "التوحيد" (101, 102), والآجري في "الشريعة" (292, 293), ومحمد بن أبي شيبة في "العرش" (9, 10), والحاكم (2/288, 412)- وصححه-, واللالكائي (651), وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/2), والبيهقي في "الأسماء" (ص 398), وابن عبد البر في "التمهيد" (7/140), وابن حزم في "الفصل" (2/100), وابن قدامة في "العلو" (ص 7), والمزي في "تهذيب الكمال" (2/ 719), والذهبي في "العلو" (49- 50); من طريق عبد الله بن عميرة, عن الأحنف بن قيس, عن العباس. وقال الذهبي في "الميزان" (2/ 469): "فيه- أي: عبد الله- فيه جهالة". قال البخاري: "لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس". وهذا الحديث يعرف بحديث الأوعال, وقد قال ابن العربي في عارضته: "إن خبر الأوعال متلقف من الإسرائيليات". وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (7/ 92, 93).
2 أحمد (1/206).
3 سورة طه آية: 110.
4 سورة طه آية: 51.
5 سورة طه آية: 52.


ج / 2 ص -545-


والنبي صلى الله عليه وسلم صدر هذا الأمر بهل الدالة على التشويق والتنبيه من أجل أن يثبت عقيدة عظيمة، وهو أنه تعالى فوق كل شيء بذاته، وأنه محيط بكل شيء علما، لقوله: "وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم"1 فإذا علمنا ذلك، أوجب لنا تعظيمه والحذر من مخالفته، لأنه فوقنا، فهو عال علينا، وأمره محيط بنا.


وفي الحديث صفتان لله:
ثبوتية، وهي العلو المستفاد من قوله: والله فوق ذلك. وسلبية، وهي المستفادة من قوله: "ليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم"2 ولا يوجد في صفات الله عز وجل صفة سلبية محضة، بل صفاته السلبية التي هي النفي متضمنة لثبوت ضدها على وجه الكمال، فينفى عنه الخفاء لكمال علمه، وينفى عنه اللغوب لكمال قوته، وينفى عنه العجز لكمال قدرته، وما أشبه ذلك. فإذا نفى الله عن نفسه شيئا من الصفات، فالمراد انتفاء تلك الصفة عنه لكمال ضدها، كما قال تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}3 السنة: النعاس، والنوم: الإغفاء العميق، وذلك لكمال حياته وقيوميته، إذ لو كان ناقص الحياة لاحتاج إلى النوم، ولو نام ما كان قيوما على خلقه، لأنه حين ينام لا يكون هناك من يقوم عليهم، ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم، ولأن النوم في الجنة يذهب عليهم وقتا بلا فرح ولا سرور ولا لذة، لأن السرور فيها دائم، ولأن النوم هو الوفاة الصغرى، والجنة لا موت فيها.


وليس في صفات الله نفي محض، لأن النفي المحض عدم لا ثناء فيه ولا كمال، بل هو لا شيء، ولأن النفي أحيانا يرد لكون المحل غير قابل له، مثل قولك: الجدار لا يظلم.
وقد يكون نفي الذم ذما، كما في قول الشاعر:



1 أحمد (1/206).
2 أحمد (1/206).
3 سورة البقرة آية: 255.



ج / 2 ص -546- فيه مسائل:
الأولى:
تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1.
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينكروها ولم يتأولوها.


قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خرد
فنفي الغدر عنهم والظلم ليس مدحا، بل هو ذم ينبئ عن عجزهم وضعفهم.
وقال آخر:

لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة ركبانا وفرسانا
فنفى أن يكون لهم يد في الشر وبين أن ذلك لعجزهم عن الانتصار لأنفسهم وتمنى أن يكون له قوم خير منهم وأقوى.


فيه مسائل:

الأولى:
تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}2 وقد تقدم من حديث ابن مسعود، حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم الحبر على أن الله يجعل السماوات على إصبع... إلخ.
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في



1 سورة الزمر آية: 67.
2 سورة الزمر آية: 67.


ج / 2 ص -547- الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.


زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها: كأنه يقول: إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها، وجاء قوم من هذه الأمة، فقالوا: ليس لله أصابع، وإن المراد بها القدرة، فكأنه يقول: اليهود خير منهم في هذا وأعرف بالله.


الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك: ظاهر كلام المؤلف بقوله: "ونزل القرآن" أنه بعد كلام الحبر، وليس كذلك، لأنه في حديث ابن مسعود قال: ثم قرأ قوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}1 وهذا يدل على أن الآية نزلت من قبل، لكن مراد المؤلف أن القرآن قد نزل بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم: ففيه دليل على جواز الضحك في تقرير الأشياء; لأن الضحك يدل على الرضا وعدم الكراهية.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى: وقد ثبتت اليدان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع السلف.
وقوله: "في الأخرى" لا يعني أنه ينفي ذكر الشمال لما ذكره في المسألة التالية وهي:



1 سورة الزمر آية: 67.


ج / 2 ص -548- السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: " كخردلة في كف أحدكم".
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.


السادسة: التصريح بتسميتها الشمال: وقد سبق الكلام على ذلك.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك: ووجه ذكرهم أنه إذا كان لهم تجبر وتكبر الآن، فليقوموا بذلك.
الثامنة: قوله: "كخردلة في كف أحدكم": يعني بذلك قوله في الحديث: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم" هكذا قال المؤلف رحمه الله في كف أحدكم وقد ساق الأثر بقوله: "كخردلة في يد أحدكم" انظر ص 535 وكلامنا على الأثر هناك.
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء: حيث ذكر أنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي: لأنه جعل الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض بالنسبة للعرش.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء: ولم أر من قال: إن العرش هو الماء، لكن هناك من قال: إن العرش هو الكرسي;



ج / 2 ص -549- الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.


لحديث: "إن الله يضع كرسيه يوم القيامة1 "، وظنوا أن هذا الكرسي هو العرش. وكذلك زعم بعض الناس أن الكرسي هو العلم، فقالوا في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}2 أي: علمه. والصواب: أن الكرسي موضع القدمين، والعرش هو الذي استوى عليه الرحمن -سبحانه-، والعلم صفة في العالم يدرك بها المعلوم.


الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء: وهو خمسمائة عام.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي: وهو خمسمائة عام.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء: وهو خمسمائة عام.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء: وهي ظاهرة.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش: وهي ظاهرة



1 في حديث ابن مسعود رضي الله عنه; قال: "... يوم ينزل الله فيه على كرسيه يئط به كما يئط الرحل من تضايقه كسعة ما بين السماء والأرض". أخرجه: الحاكم مطولا في "التفسير" (تفسير سورة بني إسرائيل, 2/364), وقال: "صحيح الإسناد, ولم يخرجاه", وتعقبه الذهبي: (قلت: لا والله; فعثمان ضعفه الدارقطني, والباقون ثقات".
2 سورة البقرة آية: 255.


ج / 2 ص -550- السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة، والله أعلم.


السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض: وهو خمسمائة عام.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. وقد سبق الكلام على جميع هذه المسائل بأدلتها.


ويستفاد من أحاديث الباب:

1- أن الله لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم.
2- التحذير من مخالفة الله عز وجل.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وأسأل الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد، آمين.






المصدر :

كتاب
القول المفيد على كتاب التوحيد

رابط التحميل المباشر


http://waqfeya.com/book.php?bid=1979







Powered by vBulletin®, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd