المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التلازم بين اعمال القلوب واعمال الجوراح ( للمحدث العلامة الألباني )


ماهر بن ظافر القحطاني
05-08-2004, 08:29AM
التلازم بين اعمال القلوب واعمال الجوراح والعلاقة
بين الظاهر والباطن

نَبَّهَ شَيْخُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- فِي مُقَدِّمَتِهِ عَلَى كِتَابِ «رِيَاض الصَّالِحِينَ» (صفحة : ل-ن) -لِلإِمَامِ النَّووي- عَلَى خَطَإِ إِيْرَادِهِ -رَحِمَهُ اللهُ- لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -مَرْفُوعاً- بِلَفْظِ : «إِنَّ اللهَ لاَ يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ ، وَلاَ إِلَى صُورَكُمْ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»؛ فَقَالَ شَيْخُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- :
«وَزَادَ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ فِي رِوَايَةٍ : «وَأَعْمَالِكُمْ» ، وَهُوَ مُخَرَّجٌ فِي «تَخْرِيجِ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ» (410) .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ هَامَّةٌ جِدًّا ؛ لأَنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يَفْهَمُونَ الحَدِيثَ بِدُونِهَا فَهْماً خَاطِئاً ؛ فَإِذَا أَنْتَ أَمَرْتَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ الشَّرْعُ الحَكِيمُ مِنْ مِثْلِ إِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ ، وَتَرْكِ التَّشَبُّهِ بِالكُفَّارِ -وَنَحْوِ ذلِكَ مِنَ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ- : أَجَابُوكَ بِأَنَّ العُمْدَةَ عَلَى مَا فِي القَلْبِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى زَعْمِهِمْ بِهذَا الحَدِيثِ ! دُونَ أَنْ يَعْلَمُوا بِهذِهِ الزِّيَادَةِ الصَّحِيحَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَنْظُرُ -أَيْضاً- إِلَى أَعْمَالِهِمْ ؛ فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَبِلَهَا ؛ وإِلاَّ رَدَّهَا عَلَيْهِمْ ، كَمَا تَدُلُّ عَلَى ذلِكَ عَدِيدٌ مِنَ النُّصُوصِ ؛ كَقَوْلِهِ ? : «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ».
وَالحَقِيقَةُ أَنَّهُ لاَ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ صَلاَحِ القُلُوبِ إِلاَّ بِصَلاَحِ الأَعْمَالِ ، وَلاَ صَلاَحِ الأَعْمَالِ إِلاَّ بِصَلاَحِ القُلُوبِ .
وَقَدْ بَيَّنَ ذلِكَ رَسُولُ اللهِ ? أَجْمَلَ بَيَانٍ فِي حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ : «... أَلاَ وَإِنْ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً ؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ» ، وَحَدِيثِهِ الآخِرِ : «لَتُسَوُّنَّ صَفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» ، أَيْ : قُلُوبِكُمْ ، وَقَوْلِهِ ? : «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ» ، وَهُوَ وَارِدٌ فِي الجَمَالِ المَادِّي المَشْرُوعِ -خَلاَفاً لِظَنِّ الكَثِيرِينَ-».
ثُمَّ تَعَقَّبَ شَيْخُنَا -رَحِمَهُ اللهُ- ابْنَ عَلاَّنَ فِي «شَرْحِه» (4/406) لَمَّا قَالَ -شَارِحاً الحَدِيثَ- : «أَيْ : إِنَّهُ -تَعَالَى- لاَ يُرَتِّبُ الثَّوَابَ عَلَى كِبَرِ الجِسْمِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ وَكَثْرَةِ العَمَلِ» ! فَرَدَّهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ- بِقَوْلِهِ :
«وَهذَا الشَّرْحُ مِمَّا لاَ يَخْفَى بُطْلاَنُهُ ؛ لأَنَّهُ -مَعَ مُنَافَاتِهِ لِلْحَدِيثِ فِي نَصِّهِ الصَّحِيحِ- مُعَارِضٌ لِلنُّصُوصِ الكَثِيرَةِ مِنَ الكِتَابِ والسُّنَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تَفَاضُلَ العِبَادِ فِي الدَّرَجَاتِ فِي الجَنَّةِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ للأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ -كَثْرَةً وَقِلَّةً- ؛ مِنْ ذلِكَ قَوْلُهُ -تَعَالَى- : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} ، وَقَوْلُهُ فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ : «... يَا عِبَادِي ! إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ ، أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ الله ...».
وَكَيْفَ يُعْقَلُ أَنْ لاَ يَنْظُرَ اللهُ إِلَى العَمَلِ -كَالأَجْسَادِ وَالصُّوَرِ- ؛ وَهُوَ الأَسَاسُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ بَعْدَ الإِيمَانِ ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى- : {ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}؟!
فَتَأَمَّلْ كُمْ يُبْعِدُ التَّقْلِيدُ أَهْلَهُ عَنِ الصَّوَابِ ، وَيُلْقِي بِهِمْ فِي وَادٍ مِنَ الخَطإِ سَحِيقٍ ! وَمَا ذلِكَ إِلاَّ لإِعْرَاضِهِمْ عَنْ دِرَاسَةِ السُّنَّةِ فِي أُمَّهَاتِ كُتُبِهَا المُعْتَمَدَةِ ، واللهُ المُسْتَعَانُ».
أَقُولُ : فهذَا أَصْلُ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ -الَّتِي بِهَا فَارَقُوا المُرْجِئَةَ -فِي مَسْأَلَةِ الإِيْمَانِ- الَّتِي مِنْهَا ضَلُّوا ، وَعَنْهَا انْحَرَفُوا ، وَهِيَ : حَقِيقَةُ التَّلاَزُمِ بَيْنَ الظَّاهِرِ -قَوْلاً وَعَمَلاً- ، وَالبَاطِنِ- تَصْدِيقاً وَإِذْعَاناً- ، وَنَابَذُوا أَقْوالَهُمْ -حَقِيقَةً وَلَفْظاً- .
ولَكِنَّ جَهْلَ (البَعْضِ) بِحَقِيقَةِ قَاعِدَةِ (التَّلاَزُمِ) بَيْنَ شُعَبِ الإِيْمَانِ -بِأَنْواعِهَا -قُوَّةً وَضَعْفاً ، وُجُوداً وَانْتِفَاءاً- وَعَدَمَ اسْتِيعَابِهَا- أَوْقَعَهُمْ فِي الخَلْطِ وَالخَبْطِ فِي هذِهِ المَسْأَلَةِ الدَّقِيقَةِ ، وَعَدَمِ الضَّبْطِ لِهَا ، أَوْ مَعْرِفَةِ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا !!
وَلِشَيْخِ الإِسْلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- كَلاَمٌ عَظِيمٌ فِي تَأْصِيلِ هذِهِ القَاعِدَةِ فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (7/642-644) : ذَكَرَهُ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْدَ بَيَانِهِ أَنَّهُ (لاَ شَيءَ أَفْضَلُ مِنْ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ) ، وَأَنَّ (أَحْسَنَ الحَسَنَاتِ التَّوحيدُ) ؛ فَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- مَا نَصُّهُ :
«فَأَصْلُ الإِيمَانِ فِي القَلْبِ - وَهُوَ قَوْلُ القَلْبِ وَعَمَلُهُ ، وَهُوَ إِقْرارٌ بِالتَّصْدِيقِ وَالحُبِّ وَالانْقِيَادِ -؛ وَمَا كَانَ فِي القَلْبِ فَلاَ بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ مُوجَبُهُ وَمُقْتَضَاهُ عَلَى الجَوَارِحِ ، وَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمُوجَبِهِ وَمُقْتَضَاهُ دَلَّ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ ضَعْفِهِ) .
وَلِهذَا كَانَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ مِنْ مُوجَبِ إِيمَانِ القَلْبِ وَمُقْتَضَاهُ ، وَهِيَ تَصْدِيقٌ لِمَا فِي القَلْبِ ، وَدَلِيلٌ علَيْهِ وَشَاهِدٌ لَهُ ، وَهِيَ شُعْبَةٌ مِنْ مَجْمُوعِ الإِيمَانِ المُطْلَقِ وَبَعْضٌ لَهُ ؛ لَكِنَّ مَا فِي القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ لِمَا عَلَى الجَوَارِحِ» .
أَقُولُ : هذَا هُوَ الكَلاَمُ الفصْل ، الَّذِي يُرَدُّ لَهُ كُلُّ فَرْعٍ وَفَصْل ؛ فَالوَاجِبُ تَأَمُّلُهُ ، وَتَفَهُّمُهُ ، وَضَبْطُهُ ...
مِنْ أَجْلِ هذَا وَصَفَ الإِمَامُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ فِي «مَدَارِجِ السَّالِكِينَ» (1/101) (عَمَلَ القَلْبِ ؛ كَالمَحَبَّةِ لَهُ ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، وَالإِنَابَةِ إِلَيْهِ ... و ... و ... وَغَيْر ذلِكَ مِنْ أَعْمَالِ القُلُوبِ) ، بِأَنَّهَا : «أَفْرَضُ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ ، وَمُسْتَحَبُّهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ مُسْتَحَبِّهَا...».
وَهذَا الكَلاَمُ -وَذَاكَ- مَبْنِيَّانِ عَلَى أَصْلٍ قَوِيمٍ رَاسِخٍ ، وَهُوَ : «أَنَّ شُعَبَ الإِيمَانِ قَدْ تَتَلاَزَمُ عِنْدَ القُوَّةِ ، وَلاَ تَتَلاَزَمُ عِنْدَ الضَّعْفِ ...» ؛ كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ فِي «المَجْمُوع» (7/ 522).
وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ- (7/ 234) -فِي مَوْضِعٍ آخَرَ- مُعَلِّلاً- :
«...فَإِنَّ قُوَّةَ المُسَبَّبِ دَلِيلٌ عَلَى قُوَّةِ السَّبَبِ ، وَهذِهِ الأُمُورُ نَشَأَتْ عَنِ العِلْمِ ؛ فَالعِلْمُ بِالمَحْبُوبِ يَسْتَلْزِمُ طَلَبَهُ ، وَالعِلْمُ بِالمَخُوفِ يَسْتَلْزِمُ الهَرَبَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلِ الَّلاَزِمُ : دَلَّ عَلَى ضَعْفِ المَلْزُومِ ...» .
وَقَالَ -رَحِمِهُ اللهُ- (7/198) : «وَذلِكَ لأَنَّ أَصْلَ الإِيمَانِ هُوَ مَا فِي القَلْبِ ، والأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لاَزِمَةٌ لِذلِكَ ؛ لاَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ (إِيمَانِ القَلْبِ الوَاجبِ) مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ ؛ بَلْ مَتَى نَقَصَتِ الأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الإِيمَانِ الَّذِي فِي القَلْبِ ؛ فَصَارَ الإِيمَانُ مُتَنَاوِلاً لِلْمَلْزُومِ وَاللاَّزِمِ -وإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي القَلْبِ- ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الأَعْمَالُ ؛ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لاَ يُكْتَفَى بِإِيمَانِ القَلْبِ ؛ بَلْ لاَ بُدَّ مَعَهُ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ...» .
إِذاً ؛ «أَعْمَالُ القُلُوبِ هِيَ الأَصْلُ ، وَإِيْمَانُ القَلْبِ هُوَ الأَصْلُ»...
أَقُولُ : وَمِنْ هذِهِ القَاعِدَةِ يُمْكِنُ تَصَوُّرُ وَفَهْمُ الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الوَارِدَةِ فِي نَجَاةِ مَنْ قَالَ : (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) ، وَلَيْسَ فِي قَلْبِهِ إِلاَّ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيْمَانٍ ، وَتَصَوُّرُ حَقِيقَةِ التَّلاَزُمِ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالبَاطِنِ فِي هذَا الإِطَارِ ؛ وَذلِكَ بِضَمِيمَةِ كَلاَمِ شَيْخِ الإِسْلاَمِ فِي «مَجْمُوعِ الفَتَاوَى» (7/ 616) :
«إِذَا كَانَ العَبْدُ يَفْعَلُ بَعْضَ المَأْمُورَاتِ وَيَتْرُكُ بَعْضَهَا : كَانَ مَعَهُ مِنَ الإِيْمَانِ بِحَسْبِ مَا فَعَلَهُ ، وَالإِيْمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ».
وَهذَا أَصْلٌ مُهِمٌّ -غَايَةً- ؛ مَنْ فَهِمَهُ وَاسْتَوْعَبَ حَقِيقَتَهُ : حُلَّتْ لَهُ إِشْكَالِيَّةُ هذِهِ المَسْأَلَةِ –بَدْءاً وَانْتِهَاءً

رحمه الله اسد السنة الالبانى رحمة واسعة

ماهر بن ظافر القحطاني
05-08-2004, 08:30AM
نقله الأخ علي حسن جزاه الله خيرا 0

معاذ بن يوسف الشّمّريّ
05-08-2004, 11:28AM
و أنت جزاك الله خيراً - أخي ماهر - .

(( و الدّالّ على الخير كفاعله )) .

إي و الله ؛ هذه عقيدتنا ، و هذا قولنا ؛ أفإرجاءٌ - يا قوم - ذا ؟!!!.

لقد أثلجت صدري بنقلك ما نقلت ؛ فبارك الله فيك .

طارق بن حسن
05-08-2004, 01:34PM
جزاك الله خير يا شيخنا

معاذ بن يوسف الشّمّريّ
08-08-2004, 01:00AM
بسم الله الرّحمن الرّحيم

أمّا بعد :

فهذه كلماتٌ - أخرى - لإمامنا الألبانيّ - رحمه الله - في ( التّلازم بين الظّاهر و الباطن ) ؛ فلْيمت الحروريّ غيظاً ( ! ) .

فلقد قال - رحمه الله - في " جلباب المرأة المسلمة " - بعد نقله أحاديث كثيرةً في وجوب مخالفة المشركين - في أبواب متعدّدةٍ من الدّين - - ( 206 - 212 ) :

(( فثبت مّما تقدّم أنّ مخالفة الكفّار وترك التّشبّه بهم من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة العُليا ؛ فالواجب على كلّ مسلمٍ - رجالاً ونساءاً - أن يراعوا ذلك في شؤونهم كلّها ؛ وبصورةٍ خاصّةٍ في أزيائهم وألبستهم ؛ لما علمت من النّصوص الخاصّة فيها ؛ وبذلك يتحقّق صحّة ( الشرط السّابع ) في زيّ المرأة .

هذا؛ وقد يظنّ بعض النّاس أنّ هذه المخالفة إنما هي أمرٌ تعبّديٌّ محض ، وليس كذلك ؛ بل هو معقول المعنى ، واضح الحكمة ، فقد تقرّر - عند العلماء المحقّقين - أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً بين الظّاهر والباطن ، وأنّ للأوّل تأثيراً في الآخر ؛ إنْ خيراً فخير ، وإن شرّاً فشرّ ؛ وإنْ كان ذلك ممّا قد لا يشعر به الإنسان في نفسه ؛ ولكن قد يراه في غيره .

قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ( ص 105 - 106 - [ قلت : أي : من " الاقتضاء " ] - ) :

(( وهذا أمرٌ يشهد به الحسّ والتّجربة ؛ حتّى إنّ الرّجلين إذا كانا من بلدٍ واحد ، ثم اجتمعا في دار غربة ؛ كان بينهما من المودّة والائتلاف أمرٌ عظيم ؛ وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفَين ، أو كانا متهاجرَين ، وذلك لأنّ الاشتراك في البلد نوع وصفٍ اختصّا به عن بلد الغربة .

بل لو اجتمع رجلان في سفرٍ أو بلدٍ غريب ، وكانت بينهما مشابهةٌ في العمامة ، أو الثّياب ، أو الشّعر ، أو المركوب ، ونحو ذلك ؛ لكان بينهما من الائتلاف أكثر ممّا بين غيرهما .

وكذلك تجد أرباب الصّناعات الدّنيويّة يألف بعضهم بعضاً مالا يألفون غيرهم ، حتّى إنّ ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة ، إمّا على الملك ، وإمّا على الدّين ، وتجد الملوك ونحوهم من الرّؤساء وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبةٌ تُورث مشابهةً ورعايةً من بعضهم لبعض ، وهذا كلّه موجب الطّباع ومقتضاه ؛ إلاّ أن يمنع من ذلك دينٌ أو غرضٌ خاصّ .

فإذا كانت المشابهة في أمورٍ دنيويّةٍ تُورث المحبّة والموالاة ؛ فكيف بالمشابهة في أمورٍ دينيّة ؟!؛ فإنّ إفضاءها إلى نوعٍ من الموالاة أكثر وأشدّ ، والمحبّة والموالاة لهم تنافي الإيمان ، ... ، وقال - سبحانه - : } لاَ تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيْرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ { [ المجادلة: 22 ] ، فأخبر - سبحانه وتعالى - أنّه لا يوجد مؤمنٌ يوادُّ كافراً ؛ فمن وادَّ الكفّار فليس بمؤمن ، والمشابهة الظّاهرة مظنّة الموادّة ، فتكون محرّمة )) .

وقال في مكانٍ آخر ( ص 6 - 7 ) :

(( وهذه الأمور الباطنة والظّاهرة بينهما ارتباطٌ ومناسبة ، فإنّ ما يقوم بالقلب من الشّعور والحال يوجب أموراً ظاهرةً ، وما يقوم بالظّاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ؛ وقد بعث الله محمداً - صلّى الله عليه وسلّم - بالحكمة الّتي هي سنّته ، وهي الشّرعة والمنهاج الّذي شرعه له ، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يُباين سبيل المغضوب عليهم والضّالين ؛ فأمر بمخالفتهم في الهدي الظّاهر ، وإن لم يظهر لكثيرٍ من الخلق في ذلك مفسدة ؛ لأمور ؛ منها :

أنّ المشاركة في الهدي الظّاهر تُورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين ، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمرٌ محسوس ، فإن اللاّبس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمامٍ إليهم ، واللاّبس ثياب الجند المقاتِلة - مثلاً - يجد من نفسه نوع تخلّقٍ بأخلاقهم ؛ ويصير طبعه متقاضياً لذلك ؛ إلاّ أن يمنعه مانع .

ومنها أنّ المخالَفة في الهدي الظّاهر تُوجب مباينةً ومفارقةً توجب الانقطاع عن موجبات الغضب ، وأسباب الضّلال ، والانعطاف على أهل الهدى والرّضوان ، وتحقّق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين ، وكلّما كان القلب أتمّ حياة ، وأعرف بالإسلام الّذي هو الإسلام ؛ لست أعني مجرّد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة - كان إحساسه بمفارقة اليهود والنّصارى باطناً و ظاهراً أتمّ ، وبُعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشدّ .
ومنها أن مشاركتهم في الهدي الظّاهر توجب الاختلاط الظّاهر ، حتى يرتفع التّمييز - ظاهراً - بين المهديّين المرضيّين ، وبين المغضوب عليهم والضّالين ، ... ، إلى غير ذلك من الأسباب الحكيمة .

هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظّاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرّد عن مشابهتهم ؛ فأمّا إن كان من موجبات كفرهم ؛ كان شعبةً من شعب الكفر ؛ فموافقتهم فيه موافقةٌ في نوعٍ من أنواع معاصيهم؛، فهذا أصلٌ ينبغي أن يُتفطّن له )) .

وكان قد قال في أوّل الكتاب ( ص 7 - 8 ) :

(( وهنا نكتةٌ ... وهي أنّ الأمر بموافقة قومٍ أو بمخالفتهم قد يكون لأنّ نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة ، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة ؛ بمعنى أنّ ذلك الفعل يتضمّن مصلحةً للعبد أو مفسدة ، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرّد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ، ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - والسّابقين في أعمال ؛ لولا أنّهم فعلوها لربّما قد كان لا يكون لنا مصلحة ؛ لما يورث ذلك من محبّتهم ، وائتلاف قلوبنا بقلوبهم ، وأنّ ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمورٍ أخرى ، إلى غير ذلك من الفوائد ، كذلك قد نتضرّر بموافقتنا الكافرين في أعمالٍ لولا أنّهم يفعلونها لم نتضرّر بفعلها ؛ وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة ؛ لأنّ ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف متضمّنٌ للمصلحة أو المفسدة ولو لم يفعلوه ؛ لكن عبّر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدّلالة والتّعريف ؛ فتكون موافقتهم دليلاً على المفسدة ، ومخالفتهم دليلاً على المصلحة ، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب ( قياس الدّلالة ) ، وعلى الأوّل من باب ( قياس العلة ) ، وقد يجتمع الأمران ؛ أعني : الحكمة الناشئة من نفس الفعل الّذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ، ومن نفس مشاركتهم فيه ؛ وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهيّ عنهما ، فلا بد من التفطّن لهذا المعنى ؛ فإنه به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتّباعهم ، وموافقتهم مُطلقاً ومقيّداً )) .

قلت - [ القائل هو الألبانيّ ] - : وهذا الارتباط بين الظاهر والباطن مما قرّره - صلّى الله عليه وسلّم - في قوله الّذي رواه النّعمان بن بشيٍر ؛ قال : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْمَاً ، فَقَالَ :

(( عِبَادَ اللَّهِ ( ! ) ؛ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ ، وفي روايةٍ : قلوبكم )) .

فأشار إلى أنّ الاختلاف في الظّاهر - ولو في تسوية الصّفّ - مما يوصل إلى اختلاف القلوب ، فدلّ على أنّ الظّاهر له تأثيٌر في الباطن ، ولذلك رأيناه - صلّى الله عليه وسلّم - ينهى عن التّفرّق ؛ حتّى في جلوس الجماعة ، ويحضرني - الآن - في ذلك حديثان :

1- عن جابر بن سمرة ؛ قال :

(( خَرَجَ عَلَينَا رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ؛ فَرَآنَا حِلَقَاً ؛ فَقَالَ :
مَالِي أَرَاكُمْ عِزِين ؟! ) .

2 - عن أبي ثعلبة الخشنّي ؛ قال :

(( كَانَ النَّاسُ إِذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً تَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :

(( إِنَّ تَفَرُّقَكُمْ فِي هَذِهِ الشِّعَابِ وَالأَوْدِيَةِ إِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ )) .

فَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْزِلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْض ؛ حَتَّى يُقَالَ : لَوْ بُسِطَ عَلَيْهِمْ ثَوْبٌ لَعَمَّهُمْ )) )) ا.هـ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلتها - سائلاً الأجر و المثوبة
في : ليلة : 22 - جمادى الثّانية - 1425 هـ .