المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أئمة الجرح والتعديل هم حماة الدين من كيد الملحدين وضلال المبتدعين وإفك الكذابين (3)


الشيخ ربيع المدخلي
05-07-2004, 11:47PM
أئمة الجرح والتعديل هم حماة الدين من كيد الملحدين وضلال المبتدعين وإفك الكذابين


رد على بعض المتعالمين



الحلقة الثالثة والأخيرة




--------------------------------------------------------------------------------


12- قال : " الفرق الثامن : علم الجرح والتعديل له رجال لا تتوفر شروطهم في كثير من المحدثين قال العلامة المعلمي في مقدمة الجرح والتعديل " وقد كان من أكابر المحدثين وأجلهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه " .

أقول :
1- سبق الكلام على كلام المعلمي في أئمة النقد الأفذاذ الجهابذة، فلقد رآه هذا الإنسان الغريب فحاد عنه وأخذ من آخره ما يريده ويوافق هواه، وترك منه ما يبين بطلان دعاواه من علو مكانة أئمة الجرح والتعديل فارجع إليه.
2- نسي هذا المسكين أو تجاهل أنَّ كثيراً من الفقهاء لا تتوفر فيهم شروط الفتوى .
3– من قال لك أن كل المحدثين تتوفر فيهم الشروط اللازمة للجرح والتعديل فعلماء الجرح والتعديل معروفون عند أهل الحديث والعلماء الآخرين فما قيمة هذا الفرق بل ما قيمة كل الفروق التي ذكرتها ؟

13 - قال : "هذه بعض الفروق بين علم الجرح والتعديل وبين كلام العلماء في أهل البدع ولعل الله ييسر ببحث أطول عن قريب إن شاء الله ".
أقول : قد عرف القاريء مصير هذه الفروق الباطلة وما سيأتي لعله سيكون أسوأ ومصيره أسوأ .

14- قال:" قال الذهبي في (الموقظة):" والذي تقرر عندنا أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ، وقال: "وهذا فيما إذا تكلموا في نقد شيخ ورد شيء من حفظه وغلطه فإن كلامهم فيه من جهة معتقده فهو على مراتب " .
أقول : لم يبين الكاتب وجه الاستدلال بهذا الكلام الذي نقله عن الذهبي، ثم إن هذا الكلام قد تعرض لاختصار مخل يضيع المقصود منه كما حصل فيه تقديم وتأخير لا ندري ما الذي دفعه إليه .
يوضح ذلك ما سأنقله عن الذهبي -رحمه الله- .
لقد عقد فصلاً ذكر فيه ألفاظاً من الجرح والتعديل ثم قسم أئمة الجرح والتعديل إلى ثلاثة أقسام متشدد ومعتدل ومتساهل .
ثم قال : " وهذا فيما إذا تكلموا في نقد شيخ ورد شيء في حفظه وغلطه فإن كان كلامهم فيه من جهة معتقده فهو على مراتب :
فمنهم : من بدعته غليظة .
ومنهم : من بدعته دون ذلك .
ومنهم : الداعي إلى بدعته .
ومنهم : الكاف ، ومابين ذلك .
فمتى جمع الغلظ والدعوة تجنب الأخذ عنه .
ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه .
فالغلظ كغلاة الخوارج والجهمية والرافضة .
والخفة كالتشيع والإرجاء .
وأما من استحل الكذب نصراً لرأيه كالخطابية فبالأولى رد حديثه.
قال شيخنا ابن وهب : العقائد أوجبت تكفير البعض للبعض ، أو التبديع ، وأوجبت العصبية ، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير والتبديع وهو كثير في الطبقة المتوسطة من المتقدمين .
والذي تقرر عندنا : أنه لا تعتبر المذاهب في الرواية ولا نكفر أهل القبلة إلا بإنكار متواتر من الشريعة فإذا اعتبرنا ذلك وانضم إليه الورع والضبط والتقوى فقد حصل معتمد الرواية .
وهذا مذهب الشافعي -رضي الله عنه- حيث يقول : أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية من الروافض ".

أقول : فأنت ترى أن الذهبي قد بين في هذا الفصل مذاهب الأئمة في الجرح والتعديل وبين المجروحين من غير أهل البدع وبين أنواع أهل البدع ومن تقبل روايته منهم ومن ترد أوضح بيان وليس في كلامه ما يفيد أن المبتدعة لا تتناولهم قواعد علم المصطلح ولا أن الكلام في أهل البدع خاص بعلماء آخرين غير علماء الجرح والتعديل الأمر الذي يرفضه كلام كل العلماء من فقهاء ومحدثين وأصوليين وغيرهم.
فإن كان صاحبنا يريد به شيئاً آخر غير هذا وهو أن العالم إذا بدع إنساناً مشهوراً عند الناس بالسلفية يدعو إليها ويدافع عنها وجب تقليده ولا يجوز أن يسأل عن سبب هذا التبديع ومن سأله فقد ضل وأضل الأمة.
فهذا شيء لم يخطر ببال الذهبي ولا غيره .
ومع الأسف فإن دندنة هذا الرجل كلها ليتوصل بها إلى نتيجة فلم يصل إليها ولن يصل إليها ودونها خرط القتاد .
هذه النتيجة هي إقناع الناس بأن العالم إذا بدع أناساً مشهورين عند الناس بالسلفية يدعون إليها ويذبون عنها؛ فإنه لا يجوز أن يسأل عن أسباب تبديعهم وأن تبديعهم لا يسمى جرحاً، وتزداد المصيبة إذا علمت حكم هؤلاء بأن من لايقلدونه يكونون مميعين أي مبتدعين، وأشد من هذا أن من لا يقلد العلماء يكون قد كذب الله ورسوله وكذب الإسلام وأن من لا يقلد العلماء قد نسف الرسالات.
والله أعلم من هم هؤلاء العلماء فقد يراد بهم شخص واحد يدعو إلى تقليد نفسه وفي الوقت نفسه ليس أهلاً لأن يقلد في شيء.
ويرى الذهبي الاحتياط والحذر في باب التكفير والتبديع أكثر منه في غيره ، فإن اختلاف العقائد أدى إلى التكفير والتبديع في نظره .
ثم أكد ذلك بقوله : " ينبغي أن يتفقد حال الجارح مع من تكلم فيه باعتبار الأهواء فإن لاح لك انحراف الجارح ووجدت توثيق المجروح من جهة أخرى فلا تحفل بالمنحرف وبغمزه المبهم ، وإن لم تجد توثيق المغموز فتأن " الموقظة ( ص88) .
وهذا كلام حق وهو ضد ما يقوله بعض الناس اليوم إذا بدع العالم شخصاً أو أشخاصاً فيجب تقليده ولا يسأل عن أسباب الجرح.
وفيه إلجام لمن يتسرع إلى قبول التبديع بدون حجة وبدون بيان الأسباب .
وقال الذهبي في هذا الفصل ( ص82 ) :" والكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام وبراءة من الهوى والميل وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله " .
فهذا أمر لا بد منه فيمن يتكلم في الرواة من أهل سنة كانوا أو أهل أهواء ، إذ العدل لا بد منه في حق المسلم والكافر .

15- قال : قال ابن القيم : ( الخبر إن كان عن حكم عام يتعلق بالأمة فإما أن يكون مستنده السماع فهو الرواية ، وإن كان مستنده الفهم من المسموع فهو فتوى ) . (بدائع الفوائد 1/9) .
أقول : قال ابن القيم في هذا النص بعد هذا الكلام : " وإن كان خبراً جزئياً يتعلق بمعين مستنده المشاهدة أو العلم فهو شاهدة وإن كان خبراً يتعلق بالمخبر عنه والمخبر به هو مستمعه أو نائبه فهو الدعوى "...الخ.
أقول : إن الإمام ابن القيم ما جاء بهذه الفائدة إلا ليبين أنواع الخبر فحسب لا لبيان ما يدعيه بعض الناس من أنه يقصد بقوله : وإن كان مستنده الفهم من المسموع فهو الفتوى إنه يجب تقليد المفتي في تبديع الناس ولو كان بدون دليل ولا يجوز سؤاله عن الدليل ، فإن كلام ابن القيم لا يفيد هذا من قريب ولا بعيد، ثم إن الفتوى قد تكون باطلة وقد تكون بدعة لأنها استندت إلى فهم فاسد لنصوص القرآن أو السنة أو لاستنادها إلى حديث ضعيف أو إلى قياس فاسد فلا يجوز قبولها.

16- قال : " ولهذا فإن قواعد علم المصطلح محدودة لا تتجاوز إطارها الذي وضعت فيه ، وإن وقع تشابه في بعضها بين كلام الأئمة في أهل البدع والأهواء فلا يكون ذلك حاملاً لتطبيق باقي القواعد في الحكم على الرجال الذين هم خارج الرواية .
هذا هو الذي يدندن حوله الشيخ فلان، ويريد من الشباب السلفي أن يتنبه إلى تلبيس أهل الأهواء في هذا الجانب فهم يريدون منهم أن تطبق قواعد المصطلح في الكلام على أهل البدع لكي يردوا أحكام العلماء فيهم(1) " .
أقول : يكفيك من شرٍ سماعه، وما أظن أن أحداً من أهل البدع وصل إلى هذه الدرجة في إهانة علم قام لخدمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا يقوم الإسلام عقيدة وشريعة إلا بها، وقام للحفاظ على الإسلام وحمايته من تحريف الجاهلين وانتحال الغالين وإبطال كيد الزنادقة وغلاة المبتدعين والكذابين .
فمن سبقك أيها المسكين إلى محاصرة قواعد علوم الحديث وإلى عدم السماح لها بتجاوز إطارها الذي وضعت فيه كما تزعم؟.
وهل علماء الجرح والتعديل تمالؤا مع أهل البدع ألا يمسوا كرامتهم ولا يجرحوا مشاعرهم وبناءً على هذا التواطؤ تحاشوا جرح أهل البدع والحكم عليهم فوضعوا قواعد خاصة بالرواة بناءً على هذه الاتفاقية، أو أن علماء الجرح والتعديل بلداء مغفلون متبلدوا المشاعر فلم يفهموا العقيدة ولم يعرفوا منزلتها ولم يدركوا خطر أهل البدع عليها؟.
ومن هنا وضعوا قواعد للدروشة والدراويش ليعيشوا هم وقواعدهم على هامش الإسلام بعيدين عن عقائد الإسلام ومناهجه ، فلا هم في العير ولا هم في النفير .
هذه إهانة كبيرة لهذا العلم ما أظن أن أهل البدع فكروا فيها، وإهانة كبيرة لعلماء الجرح والتعديل حراس الشريعة وعقائدها وهم فرسان الميدان رغم أنوف الجاهلين الحاقدين.
لقد فتحت الباب على مصراعيه لأهل البدع ليهينوا هذا العلم وعلماءه .
فإذا استشهد أحد بأقوال علماء الجرح والتعديل وطعونهم في أهل البدع قالوا هؤلاء ليسوا بعلماء، ولا يحق لهم الكلام فينا وفي أسلافنا، ولذا ترى قواعدهم لا تتعرض لنا فلا تتجاوزوا بها الإطار الذي وضعت فيه .
ألا قاتل الله الجهل والطيش وعافى الإسلام والمسلمين من جهل الجاهلين وتقليد المبطلين وتهديم الطائشين للعلم وأهله .
لقد جهل هذا المسكين مكانة أهل الحديث وأئمتهم وقد تقدم لك بيان مكانتهم العالية وجهودهم العظيمة واهتمامهم بالبدع في كتب الجرح والتعديل وفي كتب العقائد.


--------------------------------------------------------------------------------


وأرى من المناسب جداً أن أذكر بعض ما قاله الأئمة الفحول في بيان مكانتهم وآثارهم الحميدة في الدين .


شهادة ابن قتيبة


ألف فقيه الأدباء وأديب الفقهاء الإمام أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة (المتوفى سنة 276ه‍) كتابـًا سماه ((تأويل مختلف الحديث)) دفاعـًا عن سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعن حملتها وناقليها وحفاظها أهل الحديث.
قال في مطلع الكتاب: ((أما بعد: أسعدك الله تعالى بطاعته، وحاطك بكلاءته، ووفقك للحق برحمته، وجعلك من أهله؛ فإنك كتبت إليّ تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهلِ الكلام أهلَ الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميِهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف، وكثرت النحل، وتقطعت العصم، وتعادى المسلمون، وأكفر بعضهم بعضـًا، وتعلّق كل فريقٍ منهم لمذهبه بجنس من الحديث)). ثم ذكر الخوارج وما تعلقت به من الأحاديث في تأييد مذهبها، والمرجئة وما تعلقت به كذلك، والمفوضة وما تعلقت به من الأحاديث، والرافضة وما تعلقت به من الأحاديث في ضلالها وتكفيرها الصحابة، ومفضِّلوا الفقر وما تعلقوا به؛ ثم ذكر طعون الزنادقة في أهل الحديث.
ثم قال: ((باب ذكر أصحاب الكلام وأصحاب الرأي))، فقال: ((وقد تدبرت ـ رحمك الله ـ مقالة أهل الكلام فوجدتهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفتنون الناس بما يأتون، ويبصرون القذى في عيون الناس وعيونهم تطرف على الأجذاع، ويتهمون غيرَهم في النقل ولا يتهمون آراءهم في التأويل ومعاني الكتاب والحديث وما أودعاه من لطائف الحكمة وغرائب اللغة لا يدرك بالطفرة، والتولد، والعرض، والجوهر، والكيفية، والكميّة، والأينية؛ ولو ردوا المشكل منهما إلى أهل العلم بهما وضح لهم المنهج واتسع لهم المخرج؛ ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات؛ والناس أسراب طير يتبع بعضها بعضـًا، ولو ظهر لهم من يدعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم الأنبياء، أو من يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعـًا وأشياعـًا.
وقد كان يجب ـ مع ما يدّعونه من معرفة القياس وإعداد آلات النظر ـ أن لا يختلفوا كما لا يختلف الحُسّاب والمسّاح والمهندسون؛ لأن آلتهم لا تدل إلا على عدد واحد وإلا على شكل واحد؛ وكما لا يختلف حذّاق الأطباء في الماء وفي نبض العروق لأن الأوائل قد وقفوهم من ذلك على أمرٍ واحد، فما بالهم أكثر الناس اختلافـًا لا يجتمع اثنان من رؤسائهم على أمرٍ واحد في الدين؟)).
ثم ذكر تضارب الآراء، واختلاف الأهواء والاتجاهات بين زعماء أهل الكلام، وانتقدهم أشد النقد.
ثم قال: ((ذكر أصحاب الحديث: فأما أصحاب الحديث فإنهم التمسوا الحق من وجهته، وتتبعوه من مظانه، وتقرّبوا من الله تعالى باتباعهم سنن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وطلبهم لآثاره وأخباره برًّا وبحرًا وشرقـًا وغربـًا، يرحل الواحدُ منهم راجلاً مقويـًّا في طلب الخبر الواحد أو السنة الواحدة حتى يأخذها من الناقل لها مشافهة.
ثم لم يزالوا في التنقير عن الأخبار والبحث لها حتى فهموا صحيحَها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، وعرفوا من خالفها من الفقهاء إلى الرأي، فنبّهوا على ذلك حتى نجم الحق بعد أن كان عافيـًا، وبسق بعد أن كان دارسـًا، واجتمع بعد أن كان متفرِّقـًا، وانقاد للسنن من كان عنها معرضـًا، وتنبّه لها من كان عنها غافلاً، وحكم بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد أن يحكم بقول فلان وفلان وإن كان فيه خلاف عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
وقد يعيبهم الطاعنون بحملهم الضعيف، وطلبهم الغرائب، وفي الغريب الداء؛ ولم يحملوا الضعيف والغريب لأنهم رأوهما حقـًّا، بل جمعوا الغثّ والسمين، والصحيح والسقيم، ليميزوا بينهما، ويدلوا عليهما، وقد فعلوا ذلك)).
ثم ذكر طائفة من الأحاديث الموضوعة، وذكر نقد المحدثين لها، وتزييفهم إياها وفضح واضعيها.
رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.


شهادة ابن حبان


قال في كتاب المجروحين (ص25):" ولو لم يكن الإسناد وطلب هذه الطائفة له لظهر في هذه الأمة من تبديل الدين(2) ما ظهر في الأمم، وذاك أنه لم يكن أمة لنبي قط حفظت عليه الدين عن التبديل ما حفظت هذه الأمة، حتى لا يتهيأ أن يزاد في سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف ولا واو كما لا يتهيأ زيادة مثله في القرآن فحفظت هذه الطائفة السنن على المسلمين وكثرت عنايتهم بأمر الدين ولولاهم لقال من شاء بما شاء".
وقال أيضا في (ص27):" حدثنا الحسن بن سفيان قال سمعت صالح بن حاتم بن وردان يقول: سمعت يزيد بن زريع يقول:"لكل شيء فرسان ولهذا العلم فرسان".
قال أبو حاتم : فرسان هذا العلم الذين حفظوا على المسلمين الدين(3)، وهدوهم إلى الصراط المستقيم الذين آثروا قطع المفاوز والقفار على التنعم في الديار والأوطان في طلب السنن في الأمصار، وجمعها الرحل والأسفار والدوران في جميع الأقطار، حتى إن أحدهم ليرحل في الحديث الواحد الفراسخ البعيدة، وفي الكلمة الواحدة الأيام الكثيرة لئلا يدخل مضل في السنن شيئاً يضِلُّ به، وإن فعل فهم الذابون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الكذب والقائمون بنصرة الدين".


شهادة الخطيب البغدادي


وألّف الإمام الكبير أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (المتوفى سنة 463ه‍) كتاب أسماه: ((شرف أصحاب الحديث)) قال في مقدمته بعد أن ذكر أقوال العلماء في ذم الرأي (من ص 3 ـ 5):
((ولو أن صاحب الرأي المذموم، شغل نفسَه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين، واقتفى آثار الفقهاء والمحدِّثين، لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه؛ لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد وصفات رب العالمين تعالى عن مقالات الملحدين، والإخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله تعالى فيها للمتقين والفجار وما خلق الله في الأرضين والسموات، من صنوف العجائب وعظيم الآيات، وذكر الملائكة المقرَّبين ونعت الصافين والمسبحين.
إلى أن يقول: وقد جعل الله تعالى أهله أركان الشريعة وهدم بهم كل بدعة (4) شنيعة؛ فهم أمناء الله من خليقته، والواسطة بين النبي وأمته، والمجتهدون في حفظ ملته، أنوارهم زاهرة، وفضائلهم سائرة، وآياتهم باهرة، ومذاهبهم ظاهرة، وحججهم قاهرة؛ وكلُّ فئة تتحيّز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيـًا تعكف عليه سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم والسنة حجتهم والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يتلفتون إلى الآراء، يقبل منهم ما رووا عن الرسول، وهم المأمونون عليه والعدول، حفظة الدين وخزنته، وأوعية العلم وحملته، إذا اختلف في حديث كان إليهم الرجوع، فما حكموا به فهو المقبول المسموع؛ ومنهم كلّ عالم فقيه، وإمام رفيع نبيه، وزاهد في قبيلته، ومخصوص بفضيلته، وقارئ متقن، وخطيب محسن؛ وهم الجمهور العظيم، وسبيلهم السبيل المستقيم، وكل مبتدع باعتقادهم يتظاهر، وعلى الإفصاح بغير مذهبهم لا يتجاسر؛ من كادهم قصمه الله، ومن عاندهم خذله الله، ولا يضرهم من خذلهم، ولا يفلح من اعتزلهم، المحتاط لدينه إلى إرشادهم فقير، وبصر الناظر بالشر إليهم حسير، وإن الله على نصرهم لقدير)).
ثم ساق إسناده إلى علي بن المديني قال في حديث النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم)). قال ـ أي: ابن المديني: (هم أهل الحديث، والذين يتعاهدون مذاهب الرسول ويذبون عن العلم، لولاهم لم تجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئـًا من السنن؛ فقد جعل رب العالمين الطائفة المنصورة حرّاس الدين، وصرف عنهم كيد المعاندين لتمسّكهم بالشرع المتين، واقتفائهم آثار الصحابة والتابعين؛ فشأنهم حفظ الآثار، وقطع المفاوز والقفار، وركوب البراري والبحار في اقتباس ما شرع الرسول المصطفى، لا يعرجون عنه إلى رأي ولا هوى؛ قبلوا شريعته قولاً وفعلاً، وحرسوا سنته حفظـًا ونقلاً، حتى ثبتوا بذلك أصلها، وكانوا أحقَّ بها وأهلَها؛ فكم من ملحد يروم أن يخلط في الشريعة ما ليس منها، والله تعالى يذب بأصحاب الحديث عنها فهم الحفاظ لأركانها، والقوامون بأمرها وشأنها، إذا صدف عن الدفاع عنها؛ فهم دونها يناضلون: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22])).


شهادة الإمام ابن تيمية


وقال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ـ رحمه الله: (المتوفى 728ه‍) في ((فتاواه)): (4/9- 11):
((من المعلوم: أن أهل الحديث يشاركون كل طائفة فيما يتحلون به من صفات الكمال، ويمتازون عنهم بما ليس عندهم؛ فإن المنازع لهم لا بد أن يذكر فيما يخالفهم فيه طريقـًا أخرى، مثل المعقول، والقياس، والرأي، والكلام، والنظر، والاستدلال، والمحاجة، والمجادلة، والمكاشفة( 5)، والمخاطبة، والوجد، والذوق، ونحو ذلك؛ وكل هذه الطرق لأهل الحديث صفوتها وخلاصتها؛ فهم أكمل الناس عقلاً، وأعدلهم قياسـًا، وأصوبهم رأيـًا، وأسدّهم كلامـًا، وأصحهم نظرًا، وأهداهم استدلالاً، وأقومهم جدلاً، وأتمهم فراسة، وأصدقهم إلهامـًا، وأحدهم بصراً ومكاشفة وأصوبهم سمعاً ومخاطبةً، وأعظمهم وأحسنهم وجدًا وذوقـًا؛ وهذا هو للمسلمين بالنسبة إلى سائر الأمم، ولأهل السنة والحديث بالنسبة إلى سائر الملل.
فكل من استقرأ أحوال العالم وجد المسلمين أحدّ وأسدّ عقلاً، وأنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرُهم في قرون وأجيال؛ وكذلك أهل السنة والحديث تجدهم كذلك متمتعين؛ وذلك لأن اعتقاد الحق الثابت يقوي الإدراك ويصححه(6) : قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى }، وقال: { ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشدّ تثبيتـًا. وإذا لآتيناهم من لدنا أجرًا عظيمـًا. ولهديناهم صراطـًا مستقيمـًا }.
وهذا يعلم تارة بموارد النزاع بينهم وبين غيرهم؛ فلا تجد مسألة خولفوا فيها إلا وقد تبين أن الحق معهم، وتارة بإقرار مخالفيهم ورجوعهم إليهم دون رجوعهم إلى غيرهم، أو بشهادتهم على مخالفيهم بالضلال والجهل، وتارة بشهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض، وتارة بأن كل طائفة تعتصم بهم فيما خالفت فيه الأخرى، وتشهد بالضلال على كل من خالفها أعظم مما تشهد به عليهم.
فأما شهادة المؤمنين الذين هم شهداء الله في الأرض: فهذا أمرٌ ظاهر معلوم بالحس والتواتر لكل من سمع كلام المسلمين، لا تجد في الأمة عظم أحد تعظيمـًا أعظم مما عظموا به(7)، ولا تجد غيرهم يعظم إلا بقدر ما وافقهم فيه، كما لا ينقص إلاّ بقدر ما خالفهم، حتى إنك تجد المخالفين لهم كلهم وقت الحقيقة يقرّ بذلك، كما قال الإمام أحمد: (آية ما بيننا وبينهم يوم الجنائز)؛ فإن الحياة بسبب اشتراك الناس في المعاش يعظم الرجل طائفته، فأما وقت الموت فلا بد من الاعتراف بالحق من عموم الخلْق؛ ولهذا لم يعرف في الإسلام مثل جنازته، مسح المتوكل موضع الصلاة عليه فوجد ألف ألف وستمائة ألف سوى من صلى في الخانات والبيوت.
وكذلك الشافعي، وإسحاق، وغيرهما إنما نبلوا في الإسلام باتباع أهل الحديث والسنة، وكذلك البخاري وأمثاله إنما نبلوا بذلك، وكذلك مالك والأزواعي، والثوري، وأبو حنيفة، وغيرهم إنما نبلوا في عموم الأمة وقُبل قولهم لما وافقوا فيه الحديث والسنة، وما تكلم فيمن تكلم فيه منهم إلا بسبب المواضع التي لم يتفق له متابعتها من الحديث والسنة إما لعدم بلاغها إياه، أو لاعتقاده ضعف دلالتها، أو رجحان غيرها عليها)).
وقال – بعد أن ذكر دعاوى غلاة الشيعة والصوفية اختصاصهم بعلم الأسرار واحتجاجهم على ذلك ببعض الأحاديث الموضوعة أو المجملة-((مجموع الفتاوى)) (4/85-86):
((وإذا كان الأمر كذلك فأعلم الناس بذلك: أخصهم بالرسول وأعلمهم بأقواله وأفعاله وحركاته وسكناته ومدخله ومخرجه وباطنه وظاهره، وأعلمهم بأصحابه وسيرته وأيامه، وأعظمهم بحثاً عن ذلك وعن نقلته، وأعظمهم تديناً به وإتباعاً له وإقتداءً به، وهؤلاء هم أهل السنة والحديث حفظاً له ومعرفة بصحيحه وسقيمه، وفقهاً فيه وفهماً يؤتيه الله إياه في معانيه، وإيماناً وتصديقاً وطاعةً وانقياداً وإقتداءً وإتباعاً))(8) .
وقال في ((مجموع الفتاوى)) (4/91-92) أثناء مناقشته للمتفلسفة وأهل الضلال:
((وإن قلتم: يمكن الخطاب بها مع خاصة الناس دون عامتهم، وهذا قولهم.
فمن المعلوم أن علم الرسل يكون عند خاصتهم كما يكون علمكم عند خاصتكم، ومن المعلوم أن كل من كان بكلام المتبوع وأحواله وبواطن أموره وظواهرها أعلم وهو بذلك أقوم، كان أحق بالاختصاص به، ولا ريب أن أهل الحديث أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول وعلم خاصته مثل الخلفاء الراشدين، وسائر العشرة)).

هذه شهادات بعض كبار علماء الأمة لأهل الحديث وأئمتهم بأنهم هم الذابون عن دين الله بجدارة وأن الله قد حفظ بهم الدين إلى آخر ما قالوه وشهدوا به لهذه الطائفة المنصورة على من خالفها من الكفار والملحدين ومن أهل البدع الضالين ولا يحط من قدرهم إلا أهل الأهواء الحاقدين، وذلك الكيد الفاشل لا يرجع إلا في نحورهم ولا يزيدهم إلا سقوطاً وهواناً.
نسأل الله أن يحشرنا وأهل الحديث وأئمته المجاهدين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .



كتبه:
ربيع بن هادي عمير المدخلي
18‏/4‏/1425هـ






--------------------------------------------------------------------------------


الحواشي:

( 1) يقال من جهل شيئاً عاداه ، والواقع أن قواعد المصطلح تمنع من الفوضى في الأحكام ولا يوجه لها هذه التهم إلا مفلس من العلم والعدل ولا يريد أن ينضبط بقواعد العلم والعدل ، وما أظن هذا الذي تدافع عنه قد وصل إلى هذا الدرك .
(2) هذه شهادة عظيمة من هذا الإمام لطائفة أهل الحديث وعلى رأسهم أئمتهم بأن الله قد حفظ بهم الدين وإنهم لكذلك .
(3) وهذه شهادة أخرى عظيمة لأئمة الحديث بأنهم فرسان هذا العلم، وأنهم حفظوا على المسلمين الذين وهدوهم الصراط المستقيم.
(4) انظر لهذه الشهادة من هذا الإمام بأن الله قد هدم بأهل الحديث كل بدعة شنيعة، وكل عالم ناصح يشهد بمثل هذه الشهادة لأهل الحديث وأئمتهم، فأي قيمة يكون لكلام الجهلاء الذين يجحدون مناقب أئمة الحديث ومنهم هذا المسكين الذي فندنا ترهانه .
(5 ) الظاهر أن شيخ الإسلام يقصد بذلك الفراسة.
(6) وهذا أعظم ما يميز أهل الحديث على غيرهم وهو أعظم ما يدعون إليه ويذبون عنه ، فهم دعاة إلى التوحيد بأنواعه وضد الشرك والخرافات والبدع ، وعلى منهج هذا المجادل بالباطل يكونون قد تخلوا عن العقيدة والذب عنها ، وحاشاهم وبرأهم الله مما يرميهم به المفترون .
(7) لله در هذا الإمام ، فشهادة المؤمنين لهم أمر ظاهر معلوم بالتواتر ، فالحق دائماً معهم والباطل حليف خصومهم ، وفضائلهم معلومة ظاهرة مشهورة لا تخفى إلا على من أعماهم الجهل والهوى.
(8) إن الشهادة الصادقة من هذا الإمام الخبير لكثيرة ومنها ما سقناه هنا ، فاحفظ هذه الفضائل لأهل الحديث الطائفة المنصورة ولا سيما اهتمامهم بالعقيدة وحديث رسولهم الكريم وذبهم عنهما وتفقههم فيهما ومعرفتهم بنقلة الحديث ومنهم أهل البدع مع معرفتهم بعقائدهم الفاسدة .