المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : [شرح] الجزء الثاني من مسائل فقه الحج للشيخ ناصر الدين الالباني


أبو همام فوزي
12-10-2011, 10:38AM
باب/ لمن تُشرع عمرة التنعيم؟!
1 - عن عبدالرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -؛ أن النبي r قال له:
 أَرْدِفْ أختك عائشة فَأَعْمِرها من التنعيم، فإذا هَبَـطْتَ الأَكَـمَـةَ فَمُرْها فَـلْـتُـحْرِم، فإنها عمرة متقبلة .
صحيح. "الصحيحة" برقم (2626).
* فائدة:
وكذلك (أخرج البخاري ومسلم) من حديث عائشة نفسها وفي رواية لهما عنها قالت:
(فاعتمرت، فقال:  هذه مكان عمرتك . وفي أخرى: بنحوه قال: (مكان عمرتي التي أدركني الحج ولم أحصل منها). وفي أخرى: (مكان عمرتي التي أمسكتُ عنها). وفي أخرى:
 جزاءً بعمرة الناس التي اعتمروا  رواها مسلم.
وفي ذلك إشارة إلى سبب أمره r لها بهذه العمرة بعد الحج.
وبيان ذلك:
أنها كانت أهلّت بالعمرة في حجتها مع النبي r، إما ابتداءً أو فسخاً للحج إلى العمرة (على الخلاف المعروف) (1)، فلما قدمتْ (سرف) - مكان قريب من مكة -، حاضت، فلم تتمكن من إتمام عمرتها والتحلل منها بالطواف حول البيت، لقوله r لها - وقد قالت له: إني كنت أهللت بعمرة فكيف أصنع بحجتي؟ قال:  انقضي رأسك، وامتشطي، وأمسكي عن العمرة، وأهلي بالحج، واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي ولا تصلي حتى تطهري  . (وفي رواية:  فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها ) - ففعلتْ، ووقفتْ المواقف، حتى إذا طهرتْ طافت بالكعبة والصفا والمروة، وقال لها r كما في حديث جابر:  قد حللت من حجك وعمرتك جميعاً ، فقالت: (يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت، وذلك يوم النفر، فأبت، وقالت: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر؟ وفي رواية عنها - يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد؟ وفي أخرى: يرجع الناس (وعند أحمد (6/219): صواحبي، وفي أخرى له (6/165 و 266): نساؤك) بعمرة وحجة، وأرجع أنا بحجة؟
وكان r رجلاً سهلاً إذا هَوِيَتِ الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع أخيها عبد الرحمن، فأهلت بعمرة من التنعيم (2).
فقد تبين مما ذكرنا من هذه الروايات - وكلها صحيحة - أن النبي  إنما أمرها بالعمرة عقب الحج بديل ما فاتها من عمرة التمتع بسبب حيضها، ولذلك قال العلماء في تفسير قوله r المتقدم:  هذه مكان عمرتك  أي: العمرة المنفردة التي حصل لغيرها التحلل منها بمكة، ثم أنشأوا الحج مُفْرداً (3).
إذا عرفت هذا، ظهر لك جلياً أن هذه العمرة خاصة بالحائض التي لم تتمكن من إتمام عمرة الحج، فلا تشرع لغيرها من النساء الطاهرات، فضلاً عن الرجال.
ومن هنا يظهر السر في إعراض السلف عنها، وتصريح بعضهم بكراهتها، بل إن عائشة نفسها لم يصح عنها العمل بها، فقد كانت إذا حجت تمكث إلى أن يهلَّ المحرم ثم تخرج إلى الجحفة فتحرم منها بعمرة، كما في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (26/92).
وقد أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/344) بمعناه عن سعيد بن المسيب أن عائشة - رضي الله عنها - كانت تعتمر في آخر ذي الحجة من الجحفة.
وإسناده صحيح.
وأما ما رواه مسلم (4/36) من طريق مطر: قال أبو الزبير: فكانت عائشة إذا حجت صنعت كما صنعت مع نبي الله r.
ففي ثبوته نظر، لأن مطراً هذا هو الوراق؛ ففيه ضعف من قِبَل حفظه، لا سيما وقد خالفه الليث بن سعد وابن جريج كلاهما عن أبي الزبير عن جابر بقصة عائشة، ولم يذكرا فيها هذا الذي رواه مطر، فهو شاذ أو منكر، فإن صح ذلك فينبغي أن يحمل على ما رواه سعيد بن المسيب، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص119):
(يكره الخروج من مكة لعمرة تطوع، وذلك بدعة لم يفعله النبي ، ولا أصحابه على عهده، لا في رمضان ولا في غيره، ولم يأمر عائشة بها، بل أذن لها بعد المراجعة تطييباً لقلبها، وطوافه بالبيت أفضل من الخروج اتفاقاً، ويخرج عند من لم يكرهه على سبيل الجواز).
وهذا خلاصة ما جاء في بعض أجوبته المذكورة في "مجموع الفتاوى"(26/252 - 263)، ثم قال (26/264): (ولهذا كان السلف والأئمة ينهون عن ذلك، فروى سعيد بن منصور في "سننه" عن طاوس - أجَلَّ أصحاب ابن عباس - قال: (الذين يعتمرون من التنعيم ما أدري أيؤجرون عليها أم يعذبون؟ قيل: فَلِمَ يُعذَّبون؟ قال: لأنه يدع الطواف بالبيت، ويخرج إلى أربعة أميال ويجيء، وإلى أن يجيء من أربعة أميال (يكون) قد طاف مائتي طواف، وكلما طاف بالبيت كان أفضل من أن يمشي في غير شيء). وأقره الإمام أحمد. وقال عطاء بن السائب: (اعتمرنا بعد الحج، فعاب ذلك علينا سعيد بن جبير) وقد أجازها آخرون، لكن لم يفعلوها...).
وقال ابن القيم - رحمه الله - في "زاد المعاد" (1/243): (ولم يكن r في عُمْرة واحدة خارجاً من مكة كما يفعل كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُهُ كلها داخلاً إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة، لم ينقل عنه أنه اعتمر خارجاً من مكة في تلك المدة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسول الله r وشرعها فهي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر، ولم يفعل هذا على عهد أحد قط إلا عائشة وحدها من بين سائر من كان معه، لأنها كانت قد أهلت بالعمرة فحاضت، فأمرها فأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجتها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن ترجع صواحباتها بحج وعمرة مُسْـتَـقِلَّـيْنِ فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يَقْرِنَ، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يُعْمِرَها من التنعيم تطييباً لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحجة ولا أحد ممن كان معه) اهـ.
قلتُ: قد يشكل على نفيه في آخر كلامه، ما في رواية للبخاري (3/483 - 484) من طريق أبي نعيم: حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة، - فذكر القصة - ، وفيه:
(فدعا عبد الرحمن فقال:  أخرج بأختك الحرم فلتهل بعمرة، ثم افرغا من طوافكما ).
لكن أخرجه مسلم (4/31 - 32) من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح به؛ إلا أنه
لم يذكر:  ثم أفرغا من طوافكما . وإنما قال:  ثم لتطف بالبيت .
فأخشى أن يكون تثنية الطواف خطأ من أبي نعيم، فقد وجدت له مخالفاً آخر عند أبي داود (1/313 - 314) من رواية خالد - وهو الحذّاء - عن أفلح به نحو رواية مسلم، فهذه التثنية شاذة في نقدي؛ لمخالفة أبي نعيم وتفرده بها دون إسحاق بن سليمان وخالد الحذّاء وهما ثقتان حُجّتان.
ثم وجدت لهما متابعاً آخر وهو أبوبكر الحنفي عند البخاري (3/328) وأبي داود.
ويؤيد ذلك أنها لم ترد لفظاً ولا معنى في شيء من طرق الحديث عن عائشة، وما أكثرها في "مسند أحمد"

أبو همام فوزي
12-10-2011, 10:41AM
وكذلك لم ترد في حديث الترجمة لا من الوجه المذكور أولاً، ولا من الطريق الأخرى عند الشيخين وغيرهما.
نعم، في رواية لأحمد (1/198) من طريق ابن أبي نجيح أن أباه حدثه أنه أخبره من سمع عبد الرحمن بن أبي بكر يقول: قال رسول الله r... فذكره نحوه.
إلا أنه قال:  فأهلا وأقبلا، وذلك ليلة الصدر ، لكن الواسطة بين أبي نجيح
وعبد الرحمن لم يُسَمَّ، فهو مجهول، فزيادته منكرة، وإن سكت الحافظ في "الفتح" (3/479) على زيادته التي في آخره:  وذلك ليلة الصدر ، ولعل ذلك لشواهدها. والله أعلم.
وجملة القول أنه لا يوجد ما ينفي قول ابن القيم انه لم يعتمر بعد الحج أحد ممن كان مع النبي r سوى عائشة،ولذلك لما نَقَـل كلامه مختصراً الحافظ في"الفتح"لم يتعقبه إلا بقوله (3/478): (وبعد أن فعلته عائشة بأمره دل على مشروعيته)!
ومن تأمل ما سقناه من الروايات الصحيحة، وما فيها من بيان سبب أمره  إياها بذلك؛ تجلى له يقيناً أنه ليس فيه تشريع عام لجميع الحجاج،ولو كان كما توهم الحافظ لبادر الصحابة إلى الإتيان بهذه العمرة في حجته r وبعدها، فعدم تعبدهم بها، مع كراهة من نص على كراهتها من السلف كما تقدم لأكبر دليل على عدم شرعيتها. اللهم إلا من أصابها ما أصاب السيدة عائشة - رضي الله عنها - من المانع من إتمام عمرتها.والله - تعالى – ولي التوفيق.
وإن مما ينبغي التنبه له أن قول ابن القيم المتقدم: (إنما كانت عُـمَرُهُ كلها داخلاً إلى مكة)،
لا ينافيه اعتماره r من (الجعرانة)، كما توهم البعض؛ لأنها كانت مَرْجِعُه من الطائف، فنزلها، ثم قَسَمَ غنائم حُنَيْن بها، ثم اعتمر منها.
2 - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي r قال لها:
 طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة يكفيك لحجك وعمرتك .
صحيح. "الصحيحة" برقم (1984).
* فائدة:
قلتُ: فالعمرة بعد الحج إنما هي للحائض التي لم تتمكن من الإتيان بعمرة الحج بين يدي الحج، لأنها حاضت، كما علمت من قصة عائشة هذه، فمثلها من النساء إذا أهلت بعمرة الحج كما فعلت هي - رضي الله عنها -، ثم حال بينها وبين إتمامها الحيض، فهذه يشرع لها العمرة بعد الحج، فما يفعله اليوم جماهير الحجاج من تهافتهم على العمرة بعد الحج، مما لا نراه مشروعاً؛ لأن أحداً من الصحابة الذين حجوا معه  لم يفعلها.
بل إنني أرى أن هذا من تشبه الرجال بالنساء، بل الحُيَّضِ منهن! ولذلك جريت على تسمية هذه العمرة بــ (عمرة الحائض) بياناً للحقيقة.

باب/ كيفية الاستفادة من لحوم الهدايا والضحايا في منى.
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال:
 كنا نتزوّدُ لحوم الأضاحي على عهد رسول الله r إلى المدينة .
صحيح. "الصحيحة" برقم (805).
* تنبيه:
لقد شاع بين الناس الذين يعودون من الحج التذمر البالغ مما يرونه من ذهاب الهدايا والضحايا في مِنَى طُعْماً للطيور وسباع الوحوش، أو لقماً للخنادق الضخمة التي تحفرها الجرافات الآلية ثم تقبرها فيها، حتى لقد حمل ذلك بعض المفتين الرسميين على إفتاء بعض الناس بجواز - بل وجوب - صرف أثمان الضحايا والهدايا في مِنَى إلى الفقراء، أو يشتري بها بديلها في بلاد المكلفين بها، ولست الآن بصدد بيان ما في مثل هذه الفتوى من الجَوْر، ومخالفة النصوص الموجبة لِمَا استيسر من الهدي دون القيمة، وإنما غرضي أن أنبه أن التذمر المذكور يجب أن يُعلَم أن المسؤول عنه إنما هم المسلمون أنفسهم، لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، وإنما أذكر هنا سبباً واحداً منها؛ وهو عدم اقتدائهم بالسلف الصالح - رضي الله عنهم - في الانتفاع من الهدايا بذبحها وسلخها وتقطيعها، وتقديمها قِطَعاً إلى الفقراء، والأكل منها، ثم إصلاحها بطريقة فِطْرية؛ كتشريقه وتقديده تحت أشعة الشمس بعد تمليحه، أو طبخه مع التمليح الزائد ليصْلُح للادخار، أو بطريقة أخرى علمية فنية إن تيسرت، لو أن المسلمين صنعوا في الهدايا هذا وغيره مما يمكن استعماله من الأسباب والوسائل؛ لزالت الشكوى بإذن الله، ولكن إلى الله المشتكى من غالب المسلمين الذين يحجون إلى تلك البلاد المقدسة وهم في غاية من الجهل بأحكام المناسك الواجبة؛ فضلاً عن غيرها من الآداب والثقافة الإسلامية العامة. والله المستعان.

أبو همام فوزي
12-10-2011, 10:45AM
{ تكمله }
باب/ توسيع الكعبة وفتح باب آخر لها
عن عائشة - رضي الله عنها -؛ أن النبي r قال لها:
 يا عائشة! لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، (وليس عندي من النفقة ما يُقوي على بنائه)؛ (لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، و) لهدمت الكعبة، فألزقتها بالأرض، (ثم لبنيتها على أساس إبراهيم)، وجعلت لها بابين (موضوعين في الأرض)؛ باباً شرقياً (يدخل الناس منه)، وباباً غربياً (يخرجون منه)، وزدت فيها ستة أذرع من الحِجْرِ (وفي رواية: ولأدخلت فيها الحِجْرَ)؛ فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة، (فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه؛ فهلمي لأريك ما تركوا منه، فأرها قريباً من سبعة أذرع) .
(وفي رواية عنها قالت: سألت رسول الله r عن الجَدْرِ (أي: الحِجْر)؛ أمِنَ البيت هو؟ قال:  نعم  . قلت: فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال:  إن قومك قصَّرَتْ بهم النفقة . قلت: فما شأن بابِهِ مرتفعاً؟ قال:  فعل ذلك قومك ليُدْخِلوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا (وفي رواية: تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا،فكان الرجل إذا أراد أن يدخلها يَدَعونَه يرتقي؛ حتى إذا كاد أن يدخل؛ دفعوه، فسقط)،ولولا أن قومك حديثٌ عَهْدُهُم في الجاهلية،فأخاف أن تنكر قلوبهم ؛ لَنَظَرْتُ أن أُدخل الجَدْرَ في البيت، وأن أُلـْزِقَ بابه بالأرض  ).
(فلما مَلَكَ ابن الزبير، هدمها، وجعل لها بابين) (وفي رواية: فذلك الذي حمل ابن الزبير
على هدمه. قال يزيد بن رومان: وقد شهدت ابن الزبير حين هَدَمَهُ وبناه وأدخل فيه الحِجْرَ، وقد رأيتُ أساس إبراهيم عليه السلام حجارةً مُتلاحِمَةً كأسنمة الإبل مُتلاحِكَةً).
صحيح. "الصحيحة" برقم (43).
* (من فقه الحديث):
يدل هذا الحديث على أمرين:
الأول: أن القيام بالإصلاح إذا ترتب عليه مفسدة أكبر منه؛ وجب تأجيله، ومنه أخذ الفقهاء قاعدتهم المشهورة: (دفع المفسدة قَبْل جَلْب المصلحة).
الثاني: أن الكعبة المشرفة بحاجة الآن إلى الإصلاحات التي تضمنها الحديث؛ لزوال السبب الذي من أجله ترك رسول الله r ذلك، وهو أن تنفر قلوب من كان حديث عهد بشرك في عهده r، وقد نقل ابن بطال عن بعض العلماء: (أن النفرة التي خشيها r : أن ينسبوه إلى الانفراد بالفَـخْر دونهم).
ويمكن حصر تلك الإصلاحات فيما يلي:
1 - توسيع الكعبة وبناؤها على أساس إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، وذلك بضم نحو ستة أذرع من الحِجْر.
2 - تسوية أرضها بأرض الحَرَم.
3 - فتح باب آخر لها من الجهة الغربية.
4 - جعل البابين منخفضين مع الأرض لتنظيم وتيسير الدخول إليها والخروج منها لكل من شاء.
ولقد كان عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - قد قام بتحقيق هذا الإصلاح بكامله إبّان حكمه في مكة، ولكن السياسة الجائرة أعادت الكعبة بعده إلى وَضْعها السابق!
وهاك تفصيل ذلك كما رواه مسلم وأبو نعيم بسندهما الصحيح عن عطاء قال:
(لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان؛ تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم؛ يريد أن يجرئهم - أو يُحَربَهُم - على أهل الشام، فلما
صدر الناس؛ قال: يا أيها الناس! أشيروا عليَّ في الكعبة؛ أنْـقُـضُـها ثم أبني بناءها أو أُصْلحُ
ما وَهَى منها؟ قال ابن عباس: فإني قد فُرِقَ لي رأيٌ فيها: أرى أن تصلح ما وَهَى منها، وتَدَع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبُعِثَ عليها النبي .
فقال ابن الزبير: لو كان أحدكم احترق بيتُـه ما رضي حتى يُجِدَّه؛ فكيف ببيت ربكم؟!
إني مستخيرٌ ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري. فلما مضى الثلاث؛ أجمعَ رأيه على أن ينقضها، فتحاماه الناس أن ينزل بأوّل الناس يصعد فيه أمرٌ من السماء! حتى صَعِدَه رجلٌ، فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء؛ تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة، فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة تقول: إن النبي r قال: (فذكر الحديث بالزيادة الأولى، ثم قال): فأنا اليوم أجدَ ما أنفق، ولست أخاف الناس، فزاد فيه خمس أذرع مِن الحِجْر، حتى أبدى أٌسّاً نظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعاً، فلما زاد فيه، استقصره، فزاد في طوله عشر أذرع، وجعل له بابين: أحدهما يُدْخَل منه، والآخر يُخْرَجُ منه، فلما قُـتِـل ابن الزبير، كتب الحجاج إلى عبد المالك يخبره بذلك، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أُس نظر إليه العدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك: إنّا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما
ما زاد في طوله، فأقِرَّهُ، وأما ما زاد فيه من الحِجْر، فرُدَّ إلى بنائه، وسدَّ الباب الذي فتحه،
فنقضه وأعاده إلى بنائه).
ذلك ما فعله الحجاج الظالم بأمْر عبد الملك الخاطئ، وما أظن أنه يُسَوغ له خطأه ندمه فيما بعد، فقد روى مسلم وأبو نعيم أيضاً عن عبد الله بن عُبيد؛ قال: (وَفَد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا خُبَيْب (يعني: ابن الزبير) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بَلَى؛ أنا سمعته منها.
قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت: قال رسول الله r : (قلتُ: فذكر الحديث). قال عبدالملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. فنَـكَتَ ساعة بعصاه، ثم قال: ودِدتُ أني تركته وما تحمَّل).
وفي رواية لهما عن أبي قَزْعة: (أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت؛ إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين؛ يقول سمعتها تقول: (فذكر الحديث) فقال الحارث ابن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين؛ فأنا سمعت أم المؤمنين تحدثُ هذا. قال: لو كنتُ سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير).

أبو همام فوزي
12-10-2011, 10:50AM
‏{‏ تكملة }
أقول: كان عليه أن يتثبت قبل الهدم، فيسأل عن ذلك أهل العلم؛ إن كان يجوز له الطعن في عبد الله بن الزبير واتهامه بالكذب على رسول الله r! وقد تبين لعبد الملك صدقُه
- رضي الله عنه - بمتابعة الحارث إيّاه؛ كما تابعه جماعة كثيرة عن عائشة - رضي الله عنها -، وقد جمعت رواياتهم بعضها إلى بعض في هذا الحديث، فالحديث مستفيض عن عائشة، ولذلك فإني أخشى أن يكون عبد الملك على عِلْم سابق بالحديث قبل أن يهدم البيت، ولكنه تظاهر بأنه لم يسمع به إلاّ من طريق ابن الزبير، فلما جابهه الحارث ابن عبد الله بأنه سمعه من عائشة أيضاً؛ أظهر الندم على ما فَعَل، ولاتَ حين مَنْدَم.
هذا؛ وقد بلغنا أن هناك فكرة أو مشروعاً لتوسيع المطاف حول الكعبة، ونقل مقام إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - إلى مكان آخر، فأقترح بهذه المناسبة على المسؤولين أن يبادروا إلى توسيع الكعبة قبل كل شيء، وإعادة بنائها على أساس إبراهيم - عليه السلام ؛ تحقيقاً للرغبة النبوية الكريمة المتجلية في هذا الحديث، وإنقاذاً للناس من مشاكل الزحام على باب الكعبة الذي يُشاهد في كل عام، ومن سيطرة الحارس على الباب، الذي يمنع من الدخول من شاء ويسمح لمن شاء؛ من أجل دريهمات معدودات ( 1 )!

باب/ مشروعية زيارة قبر النبي r
1 - عن عاصم بن حُميد السَّـكونيّ - رحمه الله - :
أن معاذاً لما بعثه النبي r إلى اليمن، خرج معه النبي  يوصيه، ومعاذ راكب، والرسول r يمشي تحت راحلته، فلما فرغ قال:  يا معاذ! إنك عسى أنْ لا تلقاني بعد عامي هذا، (أ) ولعلك أن تمر بمسجدي (هذا أ) وقبري .
صحيح، "الصحيحة" برقم (2497).
* (تنبيه):
هذا الحديث استدل به الدكتور البوطي في آخر كتابه "فقه السيرة" على شرعية زيارة قبره
r التي زعم أن ابن تيمية ينكرها!
ونحن وإنْ كنّا لا نخالفه في هذا الاستدلال، فإنه ظاهر، ولكنّا ننبه القراء بأنّ هذا الزعم باطل وافتراء على ابن تيمية - رحمه الله - فإن كتبه طافحة بالتصريح بشرعيتها، بل وتوسع في بيان آدابها، وإنما ينكر ابن تيمية قَصْدَها بالسفر إليها؛ المعنيّ بحديث:  لا تُـشَـدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.. . الحديث؛ كما كنتُ بيّنتُ ذلك، وبسطتُ القول فيه من أقوال ابن تيمية نفسه في ردي على البوطي المسمى: "دفاع عن الحديث النبوي"، فما معنى إصرار الدكتور على هذه الفِرْية حتى الطبعة الأخيرة من كتابه؟!
الجواب عند القراء الألبَّاء.